; logged out
الرئيسية / مستقبل العلاقات العراقية - الكويتية

مستقبل العلاقات العراقية - الكويتية

الأربعاء، 01 كانون1/ديسمبر 2004

هذا الصيف، أكثر الكتب توزيعاً ومبيعاً في العاصمة البريطانية لندن، كان كتاب يحمل عنوان (ألف مكان عليك أن تزورها قبل أن تموت ). ولو قلبنا الآية وقرر كاتب عربي أن يعكس في كتاب الأمكنة العربية، لكان أفضل عنوان له هو (إن أردت أن تموت سريعاً ، فعليك بزيارة بغداد).

ليس في ذلك نكتة سوداء، ولكنها الحقيقة، فكل الخطف و القتل سواء بحز الرقبة بالسكين، أو بثقب الظهور بالرصاص، مروراً بالاغتصاب والتهديد، يعني أن العراق أصبح مكاناً خطراً ليس له مثال في العالم، ومن أراد أن يستغني عن روحه فليقدم الى أرض العراق.

إن ما يعاني منه العراق هو ما يسمى في مثل هذه الحالة "مرض ما بعد الأزمة" وله تعريف أفضل بالانجليزية هو post conflict syndrome. وهو مرض يعني فيما يعنيه، الفوضى العارمة من جهة، وعدم اليقين من جهة أخرى، وهو حالة اجتماعية يفقد فيها المجتمع قدرته على التفريق بين الصواب و الخطأ، و بين الحلال والحرام، وبين ما يجوز وما لا يجوز.

وإذا كان هذا المرض قد مرت به الشعوب التي خبرت أزمة معمقة في عالمنا اليوم مثل لبنان، أو فلسطين، وقبل ذلك بلاد مثل اليابان و ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، بل وحتى بريطانيا التي ما زالت تتذكر- بعد ستين عاماً من انتهاء الحرب العالمية الثانية -صورايخ هتلر المندفعة إلى مدينة لندن ومدن أخرى، وحتى الكويت بعد التحرير، وهي لم تختبر الاحتلال إلا لفترة قصيرة نسبياً، إلا أن الحالة العراقية حالة أكثر عمقاً وأبعد دلالة، بسبب التكوين العرقي والمذهبي والظروف التاريخية المصاحبة.

وهي حالة سوف تؤثر في الجوار العربي وغير العربي، ولكنها أكثر تأثيراً وبشكل سلبي في الكويت، البلد العربي الذي خبر عدداً من الأزمات مع الجارة العراقية، طوال قرن من الزمان، بعض هذه الأزمات ساخنة، وعلى رأسها الاحتلال العراقي للكويت، وبعضها خامدة مثل المطالبة المستمرة للحكومات العراقية المتعاقبة بشيء ما في الكويت، أرضاً أو جزراً أو نفطاً أو حتى مالاً.

ولا ينبغي أن نشيح بالمجاملة أو نتقي بالجهل عن القضايا العالقة بين الكويت و العراق، بمجرد حصول تغيير هناك، فالوضع في العراق، وهو وضع متفجر مفتوح على كل الاحتمالات ، له علاقة إستراتيجية مباشرة بالكويت ، بل إن الوضع في العراق له علاقة مباشرة بالأمن الوطني الكويتي، وهو ما نريد أن ندرسه هنا .

القوى العراقية على الساحة اليوم

تاريخ العراق الحديث يقول لنا إن قواه الاجتماعية والسياسية، لا تريد أن تتعاون أو تتآلف، فهي قوى تريد أن (تحكم) أو بالأحرى تتحكم في القوى الأخرى، وتبعد الآخرين، ولا تستطيع أن (تتعاون). ولقد ظهر على السطح بعد سقوط النظام العراقي السابق، ثلاث قوى رئيسة في العراق، هي ما اصطلح على تسميته (بالبيوت الثلاثة) وهي البيت الكردي، والبيت الشيعي والبيت السني.

