; logged out
الرئيسية / ملاحظات حول الاحتلال الأمريكي للعراق: الفلوجة ومقاومة الاحتلال

ملاحظات حول الاحتلال الأمريكي للعراق: الفلوجة ومقاومة الاحتلال

الأربعاء، 01 كانون1/ديسمبر 2004

هناك فارق كبير بين المقاومة والإرهاب , والتفريق بين الأمرين يجب إن يكون نقطة الانطلاق الأساسية لأي تقيم منصف وعقلاني لما يجري اليوم من المآسي على الساحة العراقية . فالعراق اليوم يشهد , ولا شك في هذا الأمر , مقاومة شريفة وطنية , ولكنة يشهد كذلك في نفس الوقت, إرهابا بغيضا يتصف بالأجرام والاستهتار بجميع القيم الإنسانية. وما يستحق التثمين والإطراء هنا هو فعل مقاومة المحتل , ولا إطراء لأفعال الإرهاب والتخريب التي يذهب ضحيتها الآلاف من المواطنين الأبرياء ممن قاسى الأمرين خلال عقود طويلة من اضطهاد الحكم الدكتاتوري السابق.

مقاومة الاحتلال والدفاع عن الأرض والعرض والكرامة هو حق وواجب ضمنتها جميع الشرائع السماوية. وهو كذلك فعل يتصف حسب القوانين الوضعية بصفة القانونية والشرعية وهذا ما دعمته جميع القوانين والمواثيق الدولية. ولا يستطع كأن من كان إن ينكر هذا الحق الأساسي على أي إنسان , إن اتفقنا معه أو لم نتفق في التقيم السياسي لهذا الفعل . والسؤال المحوري هنا ليس إن كانت مقاومة المحتل عمل مشروع أو غير مشروع فهذا أمر تم حسمه شرعا وقانونا , بل كيف يمكن التميز والتفريق بين عمل الإرهاب وعمل المقاومة .

بعد فترة قصيرة من انهيار نظام دكتاتورية الفرد السابق وبداية دكتاتورية الاحتلال في ابريل 2003 برزت أسماء مدن وموقع جغرافية كثيرة في الموطن العراقي ارتبط اسمها بظاهرة مقاومة القوات الغازية آلاتية من الجنوب , وكان اسم مدينة أم قصر مثلا محور حديث الأخبار العالمية لعدة أيام تلت بداية اختراق قوات الغزو الأمريكية – البريطانية خط الحدود الدولية. وتركزت إخبار المدينة حول قصص بسالة وشجاعة القوات العراقية المحدودة العدد والعدة التي كانت متمركزة في هذه المدينة الصغيرة والواقعة مباشرة على خط الحدود العراقية – الكويتية , وأمسى اسم مدينة أم قصر رمزا للمقاومة وشعارا للروح الوطنية التي عزمت على التصدي والوقوف في وجه القوات الغازية بغض النظر عن الثمن.

من قاتل واستشهد في أم قصر من ضباط ومراتب القوات المسلحة العراقية لم يكن يقاتل من اجل إبقاء أو دعم دكتاتورية بغيضة كانت المصدر الأساسي لمآسي المواطن والوطن عبر عقود زمنية طويلة , وبغض النظر عن انتمائة العرقي أو الطائفي أو الديني ففي أم قصر قاتل الإنسان العراقي من اجل الكرامة وعزة النفس ولم يكن مصير الدكتاتور أو مصير نظامه عنصرا أساسيا أو حتى هامشيا في قرار العسكري أو المدني العراقي الذي قرر القتال والصمود وحتى الاستشهاد في أم قصر أو غيرها.رغم إن كل الدلائل كانت تشير إلى إن المعركة العسكرية هي معركة خاسرة من الناحية العملية لفارق التفوق التكنولوجي والميداني بين الطرفين المتحاربين.

