; logged out
الرئيسية / نعم للديمقراطية ..ولكن!

نعم للديمقراطية ..ولكن!

الأربعاء، 01 كانون1/ديسمبر 2004

قبل الإحتلال الأمريكي للعراق، طرح كولن باول وزير الخارجية الأمريكي ما اسماه بإعادة صياغة منطقة الشرق الأوسط تحت غطاء (الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط ) وهذا طبعا سبق مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي أعلنته الولايات المتحدة منذ فترة ـ هدفها المعلن تطبيق الديمقراطية بمفهومها الليبرالي، والواقع أن هذه الدعوة تبرز جانباً مهماً من التفكير الأمريكي بالآخر، الذي يحتاج إلى التأهيل والتعليم والتدريب على الأسس الحضارية للقيم الغربية حتى يمكن إصلاحه، وغسل دماغه من الأفكار الإرهابية - كما يعتقدون - وهذا لا يتأتى إلا من خلال التأهيل بالديمقراطية الغربية والأفكار الليبرالية الحرة بعيداً عن القناعات التي اعتادها وجُبل عليها الإنسان العربي ، ومن هنا جاءت هذه المبادرة لتعزز هذه الشراكة الديمقراطية الجديدة.

والشيء الذي يدعو إلى الاستغراب والتعجب أن دعوة كولن باول الديمقراطية عبر ( الشراكة ) جاءت بعد مرور عقد كامل بالتمام والكمال على أطروحة فرانسيس فوكوياما الشهيرة المعروفة بـ " نهاية التاريخ وخاتمة البشر " عند الديمقراطية العربية التي شبهها بالجنس البشري ـ كما لو كان قطاراً طويلاً من العربات الخشبية التي تجرها الجياد متجهاً إلى مدينة بعينها عبر طريق طويل في قلب الصحراء، بعض هذه العربات قد حددت وجهتها بدقة، ووصلت إليها بأسرع وقت ممكن، والبعض الآخر تعرض لهجوم من الآباش " الهنود الحمر" فضل الطريق ، والبعض الثالث أنهكته الرحلة الطويلة فقرر اختيار مكان وسط الصحراء للإقامة فيه ، وتنازل عن فكرة الوصول إلى المدينة ، بينما من ضلوا الطريق راحوا يبحثون عن طرق بديلة للوصول إلى المدينة ، وفي النهاية يجد الجميع أنفسهم مجبرين على استعمال الطريق نفسه ـ و لو عبروا طرقاً فرعية مختلفة ـ للوصول إلى غايتهم ، وفعلاً تصل أغلب هذه العربات إلى المدينة في النهاية. وهذه العربات عندما تصل لا تختلف عن بعضها البعض إلا في شيء واحد وهو توقيت وصولها إلى المدينة ، سرعة أو بطء وصولها إلى ... الديمقراطية الليبرالية ... ومن ثم نهاية رحلتها الطويلة ... نهاية التاريخ .ونحن العرب والمسلمين نعتبر وفق هذا المفهوم ـ المجازي ـ العربات الأخيرة التي ضلّت الطريق الصحيح للديمقراطية ، أو التي تاهت في الصحراء ، وتأتي العناية الإلهية بـ كولين باول ليقودنا ، عبر هذه الشراكة فقط! و ليس شيئاً آخر، كما يعتقد أصحاب النيات السيئة ، إلى الطريق الصحيح .. للوصول إلى الديمقراطية الليبرالية ـ كما قال فوكوياما ـ ثم نهاية الرحلة الطويلة، نهاية التاريخ عندها.

لكن هذا الكلام الجميل عن نهاية التاريخ عند الديمقراطية الليبرالية يحتاج إلى إثبات على انتصار الأفكار والايديولوجيات والفلسفات وديمومتها عبر التاريخ . ولاقت هذه الأطروحة( نهاية التاريخ) نقداً شديداً من الكثير من علماء السياسة والاجتماع في العالم ، ومن هؤلاء الذي نقدوا مقولة إن الديمقراطية الليبرالية هي الشكل النهائي للبشرية ونظامها السياسي " كي جيوبت " أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيركلي الذي عبر بقوله : إنه حتى " ولو بقي النظام الديمقراطي الأكثر رواجاً في العالم، إلا أن ثمة أنظمة بل وأيديولوجيات أخرى مختلفة ومتناقضة، لا بد أن تقوم هنا وهناك ، وذلك تبعاً لاعتبارات سياسية وفكرية وثقافية وحضارية واثنية بحيث لن تخلو الساحة للنظام الديمقراطي الليبرالي".