البيت الكردي

الوحيد المنظم نسبياً حتى الآن هو البيت (الكردي) وهو الأكثر تأثيراً في السياسة العراقية اليوم. ومن قبيل المفاجآت العراقية غير المنتظرة، أن يكون البيت الكردي هو الأهم والأكثر قدرة على التأثير في شؤون العراق ما بعد صدام حسين . فلم يكن للأكراد في العراق منذ أن ظهرت الدولة العراقية الحديثة للوجود، أي بعد الحرب العالمية الأولى، أيّ زخم وثقل سياسي ، كما لهم اليوم. كانوا إما معارضين حاملي سلاح في الشمال ، أو منبوذين ومطاردين في الوطن وخارجه ، أو شخصيات تابعة للحكم في بغداد، ولعل أشهرهم في التبعية نائب رئيس الجمهورية المطاح به، السيد طه ياسين رمضان ، الذي كان شخصية كاريكاتورية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

في أثناء نضال الأكراد العراقيين من أجل حياة أفضل، اتصلوا بالكثير من القوى الإقليمية والدولية، وسارت بهم الأمور بين شد وجذب، وتخوف من حولهم من دول مجاورة من طموحاتهم (بإقامة كيان مستقل خاص) فصاروا في أغلب الأوقات محل شك وريبة، بادلوها بريبة واستنفار، واستفاد النظام السابق من عدم اليقين ( الكردي ) فيما يريدون، فاستفرد بهم إلى درجة ترحيلهم عرقياً من مناطقهم أو إبادتهم بالأسلحة الكيماوية.

تنظيم البيت الكردي وتفعيله في الوقت الحالي لم يأت من فراغ ، فقد تقاتل الحزبان الكبيران، الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني ، بقيادة كل من مسعود برزاني وجلال طالباني، قتالاً مريراً في سنوات الفراغ ، التي أعقبت حرب تحرير الكويت ، ونشوء فراغ في شمال العراق حيث تم تحديد الملاذ الآمن للأكراد من قبل قوات التحالف الدولي عام 1991. لم يكن الحزبان الكبيران على وفاق، فاقتتلا ، وشكل هذا الاقتتال فرصة لبعض القوى الكردية للظهور، كما حدث (لأنصار الإسلام ) في الشمال .

بعد ذاك الاقتتال وجد الطرفان ، وبتشجيع وحث كبيرين من الولايات المتحدة، أن صراعهما سوف يوفر للآخرين الفرصة في الشمال، ويضعف التيار العراقي الراغب في التخلص من النظام القائم وقتها.

وقد بدأت بالفعل دعوات سياسية – بسبب صراع الحزبين الكبيرين - تظهر في الساحة الكردية، لتحتل مكاناً، ولو صغيراً على الساحة، وخارج الحزبين الكبيرين. كما وفر ذاك الصراع لعدوهما المشترك، فرصاً أفضل للنيل منهما معاً..لذا كان توافق الحزبين في واشنطن على أساس تقاسم المغانم والمسؤولية على قاعدة ( لا ضرر ولا ضرار)، وهكذا بني البيت الكردي بقوة دافعة كانت نافعة له، عندما احتاجها في الوقت العصيب، أي بعد الإطاحة بنظام صدام حسين في ابريل من عام 2003.

البيت الكردي شبه موحد، ولكنه ليس موحداً بالكامل، فهناك أيضاً عدد من الاجتهادات الفردية، وبعض التجمعات التي لا ترى أن البيت الكردي هو مسعود وجلال فقط، بل تطالب بتوسيع قاعدة التمثيل، لإشراك عدد من المثقفين المستقلين الأكراد الذين لهم وجهة نظر قد تكون مختلفة لما يدار اليوم في بغداد ، وهم خارج نطاق التنظيمين الكبيرين.

بيت القصيد أن تنظيم البيت الكردي، أو قل تنظيم معظمه، على يد مسعود وجلال أعطى الرجلين قوة كبيرة في تقرير السياسات في بغداد منذ التحرير، فما يتفق عليه الرجلان يصبح واقعاً على الأرض . وما يعترضا عليه لا ينفذ. التكاتف هذا، والذي عززته خبرة سنوات من الإدارة المستقلة في الشمال، قد زادته قوة كوادر ليست قتالية فقط (البشمركة) وهي قوة عسكرية ضاربة، ولكن أيضاً كوادر إدارية كفية في القيادة والتنظيم جعلت من الشمال العراقي آمناً نسبياً، وقادراً على أن يقدم الخبرة الإدارية والأمنية لعراق ما بعد صدام .

