array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 92

البركان الآسيوي الذي خلخل موازين القوى العالمية

الثلاثاء، 01 أيار 2012

احتلت القارة الآسيوية حيّزاً كبيراً من مساحة العالم المتعدد الأقطاب، إن لم نقل صدارته، الشيء الذي يمكن إيعازه إلى كون التنافس الآني والمستقبلي يلخّص أساساً في التفوق العلمي والتكنولوجي، ناهيك عن كون القواعد والإجراءات، بل حتى المؤسسات التي فصّلت حسب مقاس العالم الأحادي القطبية لم تعد تلائم العالم المتعدد الأقطاب، والذي برزت فيه قوى جديدة قادرة على المنافسة والسباحة ضد التيار الأمريكي، الأمر الذي يحتم علينا ضرورة دراسة القوى الاقتصادية الجديدة والتي من الممكن أن تتصدر قائمة الدول الصناعية في القريب المنظور، وإن تعددت هذه القوى بين مختلف القارات الخمس.

لكن القارة الآسيوية تبقى فريدة من نوعها لما تضمه من قوى بإمكانها معادلة العالم أكثر من مرة اقتصادياً إن توحدت فيما بينها، بل حتى وهي مشتتة الأطراف تبقى بمثابة رقم صعب في المعادلة الاقتصادية.

أولاً: اليابان: دولة (النمل البشري) الذي لا ينام!

يقدر عدد سكان اليابان بـ 127 مليون نسمة يعيشون فوق 3000 جزيرة تمثّل 0.3 في المائة من يابسة العالم، هذه الرقعة الجغرافية التي تفتقر إلى المواد الأولية، ناهيك عن الضعف العسكري الذي لا يوازي بأي شكل من الأشكال القوة الاقتصادية لليابان.

إلا أن المادة في عصر العولمة التقنية لا تساوي شيئاً أمام منطلقات الإدراك الياباني، الذي أدخل اليابان في عزلة إرادية عن العالم، ترميماً للبيت الداخلي في ظل الحكم المستنير في عصر المايغي (1868-1912م) الذي جعل من اليابان مُدركة لموقعها الدولي، مما أتاح لها إمكانية هز الصين في أواخر القرن 19، وزعزعة استقرار روسيا القيصرية في بداية القرن 20، بغض النظر عن إنجازات الحرب العالمية الثانية.

ولعل من بين أهم أدوات الإدراك الياباني للنظام الدولي، يكمن بالأساس في ثقافة وتراث اليابانيين، المنبثقين أصلاً من الجغرافية الجزرية ذات التضاريس الصعبة، المحصّنة للبلاد من أي هجوم منتظر، مما انعكس إيجاباً على الروح الجماعية اليابانية. هذا وقد ترسّخت في ظل هذه الظرفية فكرة تقديس اليابان، إنها (الجغرافية الصانعة للتاريخ) حسب مقولة بسمارك.

وتحسّباً لقيادة العالم، أو على الأقل المساهمة في ذلك، اكتسحت اليابان تكنولوجيا الفضاء، وارتقت في السلم الاقتصادي لتصبح ثاني أعظم قوة اقتصادية في العالم، بحيث أسهمت في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية؛ لتصبح اليابان أكبر مستفيد من الحرب العالمية الثانية. هذا الاقتصاد الذي تم تعزيزه بمقتضى عمالة فنية جد ماهرة وتعكس الاهتمام الكبير لليابان بالمستوى التعليمي.

وبفضل قدراتها الذاتية استحوذت اليابان على عالم الإنسان الآلي، كما أصبح الين الياباني ينافس الدولار واليورو. فإذا كان الاتحاد الأوروبي القوة الاقتصادية الضاربة في القارة العجوز، وتجمع (النافتا) هو قائد النصف الغربي من الكرة الأرضية، فإن اليابان هي قائدة (الإوز الطائر) والركب الآسيوي على حدّ سواء.

وتعتبر كل من أسماء (سوني)، (ماسوشيتا) و(هيتاشي)، من أهم المرايا العاكسة للاقتصاد الياباني العالمي، الأمر الذي يمكن إيعازه إلى تمتع الشركات اليابانية بالإنتاجية الوفيرة والربح القليل، مما يمهد لها الطريق نحو العالمية، إضافة إلى الاهتمام المتزايد بالعامل الإنتاجي ذي الكفاءة العالية.

وإذا ما بحثنا عن دور اليابان في القارة الآسيوية ومقارنته ببزوغ تكتل النافتا في أمريكا، والاتحاد الأوروبي في أوروبا، وتغلغل الثورة الصناعية في شرايين العالم، وانكفاء الاتحاد السوفييتي، وإنهاك القوة الأمريكية، فإن اليابان تخرج من الرماد الحضاري، كأنها طائر أسطوري يأبى إلا أن يرسم معالم العالم الاقتصادي و(السياسي كذلك، لما لا؟) مُعلناً عن معجزة القرن المنبثقة من التربة الآسيوية.

