array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

نحو رؤية جديدة لإدارة الدولة والمجتمع في العراق

الجمعة، 25 تموز/يوليو 2014

علاوة على ضمان الأمن والتنظيم، يكاد الهدف الرئيسي لأي نظام سياسي يكون في إطار تعزيز التنمية البشرية عبر سياسات تعزز القدرة على الاختيار وتضمن الأمن وتقلص الفوارق الاقتصادية بين المواطنين، وتوفر الرفاهية والتعلم، وتجاوز الحرمان (في إطاري الحاضر والمستقبل) سواء ما تعلق منه بالرفاهية والأمن والقدرة على الاختيار.
بعبارة أوسع فإن هدف أي نظام سياسي هو ممارسة إدارة صالحة للدولة والمجتمع الذي تحكمه. ولا يمكن تصور أن العراق ببعيد عن هذه الحالة، فنظامه السياسي يفترض به أن يلبي هذه المطالب، فهي جزء من مكونات وجوده. كما أن طبيعية الظرف الذي يمر به البلد تجعلنا لا نتغافل عن هذه الغاية، فالمواطن هو اللبنة الأساسية في بناء الدولة، دولة المستقبل، إذا ما جعلت كغاية سياسية للقوى المختلفة الداخلة في اللعبة العراقية.
إن المتتبع للوضع السياسي العراقي يلاحظ أن تشخيص العملية السياسية في البلاد قد حظي بدقة لم يعهدها العراقيون من قبل، إذ تناول الباحثون العراقيون والمختصون والمهتمون الشأن العراقي من مختلف جوانبه- ولا نتحدث هنا عن أطراف تحمل أجندات سياسية فهذا أمر سيقودنا إلى نتائج الوضع العراقي منذ بدء تدخل القوات الأمريكية فيه. وما يشجع هو ظهور مبادرات لتشجيع العمل السياسي السلمي كضامن أساسي، وطريق يمكن سلوكه للحصول على أكبر قدر من التنازلات من الولايات المتحدة، ومن كافة حلفائها الذين دخلوا العراق خلال الأسابيع الأولى للاحتلال، وهيئوا له شرعية الوجود خلال الأعوام السابقة. وإزاء طروحات الوضع السياسي العراقي الفوقية، التي تركز في الغالب على العنف بين ضاغط لوصفه إرهاباً حتى الذي يطال القوات الأمريكية، وبين إنكار لحق المقاومة حتى في إطار حق الدفاع عن النفس ضد عمليات القتل الجماعية التي تمارسها ميليشيات السلطة، نقول إزاءها لا نجد أنفسنا إلا مندفعين نحو معالجات غابت عن أذهان الحكومة العراقية. فطرحنا هو لما يريده العراق خلال الفترة اللاحقة، وفي هذه الدراسة سنتناول الإجابة عن تساؤل كيف يمكن إدارة الدولة العراقية؟ ولا نقصد هنا الدولة/الحكومة، إنما نقصد، ومحور اهتمامنا هو المكون المجتمعي للدولة. أولا، لمعالجة الوضع السياسي العراقي نحتاج، وكل حسب الإطار الزمني له، إلى المعالجات الآتية:
1-تحريم سفك الدم، وبعدها وخلال المستقبل الآني (أسابيع وأشهر) معالجة مشكلة البطالة والخدمات الأساسية، وليس البدء بالحل العسكري، حتى يمكن القضاء على واحدة من دعائم العنف في البلد ألا وهي العنف الإجرامي عبر إشراك المواطنين في حماية بلدهم الذي يوفر لهم تلك الخدمات الأساسية.
2-خلال الأشهر التالية، الفصل بين ما هو سياسي (عمل الأحزاب والقوى السياسية، والوظائف السياسية)، وبين ما هو إداري (العمل في قطاع الخدمة العامة في دوائر الدولة المختلفة، دون مستوى وزير)، وبين ما هو أمني (تحييد قطاعات الأجهزة الأمنية كافة عن إطاعة شخص رئيس الحكومة أو الدولة، بل توخيها العمل لمصلحة العراق كدولة ووطن).
3-خلال عام، التعرض المسؤول وبحوار وطني صريح لمسألتي:
-المواطنة والوطنية العراقية، وتعريف مصلحة العراق الوطنية.
-تحديد معنى العمالة للأجنبي ، أي كل ما هو غير عراقي، وتجريمه وتحديد جزاءات رادعة له.
4-خلال السنة اللاحقة، يجري فصل قطاعي القضاء والتعليم عن البرامج السياسية للأحزاب أو محاولات التسييس، وضمان استقلالهما بشكل صريح، وتحديد إجراءات رادعة تجاه تحزيب القطاعين.
ومن الضروري بيان ما الذي نعنيه بالرؤية الجديدة في إدارة العنصرين المتفاعلين، الدولة والمجتمع، وتفاعلاتها ونتائجها على التنمية البشرية في العراق.
أولاً: الوضع الراهن لإدارة الدولة والمجتمع وحال التنمية البشرية في العراق
في البدء نعني بمفهوم إدارة الدولة والمجتمع، ممارسة السلطة السياسية والاقتصادية والإدارية لتسيير شؤون المجتمع على كافة المستويات، وتشمل الآليات والعمليات والمؤسسات التي من خلالها يقوم المواطنون بالتعبير عن مصالحهم والسعي إليها وممارسة حقوقهم القانونية وتطبيق التزاماتهم والتعامل مع نزاعاتهم.
