; logged out
الرئيسية / قراءة في أداء الكتل البرلمانية البحرينية

قراءة في أداء الكتل البرلمانية البحرينية

السبت، 01 كانون2/يناير 2005

لا تولد الأشياء مكتملة، وهذه هي حقيقة الخلق وسنة الحياة. كما أن التجارب الحية هي تلك التجارب التي تكون قادرة على أن تبارح مواقعها، وأن تجود من نفسها وتطور من أدائها.. وأعرف كدارس للشأن العام أن تجربة المجلس النيابي قد تحمل الكثير من النواقص كما هي بعض الإخفاقات، إلا أنها إخفاقات يمكن تقليصها إذا ما خلصت النيات وصدق العمل. ومع ذلك فإنه من المفيد القول إن بعض هذه الإخفاقات قد يكون مصدرها، كما يعتقد البعض، «محدودية الصلاحيات التشريعية في النص الدستوري» وبعضها الآخر قد يكون مصدره المجتمع بقواه المقاطعة والمشاركة وإن كان للأول وزن أكبر في هذا الإخفاق، وثالث مصادرها من دخل التجربة ذاتها محاولا الإبحار فيها مصيبا في بعضها وخاسرا في بعضها الآخر.

ومقالنا هذا ما هو إلا محاولة، كما هي محاولاتنا الأخرى السابقة تحليل واقع التجربة وتجاذباتها التي تمثل الغرفة المنتخبة بأدائها مؤشراً مهماً في عملية التقييم هذه، إلا أنه بالطبع، لا يمثل المؤشر الوحيد فيها وإن كان أهمها. يبقى السؤال قائماً حول طبيعة وشكل الصورة التي يحملها الناس في مخيلتهم عن المجلس، والتي لا تبدو أبداً صورة وردية بقدر ما هي قد تحمل بعض العتم أو كله. ومقالنا هذا ما هو إلا محاولة لرسم هذه الصورة وإن حملت بعض النقد، إلا أنه نقد نابع من حقيقة أن تطوير التجربة يتطلب قدرا كبيرا من الشفافية والمصارحة التي قد تكون فجة في صراحتها أحيانا أو مرة أحيانا أخرى، إلا أن قول إخفاقاتها في العلن أفضل ألف مرة من كلمات معسولة تقال في العلن وأخرى لاذعة و تنضح سماً تقال في الخفاء والظلام.

من ناحية أخرى، فإن الدارس والباحث لمسيرة المجلس النيابي في عاميه الماضيين لا يستطيع إلا الخروج بمحصلة واحدة وهي أن نوابنا الأفاضل قد اختلط على بعضهم العمل التشريعي للغرفة المنتخبة بالوظيفة الرعائية الخدماتية والوعظية التي كان بعضهم قد مارسها في السنوات السابقة لصعوده النيابي، و قد بدا أداء الغرفة المنتخبة خلال الفترة الماضية يعاني من اختلاط في الوظيفة والدور، ومما عقد من قدرة المجلس على أداء دوره التشريعي هو ذلك القصور المعرفي ولربما الفني ليس بين بعض أعضاء المجلس فحسب وإنما في غياب كل ذلك في أوساط الطاقم المساند في أمانة المجلس، فقد لا تكون ضمن وظيفة النائب معرفة كل شيء عن أي شيء، إلا أن وظيفة طاقمه الإداري وفريقه الفني أن يعدا كل ذلك وهذا ما افتقده المجلس وربما أضعف من دوره، بينما توفر ذلك في الحالة الكويتية مما أبرزها كأحد أقوى المجالس المنتخبة في المنطقة العربية من حيث الاضطلاع بالأدوار التشريعية والمحاسبية.