أما في ما يتعلق بعلاقاتها مع الجوار، وعلى الرغم من تخوف آسيا من الشبح الياباني التاريخي، فقد تعمق النفوذ الاقتصادي لليابان في شرايين آسيا وأوروبا، كما تتربع اليابان على عرش عالم المساعدات، كمّاً ونوعاً، لدول الجنوب.

وعلى الرغم من عين القلق التي تنظر من خلالها الصين إلى اليابان، إلا أن المصالح المشتركة بإمكانها أن تبدد الأفكار السوداوية التي بصمها تاريخ ما قبل الحرب العالمية الثانية.

إلا أن اليابان مازالت تصطدم بإكراهات تحول دون استقطابها للعالم، من قبيل ندرة مواردها وتقييد قوتها العسكرية وتراجع نسبة نموها الديموغرافي، إلا أن أي إصلاح منتظر لمجلس الأمن في إطار توسيع عضويته، لن يغفل إمكانية انضمام هذا القائد الذي فرض نفسه رغم أنف الأعداء والخصوم.

ثانياً: الصين المارد الذي هزّ العالم حين استيقظ

استيقظ المارد النائم فاحتل صدارة العالم سكانياً، ومساحةً، ومن حيث القدرات العسكرية والنووية، وعدد الجنود، حيث

مرت الصين في عملية التحديث بتبديل نظامها السياسي وتقوية مرتكزاتها الثقافية والعلمية، إذ إنه خلال عصر ماوتسي تونغ (1949-1979) استساغت الصين العزلة الإرادية والطلاق الأيديولوجي مع الاتحاد السوفييتي، والتوجس من الغرب، لإعادة بناء الذات الصينية في مختلف تجليات الحياة الاقتصادية والعلمية، وعلى الرغم من بطء التغير إلا أنه أكيد.

لكن التحديث الماوي اصطدم بالثورة الثقافية التي امتدت على طول سنوات (1966-1976)، ولما انبجست، ركز الصينيون على المجال الاقتصادي والقانوني والثقافي والاجتماعي لبناء أواصر عملية التحديث، أسهمت في ذلك المتغيرات الدولية من حرب باردة وانفجار للثورة التكنولوجية لتنفتح الصين على العالم أكثر، الأمر الذي ثُمّن في عهد (دانغ زياوبينغ) (1978-1997) بإصلاحات صينية محضة، بعيدة عن الحضارة الغربية، قريبة إلى تعاليم كونفوشيوس والحكمة الصينية التاريخية، المستحدثة بآليات تكنولوجية عالية الدقة لتحقيق الإقلاع العالمي، جامعة بين إيجابيات الرأسمالية والاشتراكية، محققة بذلك السوق الموجه على الطريقة الصينية. إذ عمل (دانغ) على الانفتاح أكثر على العالم المتعدد الأقطاب، وفتح أسواقه للاستثمارات الأجنبية وخصخصة بعض القطاعات من دون السير قُدماً نحو الانفلات، إذ إنه ليس من المهم أن يكون القط أبيض أم أسود بقدر ما يهم التهامه للفئران.

هكذا حرر ماوتسي تونغ الصين من قيود الماضي الأيديولوجي، وأعدّها للزعامة العالمية، التي تحققت على يد (دانغ)، واستيقظ التنين الصيني باستثمار التجربة (الغورباتشوفية) بعكسها، إذ بدأت بالبروستريكا قبل الشفافية. هكذا أعطت الصين للخواص حق المبادرة مع الحفاظ على الدور التدخلي للدولة. فالديموغرافية الصينية والقدرات النووية والقوة الاقتصادية والعضوية في مجلس الأمن، كلها عوامل اجتمعت في قوة التنين الآني والذي أصبح رقماً صعباً في مجال الفضاء.

إلا أن الصين تبقى في مواجهة الفوارق الاجتماعية، وغياب الديمقراطية، وتحكم البيروقراطية، وتعثر البنية التحتية، وتوجس الولايات المتحدة الأمريكية منها، وتخوف سكان هونغ كونغ من الاندماج الكامل معها، الأمر الذي سيؤثر على تميزهم الاجتماعي، كما أن الصين مازالت تشرئب إلى ضم تايوان التي حصنتها من العالم المتعدد الأقطاب.

المصالح المشتركة بإمكانها أن تبدد الأفكار التاريخية السوداوية بين الصين واليابان
ضعف اليابان العسكري لا يوازي بأي شكل من الأشكال قوتها الاقتصادية

ثالثاً: الدول الصناعية الجديدة بجيليها الأول والثاني

تمظهر الجيل الأول من الدول الصناعية الجديدة في ما يسمى (النمور الآسيوية) المتمثلة في كل من كوريا الجنوبية، تايوان، سنغافورة وهونغ كونغ. أما الجيل الثاني المسمى (الأشبال الآسيوية) فيضم كلاًمن إندونيسيا، ماليزيا، تايلاند، فيتنام والفلبين.