البيت الشيعي

على العكس من ذلك في البيت الآخر، الشيعي، الذي تنادى بعض مثقفيه لإصدار بيان في عام 2002 سمي بالبيان الشيعي، نشر على أوسع نطاق، وقتها ظهرت أطروحة البيت الشيعي على الرغم مما يحويه هذا ( البيت ) من تناقض سياسي.

البيان سابق الذكر يلاحظ تدني حظوظ الشيعة العراقيين في الحكم والإدارة في العراق، بل ووقوع جل الاضطهاد عليهم، وينسبها أولاً إلى مسار تاريخي طويل من الاضطهاد، وثانياً إلى تعسف غير مسبوق من جانب النظام العراقي السابق، ولو أن بعض مثقفي الشيعة وقتها ناقشوا البيان من منطلق تصحيحي، وهو أن الاضطهاد قد ساوى بين طوائف وعشائر العراق ومواطنيه جميعاً، وربما كان للشيعة حظ أوفر من ذلك الاضطهاد، ولكنه حظ يساوي الآخرين، فمن يعتقد النظام السابق أنهم غير موالين له ، بصرف النظر عن قناعتهم الفكرية أو ارتباطهم الطائفي، يضطهدوا ، فلا تنفع فيهم شفاعة شفيع.

في الكثير من الكتب التي صدرت عن بعض البعثيين الشيعة السابقين، تلميح إلى أنهم استبعدوا من صلب النظام بسبب " شيعيتهم " ولو أن القول الآخر صحيح، وهو أن عدداً وافراً من الكوادر المتوسطة لحزب البعث العراقي، وخاصة في سنوات صعوده، كانوا من الشيعة.

البيت الشيعي ، على عكس البيت الكردي، لم يكن منظماً على الأرض العراقية، قبل الإطاحة بالنظام السابق . كانت هناك تنظيمات متفرقة أغلبها في الخارج، وبعضها فرخ تنظيمات أخرى، ولكن الملاحظ أن الأكثر تنظيماً هما "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية" و"حزب الدعوة". الأول كان مظلة لعدد من التنظيمات الصغيرة، والآخر انقسم إلى انقسامات عدة ، حتى أصبح هناك ثلاثة تنظيمات معروفة بحزب (الدعوة) ، فالمظلة الواحدة انقسمت الى عدد من المظلات السياسية.

بجانب هذا فإن بعض الشيعة قد التجأ إلى كيانات سياسية غير محددة بمرجعية طائفية ، أي ذات مرجعيات خارج الطوائف، ومثال ذلك حزب الوفاق، الذي يرأسه السيد أياد علاوي، أو الحزب الشيوعي العراقي، وآخرون كثيرون من الشيعة بقوا مستقلين، ولكن جماهيرية تنظيماتهم بقيت محدودة.

بسبب ظروف القمع، لجأت قيادة " المجلس الأعلى للثورة الإسلامية " إلى إيران لتكون قاعدة لها، وأصبحت كوادر حزب الدعوة موزعة أيضاً بين إيران وبين بعض الدول العربية، وقد حاول الإيرانيون أن يؤثروا في نهج وسياسة من استضافوهم، ولكن العراقيين الشيعة، وإن أبدوا الكثير من المجاملة لمضيفيهم ، فهم في نفس الوقت أرادوا أن يكونوا مستقلين في قراراتهم ما أمكن لهم ذلك.

ولعل موقف قيادة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، مثال على ذلك. فهو وإن كان قريباً من التجربة الإيرانية في اعتماد مرجعية دينية للنضال الوطني ، إلا أنه أوجد مسافة مستقلة عن المطالبة بتطبيق التجربة الإيرانية بحذافيرها في العراق، ومع ذلك لم يتجاوز الحساسية الإيرانية في بعض المواقف، فكان آخر من التحق بالمفاوضات التي تبنتها الولايات المتحدة من أطراف المعارضة العراقية ، عشية تحرير العراق، ولو أن الشك كان متبادلاً، فالطرف الأمريكي، وحتى فترة متأخرة من العام 2001 ، كان يعتقد أن قيادة الثورة الإسلامية في العراق لها هوى إيراني.

