; logged out
الرئيسية / توصيات اللقاءات العلمية: لمـاذا لا تجد طريقها إلى التنفيذ؟

توصيات اللقاءات العلمية: لمـاذا لا تجد طريقها إلى التنفيذ؟

الأربعاء، 01 كانون1/ديسمبر 2004

لقد شهدت السنوات الأخيرة تزايداً ملحوظاً في عقد اللقاءات العلمية من مؤتمرات وندوات وورش عمل وحلقات نقاش في الدول العربية، بما في ذلك دول مجلس التعاون الخليجي. وتقوم بتنظيم هذه اللقاءات مراكز بحوث ودراسات، حكومية وخاصة، ومؤسسات أكاديمية جامعية، وتنظيمات سياسية وحزبية، وأجهزة ومؤسسات حكومية، تنفيذية وخدمية، وبعض قوى وتنظيمات المجتمع المدني وغيرها. وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة لها بعض جوانبها الإيجابية، وبخاصة في ما يتعلق بجهود ومحاولات رصد وتحليل بعض القضايا والمشكلات التي تواجه هذه الدول وبلورة حلول ومقترحات لها، فإنه من الـمُـلاحظ أن توصيات ومقترحات جل اللقاءات العلمية لا تجد طريقها إلى التنفيذ، مما يجعلها تتحول إلى حبر على ورق.

والهدف من هذه الورقة الموجزة هو رصد وتحليل أسباب هذه الظاهرة في دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي بصفة عامة. هناك جملة من العوامل التي تفسر ذلك، بعضها يتعلق بالجهات الحكومية التي دأبت على تجاهل التوصيات والمقترحات التي تتعارض مع سياساتها وتوجهاتها. وهى ظاهرة لها أسبابها العديدة، في مقدمتها الفجوة القائمة بين مراكز ومؤسسات البحث العلمي من ناحية والأجهزة والمؤسسات الحكومية من ناحية أخرى. وبعضها الآخر يتعلق بطبيعة التوصيات والمقترحات المطروحة، فقد تُصاغ بطريقة يكون من الصعب تنفيذها من الناحية العملية، ناهيك عن التصور السلبي الموجود لدى البعض بشأن ظاهرة الندوات والمؤتمرات في الدول العربية.

وقبل الانخراط في عملية التحليل، هناك أربع ملاحظات عامة يتعين التأكيد عليها بوضوح شديد

أولاها: أن ظاهرة عدم تنفيذ توصيات كثير من اللقاءات العلمية ليست حكراً على دول مجلس التعاون الخليجي، بل هي ظاهرة عربية بامتياز على نحو ما سبق ذكره، خصوصاً أن بعض العواصم العربية تعجّ على مدار العام بالمؤتمرات والندوات وورش العمل. ومن هذا المنطلق، فإن التحليلات والملاحظات التي تطرحها هذه الورقة تتجاوز دول مجلس التعاون الخليجي لتشمل الوطن العربي بأسره.

وثانيتها: أن التحليل في هذه الورقة ينصب في الأساس على اللقاءات العلمية التي تتناول أموراً وقضايا اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية وغير ذلك من الموضوعات التي تندرج في إطار مجالات العلوم الاجتماعية بصفة عامة. وربما لا يكون الوضع في مجالات العلوم الطبيعية أفضل حالاً، إلا أن المتخصصين في هذه المجالات هم الأقدر على تقييم جدوى اللقاءات العلمية ذات الصلة.

وثالثتها، أن الورقة لا تطلق أحكاماً عامة على جميع المؤتمرات والندوات وحلقات النقاش التي يتم عقدها في دول مجلس التعاون الخليجي وغيرها من الدول العربية، بل إن كاتبها يقر منذ البداية بأن هناك مؤسسات أكاديمية وبحثية جادة تعقد ندوات ومؤتمرات متميزة وناجحة بكل معاني الكلمة، وأن بعض التوصيات الصادرة عنها تجد طريقها إلى التنفيذ بشكل أو بآخر. ولكن مثل هذه المؤسسات تمثل الاستثناء وليس القاعدة، كما أن تنفيذ بعض التوصيات التي تصدر عن لقاءات علمية هو الاستثناء وليس القاعدة أيضاً.