وخلال الأسابيع الأولى من الحرب وعلى ضوء تجربة المقاومة التي أبدتها وحدات صغيرة من القوات العراقية المسلحة في أم قصر وغيرها من مدن الجنوب العراقي الصغيرة والتي تنتشر على طول خط المواصلات الفاصل بين بغداد العاصمة ومركز انطلاق قوات الغزو من مواقعها داخل الأراضي الكويتية, اتخذت قيادة القوات الغازية قرار إستراتيجيا لإدارة المعركة مفاده إغفال جيوب المقاومة والتوجه إلى بغداد بالسرعة المطلوب. وكان وقع هذا القرار مهما على جغرافية العمليات العسكرية في الدولة. فقد تم فعليا إهمال

خطة احتلال المدن والأراضي والمواقع العسكرية الواقعة بين شمال العاصمة بغداد إلى حدود منطقة الحكم الذاتي الكردية شمالا , وإهمال المدن والمواقع المحصورة من شمال العاصمة شرقا وغربا (من الحدود الإيرانية إلى الحدود الأردنية و السورية ) وهذا ما عرف لاحقا بمنطقة "المثلث السني" العربي. فخلال فترة القتال التي طالت ثلاث أسابيع لم تشهد منطقة المثلث السني إي مواجه عسكرية رئيسية مع قوات الاحتلال وكان السبب وجيها ويتلخص بعدم وجود قوات احتلال في هذه المواقع واقتصرت معظم العمليات العسكرية على الاستعانة بسلاح الجو الأمريكي لتدمير مواقع عسكرية أو سياسية في هذا الجزء من البلاد وعدم الزج بقوات أرضيه لفرض السيطرة والاحتلال . فالحقيقة إن المثلث السني لم يتم دخول القوات الغازية إلى مدنه وقراه إلا بعد مرور أيام عديدة على سقوط وانهيار النظام بشكل كامل . وكان من المؤمل إن تكون حقيقة عدم حدوث مواجهة عسكرية دموية في منطقة المثلث خلال الحرب عاملا ايجابيا في تأسيس علاقة غير عدوانية بين سكان هذه المنطقة وقوات الاحتلال الأمريكي.

وخلال فترة الثلاث أسابيع اللاحقة لسقوط النظام قررت قيادة قوات الاحتلال القيام بإرسال قواتها إلى مدن المنطقة من اجل فرض السيطرة العسكرية عليها. وكانت مدينة الفلوجة واحدة من المدن التي وصلت إليها وحدات قوات الاحتلال خلال اوخر شهر ابريل وقامت بالتمركز في بناية المدرسة الرئيسية التي تقع في قلب المدينة . دخلت قوات الاحتلال إلى مدن وقرى وحواضر ما يسمى ب المثلث السني العربي معززه بافتراضات خاطئة وخطيرة كان لها بالغ الأثر في تعميق جذور ألازمة الأمنية والسياسية التي تعصف بالبلاد اليوم.

وكانت أحدى عناصر هذه الافتراضات الخاطئة هو الجزم ألاستباقي بتصنيف هذه المناطق بكونها مناطق "ذات نزعة عدوانية" محتملة اتجاه قوات الاحتلال الأمريكي , لذا تم تبني مبداء التعامل غير الودي مقدما مع سكان هذه المناطق. وكان منبع هذا الافتراض العشوائي تاريخ طويل من تبني الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ عام 1990 خيار اللعب على أوتار التفرقة الطائفية والعرقية والاثنية التي يتميز بها المجتمع العراقي. وهنا يبرز قرار الإدارات الأمريكية بالتحالف وتقديم الدعم المادي والمعنوي المتواصل خلال أكثر من اثني عشر عاما إلى مجموعات المعارضة التي تتصف بصبغتها الطائفية أو العرقية , رغم حقيقة إن هذه الفئات أثبتت عجزها التام في تحقيق هدف زعزعه النظام ولو قيد أنملة وافتقدت بشكل كامل وتام لأي قاعدة شعبية , واتصفت بصراعاتها الداخلية وارتباطاتها الخارجية المشبوه وشخصياتها القيادية الفاسدة .