البيت الشيعي السياسي شبه المنظم، قدم إلى العراق من الخارج. وكان لبعض منه قوة مدربة عسكرياً مثل (جيش بدر) التابع للمجلس الأعلى . لكن هذه القوى لم تكن على الأرض العراقية ، كتنظيمات البيت الكردي. إلا أن أطرافا من هذا البيت شاركت في مجلس الحكم، ومن ثم في التنظيمات اللاحقة كمثل الوزارة المؤقتة الأولى والثانية، ولكن من دون تصور مشترك لما يريد أو لا يريد ، كمجموعة للعراق الجديد ، بل ربما كان يعرف ما لا يريد، دون تحديد ما يريد على وجه الدقة.

لم يكن يريد أن يرى رجال النظام السابق، أو حتى أطرافاً باقية أو قريبة من الحكم، لذا كانت ضرورة التخلص من مؤسسات الدولة السابقة، وخاصة العسكرية منها، هاجس كبير لديه، وأولوية لا تسبقها أولوية أخرى، ولم يكن يريد أن يرى قوة جديدة بديلة عن النظام السابق تظهر بعيدة عنه في الشكل ، وقريبة منه في الادلجة، كمثل تيار (قومي) أو (ديني، سني) متطرف.

إلا أن الكثير من أعمدة البيت الشيعي، نتيجة التحالفات و المخاوف القديمة ، والانشغال في الأشهر الأولى بعد التحرير بالمغانم ، لم ير الهم القادم والكبير، عندما اغتيل السيد عبد المجيد الخوئي في الصحن الحيدري ،و مدافع التحرير لا تزال ساخنة. ثم جاءت الطامة الكبرى باغتيال السيد محمد باقر الحكيم بعد صلاة الجمعة، بطريقة لا تستطيع تنفيذها إلا تنظيمات خلفها دول.

وانشغل البيت الشيعي بعضه ببعض ، وبدفع بعض أطرافه لمصالحهم الشخصية أو الضيقة، أو بسبب غياب التصور لما يريده، قبل ما لا يريده، وظهر هنا على السطح السيد مقتدى الصدر، ذو الخبرة السياسية وربما الدينية المحدودة، كي يعكر مسيرة وطموح البيت الشيعي المقبول من القوى المسيطرة ، ومن دون أن يقابل العبث بطموحات البيت، من بعض الشيعة ، مثل جماعة الصدر، بمجاهرة شاجبة وبأجندة مستقبلية.

التجاء الجميع في البيت الشيعي إلى السيد آية الله السيستاني في عدد من مراحل الاضطراب السابقة والأخيرة أيضاً، يدل على أن (البيت الشيعي السياسي) لم يتعلم من تجربة البيت الكردي، حتى الآن على الأقل ، بوجود إرادة سياسية لإدارة بلد حديث متعدد، على قاعدة التوافق. ولم يتعلم من تجربة ثورة العشرين العراقية، عندما حرم الشيعة بسببها من المشاركة الحقيقية في الحكم لفترة، بسبب قراءتهم الخاطئة للأحداث وقتها.

بين الخوف من نتائج التجربة السابقة في العشرينات من القرن الماضي، وبين المزايدة من بعض أطراف هذا البيت ( الشيعي ) نرى أن كثيرون في هذا البيت ليسوا على قدرة أن يقفوا ويقدموا برنامجاً حقيقياً ، أوّله شجب العنف وآخره بناء وطن لكل العراقيين، بما فيه عدم تكرار عزل الشيعة.

البيت السنّي

أما البيت الثالث، وهو البيت السني، إن صحت التسمية، فهو لا زال يتيماً بين أبوين قررا أن أفعاله السابقة والتاريخية قد لا تؤهله في هذه المرحلة للعب دور كبير في صناعة العراق الجديد. وفراراً من ذلك، التجأت أطراف من هذا البيت لإعانة "الزرقاوي" وأمثاله، لإشاعة الاضطراب، أكثر منها تحقيقاً لأهداف واضحة ومحددة ومطلوبة. وبدا في هذا البيت من التجأ أيضاً الى " العمامة " لإظهار مرجعية جديدة تختلف عن السابقة، وتقارع عمامة الشيعي، بل وذهب بعض المثقفين السنة، وهم قلة ، للتشكيك في النسب العددية بين (الشيعة والسنة) في العراق، في محاولة لصناعة أهداف أخرى تعيد العراق الى زمن مضى. ويعتقد كثيرون أن السنة هم خلف خطف الأجانب والتنكيل بهم ، وهناك شواهد نشرت في وسائل الإعلام تدل على ذلك.