ورابعتها: أن الباحث يقدم في هذه الورقة خلاصة لخبرة ذاتية عايشها منذ أن قُدر له الانخراط في سلك البحث والتدريس بجامعة القاهرة منذ مطلع ثمانينيات القرن العشرين، مما أتاح له فرصة المشاركة في كثير من الندوات والمؤتمرات وحلقات النقاش التي عُقدت في مصر وفي العديد من الدول العربية الأخرى.

أولاً: الفجوة بين أجهزة ومؤسسات البحث العلمي من ناحية والأجهزة والمؤسسات المعنية بصنع وتنفيذ وتقييم القرارات والسياسات العامة من ناحية أخرى من المؤكد أن وجود فجوة بين أجهزة ومؤسسات البحث العلمي التي تُعنى بإجراء البحوث والدراسات العلمية وعقد الندوات والمؤتمرات من ناحية، والأجهزة والمؤسسات المعنية بصنع وتنفيذ القرارات والسياسات من ناحية أخرى، يُعتبر من أهم المشكلات أو المعوقات التي تحول دون تنفيذ توصيات كثير من اللقاءات العلمية.

وهذه المشكلة ليست حكراً على دول مجلس التعاون الخليجي، بل تعرفها جميع الدول العربية بدرجات متفاوتة وبأشكال مختلفة. وثمة أسباب عدة أدت إلى ظهور هذه المشكلة واستمرارها، منها: تدني مكانة البحث العلمي ضمن سلّم أولويات الدول العربية، وهو ما يظهر بوضوح في الميزانيات المالية المتواضعة التي تخصصها هذه الدول للبحث العلمي، وهذا يؤكد ضعف استشعار أهمية البحث العلمي ودوره في معالجة قضايا المجتمع ومشكلاته. ولذلك فإنه ليس غريباً أن تظل بعض أطروحات الماجستير والدكتوراه والبحوث العلمية القيّمة التي تعالج قضايا وموضوعات على درجة عالية من الأهمية في هذه الدولة العربية أو تلك، حبيسة الأدراج ورفوف المكتبات دون أن يلتفت إليها أحد من المعنيين.

كما أن وجود قيود متفاوتة في درجتها على حرية البحث العلمي في العديد من الدول العربية قد جعل بعض الموضوعات الهامة والحيوية خارج دائرة البحث العلمي الجاد، كما أن ذلك أثر ـ ويؤثر ـ بالسلب في المستوى العلمي لكثير من البحوث والدراسات التي تم إنجازها.
وعموماً، فإن هذا الوضع قد أسهم إلى جانب عوامل أخرى في اتجاه كثير من مؤسسات ومراكز البحث العلمي في الوطن العربي نحو الانطواء والتقوقع على الذات في ظل تنامي الإحساس لدى القائمين عليها بمحدودية دورها وتواضع قدرتها على التأثير. ومن هنا فإن هذه المؤسسات لم تتبنَّ في الأغلب خططاً وسياسات وطنية للبحث العلمي تقوم على أولويات محددة ترتبط بالاستراتيجيات العليا للدول، وبخاصة في حالة عدم وجود مثل هذه الاستراتيجيات من الأصل. كما طغت الاعتبارات الروتينية والبيروقراطية على أنشطة العديد منها، مما انعكس ـ وينعكس ـ سلباً على مستوى ما تصدره من دراسات وبحوث. وبعبارة أخرى فإن هذه المراكز أبعد ما تكون عن القيام بوظيفة مراكز التفكير التي تهتم بتقديم حلول موضوعية للمشكلات القائمة، وتطرح البدائل لصانعي القرارات والسياسات. وبذلك أصبح تنظيم الندوات والمؤتمرات جزءاً من العمل الروتيني السنوي لكثير من هذه المؤسسات بغض النظر عن طبيعة المردود والعائد من ورائها.