وفي الواقع ان استلاء الجماعات الإسلاموية البحرينية على الغرفة المنتخبة قد شكل أجندتها وطبيعة أدائها. فالمعروف أن قرابة ثلثي القوى التي وصلت إلى مقاعد الغرفة المنتخبة، هي قوى رغم انتساب بعضها السابق أو اللاحق لعالم الممارسة السياسية ولو بشكلها الأولي أو البدائي إلا أنها في جلها وبفعل انشغالها بالعمل الخيري أو بفعل اشتغال منظماتها الإسلاموية التي تنتظم فيها بالعمل الخيري فإن السمة الرعائية والخدماتية والدعواتية بدت مشكلة لأجندتها وجل نشاطها داخل المجلس وخارجه (علاوات وعيديات والفصل بين الجنسين في المجالس والجامعات وتطويل اللحى ونانسي عجرم والأخ الأكبر.... وغيرها الكثير). ومن المهم الإشارة الى أن القوى الإسلاموية التي حصدت أكثر من نصف مقاعد الغرفة المنتخبة، وهي المنبر الإسلامي (حركة الإخوان المسلمين - فرع البحرين) والأصالة الإسلامية (جماعة السلف - فرع البحرين) والكتلة الإسلامية الشيعية والتي في بعضها تمثل بقايا حزب الدعوة الشيعي أو امتدادا له، وتفتقر هذه المجموعة لأي شكل من أشكال التنظيم والانتظام الفكري، وربما القاسم الوحيد الذي يجمعها هو انتماؤها المذهبي وتوجهاتها الاجتماعية المحافظة أو المغرقة في المحافظة، من هنا جاء دعمها الدائم للمقترحات ذات المضامين الاجتماعية المحافظة. وآخرون من أعضاء المجلس، لم يكن العمل السياسي ضمن نشاطهم وربما اهتمامهم العام وإنما دخلوا المجلس حيث خلت الساحة وسنحت الفرص.

وهذه في عمومها قوى رغم بروز دورها الحالي يفتقر بعضها وربما جلها لما يثبت أن مطلب الإصلاح والدمقرطة كانا يوما ضمن أجندتها السياسية البائنة منها والمستترة. كما أنها، أي بعض هذه القوى، ومعها لفيف من «نواب الصدفة التاريخية» الذين وجدوا أنفسهم في سدة عمل لم يكونوا يحلمون يوما بخوض غماره أو في أن يكون من نصيبهم الانتفاع من مكاسبه ومزاياه. فبعض هذه القوى دخلت عملا لا يبدو أنها كانت مهيأة البتة لدخوله ولربما تفتقر للدراية والقدرة على أدائه. من هنا فليس مستغربا أن يكون أداء هذه الجماعات أو بعضها أقرب لأداء ممن يسمون بالمستقلين، الذين قد تبدو التسمية أقرب في وصف حالتهم المستقلة عن الكتل النيابية الأخرى وربما عن المجتمع إلا أن مواقفهم لا تبدو مستقلة عن النسق العام. وهي سمة مشتركة بين الكتل والجماعات والأفراد الداخلين في المجلس. وقد بدا افتقار هذه القوى لما يسمى بالحصافة السياسية في معاركها ومشاداتها الكلامية، التي لم تخل من انحيازات عصبوية واضحة، والتي يبدو مثالها واضحا فيما افتعل من معركة كلامية بين نواب الكتلة الإسلامية الشيعية من جهة ونواب الإخوان المسلمين وبعض المستقلين المتأرجحي المواقف حول الاجتياح الأمريكي لمدينة الفلوجة من جهة ثانية. كما بدت المواقف التي تتخذها هذه القوى في ما يتعلق بأمور الداخل والخارج أقرب الى تمثيل دوائرها الضيقة أو تلك المغرقة في الضيق. فهي في هذا أقرب الى تمثيل جماعاتها العصبوية: المذهبية منها كما هي الجماعة الاثنية. وفي ذلك تشترك الكتل الإسلامية الثلاث بالإضافة لكتلة المستقلين التي لا تختلف مواقفها عن السابقة بل إنها قلما وربما لم تنفرد بمواقف مميزة لها عن الكتل الإسلامية الأخرى. 

