; logged out
الرئيسية / دعاوي الإصلاح في الخليج

دعاوي الإصلاح في الخليج

الأربعاء، 01 أيلول/سبتمبر 2004

تتعرض دول الخليج ودول أخرى في المنطقة إلى حملة أمريكية مكثفة تعنى كما تدعي بنشر الديمقراطية، وفرض فهم جديد للحياة بما فيها مسألة احترام حقوق الإنسان، وحرية التعبير عن الرأي، وحق الاختلاف والتنوع، والتعايش السلمي بين الشعوب، وفي سبيل إنجاز ذلك يتم تسخير وسائل الإعلام ووسائل دبلوماسية عديدة، إضافة إلى التلويح الدائم بالعصا الغليظة المستعدة لضرب أي جهة أو نظام يعيق تقدم المشروع الأمريكي القادم بقوة لتحقيق هيمنة شاملة.

ويبدو القلق واضحاً من أبعاد هذا المشروع على المستوى الرسمي والشعبي، ويتمظهر هذا القلق على شكل أسئلة تتعلق بطبيعة وآلية الإصلاح الأمريكي، وإلى أي مدى يمكن أن تتوافق تلك الإصلاحات مع طبيعة المجتمعات الخليجية وتلبي طموحاتها؟ فالكثيرون هنا يشككون في النوايا الأمريكية، وتدعم ظنونهم سلســـلة من الأحداث بالغة السوء شكلت في مجملها ما اعتبره البعـــض إهانـة للوجود العربي والإسلامي.

لكن هذا لا يمنعهم في الوقت ذاته من القول إن المنطقة بحاجة فعلية إلى مشاريع إصلاح كبرى تعمل على تغيير الواقع السلبي، وتتلمس مخارج حقيقية من حالة الانسداد السياسي والاجتماعي، وتتجاوز الكثير من مطبات التخلف والتقهقر الحضاري.

تتضمن الثقافة الإسلامية / العربية في داخلها بواعث كثيرة يمكن أن تكون منطلقا للتغيير، فشريعتنا هي شريعة تقوم على تقدير الإنسان لإنسانيته وبغض النظر عن أصله أو لونه أو جنسه، وهي الشريعة الأولى التي رفعت شأن المرأة إلى آفاق متقدمة لم تحلم بها أحسن شعوب العالم، لكن هذا الادعاء يعارضه الواقع السيئ للمسلمين .. فما هو العمل؟

نحن أمام خيارين، الأول هو تبني منهج الانغلاق والتوقف عند الماضي المجيد للأمة باعتبار أن ما جاء به سلف الأمة هو وحده القابل للتثمير السياسي والاجتماعي، والثاني الاستفادة من ظروف التغيير السياسي في العالم، بما فيها ظروف الدفع المتواصل نحو استحداث برامج سياسية واجتماعية وثقافيـة لتطوير حالة المشاركة السياسية، ورفع سقف الحريات العامة، وضمان الحقوق الأساسية للمواطنين، دون أن نلـــزم أنفســنا بالتخلـي عما نعتقد أنها قيم و مبادئ تؤسس لخير وصالح الشعوب.
ورغم حالة الحذر والقلق التي تعتري بعض النخب العربية والإسلامية من دعوات التغيير الآتية من الخارج، إلا أننا لا يمكن أن ننفي أنها توحي بالكثير من الأمل والتفاؤل عند غيرهم، لا سيما عند الفئات التي وصلت كل حساباتها مع الواقع إلى طرق مسدودة، أو تلك التي لا تزال تعاني مدنها من مظاهر الاستبداد السياسي.

ويمكن أن نتفق على القول إن المشروع الإصلاحي الأمريكي والغربي عموما ليس على هذه الدرجة من النزاهة، إلا أن درجة الحراك الإصلاحي في المنطقة لا ينصفها الوصف بكونها بطيئة، بل تكاد تكون جامدة ومتوقفة إلى أبعد الحدود، والتوقف عن النمو هو موت ونهاية، بمعنى أن الرغبة الإصلاحية في دول الخليج لاتزال عند مستوى الادعاء ولم ترتق إلى مستوى الإثبات.

نرغب بالإصلاح، لكن كل ما يحدث فعلاً هو الجدل حول كيفية الإصلاح، هل يبدأ من الداخل أو من الخارج؟ من داخل النظام أو من خارجه؟ هل يبدأ الإصلاح من فوق أو من تحت؟ المثقفون يُنظِّرون في ضرورة الإصلاح، والعلماء ينصحون الناس بإصلاح أمورهم، والحكومة تدعي أنها حكومة (إصلاح)، لكن في كل الأحوال لا أحد من هؤلاء يبدأ حركة التطوير الإداري والمؤسساتي .

فالحكومة تتغير أسماء أعضائها وتظل سياساتها ثابتة ، ونواب الأمة يعتبرون وجودهم في المجلس هو قمة الهرم الإصلاحي، والأحزاب السياسية تقاوم أي محاولة إصلاحية من داخلها وتعتبرها مؤامرة مدعومة من الخارج. هذا الحال لا يبرر الوقوف إلى جانب التدخل الغربي في الشأن المحلي، لكنه بالتأكيد يخفف من حدة معارضته، ويعلي من شأن موقف الذين ينادون بتجاوب نوعي مع دعوات التغيير من الخارج.