ثانياً: وجود نظرة سلبية تجاه اللقاءات العلمية في منطقة الخليج والوطن العربي بصفة عامة
ليس من قبيل المبالغة القول إن هناك نظرة سلبية تجاه الندوات والمؤتمرات في العالم العربي سواء لدى عدد من الدوائر المعنية بصنع وتنفيذ السياسات والقرارات أو لدى فئات يُعتد بها من المواطنين، وهو الأمر الذي يلقي بظلاله السلبية على إمكانية الاستفادة مما تصدره هذه اللقاءات من توصيات ومقترحات. وقد تولد هذا الانطباع نتيجة لمجموعة من العوامل، يمكن إيجاز أهمها في ما يلي:

• تكرار عقد المؤتمرات والندوات في الموضوعات نفسها

من الملاحظ أن هناك ما يمكن تسميته بـظاهرة "الموضة" أو "الصرعة" في مجال عقد المؤتمرات والندوات في منطقة الخليج والعالم العربي بصفة عامة. فعندما أُثيرت قضايا وموضوعات مثل العولمة والنظام العالمي الجديد وصدام الحضارات والإصلاح في العالم العربي، تسابقت العديد من الجهات لتنظيم وعقد ندوات ومؤتمرات حول هذه الموضوعات، مما جعل كثيراً من هذه الجهات يكرر بعضها بعضاً، وهو أمر أثر ـ ويؤثر ـ سلباً في إمكانية تحقيق تراكم علمي ومعرفي في كثير من القضايا التي تتناولها هذه الأنشطة العلمية.

ومن الملاحظ أن وجوهاً وأسماءً معينة كثيراً ما تتكرر في اللقاءات العلمية التي تنظمها جهات مختلفة، وذلك لدرجة أن هناك من يتحدث عن فئة "محترفـي الندوات في العالم العربي". ولعل تكرار الأنشطة العلمية في الموضوعات ذاتها خلال فترات زمنية متقاربة إنما يعكس مشكلة أخرى يعاني منها البحث العلمي في الوطن العربي، وهي مشكلة ضعف التنسيق والتعاون بين المؤسسات والمراكز العلمية التي تعمل في مجال واحد، والتي تنتمي إلى دول عربية مختلفة، بل وحتى بين المؤسسات التي تعمل داخل الدولة الواحدة، حيث تبدو في كثير من الحالات وكأنها جزر معزولة بعضها عن بعض.

• تواضع مستوى البحوث وأوراق العمل التي تُـقـدم في كثير من المؤتمرات والندوات

من الأمور اللافتة للنظر في كثير من الندوات والمؤتمرات التي يتم عقدها في ربوع الوطن العربي تواضع مستوى البحوث والدراسات التي تُقدم فيها، وهذه ظاهرة يستشعرها كل من تُقدر له المشاركة المتكررة في مثل هذه الأنشطة أو حتى متابعتها. وهذا يرجع إلى أسباب عديدة، في مقدمتها: قيام بعض الجهات بتنظيم ندوات ومؤتمرات دون الإعداد الجيد والمسبق لها، بحيث يُطلب من الباحثين إعداد بحوث وأوراق عمل خلال فترات زمنية قصيرة، مما ينعكس على مستواها العلمي، كما أنه في كثير من الحالات لا يتم تحكيم البحوث من قبل لجنة أو لجان علمية متخصصة قبل عرضها في المؤتمرات والندوات، خصوصاً أن تأخر وصول البحوث لا يتيح لمنظمي الندوة أو المؤتمر المجال للقيام بهذا الإجراء في حال إقرار الأخذ به، كما لا يتيح لهم توزيع البحوث على المشاركين في الندوة قبل موعد انعقادها بفترة مناسبة حتى يتسنى لهم قراءتها ومناقشتها بشكل علمي، الأمر الذي يجعل المناقشات العامة في كثير من اللقاءات العلمية تدور حول العروض الموجزة التي يقدمها الباحثون لبحوثهم، وليس حول البحوث ذاتها.