ولنبدأ مع مقولة إن إدارة الدولة العراقية والمجتمع بصورة أنموذجية أساسية لتحقيق تنمية بشرية مستدامة. إن بناء القدرة على إدارة فعالة وسليمة باتت أولوية خصوصا أن العراق بعد احتلاله بات يواجه تحديات جديدة، فضلاً عن الفقر والأمية، منها أن طروحات الإصلاح التي جاء بها التغيير السياسي للعراق (إزالة نظام دكتاتوري وإصلاح نظام الحكم، وإشاعة الحريات..) صار يواجهها تحدي الانغلاق السياسي والطائفي-الاجتماعي. وموقفنا من ضرورة تحقق إدارة فاعلة في العراق يتم ذلك عبر تهيئة القدرات على تحقيق تنمية تعطي الأولوية لمعالجة الفقر، وتولد فرص العمل المطلوبة وبمستوى معيشي مقبول وتدعم دور المرأة وتحافظ على البيئة، لكن كيف يمكن الربط بين الإدارة والتنمية؟
ونحن نعالج الأوضاع العراقية، فإن التنمية البشرية المستدامة وسبل تحقيقها يجب أن تخضع لتفسير يأخذ في الاعتبار الأوضاع المختلفة في البلد، فالاهتمامات البراغماتية المباشرة للقطاعات الفقيرة لابد أن يكون ثقلها أكبر من الاعتبارات الأيديولوجية لدى القطاعات الأكثر ثراء منها. وفي الوقت نفسه علينا التأكيد على أن النمو الاقتصادي من أهم أسباب التنمية البشرية لكنه لا يكفي وحده، فاكتمال تأثيره يتطلب وضع سياسات عامة تضمن النمو وترجمته إلى مكاسب حقيقية للناس. وبما أن الإدارة تعتبر حالياً وسيلة أساسية لتحقيق تنمية بشرية، فإن إدراك مكوناتها وكيفية دمج هذه المكونات يصبحان من الأولويات التي يجب فهمها. وبما أن هذه المفاهيم ليست جامدة فينبغي أن تخضع لنقاش وحوار متواصلين يقوم بهما جميع العراقيين، نظاماً ومثقفين، وبعدها نسأل ما هي التنمية البشرية التي على العراق الشروع بها.
ونقصد بالتنمية البشرية عملية توسيع لخيارات جميع الأفراد في المجتمع. بمعنى أنها تضع البشر كأساس لعملية التنمية، فتجعلهم هدفاً أساسياً لها وفي قدرتهم على تكوين بيئة فاعلة يستطيعون العيش فيها متمتعين بالصحة والقدرة على التوليد والإبداع. وكونها مستدامة فإنها تدعو إلى حماية الخيارات الإنسانية لأجيال المستقبل كما للأجيال الحاضرة. وتتمثل أبعاد التنمية البشرية في المفاهيم التالية:1-التمكين، بمعنى توسيع قدرة المواطنين على القيام بخيارات وجعلهم قادرين على ممارستها إثر تخطيهم الجوع والحاجة والحرمان، كما يوفر لهم الفرصة والمناسبة للمشاركة في القرارات التي تؤثر في حياتهم والمصادقة عليها أو رفضها.
2-التعاون، فالتنمية البشرية مهتمة بإيجاد السبل التي توفر التفاعل لأفراد المجتمع.
3-العدالة والإنصاف، وهذا يشمل توافر الفرص، وليس فقط المدخول المالي.
4-الاستدامة، بمعنى توفير حاجات الجيل الحاضر، دون مساومة على مقدرة الأجيال القادمة على أن تتحرر من الحرمان وتمارس قدراتها الأساسية.
5-الطمأنينة، بمعنى التركيز على أمن البقاء على قيد الحياة، وتجاوز أخطار الأوبئة والقمع السياسي والأحداث التي تزيد من احتقان الحياة اليومية، وتؤدي إلى الاضطرابات.
