; logged out
الرئيسية / تقويض الأمم: النظام والفوضى في القرن الحادي والعشرين

تقويض الأمم: النظام والفوضى في القرن الحادي والعشرين

الأحد، 01 شباط/فبراير 2009

المؤلف:  روبرت كوبر

الناشر: أتلانتك للكتب – لندن – 2003  

إعداد : كليدا مولاج

باحثة في مركز الخليج للأبحاث

يُقدم هذا الكتاب، الذي ألفه أحد أبرز الدبلوماسيين البريطانيين، استشرافات لاذعة للنظام والفوضى المحتملة التي ربما يشهدها القرن الحادي والعشرون. ويعتقد المؤلف أن ما حدث في عام 1989، لم يكن انتهاءَ الحرب الباردة فحسب، بل كان، أيضاً، انتهاء نظام توازن القوى في أوروبا. ومن وجهة النظر هذه، فإن ثمَّة نمطاً جديداً للدولة، أو على الأقل دولاًَ تتصرف على نحو أكثر تطرُّفاً، مقابلةً بما كان الوضع عليه في الماضي. كما يعني كلٌّ من تعايش الأحلاف في السلم والحرب، والتدخُّل في الشؤون الداخلية للدول، وقبول تحكيم المنظمات الدولية، أنّ الدولة القومية المعاصرة أقل استقلالاً وسيادة مما كانت عليه من قبل.

لقد أصبح النظام الدولي أكثر تنوعاً مما كان عليه منذ نهاية الحرب الباردة. وبينما تُطوِّر أوروبا نظاماً أمنياً جديداً أكثر انضباطاً، تتجه بقية بقاع العالم إلى أن تصبح أكثر فوضى. ومع ذلك، وفي عصر العولمة، فالقارات لن تمثل جُزُراً، كما أن السؤال الأساسي لأوروبا هو: كيف تعيش في عالم تسيطر عليه النـزاعات والإرهاب والسلاح ومخالفة النظام؟ وأين ذهبت ثوابت الحرب الباردة وأحلافها؟

في النظام العالمي الأسبق، تأسس النظام الدولي، إما على السيطرة أو على التوازن. وقد كانت السيطرة هي الأسبق. في العالم القديم، كان معنى النظام وجود إمبراطورية. وأولئك الذين يعيشون في ظل الإمبراطورية يتمتعون بالنظام والثقافة والحضارة. غير أن تقسيم أوروبا إلى مجموعة دول متنوعة أدى إلى وجود تنافس. وتمثلت الصعوبة التي واجهها النظام الأوروبي بأنه يلقى تهديداً من جانبين، الأول هو خطر اندلاع الحرب وسقوط النظام في فخ الفوضى، والثاني هو خطر فوز قوة وحيدة في الحرب وسيطرتها على أوروبا. وكان الحل لهذه المعضلة هو توازن القوى. ومن خلال توازن القوى، الذي من خلاله وقد كان ميكيافيللي هو أول من نادى بعدم خضوع الدولة للقيود القيمية نفسها التي يخضع لها الأفراد.

لقد أدت عناصر ثلاثة إلى انتهاء توازن القوة: ­­(1) الوحدة الألمانية في عام 1871. (2) تغير التقانة في نهاية القرن التاسع عشر، التي أدخلت الثورة الصناعية إلى أرض المعركة. (3) اتساع نطاق الوعي السياسي والاجتماعي، فلم تعُدْ قضايا الحرب والسلام حكراً على أقلية نخبوية موجهة دولياً.

لقد أدت الحربان في فترة ما بين عامي (1914-1945)، إلى تدمير كل من نظام توازن القوى الأوروبي التقليدي، وكذلك الإمبراطوريات الأوروبية ذاتها. كما أصبح توازن القوى متعدِّد القوميات القديم في أوروبا، مجرد توازن رعب ثنائي على المستوى العالمي. وعلى نحو غريب، تجمعت موازين القوى في الأنظمة القديمة في أوروبا وخارجها لتكوّن ما يشبه نظامَ توازن عالمياً بين الإمبراطوريات أو التكتلات، وهو ما يُعد تجسيداً نهائياً مبسطاً لميزان القوى.

