; logged out
الرئيسية / جدل معاصر حول القومية: مداخلة نقدية

جدل معاصر حول القومية: مداخلة نقدية

الأحد، 01 آذار/مارس 2009

أوموت أوزكيريملي

London: Palgrave, 2005

كليدا مولاج

باحثة في مركز الخليج للأبحاث

 

يتداخل كتاب أوزكيريملي بصورة نقدية مع الأدب الروائي والنظري حول القومية. وأقام تحليله على ثلاثة ادعاءات مترابطة: (1) يجب عدم الوثوق بالقومية بوصفها أمراً مُسلّماً به، بل يلزم توخّي الحذر. فأفضل طريقة للتوصل إلى ذلك، على حد قول الكاتب، تتم من خلال (المفسر والشارح للقوانين الاجتماعية)، كأحد المناهج التي تتعرف إلى الطبيعةَ المتحولة المتباينة والمعارضة للأمم. (2) لا يمكن فهم القومية جيداً من دون التأمل في بعدها المعياري، وهو بعد مهم، إذ إن القومية هي في حد ذاتها مبدأ معياري أو مذهب أخلاقي ينظر في سبل تنظيم العالم. (3) هناك حاجة إلى اتخاذ موقف جدي إزاء النظام الدولي القائم، فكثير من المشكلات المزمنة في المجتمعات الإنسانية، مثل عدم المساواة في الحقوق الاقتصادية والحروب وانعدام التسامح لا تزال قائمة. وبما أن سجل الديمقراطية في حل هذه المشكلات المتعددة الأوجه لا يدعو إلى التفاؤل، فإن من الضروري أن نحاول إعادة النظر، على نحو جذري، في نظام الدول/الأمم، وأن نفكر ملياً وبصورة جدية في البدائل المطروحة، وهي أمور ذات أهمية في عالم العولمة الحالي، حيث نجد أن القرار الناجح لأغلب المشكلات العاجلة يتطلب مستوى أكبر من التعاون الدولي.

وهناك نظرتان مهمتان تمثلان النواة لهذا الكتاب: الأولى تتعلق بنقاط الاتفاق بين السياسة والوحدة القومية، حيث كانت، ولا تزال،تمثل انحرافاً وزيغاً بدلاً من أن تكون مبدأً ثابتاً في تاريخ البشرية. وتظل التعددية الثقافية والعرقية هي المعيار. وتشير الرؤية الثانية إلى أن ما يوحّد القوميات المتعددة هو لغة خاصة ومجموعة من الادعاءات التي تُستخدَم في وصف الأمم.

وتمثل القومية من وجهة نظر أوزكيريملي نمطاً من أنماط لغة الخطاب أو أحد سبل رؤية العالم وتفسيره. فالقومية، ببساطة، هي لغة الحوار التي تؤكد ما يلي: البشرية تنقسم إلى أمم محددة، لكل منها ماضيها وحاضرها ومصيرها الخاص. فلا يمكن للبشر أن يقيّموا أنفسهم إذا لم ينتموا إلى مجتمع بذاته. والقومية في ما يتعلق بأنظمة الدول هي أن كل أمة لها الحق في تقرير مصيرها. وتُوضح كلتا النظرتين أن القوميات ليست متجانسة داخلياً ومتباينة خارجياً، كما يريد لنا القوميون أن نعتقد،فالقوميون في رأي الكاتب لا وطن لهم.

ومن الواضح أن أوزكيريملي يعرض نظرة عصرية في ما يتعلق بالقومية، فهو يرى أن كافة المحاولات للتوصل إلى واقع موضوعي للأمة (تعريف الأمة على أساس المعطيات الموضوعية، مثل العنصر واللغة والدين والأرض والتاريخ المشترك والأصل المشترك أو الثقافة المشتركة بصورة عامة)، أو الواقع الذاتي للأمة (تعريف الأمة على أساس المعطيات الذاتية، مثل الوعي بالذات والتضامن والولاء والإرادة الجماعية المشتركة)، جميعها لا تخضع للتفسير المنطقي ومُضلّلة. ويرى أن سبب ذلك هو أن القومية لا يمكنها، على نحو أكيد، تحديد ماهية العناصر الضرورية وما عددها. وأكثرمن ذلك التراكيب الخاصة لكل من مجموعات تلك العوامل المعيارية، التي هي، في رأيه، مُعرضة للنقد بصورة متزايدة.

ليس من الضروري أن تتعلق القومية بالانقسام المتشعّب الثنائي المذكور أعلاه(التعريفات الموضوعية في مقابل التعريفات الذاتية)، والسؤال هو هل القومية تُعنى بالثقافة أم بالسياسة؟ يرى أوزكيريملي، وهو محقٌّ في ذلك، أن القومية لا تُعنى بالقومية أو السياسة بصورة منفصلة، بل إنها تُعنى بهما معاً. فهي تشتمل على تثقيف السياسة وتسييس الثقافة؛ بمعنى آخر، أن ما يمدُّ القومية بالقوة هو قدرتها على الجمع بين الثقافة والسياسة معاً.