• غلبة طابع الاحتفالية أو التظاهرة على كثير من اللقاءات العلمية

تقوم بعض الجهات التي تنظم مؤتمرات وندوات في العالم العربي بدعوة العشرات إن لم يكن المئات من الباحثين والخبراء والمسؤولين والمهتمين للمشاركة فيها، مما يجعلها في كثير من الحالات أقرب إلى الاحتفالية أو التظاهرة منها إلى الملتقى العلمي بالمعنى المتعارف، الأمر الذي ينعكس على طبيعة ومستوى الحوار والنقاش في المؤتمر أو الندوة، حيث إن كثرة العدد لا تتيح المجال للتعمق في مناقشة أي من القضايا المطروحة. كما أن كثرة المتداخلين وتشعب مشاربهم واتجاهاتهم تجعل الحوار متقطعاً، الأمر الذي يصعب معه تحقيق تراكم علمي يسمح بالتوصل إلى فهم أفضل لبعض القضايا الهامة التي قد تُطرح في هذه اللقاءات العلمية.

وأكثر من هذا، فإن بعض المؤتمرات والندوات تتحول إلى احتفالية أو تظاهرة من لون سياسي أو فكري واحد عندما يقوم منظموها بتوجيه الدعوات إلى المشاركين على أساس الانتماء الفكري والسياسي، بحيث يطغى على أعمال الندوة طابع الاجترار وتكرار الشعارات والمواقف التي تعكس الخلفية الفكرية والسياسية للمشاركين. وإذا حدث وتم توجيه دعوات إلى منتمين إلى تيارات سياسية وفكرية أخرى، فإن الحوار بين المنتمين إلى هذه التيارات يطغى عليه طابع السجال ويتحول في أغلب الأحيان إلى "حوار طرشان" تحكمه المواقف الايديولوجية المسبقة، ولذا يصعب مناقشة أي قضية بشكل علمي وجاد وهادئ. وعلى الرغم من أن كثيراً من الجهات المعنية في الغرب تنظم مؤتمرات كبرى تدعو إليها المئات من المشاركين من مختـلِـف أنحاء العالم، فإنها تُنظم في شكل جلسات متخصصة وورش عمل عديدة، بحيث يتوزع عليها المشاركون حسب اهتماماتهم وتخصصاتهم.

• المؤتمرات والندوات هي مناسبات للكلام والفضفضة في قاعات مكيفة

هناك انطباع لدى كثير من الناس في الوطن العربي مفاده أن المؤتمرات والندوات هي مجرد مناسبات للكلام والفضفضة في قاعات وغرف فندقية مكيفة، أي هي مجرد "مكلمات" إذا جاز التعبير، وأن المؤتمر أو الندوة يتم الانتهاء منهما من الناحية العملية بانتهاء الجلسة الختامية وبتلاوة التوصيات إذا كانت هناك توصيات. ولا شك في أن محدودية تأثير مخرجات اللقاءات العلمية في عمليات صنع وتنفيذ وتقييم القرارات والسياسات العامة في الدول العربية تغذي هذا الانطباع السائد لدى الناس.

