; logged out
الرئيسية / أزمة أمة والطريق إلى المستقبل

أزمة أمة والطريق إلى المستقبل

الأربعاء، 01 كانون1/ديسمبر 2004

يشعر المرء بالمرارة وهو يرى آثار أقدام قادة عظام تركوا بصمات تاريخية وأسسوا دولاً حديثة . يشعر المرء بالحزن وهو يرى أوراق شخصيات تحمل "كاريزما" تتساقط واحدة تلو الأخرى، وفيما يبدو أن عصر هذا النوع من القادة بدأ بالاختفاء من الساحة العربية . بمعنى أن هناك نوعاً من الزعماء يصعب تعويضه بزعيم يمتلك القدر نفسه من "الكاريزما" التي تجعل الناس يجمعون عليه ويجتمعون عنده .

ما الحل إذاً في ظل هذا الغياب ، وما البديل ؟ إن عصراً جديداً يفترض أن يبدأ ، وهو عصر الجماهير ، وعصر دولة القانون والمؤسسات . وإذا عجزت الأمة عن بناء دولة القانون التي يتمتع فيها المواطن بحقوقه ويلتزم بواجباته، فإنه ليس لديه سوى الاستمرار في ولاءاته الضيقه ، والاحتماء بالانتماءات الطائفية أو العشائرية أو الطبقية أو العرقية.

وفي حالة استمرار الاستبداد السياسي في الوطن العربي، فإن الفئات الاجتماعية المختلفة التي طالما شعرت بالظلم ستستمر في معاناتها من أزمة الهُوية . وهناك حقائق كثيرة ما زالت مستمرة في المنطقة، منها استمرار التبعية الفكرية للخارج ، واستمرار التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية لأبناء المنطقة ، واستمرار الاستبداد السياسي ، واستمرار العجز في بناء دولة القانون ، واستمرار العجز في إنجاح العمل العربي المشترك على الرغم من أن جامعة الدول العربية تأسست في عام 1945.

هذه أمة ما زالت غير قادرة على بناء علاقة صحية مع الآخر ، ولا تعرف كيف تبني مواجهة طويلة مع عدوها . إنها لا تعرف الآخر، ولا تعرف جيداً نقاط ضعفه وقوته، ولذلك قامت علاقتها معه على التبعية والانكماش . وعندما تعرف الأمة نفسها ستكون قادرة على بناء علاقة تقوم على الندية ، وستعرف بالطبع كيف توظف الماضي في الحاضر لبناء المستقبل.. !

ويقودني هذا إلى الحديث عن أزمة المثقف والسلطة ، فالسلطة في المنطقة العربية مارست شتى صنوف الضغط، وأحياناً القمع وإفساد المثقف، الذي وجدناه في أحيانٍ كثيرة ضائعاً، ووجد نفسه أرفع حالاً من عامة الشعب الذي رآى أنه يمثله. وفي الوقت الذي عارضت فيه النخب المثقفة السلطة في سلوكها وسياساتها، إلا أنها أيضا طالما استفادت منها أو سعت إلى التقرب منها . وإذا جاز لنا استخدام كلمة "فساد"، فالفساد ليس محصوراً بالنخب السياسية في المنطقة، وبالسلطة بمفهومها الشامل، التي تدّعي لنفسها القداسة وأحقية الممارسة، وإنما في كل أنواع النخب التي ليس لها حتى الآن خط معروف أو منهاج واضح، وهي نخب كثيراً ما تكون أقرب إلى " نخب صالونات " وقنوات فضائية ابتعدت عن الجماهير التي تبدو أحياناً كثيرة متصالحة مع نفسها أكثر من كل أنواع النخب ، لكن الجماهير العربية لديها أزمة أيضاً، فهي لم تتمكن طيلة العقود الماضية من التخلص من الانفعالية وردود الفعل العاطفية الهوجاء التي تقودها باتجاهٍ معين في حالة غضب .