ويغلب على هذه الدول طابع الجِدَّة، لأنها لم ترث تاريخياً هذا المنصب، وإنما توفرت لها الظروف الداخلية والخارجية لتنضم إلى كوكبة الدول الصناعية الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية، ويجمع هذه الدول مفهوم المصلحة الطاغية على السياسة الخارجية (بميكانيزمات) اقتصادية، على الرغم من تباين مواردها ومرجعياتها، وقوة النمو والتنمية فيها.

إن سرّ نجاح هذه الدول يكمن أساساً في:

* الانضباط المالي: وتحكمت فيه حكومات هذه الدول من خلال ضبط الحد الأدنى والأقصى للتضخم.

* الاستثمارات الأجنبية المباشرة، التي استقدمتها العمالة النوعية والمرونة القانونية.

* سياسات التصدير الصناعي: بعدما انتهجت هذه الدول السياسة الحمائية، لجأت إلى الانفتاح كي يرحب العالم بصادراتها.

* السياسات التصنيعية المتنوعة: بغض النظر عن تنوع الدول الصناعية الجديدة في إمكانية تدخل الدولة بالتوجيه الصناعي أم لا، فقد نجحت كلها في الارتقاء إلى مصاف الدول الصناعية الجديدة، إلا أن الأهم في هذه التجربة ليس حماية المنتوج الوطني، وإنما تنويعه ليصبح قادراً على المنافسة.

وترتكز المعجزة الآسيوية على بناء رأس المال البشري من خلال الاهتمام المتزايد بنوعية قطاع التعليم. كما عملت هذه النظم على إنشاء نظم مالية جد فعالة ترتكز أساساً على زيادة المدخرات، ورفع وتيرة الاستثمارات من خلال تشجيعها بنيوياً، قانونياً وضرائبياً. وتحسباً لأي هزة مالية بدأت هذه الحكومات تتدخل للمراقبة من دون إيقاف وتيرة النمو، كما أسهمت الحكومات في تقوية بعض القطاعات من خلال مساعدتها المادية والتقنية.

ومن خلال ما سلف، يمكننا أن نستجلي مجالات تفوق (التنينات) الآسيوية في كل من استيعاب التكنولوجية الأجنبية المنقولة إليها، وتعزيز صناعات معينة للنهوض بها كالصناعات الدقيقة والثقيلة. كما عملت هذه الدول على تشجيع التصدير وتمهيد الطريق للغزو العالمي، مستندة في ذلك إلى مبدأ المشاركة في النمو من خلال عملية التصدير، كما يجب ألا نغفل الدور الفعال الذي قام به القطاع الخاص في الرقي بهذه المجتمعات.

فالمعجزة الآسيوية إذن انبثقت من ظروف دولية متمثلة في التوزيع الجغرافي لعملية التصنيع، وتدمير أوروبا بحثاً عن أسواق جديدة وتعاقدات صناعية بين الدول الكبرى ودول جنوب شرق آسيا، وتدخل الأنموذج الياباني في تقويم السرب الآسيوي، كما أن هناك عوامل داخلية ارتبطت بالقيم الآسيوية، إذ انصهرت كل من المرجعية الكونفوشيوسية والبوذية والمسيحية والإسلامية لتخلق لنا المعجزة الآسيوية. هذه المعجزة التي أفرزت لنا نظريات تفسيرية عدة: النظرية الأولى أن هناك من يربط هذا التقدم بتدخل الحكومات تحقيقاً لثلاثة لأهداف: تنمية القدرة التكنولوجية، تنمية الصادرات الصناعية، وبناء المقدرات الذاتية في الصناعة الوسيطة. أما النظرية الثانية فقد ركزت على عنصر الإنتاج للتصدير. أما ثالثة هذه النظريات فقد فسرت هذا الرقي الصناعي في القيم العقائدية لهذه المنطقة.

إلا أن بلدان شرق آسيا مازالت تتهددها مخاطر من قبيل انخفاض معدل نموها، وتضاؤل حجم الفائض المحقق، وآثار المنافسة المتوحشة، وانتهاج سياسات حمائية من طرف الدول المتقدمة تجاه هذه الدول. كما أثرت عملية التصنيع على البيئة الداخلية والعالمية على حد سواء. كما أن التقنين اللازم للنهوض بالاقتصاد في هذه المناطق مازال غير مستجيب لمتطلبات الظرفية الآنية، مما يضع هذه الدول أمام تحدي الإصلاح الداخلي والتطلع الخارجي.

مقالات لنفس الكاتب