فمن الشائع أن الباحثين والمثقفين والخبراء يتكلمون ويكتبون ويصدرون بيانات وتوصيات منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، وأن محصلة كل ذلك هي متواضعة في أفضل الأحوال، حيث استمر الوطن العربي ولا يزال يعاني من حالة العجز والتردي والتشرذم التي تتجلى في صور عديدة، منها: تزايد حالة الانكشاف الأمني، والفشل في إدارة الصراع مع إسرائيل، والتبعية الهيكلية للخارج، وتفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتعثر عملية الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي، وتدني مستوى التكامل الاقتصادي العربي... الخ. وعلى الرغم من أن مسؤولية استمرار هذه الأوضاع وتفاقمها تقع في المقام الأول على عاتق الجهات التي ظلت دوماً تهمش دور البحث العلمي، وتتجاهل توصيات المؤتمرات العلمية الجادة، وتسعى بشتى السبل إلى احتواء المثقفين وتحويلهم إلى "شعراء بلاط". على الرغم من ذلك فإن استمرار هذه الأوضاع وتزايد إحساس الناس بوطأتها يدفع بعضهم إلى التساؤل عن جدوى اللقاءات العلمية إذا كانت لا تجدي نفعاً في تجاوز هذا الواقع المر الذي يعيشونه.

• أن توصيات كثير من الندوات والمؤتمرات يتم إعدادها سلفاً قبل موعد انعقاد الندوة

من المعروف أن توصيات كثير من المؤتمرات والندوات يجري إعدادها سلفاً، أي قبل موعد انعقاد الندوة أو المؤتمر، الأمر الذي يثير التساؤل لدى البعض بشأن جدوى تنظيم هذه اللقاءات. ولذلك دأبت بعض مراكز البحوث والدراسات العلمية على تجنب إصدار توصيات عن الندوات والمؤتمرات التي تعقدها، بل تكتفي بنشر البحوث التي تُقدم في هذه الندوات والمؤتمرات والمناقشات التي تجري بشأنها في كتب. إذاً فإن موضوع التوصيات المعدة سلفاً يلقي بظلال سلبية على مدى جدية المؤتمرات والندوات التي تصدرها.

• التمويل الأجنبي لبعض المؤتمرات والندوات وإثارة التساؤلات وأحياناً الشبهات حولها

من المعروف أن كثيراً من الجهات التي تقوم بتنظيم ندوات ومؤتمرات في الوطن العربي تتلقى أموالاً من جهات أجنبية، خاصة وحكومية، لتمويل هذه الأنشطة. وقد تكون هذه الظاهرة غير موجودة أو موجودة على نطاق ضيق جداً في دول مجلس التعاون الخليجي، إلا أنها تبرز بوضوح شديد في العديد من الدول العربية الأخرى، خصوصاً أن بعض المؤسسات تتسابق من أجل الحصول على تمويل أجنبـي، وهو الأمر الذي جعل هذه القضية محلاً للخلاف والسجال في عدد من الدول، لدرجة أن بعض الحكومات تدخلت في هذا الملف.

ومهما يكن من أمر، فإن التمويل الأجنبي لمراكز بحثية وتنظيمات غير حكومية يثير العديد من التساؤلات وربما الشبهات حول الأنشطة التي تقوم بها واللقاءات العلمية التي تنظمها، وبخاصة عندما تتناول قضايا يُنظر إليها بحساسية في بعض الدول، حيث يعتقد كثيرون أن بعض الجهات الأجنبية التي تقدم التمويل لها مصالح وأجندة خاصة بها أو بالدول التي تعمل فيها، وتستخدم بعض الجهات المحلية لخدمة هذه المصالح. ولا تقدم الورقة تقييماً لهذا الأمر أو حكماً عليه، ولكن من المؤكد أن وجوده يخلق انطباعاً سلبياً لدى البعض تجاه اللقاءات العلمية الممولة أجنبياً، الأمر الذي دفع بعض الجهات الأكاديمية إلى رفض التمويل الأجنبـي لأنشطتها تحت أي مسمى من المسميات.