وعليه فإن على المتحمسين إزاء الحاجة الماسة لعدم انتشار الفقر في المستقبل تفسير لماذا لا يتم إعطاء أفضلية أكبر لتخفيض حدة الفقر في المرحلة الراهنة؟ فالنمو الاقتصادي وسيلة لتحقيق أهداف التنمية البشرية المستدامة بدلاً من كونه هدفاً. وهذا يعني أنه علينا اعتماد موقف أكثر توازناً عند الحديث عن معنى الإنجاز الاقتصادي في البلد، وكيفية احتسابه. وألا نفترض أن الناتج الاقتصادي يوفر بالضرورة المستوى الأفضل من الحياة. فالعلاقة بين النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة ليست بالضرورة ثابتة وأكيدة، إذ تتدخل فيها الفوارق بين الفئات الاجتماعية والإثنية، مما قد يحرم فئات من مكتسبات التنمية، فكيف بالعراق الذي لم يعرف ولا يزال مفهوم المواطنة والحيادية والمهنية في عمل أجهزة الدولة؟ والمسألة ليست فقط في تحسين وسائل ومؤشرات قياس التنمية، بل في إعطاء الأفضليات لقيم ليست بالضرورة مالية بالمعنى الاقتصادي التقليدي- ففي كثير من الأحيان يصعب قياس المؤشرات غير المالية، كالمستوى الكريم في العيش في إطار درجة من المساواة أو شعور بالاكتفاء لتوافر الخدمات الصحية والتعليمية. إن قياس التنمية البشرية والثروة الوطنية في العراق ليس فقط غير دقيق، بل إنه يعطي نتائج مخالفة لمصالح المواطنين، فهو يقوم باستثناءات بارزة في قياساته، مثلاً يستثني الأعمال والنشاطات التكافلية الاجتماعية.. وهذه أمور أساسية في العراق، فمن غير المقبول اليوم جمع العمليات المالية التي قامت بها الشركات والمؤسسات ومن ثم إجراء تحويل هذا المجموع إلى الدولار ثم تقسيمه على عدد السكان لنعرف إذا كانوا بشراً مرتاحين في حياتهم؟ فالاستثمارات في الخدمات ذات مردود حقيقي في المدى البعيد، ولا تعود الحكومة تنظر إليها وكأنها تكلفة فحسب، بينما تضع الاستثمارات الأخرى ذات المردودات السريعة في خانة المداخيل، ومن ثم مسؤولية الحكومة التأكد من أن النمو الاقتصادي يجب أن يشكل وسيلة لتحقيق هذه الأهداف. إذ إن الفشل في إنشاء بيئة تتسع فيها القدرات الإنسانية يؤدي إلى صعوبة تحقيق هذه الأهداف، ويجعل من المستحيل للجماعات المهمشة في المجتمع الاستفادة من التقدم الاقتصادي- الاجتماعي.
إن التحدي الذي يواجهه المجتمع العراقي، خارج دائرة تحديات البقاء ومواجهة مخاطر تصاعد أعمال الحرب الأهلية، هو إنشاء نظام إدارة يدعم ويطور استدامة التنمية البشرية ويؤمنها. ورغم أهمية التركيز على قضايا إدارة المتبقي من القطاع العام في مسألة إدارة الدولة، فإنه من الضروري إضافة مجالات أخرى والتطرق إلى هياكل المنظمات والمؤسسات التي تشكل المقاييس العملية لهذا المبدأ، والتي تنفذ سياساته واستراتيجياته. ونتساءل ما العلاقة بين إدارة الدولة والمجتمع والتنمية البشرية المستدامة في العراق؟
إن إدارة الدولة والمجتمع تعني كما أوضحنا ممارسة السلطة لإدارة شؤون البلد. بمعنى أنها تشكل المؤسسات والعمليات والعلاقات داخلها التي يعبر من خلالها المواطنون بوضوح عن مصالحهم ويمارسون حقوقهم وواجباتهم ويتفاوضون حول خلافاتهم، وتشمل السبل المعتمدة لتوزيع السلطة وإدارة الموارد العامة والمشكلات الأخرى. فالإدارة الفاعلة تتواجد حيث تدار هذه الموارد والمشكلات بفاعلية، وبناء للحاجات الماسة للمجتمع. ويكون هدفها الرئيسي هو تطوير التنمية البشرية المستدامة. ورغم أن اصطلاح الإدارة يشمل كل مؤسسات ومنظمات المجتمع، إلا إننا نركز على ثلاثة أطراف مهمة، هي مؤسسات الحكومة، ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص.
إن الإدارة تشمل كذلك منظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص، لأنها بالإضافة للدولة تشارك في الغالبية العظمى من نشاطات تطوير التنمية البشرية المستدامة. وفي هذا الإطار هنا ثلاثة عناصر يعاني منها العراقيون بشدة هي: القضاء على الفقر، توليد فرص العمل وتأمين استمرار سبل الرزق، وحماية البيئة والمساهمة في انبعاثها.
إن ما تقدم يحتاج إلى تطوير واسع للموارد الإنسانية يساهم في دعم العناصر في أعلاه، ويعد الناس للمشاركة المثمرة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية. حيث إن تطوير الموارد الإنسانية الأكثر فاعلية في تحقيق التنمية المستدامة يتمثل في تحسين مستوى الصحة والتغذية والتعليم والتدريب المهني والمقدرة الإدارية. فالصحة والتغذية أساسيان بالنسبة إلى التنمية البشرية المستدامة لوقعهما الفوري على استيعاب المعارف، كما أن التحسين في مستواهما يساعد على خفض نسبة غياب الموظفين بسبب المرض أو الكسل أو اللامبالاة، بما ينعكس إيجاباً على تكثيف حيوية المواطنين وقدرتهم على الاحتمال ويعزز مقدرتهم الذهنية. ومع أن الدور المهم في توفير مستويات مرتفعة من الخدمات الصحية العامة في البلد يقع على عاتق الحكومة، إلا أن المنظمات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني عليها لعب دور أولي أكبر في توفير خدمات الرعاية الصحية والدفاع عن مصالح الفقراء ومناصرتهم.