الإصلاح يتطلب انتقالاً خليجياً مـن الحوار في النظرية إلى اتخاذ إجراءات عمــلية، تضع الرغبة في الإصلاح موضع التــنفيذ، وبدل أن يتجادل المخــتلفون حول ماهية الإصلاح عليهم أن يبحثوا عن وســــائل تحويل النظرية إلى ممارسة مادية يومية، وهو المخرج الوحيد الذي يمكن من خلاله لجم فم القائلــين بالاعتماد على الخارج.

أما إذا استمر وضع الركود كما هو فلن يلتفت أحد الآن أو في المستقبل إلى تحذيرات الخطر التي يطلقها المتحفظون على المشروع الأمريكي، فأغلب الناس لن يجدوا حرجا في تأييد أي مشروع يشعرون أنه يمكن أن يحقق لهم شيئا من الكرامة المفقودة في واقعهم الاجتماعي، أو أن يوفر لهم المزيد من فرص المشاركة السياسية بصفة أصلية وليست طارئة، أو كونه يضمن لهم حفظ خصوصيات كانت مستباحة في بلدانهم.

من أكبر دواعي الارتماء في حضن الخارج انسداد فرص التغيير من الداخل، فالخليجيون كحكم أولي مثل بقية الشعوب العربية يرغبون في الاستقلالية والاعتماد على الذات، ولديهم كل الاستعداد للتضحية والدفاع عن أفكارهم ومعتقداتهم وانتزاع الحقوق بأيديهم لا بأيدٍ غريبة، لكنهم إن أصبحوا بين مطرقة سلبيات الحرية وسندان الجمود الداخلي فلا غرابة إن مالت جموع منهم الى الحرية، وإن رافق هذا الميل دفع ثمن باهظ كما ظهر ذلك جليا في بعض دول الخليج.

ظروف الخليج تتمايل بين المد والجزر، فمن جهة ترغب دول الخليج في دخول دائرة الدول العصرية، عبر تحديث التعليم، وعصرنة المؤسسات، و«لبرلة» الدولة، لكنها من ناحية أخرى لا تزال تعيش تحديات أعراف قبلية كانت ولا تزال سبباً في وأد الكثير من رغبات الإصلاح والتحديث، فالتعليم من الناحية الفعلية في أسوأ درجاته، والمؤسسات تُدار بطريقة تقليدية رتيبة، والدولة لا تكاد تتمايز عن السلطة.

غير أن سيرورة إعادة النظر التي تعيشها دول الخليج تتسم بصفة سلبية وهي صفة الاعتماد على الزمن لحل المشكلات العالقة، وانتظار أعلى درجات الضغط لإدخال تحسينات سياسية كان من المفترض أن تحدث منذ فترات سابقة وفي ظروف سلمية توافقية.
فمن المعلوم وعبر العديد من التجارب أن أحداً في الخليج لا يريد أن ينازع السُّلطة صولجانها، لكن تَصب المطالبات عادة في ضرورة استحداث إصلاحات سياسية مستمرة ومتوافقة مع آمال بناء الدولة العصرية التي يرغبونها، ولا عيب أبداً في أن يعيد أبناء المنطقة النظر في مفهوم الدولة لديهم، ولا في اعتراف الحكومات بفشل مشروع الدولة في السنوات السابقة، وإنما العيب الحقيقي يكمن في دخول التحديث السياسي إلى المنطقة برغم أنف الجميع، أو عبر سلسلة من التوترات الأمنية والسياسية في المنطقة لاسيما أن مؤشرات ذلك واردة.

ومنه ما أشار إليه الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية «سي آي إيه» جيمس ولسي، في كلمة ألقاها خلال مناظرة نظمها اتحاد الطلبة في جامعة اوكسفورد البريطانية «أن الوقت قد حان لكي تستبدل الولايات المتحدة جميع الأنظمة العربية»، وقسّم ولسي الدول العربية إلى قسمين: «الدكتاتورية المطلقة.. وأنظمة الأسر المحدودة، مؤكداً أن الحرب التي تشنها الولايات المتحدة على العراق لا ترتبط بالضرورة بموضوع أسلحة الدمار الشامل بل هي أساسا لنشر الديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي».
لقد مرت منطقة الخليج العربي بحالات من عدم الاستقرار، وكان لغياب إرادة التغيير أثراً واضحاً في استمرار حالة التوتر وسيادتها زمناً طويلاً من الوقت، كما أدت إلى تبعثر طرق التفكير في شكل الدولة التي يأملونها، لقد تكتمنا كثيرا وتحدثنا بخلسة وفي دوائر مغلقة لسنوات طويلة فما زادنا ذلك إلا غموضاً والتباساً في مفهوم الدولة وفي الآفاق التي نحلم بها وقد آن أوان المصارحة والحديث بصوت عال، والبدء في تحويل دعاوى الإصلاح إلى مشاريع للتطبيق، وإن اجتهدنا وأخطأنا.. فالمستقبل تخطيط و إرادة.

مجلة آراء حول الخليج