لقد كانت فترة الحرب الباردة فترة حروب وتوترات؛ ومع ذلك، كان هناك فهم ضمني يوحي بأن الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي لن يتصادما بصورة مباشرة كما هو متوقع أن يحدث بين أحلافهما الرئيسيين. وفي عام 1989، انتهت الأنظمة السياسية التي امتدت طوال ثلاثة قرون، وكذلك الدافع الاستعماري وتوازن القوى. لقد جمعت الحرب الباردة بين كل من أنظمة التوازن والإمبراطورية لتفرز عالماً واحداً منفرداً يوحده صراع السيادة والتفوق، ويحيط به توازن رعب واحد.

ويقسم المؤلف العالم إلى ثلاث مراحل:

الأولى: عالم ما قبل الحداثة وحالة الفوضى التي عمَّت في مرحلة ما بعد الاستعمار، عندما تنهار إمبراطورية يثور سؤال الهُوية، ففي ظل قوة إمبريالية، ليس هناك من داعٍ لأن نسأل عن الهُوية. وعلى النقيض، ففي حالة الدولة التي تحظى بشرعيتها من القاعدة، ثمَّة حاجة لدى مواطنيها إلى تحديد الهُوية، وبخاصة في حالة عدم وجود محدِّد آخر للهُوية، سواء أكان دينياً أم قومياً أم أي مصدر آخر، ومن المهم تحديد هذه الهُوية لكي يعرف المواطنون منْ هُم وما دورهم في الحياة.

الثانية: العالم الحديث، وهنا يظل نظام الدولة القديم كما هو لم يُمس، وتحتكر الدول استخدام القوة وربما تستخدمها في مواجهة بعضها بعضاً. وإذا كان ثمة نظام داخل هذه المنظومة، فذلك بسبب توازن القوى أو وجود قوى مسيطِرة لها مصلحة في بقاء الوضع على ما هو عليه. ويُعَد العالمُ الحديث الأكثرَ تنظيماً غير أنه مملوء بالأخطار. إن أهم خصائص النظام الجديد، إدراك سلطة الدولة وما ترتب على ذلك من فصل الشأن الداخلي عن الشأن الخارجي، ثم حظر التدخل في الأول. فقد كانت قوةُ الدولة وحقها في السيادة يُعَدان من القضايا المهمة هنا. ومن المعتقد أن الأمم المتحدة تنتمي إلى هذا العالم.

الثالثة: عالم ما بعد الحداثة، هنا يرى المؤلف انهيار نظام الدولة في العالم الحديث، غير أنه، خلافاً لمرحلة ما قبل الحداثة، ينهار لمصلحة نظام أكبر وليس فوضى. فقد بدأت أوروبا ما بعد الحداثة باتفاقيتين، اتفاقية روما في عام 1957، التي أدى إليها فشلُ النظام الحديث، واتفاقية القوات المسلحة التقليدية في أوروبا التي نشأت بسبب مهاترات وإخفاقات الحرب الباردة. ولم يعتمد نظام ما بعد الحداثة على التوازن، ولا ركّز على السيادة، ولا على الفصل بين الشأنين الداخلي والخارجي. فالاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، يُعَد نظاماً متطوراً للتداخل المتبادل في الشؤون الداخلية، كما أن اتفاقية السلاح التقليدي تقتحم منطقة خاصة معروفة بسيادة الدولة.

لقد نأت الولايات المتحدة بنفسها من النظام، ورأت نفسها فوق القانون لكونها ضامنة له. ويجادل كوبر بأن الولايات المتحدة هي القوة الوحيدة التي لديها استراتيجية، وحيث إنه لا توجد قوة تقليدية تستطيع أن تتصدَّى للولايات المتحدة، فإن اهتماماتِ الأخيرة تنحصر بأسلحة الدمار الشامل والإرهاب. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة ليست إمبريالية بالمعنى المعروف، فهي في الحقيقة مهيمنة ومسيطِرة، لا تريد أن تحكم العالم، بل أن تتحكم في السياسة الخارجية.