وفي هذا المجال، هناك أربعة أنواع من الإدارة خاضعة لتأثير المجتمع المدني والقطاع الخاص، هي:
أ-الإدارة السياسية، وتشير إلى عملية اتخاذ القرارات من جانب دولة ذات سلطة وشرعية بواسطة سلطات منفصلة ومستقلة، تشريعية وتنفيذية وقضائية، تمثل مصالح تعددية، وتسمح لمواطنيها بالاختيار الحر لممثليهم، وتطبيق تلك القرارات.
ب-الإدارة الاقتصادية، وتشمل عمليات اتخاذ القرار التي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر في النشاطات الاقتصادية للدولة أو في علاقاتها مع اقتصاديات أخرى، ولها تأثير في القضايا الاجتماعية كالعدالة والإنصاف والفقر ومستوى الحرمان.
ج-إدارة قطاع عام منفتح يطبق السياسات بفاعلية واستقلالية ويخضع للمحاسبة.
د-إدارة المؤسسات، وتشمل العمليات والبنى في المجتمع التي تواجه العلاقات السياسية والاقتصادية-الاجتماعية لحماية المعتقدات الثقافية والدينية والقيم، ولتوليد واستمرار بيئة تنتشر فيها الصحة والأمن والحرية حيث في الإمكان ممارسة المواهب والمقدرات الفردية التي تؤمن حياة أفضل للجميع.إن العراق يواجه تحديات في مجال تطوير مؤسساته السياسية القادرة على إرشاد نموه الاقتصادي والاجتماعي في سبيل التنمية المستدامة، وعليه أن يولد نظاماً سياسياً ويثبت شرعيته، ويؤمن المشاركة ويوفر حداً مقبولاً من الاتفاق حول الأهداف السياسية، ويولد العوامل التي تدفع إلى التفاعل الإيجابي مع المجتمع المدني، ويشجع القادة السياسيين والمدنيين. وفي حقل الأعمال عليه إطلاق أولويات اجتماعية واقتصادية ومتابعتها، ويرشد المتبقي من مؤسسات القطاع العام (طالما أن البلد اعتمد الإصلاح الهيكلي للاقتصاد) والمجتمع المدني إلى السير في خطى اجتماعية وثقافية وبيئية واقتصادية تحقق المنفعة المستمرة للشعب.
إن فاعلية الحكومة وعلاقاتها بالمجتمع المدني إضافة إلى علاقة القطاع الخاص بالمجتمع المدني تقرر قدرة الدولة على توليد فرص عادلة ومنصفة لشعبها وتأمين استمراريتها. واليوم، العراق يواجه مهمة إعادة تعريف الأدوار، فمن المفترض أن يتجه نحو توليد بيئة سياسية مؤدية إلى تحقيق تنمية بشرية مستدامة عن طريق إعادة تعريف دور الدولة في عملية الاندماج الاجتماعي وفي الاقتصاد، وفي حماية غير القادرين من السكان، وفي توليد الالتزام السياسي لإعادة الهيكلة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وتوفير البنية التحتية، وتحقيق اللامركزية والديمقراطية حكومياً، وتعزيز القدرات المالية والإدارية. فتمكين المواطنين وتفعيل قدراتهم لا يمكن أن يتحققا من دون بيئة مؤسساتية ملائمة، بحيث تعمل المؤسسات القانونية والقضائية والهيئات المشرفة على عمليات الانتخاب، والبرلمان والحكومة باستقلالية وحرية ونزاهة، وتكون خاضعة للمحاسبة، كما يتطلب وجود نظام تشريعي وقضائي فاعل يؤمن احترام سلطة القانون ويحمي حقوق الإنسان، ولا يفيد في ذلك تثبيت الأمر في الدستور كما موجود في المرحلة الراهنة بل العمل على تنفيذها.
أما ما تعلق بدور القطاع الخاص، فالتنمية المستدامة تعي أهمية قدرة القطاع الخاص على النجاح لتوفير المزيد من فرص العمل، كما تدرك أهمية السوق والقطاع الخاص في التنمية، غير أنها تدعو الحكومات إلى تطوير الهياكل المؤسساتية المنظمة للاقتصاد بشكل لا يسيء إلى غير القادرين. كما أن البيئة الملائمة للتنمية تتطلب وجود منظمات مجتمع مدني تسهل التفاعل السياسي والاجتماعي، وتساهم في تعبئة ومشاركة مختلف مجموعات المجتمع ومشاركتها في النشاطات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فهذه المنظمات تشكل عنصر رقابة مهماً على سلطتي الحكومة والقطاع الخاص، وفي الوقت عينه بإمكانها دعمهما وتقويتهما، وتؤمن في كثير من الأحيان وجود آليات فاعلة لتوزيع المساعدات والإعانات على مستحقيها، وتوفر صوتاً مسموعاً للفئات الفقيرة لدى القيادات السياسية والحكومة.
