; logged out
الرئيسية / الحراك التاريخي ومستقبل سوريا ومجلس التعاون الخليجي

العدد 91

الحراك التاريخي ومستقبل سوريا ومجلس التعاون الخليجي

الأحد، 01 نيسان/أبريل 2012

ثمّة من يقول إن الحراك الدبلوماسي والأمني الخليجي الذي تبلور في الآونة الأخيرة وأخذ أشكالاً وأبعاداً متقدمة للغاية، ينطلق من مجموعة من القناعات التي ترسخت لدى قادة المنطقة حول كيفية مواجهة المستجدّات الآنية في أكثر من ملف، لا سيما طريقة التعاطي مع التطورات المختلفة في ما يسمى الربيع العربي، وانسحاب ذلك على علاقة دول المجلس مع الأطراف (المتورطة) في نسج خيوط التطور التاريخي، سلباً أم إيجاباً.

ويبدو أن حركة التطور قد بلغت آفاقاً جدّية وخطيرة في آن لدرجة أنها باتت تفرض نفسها على دائرة صنع القرار في كافة دول المجلس، باعتبار أنها لم تبق خارج حدود المنظومة المتعاضدة حتى الآن بشكل غير متكامل، بل اقتحمت خاصرتها الركيكة من جهة البحرين وتسللت من تفاصيل الملفات الاجتماعية والمذهبية والطائفية والقبلية إلى نسيج الدول الأخرى.

هذه التطورات المتسارعة، المترافقة مع ملفات إقليمية ودولية غاية في التعقيد، ساهمت بفرض أداء دبلوماسي خليجي فريد من نوعه قد يؤسس لعهد جديد على صعيد العمل العربي الرسمي خلال هذه المرحلة الدقيقة على الأقل، وذلك لأسباب مختلفة أهمها:

* غياب الدول العربية (الكبرى) عن ساحة التأثير بسبب انشغالها في فك عقد قضاياها، لا سيما ثلاثي مصر وسوريا والعراق التي تتخبط كل منها في ملفاتها الذاتية المختلفة وإن بنسب متفاوتة، ما يترك الساحة العربية مفتوحة على مصراعيها أمام كافة الاحتمالات.

* استغلال دول إقليمية غير عربية لهذا الوضع المستجد كلّ حسب مصالحه وطريقة تعاطيه مع الملفات المختلفة، لا سيما إيران وتركيا، من أجل الاستمرار بتكريس موقعها النفوذي، إن كان من خلال الإمعان بالتغلغل في الدول المحيطة، أو من خلال البحث عن وسائل جديدة لتعزيز موقع حلفائها في أكثر من مكان.  

* حاجة دول مجلس التعاون، المعبّر عنها في أكثر من مناسبة، لإيجاد صيغ جديدة للتكامل الجدي والحقيقي، بما يحقق ردة فعل منطقية وواقعية حيال كافة التطورات التي تشهدها المنطقة، وبالتالي حماية وجودها وكيانها الفريد. ولا شك في أن التكامل على الصعيد الدبلوماسي يشكّل أحد أرقى أوجه ذلك التعاون الوثيق المنشود.

ودون أن ننسى الحيثيات المرتبطة بملف العلاقات المتشعب مع إيران والذي قد تكون آثاره هي الأهم على صعيد حركة التطور في بعض دول المنطقة، فإن ما يبدو أبرز من غيره في هذه المرحلة هو الجدل القائم بخصوص الموقف الاستراتيجي الهام الذي يتبنّاه مجلس التعاون الخليجي في ما يخص تطورات الملف السوري.

وبعيداً عن صواب أم خطأ هذا الموقف الذي قد يتولّد لدى البعض وفق القناعات المختلفة، يجب الاعتبار أولاً، بأن دول المجلس تنطلق من الحسابات المختلفة ذات البعد المحلي والإقليمي أو حتى الاستراتيجي الأشمل، وأن موقفها يبقى بالتالي محكوماً، بالإضافة لما سبق، باعتبارات أخرى كثيرة، أهمها في هذا السياق حجم المأساة التي وصل إليها التطور الآني في سوريا.

فهذا القمع المتمادي لحرية الشعب ووأد توقه للتغيير قد بلغ مراحل خطيرة جداً في عصر التطور المزعوم الذي نعيش فيه، لدرجة أنه بدأ يحقق تضامناً غير مسبوق مع الشعب السوري من قبل الفئات الشعبية المختلفة في كافة الدول العربية، وتحديداً في منطقة الخليج.

ولم يعد مطلوباً، في ظل الإراقة المستمرة للدماء، سوى تبنّي موقف حازم للتضامن مع المظلومين الذين تُداس كراماتهم يوميا بأفظع الأشكال والصور.