تلك هي البيوت الثلاثة لعراق اليوم، والواضح أنها تندفع لأسباب سياسية وربما مصلحية نحو مرجعية (مذهبية ، دينية) تعتمد عليها في تبرير بقائها السياسي وإدارة صراعاتها. بعض قواها (المقاومة) تتخذ من شعار ( رفض الاحتلال) غطاءً، إما للنشاط ضد ذلك الاحتلال أو السكوت عن ممارسات (العنف) على أنها مقاومة أو شبه مقاومة للاحتلال.

يجاري كل ذلك صوت عال، حتى من أولئك الذين لم يكن باستطاعتهم العودة الى العراق ما حيوا في ظل النظام السابق. بعض هؤلاء يجهر بالقول في الفضائيات وعلى صفحات الصحف بـ"جلاء الاحتلال"، وينسى أنه لولاه، لما استطاع أن يعود الى بيته ، فضلاً عن البقاء على قيد الحياة ، وفي نفس الوقت لا يقدمون بديلاً عقلانياً سوى الصياح مع القطيع.

الانصراف إلى بناء عراق تعددي متسامح وقانوني، هي أجندة لم توضع حتى الآن أمام أي تيار، فحتى الحكومة العراقية القائمة ، ترى أن أهم واجباتها "التخلص من الاحتلال بطريقتها"! لماذا كان "احتلال" ولماذا كان "تحرير" ؟ هناك الكثير في الثقافة العراقية السياسية مما يلفت النظر، فقد سقطت هذه الثقافة تحت سنابك خيل الإشاعة، وهي إشاعة سياسية تبناها خيال الإنسان العراقي الموهوم والمهموم، إن لم يكن الجميع فكثيرون، تطلقها النخبة ويسكت عنها الكثير. وهي إشاعة ضارة سرعان ما تجري في الجسم السياسي الشعبي ثم النخبوي على أنها حقيقة لا جدال فيها . من هذه الإشاعات الراسخة وكأنها حقيقة نهائية ما ردده النظام العراقي السابق ثم ظهر في أقوال الرئيس المخلوع عند تقديمه للاستنطاق والقائلة إن " نساء العراق - استخدموا في الكويت - بعشرة دنانير"! ، فالإشاعة السياسية بضاعة مقبولة للعقل العراقي، إلا أن هناك ما هو أخطر من ذلك ويتشكل في سبع قضايا :

• فبعد تحرير العراق مباشرة سرت إشاعة، ما زالت تقدم بصورة أو بأخرى على أنها حقيقة ، وهي أن (الكويتيين) هم من قام بنهب المؤسسات العراقية ، بل إن البعض يؤكد (كشاهد عيان) أن الكويتيين هم من نهب مقتنيات المتحف العراقي، وما زالت هذه الأقوال تتردد ، ومن يريد تخفيفها يذكر أن ( الكويتيين) دخلوا مع قوات الاحتلال مرتدين الملابس العسكرية نفسها، فأصبح الأمر مختلطاً على العامة . (وهي إشاعة تسميم العلاقات العراقية الكويتية).

• تقول الإشاعة الأخرى إن ( العلماء العراقيين ) يقتلون غدراً في العراق اليوم، ومن يقتلهم - يقول محدثك بصوت أقل علوًا - إنهم (الموساد). وعندما تسأل هل يقومون بذلك بأنفسهم ، وكيف يجرؤون على الظهور في مدن مثل بغداد؟ يضعف الصوت ويضيف: إنهم يفعلون ذلك من خلال عملائهم ( الأكراد). واضح من هذه الإشاعة أنها تقصد حيزين، أولاً، تريد أن تقول أن النظام السابق كان لديه بالفعل ( علماء حديثو العهد بالعلم) وأنهم يشكلون خطراً على إسرائيل ببقائهم أحياء، والحيز الثاني والأهم هو دق إسفين بين (الأكراد) و (العرب) لغايات أخرى، قد تقود إلى شقاق.

