; logged out
الرئيسية / دور المنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص في دعم الإصلاحات في دول "التعاون"

دور المنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص في دعم الإصلاحات في دول "التعاون"

السبت، 01 كانون2/يناير 2005

بعد مرور عقدين من مضاعفات وتراكمات الديون والصعوبات الاقتصادية والتـضخم في الإنـفاق بسبب الحروب في الخليج، تجد أنظمة دول مجلس التعاون نفسها مجبرة على إعادة هيكلة نظمها الاقـتصادية. ويبدو أن هذا التوجه يشمل إعادة تنظيم القطاع العام وتشجيع القطاع الخاص والاستـثمار الخارجي وتخفيف سيطرة الدولة على الأنشطة الاقتصادية. وبنسب متفاوتة صاحبت هذه التغييرات تغييرات سياسية. ومع ذلك فإن مستوى الترابط والتعاضد بين أعضاء مجلس التعاون ما زال دون الآمال المرجوة. من هنا فإنه على ضوء هذا التحرر الاقتصادي والسياسي داخل دول مجلس التعاون، يبدو أن هناك مجالاً واسعاً لتفعيل دور المنظمات غير الحكومية وعملها على الدفع نحو اندماج خليجي أكبر. وتـتمثل المحاولة على هذا الصعيد بشكل خاص في البحث والتحقق من مدى إمكانية ارتباط عملية الاندماج داخل مجلس التعاون بمصالح المنظمات غير الحكومية. وإذا كان الجواب "نعم" فهل تمتلك هذه المنظمات القدرة على الدفع نحو تحقيق هذه الغاية؟ وبعبارة أخرى ما هي القوة التي تدفع نحو تحقيق هذه التغييرات؟ وكيف يمكن تغيير خارطة التحالفات الداخلية؟

بداية، إن الانفراج السياسي يعني أن النظام غير الديمقراطي قد تجاوب نسبياً مع المطالب الشرعية والاجتماعية – الاقتصادية للشرائح الاجتماعية المستبعدة من السلطة. وإن البحث عن عوامل هذا التجاوب من قبل النظام وفي ما إذا كانت نابعة منه أو مفروضة عليه بسبب الضغوط يبدو غير ذي أهمية. فمن المهم أن يعكس الانفراج السياسي تقليص القمع، وضمان حرية الرأي، واحتراماً أكبر للملكية الشخصية وتنظيم انتخابات تشريعية. لكن هذه الخطوات نحو الديمقراطية تبدو محدودة، حيث يتم استـثـناء صناع القرار من المنافسة، ويتكرس مبدأ عدم محاسبة القادة. من جهة أخرى تعكس الليبرالية تخلي الدولة عن دورها الريعي المسيطر كمقاول يوفر خدمات الرفاء الاجتماعي وغيرها.

علينا ألاّ ننسى أن الرأسمالية ليست دائماً قوة تحرّر، فمن الناحية التاريخية يبدو أن الرأسمالية البرجوازية لوحدها كانت كذلك. وفي منطقة الخليج مثلاً لم يكن المنتمون إلى ما يُسمّى "الطبقات الوسطى" دائماً يفضّلون الديمقراطية. وأغلب الرأسماليين في الخليج اليوم تجاريون يسعون، على الرغم من الشعارات التحررية، إلى الحصول على حماية الدولة، ويعتمدون على تحصيل الأرباح من خلال المشاريع بالاشتراك مع الدولة. ويقوم القطاع الخاص باستنـزاف الموارد العمومية، بينما يوفّر المسؤولون الحكوميون الحماية للشركات الخاصة، إذ إن هناك منطقة متداخلة بين القطاعين العام والخاص في منطقة الخليج.

أما على الصعيد السياسي، فإن البرجوازية الرأسمالية المستقلّة تتصرف بطريقة مختلفة عن البرجوازية المرتبطة بالدولة. إذ إن التحرر السياسي لا يتحقق إلا إذا تم تحديد المصالح العامة والخاصة على نحو واضح. وهذا ما يبين لنا ضعف الطبقة الوسطى في منطقة الخليج، التي كان يجب أن تحمل لواء المطالبة بمزيد من الليبرالية على المدى البعيد. ويشير هذا الضعف من الناحية التاريخية إلى تعطيل نمو الرأسمالية في العالم العربي عموماً، وهو أحد الأسباب التي تكمن وراء سياسة الدولة التدخلية من أجل تطوير الصناعة.