وحين سقط النظام الدكتاتوري تحت ضغط العمل العسكري الأمريكي قامت سلطات الاحتلال بالاستعانة بحلفائها من فئات المعارضة العراقية أو ما يسمى "بالزعامات المستوردة" التي بدأت فورا باستغلال دعم قوات وسلطات الاحتلال لها لمحاولة تأسيس دكتاتورية بديلة تستند إلى دعم الدبابات الأمريكية وتقوم على دعم المصالح الطائفية أو العرقية تحت غطاء التحالف الطويل مع السياسة الأمريكية , وبحجة الانتصار لضحايا النظام البالي وغيرها من الشعارات والحجج التي تنم عن أحقاد شخصية ومصالح فردية وذاتية مدفوعة برغبات الانتقام أو جني الإرباح. وقد أثار هذا الأمر حفيظة كل مواطن عراقي يملك حدا ادني من الشعور الوطني أو الديني أو القومي أو حتى الكرامة الإنسانية. وكان وقع هذا التطور أكثر بروزا وتجسدا في مناطق المثلث السني التي عوملت بشكل غير منصف من قبل قوات الاحتلال أو من قبل حلفاء المحتل الجدد.

وبعد أفول نجم أم قصر كمركز لمقاومة القوات الغازية في الأيام الأولى للغزو , برز اسم مدينة الفلوجة , وخلال فترة قصيرة قياسيا بعد تعزيز الاحتلال , كمركز رئيسي لنشاط حركة المقاومة . ولمن لا يعرف ما هي الفلوجة فان للمدينة تاريخ طويل في مقارعة الظلم والاحتلال وانتهاك الكرامات. فقد اشتهرت هذه المدينة الصغيرة بسكانها ومساحتها بصلابة رجالها ونزعتها المحافظة الدينية والقبلية . ورغم قربها الجغرافي من العاصمة بغداد ( اقل من خمسون كيلومترا ) ورغم التواصل المستمر والتاريخي مع العاصمة حافظت مدينة الفلوجة على طابع خاص استطاعت المحافظة علية رغم عوادي ومتغيرات الزمن . ففي ضواحي هذه المدينة وعلى أيدي رجالها قتل أشرس ضابط احتلال بريطاني عام 1918 هو الكولونيل لجمان الذي كان معروفا باستهتاره المتعمد بالقيم الدينية الإسلامية والتقاليد المحلية .

ومنذ عام 1959 وحتى عام 1961 وقفت الفلوجة وأهلها شاهرتا السلاح في وجه المد الشيوعي الإلحادي الذي كاد إن يسيطر على العراق خلال فترة حكم الزعيم عبد الكريم قاسم لتتحول إلى مركز المقاومة القومية والإسلامية ورمزا لهوية الدولة العربية - الإسلامية . وقارع أهل المدينة ظلم دكتاتورية البعث و صدام حسين طويلا وكان أخر موكب شهداء قدمته المدينة عام 1997 بما عرف "بمؤامرة محمد مظلوم الدليمي" والتي هدفت إلى إسقاط النظام الدكتاتوري بعمل انقلاب عسكري وتم اكتشاف خيوطها مبكرا لتقود أكثر من خمسون ضابطا من سكان المنطقة إلى مشانق نظام صدام حسين. فتاريخ المدينة حافل بالمواقف الوطنية والقومية الغيورة والشجاعة ومقاومة المحتلون والغزاة أعادت الكرامة وماء الوجه لكل مواطن عراقي أو عربي ومسلم في زمن أمسى فيه قرار التشبث والدفاع عن الكرامة عملة صعبة ونادرة , فلا تغتالوا سمعة المدينة وسمعة أهلها المشرفة بوصمة الإرهاب , ولا تخلطوا أورق الإرهاب المنبوذ بفعل المقاومة المشروع , وهنا يقع العبء الأساسي على أهل الفلوجة لإثبات إنهم مع المقاومة وضد الإرهاب.

 

مجلة آراء حول الخليج