• يأتي من يقول إن حرب احتلال العراق كانت لسببين ؛ الأول هو حماية أمن إسرائيل، والثاني الحصول على النفط، على الرغم من المعرفة التامة بأن النظام السابق كان مقيداً إلى درجة الاختناق، فلم يكن له غير الكلمات الحماسية (ضد إسرائيل) وأن "العلم" في العراق ينقصه شيئان مهمان، الأول هو الاطلاع على تسارع التقنية العالمية التي حرم منها لعقود، والثاني هو "الحريات" . وفي انعدام الاثنين لا يوجد تقدم علمي. أما السبب النفطي فيتغاضى البعض عن الحقيقة القائلة إن النظام السابق كان على استعداد أن يبيع النفط العراقي بأبخس الأثمان، بل جعله طريقاً للإغراء وشراء الضمائر، والحقيقة الأخرى أن صناعة النفط العراقي اليوم تحتاج الى مليارات من الدولارات لإعادة تأهيلها ولسنوات من الزمن تبلغ الخمس على أقل تقدير من أجل التأهيل.

• تكاد إشاعة أخرى أن تتوسع في الجسم السياسي العراقي هي (عراقيو الداخل وعراقيو الخارج). وهي معركة صامتة، تسمع صداها في الأوساط العراقية. فهناك من هم في الداخل، الذين لم ينخرطوا في حزب البعث بشكل رسمي (من الأساتذة والمهنيين وغيرهم) هم لم ينخرطوا في البعث، وربما لم تلوث صفائحهم، ولكنهم في نظر الآخرين (داهنوا) السلطة البعثية وصرفوا النظر عن سوئها . بين هؤلاء (من بقي في الوطن) وبين القادمين من (الخارج) الذين كانوا مطاردين في بقاع الأرض، معركة صامتة اليوم، خاصة في المدن الكبرى.

فالأولون يعتقدون أنهم أولى بالتركة، كونهم عاشوا الخوف والاضطهاد، والآخرون القادمون من الخارج يرون أنهم أولى بالعراق الجديد، كونهم كانوا مطاردين في عيشهم وحياتهم. وبين هؤلاء وأولئك يحتدم الصراع الخفي. الفئة الأولى (الباقون المداهنون) حملوا أو قل معظمهم راية (التخلص من الاحتلال) وهي مبنية على فكرة أن (الاحتلال) هو الذي يناصر (أهل الخارج)، وانه بمجرد انسحابه فإن الثمرة سوف تسقط في أيديهم، وهم غير منظمين التنظيم الفعال، ولكن صوتهم عال في الفضائيات و المنتديات الفكرية ، ويشكلون إحراجاً كبيراً كون الشعارات التي يرفعونها هي ( ثقافة عامة للمواطن العراقي).

• هناك قضية احتكاك كبيرة تتمحور حول (الإحصاءات) فالبعض من السنة يصر على القول إن عدد (السنة) أكبر من عدد الشيعة في عراق اليوم، وتتابع المدرسة المتعصبة من هذا التيار لتقول إن العدد الشيعي الكبير في العراق، هو من أصول إيرانية ، وليس من أصول عربية، ويرد آخرون بأن هذا تصور عنصري ، ولا يمت للحقيقة بصلة، وهي أن عدد الشيعة في العراق أكبر مما جاء في الإحصاءات الرسمية التي كانت تسيطر عليها الحكومات (السنية) السابقة. هذه قضية يتحسس منها البعض ولكنها مطروحة، وقد شهدت في ندوة عن مستقبل العراق عقدت في جامعة أكسفورد في بداية شهر سبتمبر في العام 2004 نقاشاً حاداً حول الموضوع، كانت أطرافه عراقية.