إنّ قوّة أو ضعف الدولة داخلياً يمكن أن يُلاحظا في قوّة أو ضعف التحالفات السياسية وفي نتائج التغييرات التي تنتجها الليبرالية. وكما لاحظنا سابقاً، فإنه كلّما كان الضرر الاقتصادي حاداً عمدت الدولة إلى تبني منهج مزدوج لليبرالية الاقتصادية والسياسية. أما إذا كانت الموارد الاقتصادية للدولة من أجل الإصلاح قوية، وكان الضرر السياسي بسبب الفشل الاقتصادي هيناً، فإن الدولة تتخلى عن الانفراج السياسي وتتعامل مع الأزمة من خلال بعض الإجراءات الاقتصادية. ويعمد الصنف الأول من الدول عادة إلى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي من أجل الاستقرار على المدى القصير وإقرار التعديلات الهيكلية على المدى البعيد. أمّا الصنف الثاني من الدول، على شاكلة دول مجلس التعاون، فلم يعمد إلى المنظمات العالمية، لأنه وضع التعديلات بشكل يخدم مصالحه السياسية والاقتصادية، وحتى تبقى المبادرة السياسية بيد الحكومات وحدها.

وحتى يتم الربط بين كل هذه الافتراضات، فإنه بخصوص دول مجلس التعاون يمكن استنتاج أن الدولة تكون قوية إذا كانت لديها سلطة تنظيمية وموارد مناسبة. مثل هذه الدول تكون لها ردود فعل مرنة تجاه التعديلات الهيكلية إلى حد يمكّنها من الصمود أمام الضغوط الإضافية. وعلى عكس ذلك يكون صمود الدولة الضعيفة، ذات الهيكلية غير المنظمة، والتي ليست لها موارد أو هي ذات موارد قليلة جداً، ضعيفاً وغير مجدٍ، لأنّ المجتمع المدني يكون أقوى من الدولة. وبالتالي ستحدث التغييرات الاقتصادية والسياسية، مع أن إمكانية وجود الديمقراطية ستكون أكبر لدى الفئة الثانية من الدول. ولكن سياسة التعديلات الاقتصادية في كلتا الفئتين من الدول ليست تقنية أو مالية صرفة في طبيعتها، إلا أنها مضطرة إلى أن تجلب معها نتائج اجتماعية مهّمة، وبالتالي فهي تحتاج إلى إجراء تعديلات على مستوى التحالفات السياسية.

خارطة التحالفات

في مواجهة الأزمات المالية تصدر ردود فعل مختلفة بحسب قاعدة الربح والخسارة. فالطبقة العاملة المنظمة لا يمكنها أن تصبر طويلاً على ممارسات المحاباة لقطاعات تجارية وصناعية على حسابها، لذلك يمكن أن تنشب اضطرابات عمالية. فالاحتجاج ضد تدني مستوى المعيشة وضدّ إلغاء الدعم الأساسي يحمل لواءه غالباً أفراد من الطبقة الكادحة في المدن.

وعلى عكس ذلك تبدو العلاقة بين النخبة الحاكمة والبرجوازية الخاصة أكثر تحسناً. ومن الممكن أن يرحب رجال الأعمال الخليجيون في البداية بالرأسمال الأجنبي، ولكنهم لن يلبثوا أن يبدأوا في إبداء التذمر في حالة ملاحظتهم العجز عن المنافسة المفتوحة عندما يغيب الدعم الحكومي لهم. وعلى الرغم من أن المزارعين والمصدّرين الزراعيين غالباً ما ينتفعون من السياسات الليبرالية فإنهم يتذمرون كذلك من فقدان الدعم غير المباشر للطاقة والأسمدة والبنية التحتية التي يستعملونها. أما طبقة الفلاحين العاملة فتبقى دائماً مغيبة عن كل التحالفات تقريباً.

ويبقى الجيش محافظاً في كل الدول الخليجية على موقعه ضمن هذه التحالفات الجديدة. فالجيوش تواصل الحصول على قسط كبير من النفقات العامة وفي بعض الحالات تتحكم بطريقة مطلقة بشؤونها المالية. أما المديرون والتكنوقراطيون الذين يتبوأون مواقع على رأس الشركات الحكومية، فإنهم يواصلون حمل وزن سياسي في بعض البلدان حتى إن كانت هناك خصخصة جزئية لهذه الشركات.