ويصعب الرجوع بكلمات إلى أصل المشكلة العراقية، فهي مترامية، ومعقدة، فلقد أخضع العراق، منذ الاحتلال، لضغط شديد من قبل الولايات المتحدة من أجل إحداث تغييرات في الأنظمة السياسية (اعتماد الديمقراطية) والاقتصادية (التوجه نحو اقتصاد السوق، وتشجيع الاستثمار الأجنبي) والاجتماعية (إصلاح نظم التعليم) في المنطقة عامة. وإن كانت قد نجحت في تغيير النظام السياسي إلا أنها فشلت في إدارة الدولة، فالديمقراطية بمعايير الانتخابات قد شوهت، والتنشئة اتجهت نحو الأصولية والتكفير، والاقتصاد يعاني من أكبر عمليات الاختلاس والفساد. ورغم الإيجابيات المتوخاة من تنفيذ هذه الإصلاحات والتغييرات إلا أنه تبقى هناك شكوك وتحديات تتعلق بالتنمية البشرية، خاصة ما يتعلق منها بمستوى الفقر، وانخفاض المؤشرات الصحية، وانخفاض توقع الحياة، وتلوث المياه. ولا يتوقع من التغييرات السياسية إحداث الكثير في مجال معالجة هذه المشكلات، فلا تزال التحديات كبيرة في ما يتعلق بزيادة حصة الفقراء من الفرص والمجالات الاقتصادية والاجتماعية التي يمكن أن تحسن أوضاعهم. فالفقر ينتشر بنسب عالية (60 في المائة من عدد السكان). علاوة على ارتفاع معدلات المواطنين الذين يعيشون دون تغذية كافية، وكذلك الأمية، ناهيك عن البطالة، وغياب الأفق السياسي للأمل بالمستقبل.. فأوضاع العراق الحالية تعاني من التناقضات والغياب في التوازن والغموض، فمن الانهيارات التي يعانيها المجتمع، تفسخ العائلات والروابط الأهلية المجتمعية، ارتفاع نسب الجرائم، الإدمان، البطالة، وتفاوت المداخيل. ورغم حدوث إنجازات في حقول الاتصالات والطب والكمبيوتر إلا أن لها تأثيرات في الأنظمة الاجتماعية على نحو تثير القلق إزاءها.
ويكمن التحدي الحالي في تنظيم أجهزة إدارة باستطاعتها التكيف مع المستقبل وفرض وقعها عليه، وسوف يتأثر المستقبل بالعناصر الآتية:
1-التوترات الداخلية. إذ يشهد العراق مزيداً من التطرف الديني والأيديولوجي، فضلاً عن انحطاط البيئة، فالعراقيون وهم يتطلعون إلى التنمية سيواجهون خطر ضياع عائد التنمية للموارد والثروات المستنزفة من دون عائد، وخطر تقديم أرض فقيرة في ثرواتها، علاوة على التلوث الذي أخذ يستشري في الأجواء والمياه؛ ومعظمه بسبب حربي الخليج 1991 و 2003، اللتين استخدم فيهما أسلحة تحوي عنصر اليورانيوم المنضب.
2-العامل الخارجي، وأبرز تداعياته فرض نظام اقتصاد السوق وتجاوز كل المهارات والتقنيات في النظم الأخرى. والسعي نحو جذب العلماء والتقنيين العراقيين أو تهجيرهم. فضلاً عن التجارة العالمية، والتحول نحو الاستثمار في المناطق الاقتصادية، والزيادة في تقلب العوامل المؤثرة في الإنتاج، والاندماج الاقتصادي بين الشركات الكبرى، والميل نحو الإنتاجية المعتمدة على التكنولوجيا والمعرفة العالية، وكلها لها انعكاسات سلبية على العراق.
ثانياً: تحديات للمستقبل.. إنشاء قدرة على إدارة الدولة والمجتمع في العراق
عملياً، أكثرية المجموعات والمنظمات والمؤسسات في المجتمع تؤثر وتتأثر بعناصر عمل الإدارة، غير أن ثلاثة من ميادين الإدارة، السابق ذكرها، لها وقع قوي على تحقيق التنمية المستدامة.
1-دور الدولة
كان إحدى أبرز إشكاليات الدولة العراقية في المرحلة السابقة على عام 2003 هو توجيهها لكامل المرافق. هذا الأمر اتجه نحو التغير إلا أنه يتوقع خلال الأعوام القليلة المقبلة أن تؤدي الحكومة أدواراً رئيسية في توجيه الاقتصاد، ومن الضروري أن تمارس أدواراً مماثلة في إنشاء بيئات مؤسساتية قادرة على استيعاب التنمية المستدامة. ومن أهم المهام المتوقعة للدولة في المراحل المقبلة:
أ- إنشاء البيئة الاقتصادية الملائمة المؤدية إلى التنمية المستدامة، فعلى الحكومة تبديل الاقتصاديات التي تسيطر عليها الدولة وتحويلها إلى أنظمة تتبع سياسة السوق، فهذا من شأنه أن يحرر القطاع الخاص، ويتيح له توليد المزيد من فرص العمل، ويسمح بزيادة مداخيل العمال، وهذا يتطلب وجود ائتلافات حاكمة قوية وقادة سياسيين عاقدي العزم على إطلاق الوجهة الجديدة لعملية التنمية، تشمل الضبط السياسي والحوافز الاقتصادية في الوقت عينهب-حماية الضعفاء والمعرضين للاستغلال، هناك حاجة لأن تقوم الحكومة بحماية سكانها الضعفاء والمعرضين للاستغلال، لكي يستطيعوا المشاركة في النشاطات الاجتماعية والاقتصادية على الأقل. ويتوقع كناتج عرضي أن تؤدي سياسات التعديل الهيكلي والتحول إلى سياسة السوق للتأثير سلباً في المجموعات الفقيرة وتفاقم البطالة بين فئات العمال التي لا تملك المهارات وتنقصها المعرفة، والتي عملت لفترة طويلة في مؤسسات الدولة في العهود السابقة أو انضمت لسوق العمل. ومن السياسات الفاعلة في حماية فئات المجتمع المعرضة للضيق الاقتصادي ما يلي:
-تأمين بقاء أنظمة معاشات التقاعد وخصوصاً عندما تكون هذه الموارد هي الوحيدة الباقية للحصول على المال بعد التقدم في السن وعدم القدرة على العمل.