وبصورة أو أخرى، يُعَدُّ كل من الاتحاد الأوروبي وحركة الاستقلال الإقليمي في كثير من الدول وحركة العولمة إلى حد ما جزءاً من عملية إيجاد دولة تعددية يتم فيها توزيع القوة بصورة واسعة. ويرتبط تطور هياكل الدول بمجتمع أقل قومية، يميل إلى الشك في قوة الدولة، وفيه يزدهر تعدد الهُويات، كما أن التنمية الشخصية والاستهلاك الفردي يحتلان أهمية عليا في حياة الناس. ويرى كوبر أن دولة ما بعد الحداثة هي دولة تُعلي من قيمة الفرد، وهو ما يسوِّغ صورتها غير العسكرية أو طابعها المدني. لقد ربح الفرد، والسياسةُ الخارجية ما هي إلا استمرار للاهتمامات الداخلية خارج الحدود القومية وليس العكس. كما أن الاستهلاك الفردي يحلُّ محل المجد بوصفه سمةً مسيطرةً على الحياة القومية، ويتم تجنب الحرب قدر الإمكان، فاحتلال أرض بالقوة لم يَعُد يثير اهتمام هذه الشعوب.

ويواجه نظام ما بعد الحداثة الأوروبي الأخطارَ نفسها التي تواجهها الولايات المتحدة. أولاً، هناك خطر فوضى ما بعد الحداثة، وهي تأتي اليوم، على سبيل المثال، في صورة إرهاب، والفوضى هي الخطر الحقيقي الذي يتهدد النظام الدولي عموماً. وثانياً، يأتي ثاني خطر من الحداثة نفسها، فالخطر الحقيقي من المحتمل أن يأتي من أسلحة الدمار الشامل، وهو الخطر الذي تشترك فيه كل من الولايات المتحدة وأوروبا. أما الخطر الثالث فهو خاص بمرحلة ما بعد الحداثة في أوروبا نفسها، ويأتي من الداخل. ففي عالم ما بعد الحداثة، تتراجع قضايا الأمن في عقول الناس، حيث تصبح الدولة أقل أهمية.

ثم يناقش المؤلف شروط السلام في دبلوماسية القرن الحادي والعشرين، فأهداف السياسة الخارجية ثابتة على أنها السلام والرخاء وليس القوة والمكانة. وعلى الرغم من أن القوة مهمة وحيوية لتحقيق السلام، فإنها وسيلة وليست غاية في ذاتها. وفي عالم ما بعد الحداثة، تُعَد الحرب شيئاً كريهاً ينبغي تجنُّبه قدر الإمكان؛ فاستخدام القوة يعني فشل السياسة أكثر من كونه أداة من أدواتها. وبحسب كوبر، فهناك خمس طرائق لتحقيق السلام: (1) الحاجة إلى فهم الأجانب. (2) حتى في عصر العولمة تظل حياة الناس وسياسات الدول شؤوناً محلية. (3) صعوبة التأثير في الحكومات الأجنبية. (4) مبادئ سياسة الدولة تذهب أبعد مما تذهب إليه مصالحها القومية. (5) الحاجة إلى إيجاد حلول دائمة من خلال تعديل الهُويات.

 وأخيراً، يرى المؤلف أن نقاط الاختلاف بين أمريكا وأوروبا تمثلُها إمكانات الطرفين العسكرية. فالولايات المتحدة أحادية التحرُّك، لأنها قادرة على التصرف على نحو منفرد، بينما يأتي ارتباط أوروبا بالاتفاقيات وقواعد القانون والتعددية بفعل الضعف والأماني التي يصعب تحقيقها. ويرى المؤلف أن تعبير (العصر الأمريكي) هو التعبير الأمثل لوصف النظام العالمي. فعند التعرض لموضوع من موضوعات السياسة الخارجية، يُثار في الأغلب تساؤل عن الموقف الأمريكي من المسألة، ولا يُكترث لأي طرح سياسي ما دام مخالفاً للإرادة الأمريكية التي ستقوم حتماً بتعديله أو رفضه.

ويختم المؤلف بأنه في عالم العولمة الذي لا يعرف الحدود، لن تكون هناك لامبالاة بحروب الآخرين، ولذلك فالعصر الأمريكي يجب أن يكون عالمياً، فالقوة العسكرية الأمريكية ليس لها ما يضاهيها في العالم فحسب، بل إنها أيضاً تدير شبكة عسكرية عالمية المجال، وتنادي الاستراتيجية الكبرى اليوم بأن تكون هناك استراتيجية للتنمية والأمن، وتؤكد خبرة كوبر وخلفيته أن فكرته هذه جديرة بأخذها في الحسبان والالتفات إليها.

مقالات لنفس الكاتب