إن هذا التوجه الليبرالي يحمل الدولة على التضحية بأحد مركزي شرعيتها: الرفاه الاجتماعي والتـنمية. إن التخلي عن مفهوم الرفاه الاجتماعي يبدو مستحيلاً من دون إعادة ترتيب التحالفات. وعلى المستوى النظري يبدو أن القطاع الخاص بمقدوره وحده حل المشكلات المتعلقة بالوظائف والغذاء والأموال، التي هي متأصّلة في التعديل الهيكلي الحالي. إن حل كل هذه المشكلات يتضمن مشاركة أكبر للمواطن، لكن مع مواصلة الانتفاع برعاية الدولة واستمرار المطالبة بدعم الدولة وحمايتها. هذا التـناقض يمنع العلاقات السياسية - الاقتصادية من أن تصبح واضحة وشفافة. ولهذا السبب يمكن أن تتغير التحالفات من مستوى علاقة السيد بالتابع إلى مستوى التضامنيات.

وأخيراً، فإن التعديلات الهيكلية في منطقة الخليج هي خيار الدولة ويتم تبنّيها كسياسة عامة. وفي الدول الرأسمالية المتقدمة تعيش الخصخصة في تناغم مع المعايير الأيديولوجية السائدة، حيث هناك مستوى عالٍ من التوافق بين الأوجه الثلاثة للتركيبة الاجتماعية: القاعدة الاقتصادية، والبنية القانونية والسياسية، وأشكال الوعي الاجتماعي. وفي حالة دول الخليج هناك مستوى أقل بكثير من التوافق: هناك أشكال عدة من الإنتاج التي تتعايش داخل المجتمع، كما أن وظيفة الإنتاج ضعيفة، مما يجعل الدولة والأيديولوجيا تحظيان بنسبة عالية من الاستقلال، ويبقى تبنّي الإصلاحات خياراً قائماً بالنسبة للدولة فقط.

القوة السياسية للقطاع الخاص

يعيش القطاع الخاص في كل دول مجلس التعاون حالة من التشرذم. فالمؤسسات ذات رأس المال الاستثماري الكبير عددها محدود للغاية. وكثير من المؤسسات الصناعية لا توظف إلا عمالاً من داخل العائلة. إضافة إلى ذلك يعتمد القطاع الخاص اعتماداً كبيراً على الدولة سواء للحصول على صفقات تفضيلية مع القطاع العام أو للحصول على رخص رسمية للاستيراد والتصدير والإنتاج وأحياناً للتسعير. كما أن اعتماد الصناعات الخاصة على المنتوجات غير المباشرة من الصناعات، يرسخ مبدأ الاعتماد المتواصل في العلاقة بين الصناعيين والدولة.

وعموماً، فإن القطاع الخاص لديه قوّة تنظيمية محدودة. فإجراءات اتخاذ القرارات حول السياسات الاقتصادية لا تأخذ في اعتبارها رجال الأعمال إلا بصفة جزئية. وتبقى القرارات حول الليبرالية محصورة بيد النظام وبخاصّة في ما يتعلق بمجال وتوقيت هذه القرارات. وعلى الرغم من أن عملية التحرر الاقتصادي هي في مصلحة القطاع الخاص، لكنها ليست بإملاءات منه، هذا مع أنه باستطاعته الحصول على كل المكاسب بأبخس الأثمان ببقائه ضمن السياسة البيروقراطية أو سياسة البلاط، حيث تنتج الشبكة النظامية العائلية والقبلية والإقليمية والشللية والمحسوبية نمط توزيع الثروة.

وتبدو المسائل مختلفة من منظور الصناعيين المستثمرين والحرفيين. وكقاعدة عامة يجمِّد الاستـثمار الصناعي رؤوس الأموال لفترة أطول، ويوفر مستوى ربحياً أقل مقارنة بالصفقات التجارية على المديـين القصير والمتوسط. لذلك فإنه على الرغم من أن الصناعيين يجنون الأرباح من بعض الإعانات أو الخدمات التي توفرها الدولة والقطاع العام، فإنهم يتأثرون سلباً بغياب مساءلة الحكومة والشفافية في القرارات والصفقات وسيادة القانون. إن هذه الطبقة من البرجوازية لها من دون شك مصلحة في تبني الممارسات الديمقراطية، لكنها لا تستطيع أن تطالب بالتغيير، وفي كل الأحوال فهي لا تستطيع القيام بذلك إلا بقدر محدود. وهكذا ورغم وجود الصناعيين الذين يرغبون في الديمقراطية، ولكن تعوزهم قوة المساومة للحصول عليها، والتجار الذين لديهم قوة مساومة أكبر وعلاقات حميمية مع الأنظمة، وإن كانوا لا يرغبون في التغيير الديمقراطي، فإن ضغوط القطاع الخاص من أجل الديمقراطية تبقى هامشية.