-إنشاء نظام تأمين صحي واجتماعي خاص ليحل محل الأنظمة التي توفرها شركات القطاع العام لموظفيها الذين يخسرون مداخيلهم في المدى القصير.
-الإبقاء على برامج المساعدة الاجتماعية للمعاقين والفقراء الذين عانوا كثيراً من الإصلاحات والتخصيص.
مقابل ذلك هناك حاجة إلى تدخل الحكومة بحذر وحكمة لتجنب حدوث فوارق غير مقبولة في المداخيل جراء اعتماد نظام اقتصاد السوق، فهذا الأمر قد يسيء إلى خطط النمو الاقتصادي وفرص نجاحه.
وكذلك تشكل المساواة بين الجنسين مبدأ بارزاً في مفهوم التنمية المستدامة، ولا يمكن تحقيقها من دون التزام سياسي قوي وتطوير للمعايير الاجتماعية والقيم، في المدى البعيد. حيث إن النظرة التقليدية في العراق إلى أدوار الرجل والمرأة يجب أن تتبدل وأن تحل محلها نظرة أخرى تقبل بأن للجميع الحقوق والفرص المتساوية على اختلاف أجناسهم. وهنا لا يمكن ترك المسألة لسياسة السوق وحدها بل هناك حاجة لتدخل حكومي وسياسة عمل على الصعيد الوطني، ويتم ذلك عبر التركيز على ثلاث خطوات في مجال سياسة العمل، هي:
* وضع جدول زمني لإنهاء التمييز القانوني التشريعي ضد المرأة وإنشاء هيكل لتطوير العمل وتعزيزه في مجال المساواة القانونية، وفي المعاشات للعمل نفسه، عدم الاكتراث القانوني بالعنف ضد المرأة، تشجيع الحملات لتوعية الإناث إزاء حقوقهن القانونية ومساعدة النساء الفقيرات.
* تحديد الأهداف المرجوة بالنسبة إلى مشاركة المرأة سياسياًَ ووظيفياً، كأن تكون 30 في المائة كحد أدنى.
* إنشاء برامج لزيادة الفرص للنساء في مجال التعليم، والحقوق الصحية في مجال الإنجاب، والقدرة على الحصول على القروض.
ج-تحسين مستوى فاعلية عمل الحكومة وتلبيتها للحاجات، وهنا على الدولة امتلاك جهاز إداري نزيه وفعال ومستجيب لمتطلبات المواطنين. بمعنى أن متطلبات التنمية البشرية المستدامة هي توافر إدارة عامة وجهاز لموظفي القطاع العام باستطاعتهما جذب الأفراد الذين يتمتعون بالكفاءة ويملكون المؤهلات ويتسمون بالنزاهة. وسيثق الشعب أكثر بحكومته عندما يشعر بأن نظام الخدمة المدنية يعتمد على كفاءة الموظف خلال عملية اختياره وترقيته؛ من دون تدخل سياسي في أعماله.
د-تمكين الناس، ونشر الديمقراطية، وهذا لا يمكن تطبيقه من دون بيئة مؤسساتية تضم مجلس نواب وأنظمة تشريع وقضاء وانتخابات تعمل بطريقة صحيحة. فالبرلمانات المنتخبة بحرية، عبر تنافس حزبي أساسي لتحقيق المشاركة وتطبيق مبدأ محاسبة الشعب لحكامه. وعلى الحكومة كذلك تشجيع التنوع الثقافي والحضاري والاندماج الاجتماعي. والمسألة وإن كانت صعبة إلا أنها أساسية. وعلى الحكومة تأمين توافر خدمات النظام السياسي لجميع المواطنين، وعلى النظامين القضائي والتشريعي حماية جميع المواطنين من دون تمييز.
هـ-تحقيق اللامركزية في النظام الإداري، تنشأ المشكلات في العراق جراء الحصر المكثف للقرارات المتعلقة بالخدمات العامة بالحكومة المركزية، لذلك قلما تتم مراعاة حاجات المواطنين ومتطلباتهم. واليوم على الدولة دراسة مسألة اللامركزية في الإدارة (وإن كانت مسألة الفيدرالية قد اتفق عليها) بهدف القيام بالمهمات بشكل أكثر فاعلية للتكيف مع التعديلات الاقتصادية وبرامج التنمية البشرية. واليوم أيضاً تواجه الدولة تحديات في القرارات المتعلقة بتوزيع المسؤوليات ما بين الحكومة المركزية والإدارات المحلية والقطاع الخاص.