وإذا كان مجلس التعاون سبّاقاً في تبنّي ذلك الموقف المتضامن والمدين للعنف، وجب تقديره والثناء على جهوده، دون أن نتخلى بالطبع عن مسؤوليتنا بتذكيره دائماً بالمآخذ الكثيرة التي يُطلقها أبناء منطقة الخليج أنفسهم، حيال الأساليب المتفاوتة لممارسة الديمقراطية في بعض دوله.

لكن مع دخول الأزمة السورية مرحلتها الحرجة، فإنه قد يكون مطلوباً في الوقت الحاضر توجيه دعوة صادقة للوقوف وراء الموقف الخليجي في ما يخص سوريا، لأنه يبدو الأصلب حتى الآن بين الدول العربية الأخرى في ممارسة الضغوط على النظام السوري، وحلفائه الدوليين، لإيقاف آلة القمع والقتل. وهذا هو الأهم في الوقت الحاضر، انطلاقاً من حقيقة أن الاستمرار بسفك الدماء سيعقد الأمور أكثر، وسيعزز العناصر السلبية للمأساة المستعرة. وإذا كانت دول مجلس التعاون الخليجي قد (تجرأت) على تبنّي وقفتها التاريخية تلك، فإن المطلوب هو أن نؤمن بأنها قد فعلت ذلك من أجل مصلحة الشعب السوري أولاً، دون أن نغفل بالطبع المصالح الأخرى التي قد تطال دول المجلس بشكل أو بآخر.

بالطبع، قد يكون لهذا التحول الجذري في موقف دول المجلس أسبابه الكثيرة التي يمكن النظر إليها من زوايا مختلفة، لا سيما ما يرتبط منها بالعناصر التي ترسم الخطوط العريضة للتطور المقبل في المنطقة بأكملها. وأهم تلك العناصر قد يرتبط بما يجري على صعيد تكريس ثوابت الصراع بين المعسكر الذي تنتمي إليه دول مجلس التعاون الخليجي من جهة، والمعسكر الذي يصر النظام في سوريا على الانتماء إليه انطلاقاً من قناعاته الأيديولوجية أولاً، ومصالحه الضيقة ثانياً.

وهنا تحديداً يبرز الملف الأكثر إلحاحاً بالنسبة لدول المجلس، والذي قد يكون المحفز الأساسي لكل ما نشهده من سعي لرفع الجهوزية وتأكيد الحضور الدائم: القلق من التموضع الاستراتيجي للجارة الفارسية ذات التوجهات الثورية المخيفة بالنسبة لمنطقة الخليج، في ظل الانتقال الثابت إلى الملف النووي، والذي يعزز بطبيعة الحال مجموعة الشكوك الكثيرة الماثلة في سياق العلاقات بين الطرفين منذ انطلاق التحولات التاريخية الكبيرة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

مجلس التعاون الخليجي كان سبّاقاً في تبنّي الموقف المتضامن مع الشعوب والمدين للعنف

الموقف الخليجي يبدو الأصلب حتى الآن في ممارسة الضغوط على النظام السوري

إن القلق يبدو حاضراً بشكل مزدوج، إن كان من خلال ما يشكله ذلك الخطر في حال صدقت التوقعات عن رغبة إيران بامتلاك السلاح النووي وتبعات ذلك على كافة الصعد، أو من خلال الإمعان في التمدد الأيديولوجي، ولا نقول المذهبي، في كافة أرجاء المنطقة.

ولا يخفى على أحد أن تجاذبات الصراع في منطقة الشرق الأوسط قد بدأت تتعمق في الوقت الحاضر بشكل خطير، لتنتقل إلى مراحل أعلى أخرجتها في الواقع من سيطرة القوى الإقليمية ووضعتها في دائرة الصراع الاستراتيجي الدولي. ولقد بدأ هذا الأمر يتبلور تدريجياً منذ المراحل الأخيرة لتطورات الربيع العربي، ووصل ذروته الفريدة خلال الأزمة السورية تحديداً، بعد اصطفاف دولتين عظميين إلى جانب النظام السوري، برغم كل العنف والأداء المتخلف الذي يمارسه هذا الأخير ضد أبناء شعبه. ولذلك فإنه قد يكون من المفيد الإشارة إلى أن هذا الاصطفاف مع النظام في سوريا لم يكن مرتبطاً بالمصالح الوطنية السورية بأي شكل من الأشكال، بل بذلك التوق الذي بدأ يتكوّن في نطاق العلاقات الدولية، والذي يهدف بالدرجة الأساسية لوضع حد لنموذج القطب الأوحد الذي كان قائماً منذ انتهاء الحرب الباردة، واستبداله بآخر ما زالت معالمه تتوضح شيئاً فشيئاً.