الشارع العربي لا يخرج للتعبير عن رأيه في ضوء قناعات معينة للدفع باتجاه محدد . وتتحمل النخب مسؤولية كبيرة في هذه الإشكالية . وعلى سبيل المثال فالمذابح الأمريكية التي حدثت في الفلوجة، تَشكّل حولها رأي عام عربي وإسلامي ، لكنه ظل حبيس الصدور . الجماهير العربية ما زالت جماهير " مطلبية " بنت علاقتها مع السلطة على أسس "بطركية"، وهي الأسس التي راقت للسلطة الحاكمة . فالجماهير تتقدم بقائمة من "المطالب" التي تلبيها السلطة بشكل أبوي، وهي التي تقرر شكل الدفع، ووقت الإنجاز، وطريقة العمل، وهي التي تقرر وقت الإنجاب وعدد الأولاد . باختصار هي وحدها التي تتخذ القرار ،ويبقى الجمهور متلقياً، ولا يجد مشكلة ما دام قد تربّى على أن يكون كذلك، لكن ذلك لا يحدث في الدول التي أنجزت بناء دولة القانون، حيث تقوم العلاقة على أسس المشاركة في التنمية، والمشاركة في اتخاذ القرار، فالمواطن هناك يدفع ضريبة، ولديه حق المساءلة والمشاركة. إنه شريك مع السلطة وليس تابعاً. إذاً هذه العلاقة الأبوية اختفت من معظم مناطق العالم، لكننا ما زلنا لا نمتلك مقومات القدرة على التخلص من هذه "الأبوية"، ولذلك كان من الطبيعي في ظل هذه الرؤية الخاطئة أن نسمع من يقول إنه في حالة وفاة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان سيتفكك إتحاد دولة الامارات العربية، وهذا بالطبع لم يحدث، ولن يحدث . وقد رأينا كيف تمت الأمور بالعقل والحكمة والمنطق والمحبة والرؤية السديدة. لقد نسي المتشككون وهم ينظرون إلى الكاريزما التي كان يتمتع بها الشيخ زايد أن هذا الرجل العظيم خلّف إضافة إلى الخلف الصالح...دولة، فالإمارات يوم وفاة زايد ليست هي تلك التي تأسست عام 1971. إنها اليوم دولة عامرة بالبشر والشجر والحجر. إذاً من الطبيعي أن نؤسّس لدولة القانون، وأن تحكمنا دولة القانون . وأتذكر في هذا السياق حديث الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران على شاشة التلفزيون الفرنسي عندما كان يقول : إنني أعمل موظفًا في الجمهورية الفرنسية بوظيفة " رئيس جمهورية..!

وفي السياق نفسه ، فقد كان يرى البعض -ولم يروا الصواب- أن حرباً أهلية فلسطينية ستحدث في أعقاب وفاة الرئيس عرفات، وقد مات عرفات -رحمه الله- ولم ولن تحدث مثل هذه الحرب..! الأزمة في المنطقة ليست أزمة سلطة فقط، وإنما هي أزمة أمة. أزمة قادة. أزمة نخب. أزمة جماهير. وهذا الزمن ليس زمن هذه الأمة، إنها تمر في حالة انتكاسة تاريخية عميقة ، وعندما أقول تاريخية، أتحدث عن دورة الحياة، ودورة الأمم، وهي بهذا المعنى ستنهض عندما يصبح الزمان لها، وستحرر أرضها بالكامل عندما تمتلك القوة، لا قوة العسكر فقط، وإنما كل أنواع القوة..! 

إذاً فالأزمة شاملة طالت كل شيء في الحياة . وأتساءل : لماذا استطاع الدكتور طه حسين، الضرير، عقب تخرجه في جامعة السوربون وعودته إلى وطنه، لماذا استطاع أن يلقي حجراً في الماء،، ويحرك الركود، ويخلق " ضجه فكرية "، وبصرف النظر عما إذا اختلفنا أو اتفقنا معه، فقد استطاع الرجل أن يكون مؤثراً في مجتمعه وأمته، ويُوجِد حالة من الحوار والاختلاف والثراء وتضارب الأفكار الذي يولد النور . ولماذا يعيش كثير من الأساتذه الجامعيين في هذه الأيام ويموتون دون أن يكون لهم أي تأثير في جيرانهم.. ؟ ولماذا ما زلنا نناقش قضايا المرأة والدين والسلطة والحرية والشورى وعشرات القضايا ، وبالطرح نفسه الذي كان ينشره أسلافنا في جريدة المقطم المصرية. لماذا لم تتوفر بدائل لرفاعة الطهطاوي الذي أثر في مسيرة أمة . لماذا لا يوجد من يشبه الجواهري، ولا من يحاكي السياب ؟ لماذا اختفى العمالقة، ليس في السياسة فقط، وإنما في التعليم، وفي الفكر، وفي الثقافة، وفي الأدب، وفي الصناعة، وفي الزراعة، وفي الطب وعلوم الدين وعلوم الحياة؟ من سيحل محل نجيب محفوظ ؟ من يمكن أن يعوض غياب محمد عبد الوهاب وأم كلثوم ؟ لماذا تحولت الثقافة إلى ثقافة استهلاك، ولماذا أصبح كل شيء مستهلك، ولماذا في النهاية توقف نمونا، لماذا تبلدنا وأصبح للحياة شكل تجاري طال كل شيء فينا.. !

ببساطة : أنا هنا لا أحلل، وإنما أتألم. لماذا نحن كذلك ؟ بهدوء أقول : لأننا لا نعي ذاتنا..!

مجلة آراء حول الخليج