وبشكل عام فإن أداء الغرفة المنتخبة، لم يكن في عمومه رائعا أو نصف رائع، بل كان مائعا ونصف مائع. فهي في ذلك لم تكن قادرة على المحاسبة أو خائفة منه، كما أنها لم تكن قادرة على ابتداع الحل لمشكلات قائمة ومزمنة أو حتى في استعارته من آخرين، ويكفي عجزها في أن تأتي بتشريع واحد من صنعها أو من وحيها. كما افتقرت قيادات هذه الجماعات لأي سمات كاريزمية أو بروز فكري أو ربما أيديولوجي واضح المعالم. بل إن بعضها وتحديدا جماعة الإخوان المسلمين (وهي الجماعة التي يفترض أن تكون أكثر تنظيما وتأثرا بالتراث السياسي الطويل لحركة الإخوان المسلمين في مصر وبلاد الشام) بدا أداؤها متأرجحاً بين مطالب رعائية (عيديات ومكرمات وعلاوات) وبين اتساق وربما اندماج في الخطاب والممارسة الرسمية، بل إنها بدت دعوية المطلب والممارسة وأقرب إلى حالة أداء بعض أو جل جماعة السلف النيابية. فهي - أي جماعة الإخوان المسلمين البحرينية - قد تكون متسقة الفكر والأيديولوجيا بحكم انتمائها لفكر وأيديولوجيا حركة الإخوان المسلمين العرب، إلا أنها غير ثابتة أو بالأحرى راسخة المواقف، إذ يتنازعها التاريخ والرغبة في تثبيت المصالح وربما ظروف وتعقيدات النشأة وكذلك تتجاذبها نوازع ما قبل الحداثية وهي السمة العامة التي غلبت عليها حالات جماعات الإسلام السياسي الشيعية منها كما السنية. كما أنها- أي جماعة الإخوان المسلمين- قد تكون راغبة في أن تلعب دور المعارض السياسي إلا أنها لا تبدو قادرة على فعل ذلك لأسباب ذاتية وتاريخية وربما أخرى ذات طبيعة علائقية وغلبة السمة الوعظية على كتلتها النيابية.كما أنها كجماعة برلمانية رغم أنها تمثل أكثر الكتل البرلمانية ألأكثر ائتلافا إلا أنها تفتقر للوضوح الفكري أو الأيديولوجي، بل إنها تفتقر لقيادة سياسية قادرة على تجاوز انحيازاتها الاثنية الواضحة إلى القضايا ذات الأولوية القصوى، أو أن يكون حضورها البرلماني فرصة لأن تلعب دوراً سياسياً بارزاً وقائداً بالنسبة للقوى السياسية الأخرى. وتتأرجح مواقفها السياسية: بين دعم للمواقف السلفية المتشددة على الحريات المدنية العامة، كمواقفها الداعمة للفصل بين الجنسين في التعليم وإقامة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل إن أكثر أعضائها إثارة للجدل قد قادوا المظاهرة الداعية لوقف تصوير البرنامج التلفزيوني المعروف «الأخ الأكبر».

إن حركة الإخوان المسلمين البحرينية بشكل عام تفتقر لشخصيات كاريزمية مرجعية قادرة على نسج علاقات مع الأطراف السياسية والمذهبية الأخرى. ومن يتصدر العمل السياسي فيها لا يعدو أن يكون عملهم ضربا من العلاقات العامة المفتقر للبوصلة والرؤية الواضحة. كما أن أداءها وممارساتها ومجمل خطابها، من ناحية أخرى، لا يضعها، كما هي رديفتها الكويتية، الحركة الدستورية، في خانة ما يسمى هنا بقوى المعارضة السياسية، بل إن الحركة الكويتية بدت كذلك مستقلة ومنفصلة عن حركة التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، وهو الأمر الذي لم تفلح في تحقيقه حركة الإخوان المسلمين البحرينية رغم دونية موقعها فيه مقارنة بالجماعات المصرية والأردنية والسورية التي مازالت تحتكر المواقع القيادية فيه وتمارس الفوقية المعرفية والأيديولوجية في تعاملها مع فروعها في الخليج التي منذ أن تأسست في خمسينات وستينات القرن الماضي حتى الآن - أي الفروع الخليجية - لم يتجاوز دورها دور الممول و«البقرة الحلوب» للتنظيمات الإسلاموية العربية الأخرى في مصر والبلاد العربية الأخرى. وهو الأمر الذي طالما اشتكت منه دول الشمال العربية وتحديدا مصر والجزائر وربما الأردن وسوريا.

إن المعضل الأساسي للكثير من قوى الإسلام السياسي، وقبل ذلك كان اليسار العربي، هو أن امتلاكها للشارع المحلي أو بالأحرى انجذاب الشارع المحلي إلى أطروحاتها «الطوباوية» قد انعكس في شعورها غير المحدود بالقوة، بل قد انعكس في الكثير من ممارساتها وخطابها غير المتهاون والداعي لأسلمة المجتمع، الأمر الذي أدخلها في صراع مع السلطات المحلية تارة ومع أصحاب الاتجاهات الليبرالية والقومية واليسارية الأخرى تارة ثانية. وأعتقد أن تجربة حزب العدالة والتنمية الإسلامي التركي تمثل تجربة للقوى الإسلاموية العربية جديرة بالدراسة والاقتباس. فالقدرة غير المتناهية للحزب الإسلامي التركي الحاكم على للتعايش مع القوى العلمانية والليبرالية الأخرى، كما هي قدرته على التعايش مع مجتمع بدت فيه مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمادية مغرقة في «التلبرل» والعلمنة هي تجربة جديرة بالدراسة والاقتباس. فهل يا ترى القوى الإسلاموية الخليجية وربما العربية قادرة على تجاوز معضلها الثقافي ومعضل خطابها وممارساتها على الواقع؟