وهذه الفكرة يبدو أنها غائبة ، أو أريد تغييبها لاعتبارات أخرى غير ظاهرة ، فالديمقراطية في شكلها التعددي عرفت بأشكال مختلفة عبر التاريخ ، ولا يمكن أن يتم قصر الأمم والحضارات على نمط واحد أوحد لمجرد أن النظام الاشتراكي سقط في أوروبا الشرقية في القرن الماضي ، وتوارى عن الأنظمة القائمة آنذاك ، وتلك قضية أخرى لها تقييمها المختلف ليس مجالها الآن.

حتى في الديمقراطية الليبرالية نفسها التي تريد تطبيقها الولايات المتحدة، وتعميمها على غير الديمقراطيين، تتطلب أن يكون الناس أحرارًا في اختيار شكل نموذجها السياسي والقانوني والاجتماعي ، وأي قيد مهما كان ، على البدائل التي يمكن أن يقترحها أعضاء الجماعة يشل الديمقراطية: مباشرة بتقليل حجم المشاركة ، وغير مباشرة بالتشكيك في صدق ما تؤدي إليه استمرارية المشاركة.

و قد عبر عن هذا الموقف الناقد للديمقراطية ( روبرت كابلان ) عندما قال : " إن سقوط الشيوعية لا يعني أبداً أن الديمقراطية الغربية قادرة على الاستمرار على المدى البعيد، كما أن الوفاة الطبيعية للماركسية في شرق أوروبا ليست ضمانة لأنه لن توجد نظم استبدادية أكثر بطشاً تنتظرنا هنا وفي الخارج، وقد يبين التاريخ أنه ليس هناك من انتصار نهائي للمنطق ، سواء كان تحت اسم المسيحية ، أو التنوير ، أو الديمقراطية كما يحدث الآن . لذا فإن الاعتقاد بأن الديمقراطية التي نعرفها سوف تنتصر ـ أوحتى ستبقى هنا ـ هو في ذاته شكل من أشكال الجبرية المستمدة من استعراقنا؟ Ethnocentricity نحن أنفسنا.

وحقيقة الأمر أن هؤلاء الذين يستشهدون بأقوال ألكسيس دي توكوفيلAlexis deTocqueville عن حتمية الديمقراطية يجب أن ينتبهوا إلى ملاحظاته أن الأمريكيين ـ بسبب مساواتهم ( النسبية ) ـ يبالغون في حديثهم عن " الكمال الإنساني".
ويقول توكوفيل عن الحكم المطلق : " ينبغي أن نخاف منه على نحو خاص في العصور الديمقراطية " لأنه يتغذى على رغبة الذات في الاستحواذ وعلى الأمن الشخصي الذي تعززه المساواة".

صحيح أن الديمقراطية الأوروبية والديمقراطيةالأمريكية أثبتتا اليوم تفوقهما في الجانب السياسي والمؤسساتي المدني كما يشير ـ معاذ أحمد حسن ـ لكنه الجانب الذي يخفي الجوانب اللاإنسانية الأخرى " ولعل أخطر هذه الجوانب هو إحكام ربط العالم بعلاقة المركز المتقدم دائماً والمحيط المتخلف والتابع . وكم هي قاسية وصعبة في لحظة عالمية كالتي نعيشها جدلية هذه العلاقة بين التابع والمتبوع ، الذي لن يسمح للآخر بأن يضاهيه إلا بما يحتاجه تفوقه الدائم والمستمر عليه ، وهو يملك كل الإمكانات والوسائل الكافية لتحقيق ذلك وتمكينه خصوصاً في لحظة العولمة الحالية التي تريد أن تكسر فعلاً منطق تقسيم العالم إياه بين شمال وجنوب، أو مركز متقدم ومحيط تابع ومتخلف . لكن ليس بإيقاظ شرط التقدم في العالم المتخلف ، وإنما لصالح السوق العالمية الواحدة ، وتحويل كافة شعوب العالم إلى مجرد مستهلكين في هذه السوق الواسعة لما تنتجه وتعلن عنه تقنيات الحداثة والعولمة في المركز المتقدم".