إنّ الكثير من المهتمين بدراسة القومية، في ما يتعلق بالمعايير الموضوعية مقابل المعايير الذاتية والثقافة في مقابل السياسة، استخدموا في تحليلاتهم علمَ النماذج الشخصية الذي يميز بين الأنواع العرقية والمدنية وبين القومية. ويعني المفهوم المدني للقومية ضمناً أحد مفاهيم الأمم الذي يُعَد ذاتياً وفردياً (ومن ثَم فهو تطوعي)، حيث يُشدّد على إرادة الأفراد الذين تتألف منهم القومية (الأمة). وعلى الجانب الآخر، فإن القومية العرقية تؤكد وحدة الثقافة والأصل المشترك. ومن منطلق ذلك النوع من القومية، فإن السمات الموجودة منذ القدم هي التي تزوّد الأمة الواحدة، ومن هذه السمات: اللغة والدين والعادات والتقاليد والأعراف. وتدّعي القومية العرقية أن الارتباط العميق للأفراد هو أمر موروث وليس مسألة اختيارية. فالانتماء إلى الأمة ليس قضية إرادة، لكنه أمر فطري ويسري في الإنسان مسرى الدم.

ومع ذلك، فإن أوزكيريملي يرى أن الانقسام بين القومية المدنية والعرقية انقسام مغلوط، ولا يمكن أن يصمُد أمام المنطق. وإلى جانب عوامل الدقة النظرية، فإن سبب هذا الانقسام هو في الواقع أنك لا تستطيع أن تجد حالات خالصة من القومية المدنية أو العرقية. وقد أثبت الباحث، في ضوء هاتين النظرتين، أننا نحتاج إلى مفهوم بديل عن القومية، ذلك المفهوم الذي ينقلنا إلى ما وراء حدود الانقسامات بين المعايير الموضوعية والذاتية وبين الثقافة والسياسة، وهو أيضاً ذلك المفهوم الذي يحوي ما هو مشترك في جميع القوميات.

وذكر أوزكيريملي أن كل هذه الأهداف لا يمكن إنجازها إلا إذا نُظر إلى القومية على أساس أنها نمط خاص من لغة الحوار. فالقومية، من وجهة نظره، هي طريقة خاصة لرؤية العالم وتفسيره، وهي إطار من المرجعية يساعدنا على الشعور والتوصل إلى معانٍ للبيئة المحيطة.

أن مفهوم القومية من هذا المنطلق هو مفهوم إبداعي. ومع ذلك، فإنه لو كانت الغايةُ من الاستفسار الأكاديمي تنصبّ على توضيح المفاهيم والظواهر الرئيسية، لاتضح عندها ما إذا كان يمكن لوضع مفهوم للقومية بوصفه ضرباً خاصاً من ضروب لغة الخطاب أن يحقق ذلك الهدف. ولا يمكن فصل التفسير عن لغة الخطاب. وإذا افترضنا أنه يمكن أن نجد طريقة واحدة لتفسير إحدى الظواهر في العلوم السياسية والاجتماعية، فمن حقنا، إذاً، أن نتساءل عن الطريقة المحددة التي يمكن أن نرى بها العالم ونفسره من منطلق مفاهيم القومية تلك.

وأثار أوزكيريملي، على الرغم من هذا النقد، كثيراً من علامات الاستفهام في هذه الدراسة، كان من أبرزها أنه هل يمكن التوصّل إلى نظرية عالمية أو عامة للقومية. وكانت الإجابة في رأي الكاتب أنه لا يمكن. ويرجع ذلك إلى تعدد واختلاف المشكلات النظرية التي أثارتها القومية، كما أنه لا يمكن حلها من خلال إطار نظري فردي. أضف إلى ذلك أن الكاتب مهتمٌّ بالتوتر الذي ينشأ بين متطلبات التوصل إلى نظرية عامة وبين الخصوصية الموروثة للقومية. وأشار المؤلف إلى أن صورة ومحتوى أنماط معينة من القوميات تحدّدهما الأوضاع الهيكلية الموجودة سابقاً والأعمال الإبداعية لعملاء متنوعين، بالإضافة إلى الأحداث التاريخية المتنوعة وغير المتوقعة. وعلى الجانب الآخر، فإن ما يوحد القوميات المتنوعة، على حد رأيه، هو النمط المحدد للغة الخطاب، التي ربما لا تعطي وصفاً كاملاً لأي نمط محدد من أنماط القومية سوى أنها تساعد على تكوين كليهما من خلال إطار إيديولوجي وثقافي.