قوى المجتمع المدني

يتكون المجتمع المدني من أطراف غير حكومية أو منظمات غير حكومية مثل الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات الحرفية وجمعيات التنمية الاجتماعية وغيرها. وإن أنجع قوة باستطاعتها المطالبة بالديمقراطية هي التي تكون قريبة من المعاناة اليومية للناس.
وعلى عكس ذلك أعطى التطور التاريخي للدولة والاقتصاد في منطقة الخليج الدولة دور المسيطر على المجتمع المدني. إضافة إلى ذلك، فإن التقسيم المزدوج للمجتمع في دول الخليج العربية (شيعة وسنة من جهة وسكان المدن والقبائل من جهة أخرى) يعني أن الدولة تعتمد على أحد شقي المجتمع من أجل الـهُـوية والدعم والحماية. وقد ولّدت هذه السياسة توتراً طائفياً وجهوياً في المجتمع، ودعمت دور القبائل كعماد للبلاط.

أضف إلى ذلك إن كل الإصلاحات الاقتصادية والسياسية في دول مجلس التعاون هي مشاريع النظام، وقد تم تطبيقها للمحافظة على سيطرة النظام من خلال تحقيق بعض الأهداف: أول هذه الأهداف كان مكافحة الأزمة المالية التي اقتضت إشراك القطاع الخاص بسبب تقلص موارد الدولة وتراكم الديون. أما الهدف الثاني فيتمثل في إعادة إحياء الشرعية للحد من المعارضة الداخلية. والهدف الثالث يتمثل في استقطاب جماعات جديدة داخل النظام، مما سيوسع قاعدته ويضمن ولاء من خَسِروا بسبب التعديلات الهيكلية. وهكذا فإن الدولة هي التي قدمت هذه الإصلاحات في غياب تام أو ضعف للقطاع الخاص والمجتمع المدني. إضافة إلى أن عدد الجمعيات المستقلة عن الدولة محدود جداً أو أنها تخضع لإشراف ومراقبة الأجهزة الحكومية. وبالتالي تظهر الصورة العامة أن التحول نحو اقتصاد السوق لن يُترجم فورياً إلى انفتاح سياسي. كما أن الإصلاحات الاقتصادية في دول مجلس التعاون أدت إلى ممارسات ديمقراطية باهتة. وتم انتحال شعارات التحول الديمقراطي، مثل الانتخابات، ولكن من دون روح ولا مبادئ.

وعليه، فإن التحرر الاقتصادي لا يفضي على نحو مباشر إلى التحرر السياسي، بل يفضي إلى نموذج الشراكة التضامنية على حد تعبير روبرت بيانكي. وفي هذا النموذج تدخل الدولة والسوق والمجتمع في عمليات معـقّدة من التبادل السياسي فيما بينها. ولا يمكن لهذه العملية أن تتم إلا إذا ضعفت النخبة الحاكمة إلى درجة تجعلها تقبل بشراكة المجموعات والجمعيات الأخرى، مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بالقوة الكافية لتفرض التعاون كثمن لإعطاء الامتيازات لأي مجموعة كانت. وتشير الدلائل إلى أن دول مجلس التعاون جاهزة للدخول في هذه المرحلة قريباً.

ويبدو أن هذه الشراكة الجديدة قد عوّضت المثال السابق الذي كان يحوم حول النخبة العائلية أو القبلية أو المحلية.
وسيتم تدعيم هذا المثال، إذا اقتربت قوى المجتمع المدني من معاناة الشعب، واستطاعت إيجاد موارد مالية مستقلة، على الرغم من أن التوجه على هذا الصعيد قد تم إضعافه بسبب الضغوط الأمريكية لتجفيف منابع التمويل لمختـلـف الجمعيات الخيرية تحت ذريعة محاربة الإرهاب. إضافة إلى ذلك فإنه بالإمكان توطيد تآزر القوى الديمقراطية إذا ما اتبعت التجمعات السياسية استراتيجيتين. أولاهما: تأسيس ديمقراطية داخلية ناجعة. وثانيتهما إقامة علاقات قوية مع أهم جماعات الضغط الاقـتصادية مثل النقابات وأكبر المنتجين. وبالتالي فإن المطالبة بالديمقراطية قد لا تأتي من القطاع الاقتصادي الخاص، بل من القطاع الخاص الاجتماعي الثقافي.

مجلة آراء حول الخليج