ومن النقد الجدي للديمقراطية الغربية ما قاله الوزير البريطاني السابق (توني بن):" يعتقد البعض بأن الديمقراطية البرلمانية الكاملة قادرة على تمكين أغلبية السكان من تغيير القوانين التي تجري في قيادة المجتمع بناء عليها بالوسائل السياسية وعن طريق التصويب السري، ولكن ما إن يتم ذلك حتى يشعرالمرء، ولو صار وزيرا، بقوة ضغط السلطة الاقتصادية. كل باحث جدي يعرف جيدا أن القوة الحقيقية في مجتمعنا هي لسلطة رأس المال الذي يتمتع دائما بقوة تفوق النقابات بما لا يقاس، على الرغم من تمويه نفوذه بمهارة، فمن دون رقابة حقيقية على وسائل الإنتاج والتوزيع والتبادل، تجعلنا الديمقراطية السياسية لا نزيد أهمية على رئيس الورشة الذي يواجه الاحتكاري ".كما رفض المؤرخ الأمريكي(جاك بارزان) كما نقل ذلك سيد يسين ـ رفضا قاطعا وجود نظرية موحدة للديمقراطية. وذهب أبعد من ذلك حين أكد أن الديمقراطية الأمريكية لا يمكن تصديرها للخارج، لأن أهم ما في الديمقراطية ليس مقولاتها التي تقوم عليها أياً كانت، ولكن في طريقة تطبيقها وفي المؤسسات التي ستقوم على آلية التطبيق، وهذه مسألة لصيقة بالتاريخ الاجتماعي الفريد لكل مجتمع، وهي الحاسمة في موضوع الممارسة الديمقراطية .

فوق ذلك من قال إن كولن باول يريد الديمقراطية للوطن العربي بما تحمله في مضامينها من حرية إدارة واستقلال موقف واختيار حر لمعطيات الواقع , وإسهاماته المختلفة , بل الذي نعتقده أن هذه ( الشراكة الديمقراطية ) كما اقترحها باول ما هي إلا عبارة عن ملصقات للديمقراطية ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب وهيمنة وقهر للإرادة الوطنية. مصطلح الديمقراطية براق وجذاب خاصة في عصرنا الراهن ، خاصة بعد هيمنة القطب الواحد على الساحة الدولية. لكن يجب ألا ننسى أن هذه الديمقراطية هي التي جاءت أيضاً بهتلر النازي، وموسوليني الفاشي ، وكذلك هذه الديمقراطية جاءت بالكثيرمن الحكام المستبدين، وعيوبها كثيرة لا يتسع الحديث لسردها. لذلك نعتقد بأن الديمقراطية ليست هي الكمال الإنساني، ولن تكون، لكنها الأفضل لو قورنت بنظم الاستبداد، والدكتاتورية، شريطة أن تكون ولادة هذه الديمقراطية طبيعية، وبحاضنة محلية، وليست معلبة ومفروضة من الخارج . وللأسف أن نسمع المستشرق برنالد لويس ـ وهو المعروف عنه بالتعصب وتشويه للإسلام ـ يعترف مؤخرا في حديث تلفزيوني مع د. رضوان السيد بالإرث العظيم للشورى الإسلامية الديمقراطية ـ وسينشر في كتاب له قريبا ـ بينما يتحاشى الكثير من الكتّاب والباحثين العرب الرد على طمس هذه الحقائق ونكر تجربة الشورى الإسلامية التي نعتقد بأنها لو فعلت وأعطيت المجال الرحب في الحرية والتعددية والانفتاح على الآراء المختلفة لجعلت ديمقراطيتنا أكثر اتساقا مع الظروف والمتغيرات والأزمات.

المشروع الشرق أوسطي الكبير تكرار للمشاريع السابقة التي طرحها قبل ذلك برناردلويس بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، أو الذي قاله شيمون بيريز في كتابه ( الشرق الأوسط الجديد) لكن المسالة الفاصلة هي: هل هناك جدية أمريكية في الإصلاح في العالم العربي؟ أم ذلك مجرد ضغوط لأهداف غيرإصلاحية؟ هذا هو السؤال الذي يحتاج إلى إجابة شافية.

مجلة آراء حول الخليج