• عودة البعث أو الخبراء العسكريين فيه تلوح في الأفق، ولعل التجربة اليابانية والإيرانية تعيننا على فهم الموضوع، فقد قررت السلطة الأمريكية المحتلة بعد الحرب العالمية الثانية، أن تتعاون مع القطاع العسكري الياباني، على الرغم من عقيدته القتالية، لأنها تحتاج الى قوة ضبط في المجتمع، وقد قام ماك آرثر الحاكم الأمريكي لليابان بعد الحرب العالمية الثانية بالاستعانة بالعسكرية اليابانية بعد تطهيرها من الجنرالات. والتجربة الإيرانية مماثلة، فقد قررت القوى الثورية إنهاء (جيش الإمبراطور) لأنه خميرة مضادة للثورة الإيرانية المتقدمة، ولكن بمجرد أن وجدت السلطة الجديدة أنها محتاجة لجيش مدرب، سرعان ما أطلقت الضباط من السجون، وألحقتهم بالجيش والحرس الوطني للاستفادة من خبرتهم في القتال ضد العراق. مثل هذا الأمر يكاد يتكرر الآن في بغداد، وهو تعدى مرحلة النقاش إلى مرحلة التطبيق. والمفارقة أن الجيش الإيراني كان مدرباً على السلاح الأمريكي، وبسبب مقاطعة أميركا ، كان في معضلة لازمته لفترة، والجيش العراقي سلاحه وتدريبه (روسي سوفييتي قديم ) وهو يحتاج الى فترة للتدريب على السلاح الأمريكي الأكثر حداثة. إلا انه في كل الحالات أصبح هناك (صراع) بين أهل اجتثاث البعث ( مثل أحمد الجلبي ومناصريه) وبين (تطهير البعث) مثل علاوي ومناصريه، وهي قضية سوف تزداد تفاقما في العراق في الأشهر القليلة القادمة.

• الصراع في الملف الاقتصادي وهو أحد مناطق الصراع الحاد المستقبلي في العراق. فقد أصبح العراق دولة (اشتراكية) لفترة طويلة، وكانت هذه الاشتراكية مناسبة لعقيدة البعث، كونها تضع يد الدولة على الاقتصاد، وبالتالي يسهل السيطرة على المجتمع، ولتوجه الدولة المحتلة إلى دفع العراق لاقتصاد السوق . لقد زادت أسعار العقار في مدن العراق الى درجة كبيرة، وهي ظاهرة تساير (مجتمع الأزمات) أي أن الاستثمار يذهب إلى العقار، كونه أكثر استقراراً من العملة أو من أي شيء آخر. ولكن البعض في العراق يفسر هذه الظاهرة على أن (العراق) معروض للبيع لمن يدفع أكثر، لذا فإن ظاهرة خطف العاملين في شركات (أجنبية) و من ثم الطلب من هذه الشركات أن تسحب عمالها وتقفل مكاتبها، دافعه هذا التخوف المرضي من (بيع العراق)، في الوقت الذي يرى فيه الاقتصاديون أن لا طريق للعراق للتطور الحقيقي من دون أن يعمل باقتصاد السوق! أحد أزمات ما بعد الأزمة التي سوف تبقى معنا، هي الصراع حول ما إذا كان العراق الجديد سوق مفتوح أو مغلق ؟ إن الدعوة لفتح البلاد للاستثمار الخارجي والتحول من القطاع العام إلى الخاص وفصل الإدارة عن الملكية، وفصل الاقتصاد عن الدولة، كلها قضايا سوف تجد ( في السوق السياسي المفتوح) مكاناً للصراع حولها، وهو صراع قد يتفاقم إلى درجة تعطيل الإقلاع الاقتصادي العراقي لسنوات .

إنها الثقافة يا غبي مرة أخرى...

الحرية قيمة إنسانية عظيمة تتوق لها الشعوب، ولكنها تجفل من موضوعين، أن تكون مطلقة غير مقيدة ، أي تعني الفوضى ، و الحرمان منها بادعاء الخوف من الفوضى، لذلك اخترعت الإنسانية (القانون)، وهو قانون يتوافق الناس عليه من أجل تسيير مصالحهم العامة والخاصة، وهو ليس قانوناً مطلقاً ، فهو متغير بتغير الزمان والمكان والمصالح، وهو ما يتعارف عليه اليوم بالديمقراطية.

و لكن الديمقراطية لا تعني حق الأكثرية في الاستفراد بالسلطة، مهما كانت الأكثرية، عرقية أو دينية أو قومية، بل تعني الديمقراطية حفظ حقوق الأقلية، بل الدفاع عن تلك الحقوق. لقد قال الفيلسوف المصري زكي نجيب محمود في أوائل السبعينات من القرن الماضي ما نصه:

"إني أقولها صريحة ، ورزقي على الله، وهي أننا على درجة من التخلف أدعو الله أن لا تطول معنا بحيث ندخل عصرنا هذا. وعقيدتي أننا لو استطعنا أن ندخل القرن العشرين في آخر أعوامه لكان ذلك خيراً نحمد الله عليه " اعترافا من الفيلسوف الكبير بأن (العرب)، على درجة من التخلف في حكم أنفسهم بأنفسهم.