أمام هذه الوقائع تجد دول المجلس نفسها أمام تحدٍ حقيقي يتمثل في ما يلي:

* تقييم موقفها في ما يخص التحرك المقبل حيال النظام في سوريا في ظل تكامل العناصر الصارخة للمشهد الآني: تمسّك النظام بالحل القمعي دون أن يتراجع قيد أنملة عن تكتيكاته السابقة؛ تمسّك كل من روسيا والصين بموقفهما بعدم السماح بالتدخل العسكري الأجنبي أو الضغط الدولي المتمادي؛ بغض النظر الواضح الذي يبديه الغرب حيال كل ما سبق من ممارسات للنظام السوري وإن بدت تصريحاته الإعلامية عكس ذلك تماماً، وهو ما يعزز التكهنات الكثيرة التي تفيد بأن العالم (الديمقراطي) قد يرغب برؤية التغيير في سوريا لكنه يتأنّى في تبنّي الخيارات المطروحة.

* تحديد الموقف من المعارضة السورية بما يتناسب مع التحرك خلال المرحلة المقبلة: فإما الاستمرار بممارسة الضغط على النظام السوري من خلال الاعتراف الكامل والحقيقي بأطراف المعارضة السورية ورفدها بكل الإمكانيات المتاحة بما يضمن تمثيلها لشريحة من الشعب السوري، وإما التراجع تكتيكياً على الصعيد الدبلوماسي واختيار بدائل أخرى. من بين تلك البدائل التي قد يفرزها التواصل المستجد بين المجلس وكل من روسيا والصين، هو أن يكون هناك سعي لتقريب وجهات النظر بين الأطراف السورية المتناحرة، وقد يكون من بينها أيضاً ما يشبه قمّة دوحة جديدة تهدف لتحقيق الوئام بين شرائح المعارضة غير الرافضة للحوار من جهة، والنظام السوري من جهة أخرى.

* تحقيق الالتفاف الدولي حول التحرك الدبلوماسي الهادف لفرض التغيير المنشود في سوريا، وإيجاد الصيغ الملائمة لتحقيق ذلك تحت المظلة العربية دائماً، دون الكف عن السعي لإقناع روسيا والصين بضرورة التخفيف من صلابتهما في ما يخص الدعم المطلق لسياسة القمع التي يمارسها النظام السوري، لكن الحرص أيضاً على إقناع الغرب بكافة أطيافه بتبنّي موقف يجنّب سوريا خطر الانزلاق إلى الحرب الأهلية .

ومما لا شك فيه أن الدور الذي ستضطلع فيه (بعض) دول مجلس التعاون الخليجي في هذا السياق سيكون محورياً واستراتيجياً كما كان حتى الآن في خضم الوعي الشعبي المنتفض بشكل لافت وفريد من نوعه ليس فقط في سوريا، لكن أيضاً في محاور أخرى من محاور الانتفاضات العربية المتتالية.  

السؤال يكمن بالطبع في ما إذا كانت رغبة دول المجلس للاضطلاع بالمهام المستجدة تمثل مرحلة تكتيكية مؤقتة ستنتهي خلال مرحلة زمنية معينة، أم على العكس استراتيجية مدروسة ونابعة من قناعات ثابتة، ستؤدي في المحصلة إلى نقلة نوعية في الموقع الجيوسياسي الشامل.

ما يمكن الجزم به في نهاية المطاف هو أن أي شكل من أشكال التكامل الحقيقي بين أعضاء دول المجلس سيكون مطلوباً بإلحاح خلال المرحلة المقبلة بالنظر لكثير مما سبق ذكره. ولا يمكن الولوج إلى متاهات المستقبل من خلال كيانات متفرقة ومتباعدة، حيث إن عنصر القوة الحقيقي يبقى في تحقيق التضامن غير المصطنع والمعتمد على رؤى واقعية ومنطقية، تتعامل مع المستجدات بشكل علمي ومدروس.

لقد تمكنت معظم دول مجلس التعاون، ولا نقول جميعها، من تحقيق التفاف شعبي حقيقي حول قياداتها بما يضمن لها قوة دفع ثابتة يمكن الاعتماد عليها، وهذه نعمة تحسدها عليها كثير من دول العالم.

يبقى أن تتمكن تلك الدول من تحقيق الإصلاحات بما يتناسب مع التطورات الإقليمية والدولية الكثيرة، والعمل على تحقيق الوحدة الحقيقية.. فهي وحدها ستضمن لهذا الكيان الخليجي الهام القدرة على التموضع في إطار جيوسياسي جديد، يكرّسها على الخارطة كقوة لا يستهان بها على أكثر من صعيد، ويحصّنها من كافة التهديدات والتحديات الماثلة.

 

مقالات لنفس الكاتب