2- دور المجتمع المدني
أهم المنظمات القابلة للإنشاء والدعم هي منظمات أصحاب العمل، جمعيات الصناعيين، الجمعيات والهيئات التجارية، النقابات العمالية، المجموعات الاستشارية والتخطيطية، الصحافة، الهيئات النسائية، الجماعات الدينية والاجتماعية. وكلما يتطور المجتمع سيكون المواطن بحاجة إلى دعم مجموعات وجمعيات خيرية واجتماعية وترفيهية، وثقافية، والمجتمع المدني هو منبع لمنظمات تجمع الناس سوياً في سبيل هدف عام وتعطيهم الآليات لتحسين مستوى الحياة. وبذلك تستطيع هذه المنظمات تقديم مساهمة للتنمية المستدامة.
إن مؤسسات المجتمع المدني تلعب دوراً رئيسياً في توفير خدمات يعجز السوق عن توفيرها، وعندما تعمل هذه المنظمات بتعاون وتعاضد فيما بينها ومع الحكومة والقطاع الخاص يتعاظم دورها وتأثيره في التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وبإمكانها توليد الأجواء الملائمة لنشوء نظام سوق متطور والمساعدة على تدريب القوى العاملة لتأهيلها للعمل في اقتصاد متطور والمساهمة في حماية المتأثرين سلباً من التطورات.
إن جمعيات التجار والصناعيين وغيرهم تجذب الصناعة والتجارة الدولية، وستساهم في انفتاح الاقتصاد على العالم، علاوة على مشاريع إعادة الإعمار. ولمكافحة الفقر على منظمات المجتمع المدني العمل بتعاون وثيق مع الحكومة والقطاع الخاص، خصوصاً في مساعدة الفقراء على المشاركة الأكثر فاعلية في المجتمع والنشاط الاقتصادي. ويجب أن تسمح الحكومة لتلك المنظمات بالعمل الفاعل. والأمر يتطلب الآتي:
* هيكل تشريعي وتنظيمي يؤمن حق إنشاء مثل هذه الجمعيات وعملها بنشاط.
* إنشاء آليات تسمح لمنظمات المجتمع المدني المشاركة في اتخاذ القرارات وتنفيذها.
* تأمين الدعم المالي من الدولة وأصحاب الرساميل، وخصوصاً في مراحل انطلاق هذه المنظمات المكلفة.
3- دور القطاع الخاص
لا يزال الجزء الأكبر من العمالة العاملة يعمل في شركات متوسطة الحجم وصغيرة تندرج ضمنها المحال التجارية المتنوعة. فهما تولدان الفرص الجديدة، عندما تعجز الحكومة عن إنشاء وظائف جديدة خاصة لقليلي التعلم. وتبقى هناك إشكاليات عديدة أمام هذه الشركات في تنفيذ أو توسيع أعمالها، لعل أبرزها عدم توافر القروض أو غلاء تكلفتها، كما تفتقد التكنولوجيا والمعلومات التي تساعد على تحسين عملها وإنتاجها وتسويق بضائعها مما يصعب عملية التنافس أمامها، لذلك على الحكومة أن تحسن برامجها لتنمية الشركات الصغيرة والمتوسطة.
إن من القضايا التي تتطلب اهتماماً عراقياً في مسألة إدارة الدولة والمجتمع قضية العثور على سبل فاعلة للتعامل مع التحديات التي تواجهها الدولة لدى اعتمادها التنمية المستدامة كخيار، من خلال تقليص الفقر أو تحقيق الإدارة الأفضل للموارد المالية والطبيعية، أو لدى إنشاء تنظيمات مؤسساتية من أجل التنمية في القطاعات الثلاثة. فالدولة لا تزال تعاني ضعفاً في القدرة على الحكم والمحافظة على القانون والأمن، بل وحتى غياب مفهوم الحيادية والمهنية في أجهزتها المختلفة، ونتيجة ذلك تنشأ صراعات حادة بين فئات المجتمع الطائفية والعرقية. مما يقوض قدرتها، وفي كثير من الأحيان تعاني جموع المواطنين من عدم القدرة على التأثير في السياسات العامة أو في تنفيذها.
ورغم ما تحقق في مجال تطبيق الديمقراطية من تعددية سياسية غير منضبطة، إلا أن التحدي يتمثل في المحافظة على ما تحقق وتسريع الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية. والتحدي الأبرز هو إدارة عملية الانتقال من شكل النظام الحالي إلى الديمقراطية، كما يعاني العراق من وجود فجوة بين الإصلاحات الرسمية في النظام القانوني وقدرة الحكومة على تطبيق القوانين الجديدة بفاعلية، وعدم مقدرة الحكومة على تطبيق القوانين أتاح للفساد السياسي والمالي مناعة ومقدرة على الإفلات من العقوبة، ويتفاقم الأمر اذا لم يستطع المجتمع المدني ممارسة المراقبة على الدولة.
وتفتقد الدولة إلى الالتزام الكامل إزاء العمليات الديمقراطية السياسية، الأمر الذي يدعونا للقول إنها بحاجة إلى استراتيجيات تطبق بفاعلية، دون أن ننسى أن استمرار النزاعات السياسية أبطأ تطور الإدارة السلمية فيها.