كما قال المفكر جيمس برجاهم :" إن الديمقراطية هي التسليم والقبول بتعدد النخب في المجتمع، وحقها في السلطة".

ولأن الثقافة العراقية السياسية متطيرة وتميل إلى التطرف، تجد أن البعض من دون أن يتردد، يدخل من باب التشاؤم، ويقرأ المصاعب الحالية في العراق، ويقول إن شعبنا يرى ( أن فترة صدام حسين هي أفضل من الوضع الحالي) ! هل هي الحرية المفقودة، والتي جاءت على وجه غير متوقع ؟ ربما .. و لذاك أصبح من لديه رأي قاله دون النظر إلي ما يعنيه على أرض الواقع.

إن القوى المختلفة في العراق لا تريد أن تتآلف على وضع معقول من القانون والدستور، بدليل أنه حتى بعض المتعاونين في الفترة الأولى مع الاحتلال - وهذا من حقهم - في مجلس الحكم، أو من حوله، يصرح هذا البعض بعد خروجه تصريحات غير منطقية، وشاجبة لكل ما حدث، إما مزايدة على من بقي ، أو مسايرة لرأي الشارع ، وكلاهما يشكل خطأ سياسياً.

إحدى القضايا التي لابد من الالتفات إليها تندرج في سؤال ( هل يعتقد العراقيون أنهم هزموا؟ كما أقر اليابانيون؟ أم أن الهزيمة لنظام؟

التعايش مع الهزيمة هو الخطوة الأولى لبناء عراق جديد، أما القول بشكل مباشر أو غير مباشر أن من هزم هو النظام السابق، ثم تلقى عليه التبعات، ويستمر البعض في تقمص نفس الفلسفة التي تلبس لباساً " وطنياً " دون أجندة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية يحيل العراق إلى مستنقع لتناكف سياسي عقيم.

لا يوجد لكثير من القائلين بفضائل المقاومة من النخب العراقية أية أجندة، فهم من الممكن أن يحدثوك عن عدد القتلى الأمريكان ( حوالي الألف حتى الآن) ويراهنوا على تغيير في الإدارة الأمريكية، ويشجعوا الاختطاف بشكل غير مباشر، ولكن تبقى الحقيقة أن الجميع يفتقد (أجندة) حقيقية، تسمع بعض النقد على تعيين فلان أو علان من النخبة العراقية، ولكن عندما تسأله عقلياً ما هو المخرج وما هو البديل؟ يحار في الإجابة.

خروج " المحتل " في الوقت القريب من العراق، يعني في بعض ما يعنيه إما انفصالاً حقيقياً أو حرباً أهلية وتدخلات من الجيران الأقوياء، وربما يعني أيضاً عدم استقرار عميق للجيران ، وربما أولها الكويت، حيث ستبدأ مزايدة لنقد من ساعد بشكل حقيقي وفعال القوة الدولية (الأمريكية ) للدخول إلى العراق، وتحريره أو احتلاله غير الكويتيين؟ وحتى لو حدثت انتخابات في العراق بعد أشهر كما هو مقرر، فإنها لن تكون شاملة، لأن بعض المناطق ستبقى غير آمنة، وأيضا سيأتي من يقول إنها انتخابات تمت تحت سنابك الاحتلال!

القضية العراقية، بعد أن تتأزم في الداخل سوف تستدير إلى الكويت مرة أخرى ، وتفتح الملفات القديمة ومنها ملف الحدود وملف التعويضات وملف النفط، وكانت بعض الأطراف العراقية في "المعارضة" لا تقترب من هذه الملفات لحساسيتها، ولكنها في السلطة ستكون وسيلة حقيقية للحشد والمزايدة. فالملف العراقي الكويتي لم يقفل ، بل على العكس ، بدأ بصفحات جديدة.

مستقبل العراق

صعب ومعقد، وأية مراهنة على خط واضح وربما إيجابي قد لا تكون مراهنة مربحة ، أما المراهنة على أن ( الثقافة السياسية) يجب أن ينظر إليها نظرة جدية برغبة توجيهها التوجيه الصحيح، فهذا غير متاح، المتاح عكسه في الفضائيات العربية وبين سطور معظم المنشور في صحفنا.

مجلة آراء حول الخليج