ومرة أخرى ونتيجة لكل ذلك، فإن بعض من تسنم العمل النيابي وكذلك العمل في المجالس البلدية من هذه الجماعات وغيرها قد جاء في الأساس بفعل دعم منظمات سياسية، كل إنجازها كان في العمل الخيري والرعائي والدعوي أو بفعل دعم تنظيمات سياسية جل عملها بات أقرب إلى العمل الأهلي الخيري التقليدي منها إلى العمل السياسي. لذا فإننا قد نبتعد عن الصواب كثيرا ونقع في الخطأ إذا ما اعتقدنا أن مجلسا يحمل بعض أو جل أعضائه بعض أو كل هذه السمات قد يكون قادرا على المحاسبة أو تصحيح مسار التنمية أو حل مشكلات ومعضلات مفصلية بدت عند البعض مستعصية على الحل كالفقر والبطالة وتآكل الثروة القومية. ومن هنا جاء أداء الغرفة المنتخبة أقرب الى أداء الجمعيات الخيرية موزعا للصدقات والبركات، أو دوراً وعظياً دعوياً كفرض الفصل في الجامعات والأماكن العامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و... وغيرها الكثير، دون أن تلعب - أي هذه الجماعات - دوراً حقيقياً في حل المشكلة، بل بدت بعض ممارساتها تأجيلا للحل وتعظيما لمصاحباته وآثاره، ومن دون وعي بتأثير مثل ذلك في الاقتصاد الوطني ومن دون حساب دقيق لحاجات الناس والمجتمع وطرائق حل مشكلاتهم أو التشريع لحلها، ومن دون وعي أيضا بانعكاسات بياناتهم على المجتمع والعلاقات الخارجية للدولة وعلى بيئة الاستثمار فيه، يرددون في ذلك ما تردده وسائل إعلام بالية في مجتمعات عربية قد هرمت مؤسساتها وشاخت وعجزت عن إدراك مشكلات تجذرت واستقرت في عمق المجتمع العربي واستعصت على الحل.

إن أي قراءة فاحصة لأداء الغرفة المنتخبة، في عاميها الماضيين، تقود إلى محصلة واحدة وهي أنها كغرفة منتخبة قد عجزت عن أن تتمثل دورها التشريعي، وأن تشكل سلطة ندية ممثلة للمجتمع، حريصة على مستقبله لا مستقبلها التقاعدي، وليس كما يعتقد البعض، لسبب محدودية السلطات التشريعية والرقابية والمحاسبية الممنوحة إليها، وإنما لواقع حال بعض أو جل من دخل التجربة من أفراد وجماعات، فبعضهم دخله لمنافع شخصية بحتة، وأن دخوله هذا هو الأول وربما الأخير. أما بعضهم الآخر فقد دخل التجربة لأن جماعته السياسية أو العصبوية أو المذهبية قد زكته على غيره من كان أكفأ منه أو قد ناصرته على من هم دونه. وهنا يمكن القول إن أداء السلطة التنفيذية في عمومه كان متقدما من الناحية المهنية، كما هو من حيث مواقفها الاجتماعية وربما أكثر تعقلا من سلطة كان يفترض أن تلعب دور الناقد والمحاسب لأداء السلطة التنفيذية، بل إن بعض من دخل هذا المجلس بدا مندفعاً وجارياً نحو تحصيل المنافع الذاتية منها والآنية.

إن العمل البرلماني ليس صوراً تنشر على مساحات واسعة من صحافتنا المحلية، أو إعلانات مدفوعة الأجر هنا أو هناك، وإن تم من تحت قبة البرلمان إلا أنه يصب في خانة الأعمال الخيرية الرعائية أو الدعوية التي تثير العواطف ولا تكسب الجيوب درهماً، إضافة إلى أنها لا تحسن من الأحوال شيئا، فجلها أعمال وقتية خاوية الغاية والهدف ووقتية الأثر والمقصد، قصد بها الإثارة والمكسب الإعلامي السريع.
وبالمحصلة النهائية يمكن القول إن العمل النيابي يتطلب قدرات عقلية و فكرية و فهماً ومعرفة بالداخل والخارج من الأمور كما أنه يعني وعياً بالمجتمع ومشكلاته وقدرة على ابتداع الحل أو القدرة على الإتيان به، ويخالجني في ذلك بعض أو جل الشك في أن بعض أو جل من دخل المجلس مستمتعاً بميزاته المادية والاجتماعية مدرك وواعٍ ومتمثل بمواصفات من يفترض أن يتسنم مهام القيام به. ولذلك كان العجز في الأداء وكانت السطحية والتهميش للمشكلات المجتمع ،ولهذا من الضير أن نطلب من فاقد الشيء أن يأتي بمثله.

 

مجلة آراء حول الخليج