وخلاصة القول إن على العراق اتخاذ الخطوات اللازمة لدفع عملية المشاركة في الإدارة، وذلك يبدأ من خلال التربية المدنية وزرع القيم الجديدة ويتطور عبر إعادة تنظيم مؤسسات الدولة (التنفيذية والقضائية والتشريعية)، وتحقيق اللامركزية في السلطة وإدارة الموارد عموماً. وعلى الدولة امتلاك الآليات التي تحد من السلطة الاعتباطية التي قد تمارسها الحكومة أو القطاع الخاص، كما عليها البحث عن سبل فعالة لتأمين حماية حقوق الإنسان ومنع سوء استعمال السلطة. والمطلوب أيضاً دعم أنظمة إدارة اجتماعية تدمج المجموعات المهمشة في المجتمع وتدخلها في حوارات على الصعيد الوطني، وهذا يتطلب إيجاد هوية وطنية وتعميق المشاركة الشعبية.
وستبقى الدولة هي التي تقوم بدور مهم في تحقيق التنمية المستدامة، وللقيام بذلك بفاعلية يتوجب تأمين الاستقرار والأمن والوحدة الداخلية. وعليها في الوقت عينه تطوير نظام للإدارة فيها بشكل يناسب أوضاعها، فالتغيير الذي فرض من الخارج أو الذي تفرضه السلطة المركزية بمفردها لا يكون فاعلاً في نهاية الأمر. وينبغي أن تقترن الإصلاحات بالمشاركة، وتأخذ في الاعتبار الخصوصيات الحضارية، ومنها:
أ.المساواة بين العراقيين: من أجل تحقيق نظام مستند إلى تنمية مستدامة، يتوجب الحال تأمين المساواة بين أبناء المجتمع، ومشاركتهم في صنع القرارات على المستوى الوطني. ورغم الإشارة إلى وجود نسبة مئوية لمشاركة النساء في البرلمانات (يشير الدستور العراقي الجديد إلى نسبة الـ 25 في المائة من أعضاء البرلمان كنسبة حد أدنى مقرة للنساء)، فالإطار العام أن هناك عدم اعتراف بقدرة المرأة على القيادة السياسية، بل والرغبة في ممارسة الإقصاء السياسي-الاجتماعي بين العراقيين بشكل عام.
ب.تقليص الفقر: لقد تقلص الدخل الفعلي لمعظم العراقيين بنسب كبيرة، واتسعت الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وفقد قسم مهم منهم مدخراته نتيجة الترحيل والهجرة أو استيلاء الميليشيات أو سرقتها الممتلكات، ويتطلب تقليص الفقر ثلاثة عناصر أساسية:
* تمكين المواطنين، عن طريق التعليم والتدريب لكي تتحسن فرص عملهم. فالفقر وعدم المساواة يؤديان إلى ضعف إدارة الحكومة بسبب عدم مشاركة الفئات المهمشة في النظام، وفي بعض الأحيان يصعب على الفقراء نيل حقوقهم من خلال النظام القانوني، والتمكين هنا يؤدي إلى الاستقرار.
* وضع مسألة تقليص الفقر في أولويات الحكومة، عن طريق توليد بيئة يمكن من خلالها مكافحة عدم المساواة.
* السعي إلى توليد فرص العمل بالتعاون مع القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني.
ج- إدارة الثروات المالية والطبيعية: في سبيل القضاء على الفقر على الحكومة جمع الموارد المالية، بالإضافة إلى النجاح في استثمار الموارد الطبيعية، ثم تخصيصها وتوزيعها على القطاعات والجهات المختلفة. ومع اتجاه العراق نحو الاندماج بالاقتصاد العالمي، واعتماد سياسات التعديل الهيكلي عبر التركيز على سياسات العرض والتزويد، يلاحظ أنه لا يمكن زيادة الموارد العامة وتأمين الخدمات الاجتماعية، من دون مشاركة المواطنين، وهذا أمر يفتقد إلى الإدارة القادرة على تعبئة الموارد وتوزيعها بفاعلية في سبيل التنمية البشرية.
وهناك حاجة لاعتماد اللامركزية في إدارة الموارد وضبطها؛ وهذا ما يسهله نظام الأقاليم المنصوص عليه في الدستور. وهو أحد الأسباب التي ستدعم الثقة والشفافية والمحاسبة والقدرة في الوقت عينه، لأن قدرة الحكومة المركزية على تأمين الموارد وتعبئتها لا تفيد الجميع في المجتمع بل قد تؤدي إلى مزيد من التفاوت في الدخل.
وفي العموم هناك حاجة لتعزيز المدنية وبث المعلومات وترسيخ الاتصالات، والمساعدة على بث القدرات الإنسانية وتطويرها، والمساعدة أيضاً على تعزيز ثقة الشعب بدولته. وكل ذلك يحتاج بالطبع إلى قيادات سياسية واعية ووطنية وأحزاب توسع من عملية المشاركة في اتخاذ القرار، وكذلك تثبيت حكم القانون وشرعيته، ولذلك من الضروري توافر آليات خارج الحكومة الرسمية لحماية وتطبيق القوانين، وإنشاء مؤسسات تؤمن المشاركة وتحميها، فهل ينجح العراق في ذلك؟

مجلة آراء حول الخليج