ثالثاً: تجاهل التوصيات التي تدعو إلى إحداث تغيير في التوجهات والسياسات الرسمية للدول من المعروف أن كثيراً من المراكز البحثية الخاصة، وبعض تنظيمات المجتمع المدني، وبعض الأحزاب والتنظيمات السياسة المعارضة تقوم بتنظيم مؤتمرات وندوات في كثير من الموضوعات ذات الصلة بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلدان العربية. وتسفر بعض هذه اللقاءات عن طرح توصيات تتعارض بدرجة أو بأخرى مع التوجهات والسياسات الرسمية السائدة، وبعضها يدعو إلى إحداث تغيير جوهري في هذه السياسات. ولذلك دأبت الحكومات على تجاهل مثل هذه التوصيات، وبخاصة عندما تتعلق بملفات دقيقة وحساسة مثل الإصلاح السياسي، وحقوق الإنسان، وتحقيق الشفافية والمساءلة في العمل الحكومي، ومعالجة مشكلات الفقر والبطالة... الخ.

ويتعين فهم هذه الظاهرة في ضوء غياب علاقة صحية وصحيحة بين النظم الحاكمة وقوى المعارضة السياسية والتنظيمات الفاعلة في المجتمع المدني في العديد من الدول العربية. كما يتعين النظر إليها في ضوء مشكلة أكبر تتمثل في عدم التزام الحكومات العربية بتنفيذ قرارات صادرة عن قمم عربية، وحظيت بموافقة إجماعية، فما بالك بتوصيات ندوات أو مؤتمرات تعقدها جهات لا تروق لبعض هذه الحكومات!
رابعاً: غلبة طابع العمومية والتفكير بـ "الينبغيات" على توصيات كثير من اللقاءات العلمية

إن عدم تنفيذ توصيات كثير من المؤتمرات والندوات التي تُعقد في عدد من الدول العربية، لا يرجع إلى اعتبارات تتعلق بالجهات التنفيذية فحسب، ولكن يرجع أيضاً إلى أسباب تتعلق بطبيعة هذه التوصيات من حيث إمكانية وضعها موضع التنفيذ في حال رغبت هذه الجهة أو تلك في الاستفادة منها. فمن الـمُـلاحظ أن التوصيات تتسم في العديد من الحالات ببعض السمات التي تجعل من تنفيذها مسألة صعبة، ومن أهم هذه السمات أنها قد تكون عامة جداً وفضفاضة، بحيث لا تنطوي على أمور محددة يمكن للأجهزة التنفيذية أن تتبناها وتضعها موضع التنفيذ.

كما أن توصيات كثير من الملتقيات العلمية تقع في فخ الإفراط في "الينبغيات" أو التفكير بالأماني، الأمر الذي يجعلها تبدو منبتة الصلة بالواقع الذي تسعى إلى تطويره ومعالجة مشكلاته. فضلاً عن أن بعض التوصيات تنطوي على إحداث تغيير جذري في السياسات والنظم المعمول بها في هذا القطاع أو ذاك، مما يجعل الجهات المعنية تتجاهلها، ليس لاعتبارات الكلفة المادية وغير المادية للتغيير الجذري فحسب، ولكن لوجود قوى وجماعات وشبكات مصالح ترفض هذا التغيير.

خاتمة:

إن ظاهرة عدم تنفيذ توصيات اللقاءات العلمية في دول المجلس وغيرها من الدول العربية هي في التحليل الأخير محصلة لمشكلتين كبيرتين، الأولى، مشكلة الفجوة بين الأجهزة والمؤسسات التنفيذية من ناحية والمراكز والجهات الأكاديمية التي تقوم بعقد المؤتمرات والندوات من ناحية أخرى. والثانية، مشكلة صعوبة التعامل مع التوصيات، وذلك نظراً لصياغتها في تعبيرات عامة وفضفاضة وغير واقعية، مما يُصعب من إمكانية وضعها موضع التنفيذ.

ولا شك في أن معالجة هاتين المشكلتين استناداً إلى أسس صحية وصحيحة هي شرط ضروري لإعادة الاعتبار لتوصيات الندوات والمؤتمرات من ناحية، ولحث الجهات التنفيذية على الانفتاح على هذه التوصيات والاستفادة منها بما يسهم في ترشيد السياسات العامة وتطويرها من ناحية أخرى.

مجلة آراء حول الخليج