; logged out
الرئيسية / نحو هيكل أمني خليجي

نحو هيكل أمني خليجي

الثلاثاء، 01 شباط/فبراير 2005

للجغرافيا حقائقها الصلدة التي تفرض على صنّّاع القرار أخذها في الاعتبار، ومن جبرية الجغرافيا أن إيران دولة خليجية، وهي تشاطئ دول الخليج العربية على امتداد الساحل الشرقي، وهذه حقيقة لا يمكن لأحد أن يغيِّرها أو يتجاهلها، وبالتالي فإنها تفرض على الجميع ترتيب أجواء ملائمة لمصالح مشتركة بهدف خلق بيئة آمنة تساعد على التنمية والاستقرار، فأي اختلال أمني ستشمل عواقبه جميع دول المنطقة دونما استثناء.

ولا شك فإن للدول العربية الخليجية هواجسها المبرَّرة إزاء إيران، وهي مخاوف جدية حقيقية، من دون أن يمنع ذلك أن بعضاً منها مغلّف بالوهم المبالغ فيه. كما أن لإيران هي الأخرى تساؤلاتها المشروعة حول السياسات العربية إزاءها، وحول طبيعة تحالفاتها الخارجية التي لا تزال ترى فيها طهران مصدراً للخلاف وأزمة للثقة، وكان من الأجدى أن تستثمر إيران هذه العلاقات لتكون نافذة أمامها في تلطيف أجواء علاقاتها المتوترة مع الغرب بدلاً من نظرة الارتياب، وبالتالي فإن الخطوة الأولى ينبغي أن تؤسس على محاولة كلا الطرفين إزالة سوء الفهم المتبادل بينهما، والذي تعزِّزه قوى خارجية ترى أن من مصلحتها إبقاء التوتر بين دول عائمة على بحيرة من نفط. ولا أظنه من الحصافة بشيء هذا التوقف الطويل وغير المبرَّر أمام تسمية الخليج بين "عربي وفارسي"، وجعل الخلاف في المدلولات اللفظية سبباً لمشاحنات سياسية بلا معنى، فلئن كان الخليج عربياً في جانبه الغربي فإنه فارسي في جانبه الشرقي، وهو قبل هذا وذاك "خليج إسلامي". كما أنه سيكون من قبيل سوء الإدراك كذلك أن تحاول إيران التدخل الفظ في الشأن العراقي واللعب على تركيبته الطائفية بهدف خلق حكومة موالية لها، إذ إن ذلك سيعيد الشكوك مجدداً بالشعارات والسياسات التي سبق أن أعلنت أنها هجرتها والمتمثلة بتصدير الثورة.
ومثلما ما هو مطلوب من إيران أن تبرهن على نيَّاتها الحسنة إزاء العرب لإبعاد شبح التجارب التأريخية المريرة بين الطرفين التي ما زال بعض منها ماثلاً في الذاكرة الخليجية، فإن العرب هم الآخرون مطالبون بأن يتفهموا أن تجاهل قوة إقليمية كبرى بحجم إيران لن يعود بالنفع عليهم، فالخليج لا يمكن أن يكون آمناً من دون إيران.

إن الأخذ بهذه التوجهات يبدو اليوم أكثر من ملحّ في ظل الأجواء المشحونة بالتوتر على خلفية الوجود العسكري الأمريكي المكثف في العراق، والخلاف الذي بدأت تتصاعد وتيرته بين واشنطن وطهران حول برامج التسلُّح النووي الإيراني، التي تجعل المنطقة برمّتها مفتوحة على كل الاحتمالات، وهي احتمالات مشوبة بكل ما يدعو إلى القلق، لكن فيها ما يؤكد من جانب آخر تشابك المصالح الخليجية وتعقدها، إذ ليس من الصحيح أن تنظر الدول الخليجية إلى الأزمة الأمريكية ـ الإيرانية وكأنها أمر لا يعنيها، أو أن تنظر إليها باعتبارها محض خلاف بين دولتين ليس إلا، ذلك أن أي سيناريو مفترض لهذه الأزمة سيصيب بشرره ولا ريب دول الخليج العربية. ولعل هذا يُعد سبباً كافياً لكي يفرض عليها أن تمارس قدراً واسعاً من الدبلوماسية المرنة والتدخل الإيجابي للإسهام في حل الأزمة على نحو يحفظ مصالح الأطراف كافة، فليس معقولاً أن تبادر دول عديدة وبعيدة إلى تأكيد رؤاها ومصالحها، فيما تبقى دول مجلس التعاون الخليجي في موضع الترقب على تلِّ السلامة. ولذلك فإن من الخطأ النظر إلى الصورة النمطية في العلاقات الخليجية ـ الإيرانية باعتبارها شأناً رسمياً صرفاً، إذ إن أمام النخب الفكرية ومؤسسات المجتمع المدني دوراً مهماً في تبديد ظلال الشك المتبادل من خلال الدبلوماسية غير الرسمية التي لا تزال في حدودها الدنيا.

ولعل ما يُحمد في العلاقات الخليجية ـ الإيرانية أن كلا الطرفين استطاعا حتى الآن أن يحتويا المشكلات المزمنة بينهما، والأحداث اليومية التي تعكِّر بين حين وآخر سماء العلاقات. فالعلاقات الاقتصادية بين إيران ودول مجلس التعاون شهدت تطوراً كبيراً، حيث سجل حجم التبادل التجاري ـ على سبيل المثال ـ بين إيران والإمارات العربية المتحدة ارتفاعاً غير مسبوق وبنسبة 2500% عام 2004 مقارنة بالعام الذي سبقه، كما أن الإمارات هي ثالث أهم الأسواق بالنسبة لإيران، وهي خامس دولة في تزويد إيران بالبضائع. كما شهدت العلاقات التجارية والاقتصادية بين إيران وكل من البحرين وقطر وسلطنة عُمان والكويت والمملكة العربية السعودية تطوراً ملحوظاً أيضاً، ومن المحتمل أن تكون إيران مصدر الكويت الأول للماء العذب خلال السنوات القليلة المقبلة. ويُعد هذا التطور على الصعيد الاقتصادي تأكيداً على ترابط المصالح بين الطرفين رغم وجود الحساسية السياسية، وهو ما يجعل المراقبين واجمين باستغراب أمام إيجابية الأرقام الاقتصادية وسلبية العلاقات السياسية، وهذا ما يؤكد أيضاً أن هنالك حصافة واضحة في كيفية إدارة الأزمة التي تجعل من القواسم المشتركة أرضية للتعاون، وتنحية مصادر النزاع جانباً.

إن من المؤكد أن الأزمة الأمريكية ـ الإيرانية ليست هي المشكلة الوحيدة في البيئة الخليجية التي تعجُّ بمشكلات عدة بعض منها ظاهر وكثير منها كامن أو مؤجل. إن هذا الإدراك هو الذي يجعل العقلاء يفكرون باستنباط طرائق واقعية لإيجاد هيكل أمني خليجي يكون قادراً على إرساء مصالح متبادلة تقوم على أسس بناء الثقة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، ونبذ الحروب، والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، وغيرها من الموضوعات الحساسة التي يشعر أبناء الخليج إزاءها بالتوجس الدائم.
إن هذه الهيكلية كما نعتقد ينبغي أن تأخذ في الاعتبار أن يكون العراق واليمن إضافة إلى دول مجلس التعاون، ركائزها الخليجية، كما وتكون إيران أحد أطرافها الفاعلة. بهذه الطريقة يمكن أن نرى الخليج وقد أصبح آمناً ومستقراً.

 

مقالات لنفس الكاتب