هل نحن بحاجة إلى القومية؟ الإجابة نعم من منظار المؤيدين الأكاديميين للقومية، وقد قدموا سببين أساسيين لذلك. الأول، هو أن أغلب الناس يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بهُويتهم القومية، وليس من السهل طمس تلك الهُوية. والسبب الثاني هو أن القومية تخدم (وقد خدمت بالفعل) عدداً من الأهداف المهمة: تساعدنا القومية على تحديد مكاننا في العالم، فهي تخبرنا من نحن، ومن أين أتينا، وما الإنجازات التي قمنا بها، ومن ثَم فإنها تزودُنا بمبدأَ وضع الحدود. ومع ذلك، يرى أوزكيريملي أن هناك مشكلات جذرية تتعلق بمشروع إعادة تأهيل القومية: أولاً، المشروع برمته معتمد على فرضيات مريبة غير واضحة، إذا افترضنا أن النظرية السياسية غير قادرة على أن توائم بنجاح بين التحليل الفلسفي للمبادئ السياسية وبين الفهم التجريبي للعملية السياسية. ثانياً، وجود مشكلة في ما يخص المقياس أو وحدة التحليل. فليس هناك فهم واضح لمفهوم المجتمع من وجهة نظر القوميين الأكاديميين. ثالثاً، لا يفي التسجيل التاريخي للقومية بحاجة هؤلاء الذين يرغبون في دعم القيم الأخلاقية.

وبالفعل، فبينما تعمل الدفاعات الفلسفية عن القومية بصورة مجردة على الدوام، ومن خلال أنماط بالغة العذوبة لا نظير لها في العالم الواقعي، فإن طريق الوصول إلى أمة ناجحة نجدُه محفوفاً بالعقبات، ولا يمكن التوصّل إليه إلا من خلال وسائل غير مقبولة من المنظور الأخلاقي.

هل تعدّد الثقافات يمثل تهديداً للقومية؟ يقول الكاتب إنه على نقيض الحكمة التي يتلقاها الكثيرون، فإن تعدد الثقافة القائم بالفعل لا يمثل تهديداً خطراً للقومية.

وما المعاني الضمنية للعولمة في ما يتعلق بمستقبل الأمم والقومية؟ تقول هذه الدراسة إنه على الرغم من أن الأمة لم تعد هي النمط الوحيد للمجتمع الذي يراه كثير من الناس، فإن الأمة تستمر في كونها أحدَ المصادر المهمة للهوية الثقافية والسياسية لكثير من الشعوب في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، يرى الكاتب أن العولمة يجب أن تصاغ بمفهوم أنها إحدى الفرص التي تستحضر في الأذهان أنماط المجتمع لما بعد القومية وما ينمى إليها. وتتمثل النقطة الحيوية في هذه الحجة في الاعتقاد بأن النسبة المتزايدة وتكثيف الحركة وعمليات التبادل بين دول العالم ساعدت على العولمة وتزايد ردّ الفعل اللاإرادي للشعوب في ما يتعلق بهُويتهم، كما أنها سهّلت ظهور بدائل للأمة أو الدولة. ومع ذلك، فإن تكاثر وتعدد أنماط المجتمع والتمتع بالصفات الاجتماعية الضرورية للاندماج فيه، لا تعني تخطي حدود الأمة، ولكن تخطي مرحلة التعامل مع الأمة على أساس أنها الهيكل السائد للهُوية السياسية، الذي يبدو أنه يمثل أحد الثوابت الرئيسية.

إن العالم الذي نحيا فيه ليس الأفضل في نوعه ولا هو حتمية تاريخية. ويؤكد أوزكيريملي أننا نحتاج إلى منظور نقدي كي نلحظ الممارسات الفعلية للأمم، فقد يقدّم المنظور الدولي الذي يتخطى نطاق القومية ميزة نقدية تحفز على إعادة التفكير حول بدائل أفضل للنظام القائم. إن الكاتب على دراية بأن أي نمط من الأنماط التي تؤمن بالنظام العالمي أو ما بعد القومي يبقى منقوصاً، وأن ضروب الولاء والانتماء التي تتعدَّى نطاق القومية بعيدة كل البعد عن تمثيل الواقع اليومي لكثير من الناس في جميع أنحاء العالم، كما أنه من غير المحتمل أن تكون كذلك في المستقبل المنظور. ومع ذلك، يعتقد الكاتب أن ذلك لا يكفي لصرف المقلّدين على نحو أعمى إلى إمكان أن تضطلع مثل هذه الأنماط بالصور القومية معاً. فلو أن الإبداع بإمكانه إنشاء فكرة الأمة، فلن يكون هناك من سبب يمنعنا من زرع بذور نظام ما بعد الأمة بفعل التفكير المبدع والخلاق. وقد تنبَّأ الكاتب بأن أنماط المجتمع وما يرتبط بها لن تشبه صور وأنماط الأمم على الإطلاق.

وبصفة عامة، قدم أوزكيريملي دراسة إبداعية واضحة تخاطب العقل حول النقاشات النظرية حول القومية. ولو أن هناك شخصاً ما -في رأي الكاتب- يحتاج إلى نصوص حول هذه المناظرات لَما وجَد أفضلَ من هذا الكتاب.

مقالات لنفس الكاتب