; logged out
الرئيسية / العلاقات الدولية لمنطقة الشرق الأوسط

العلاقات الدولية لمنطقة الشرق الأوسط

الأحد، 01 أيار 2005

على الرغم من أن هناك شبه إجماع على أن المشهد السياسي وتفاعلاته في منطقة الشرق الأوسط يبقى عصياً على الدراسة ومثبطاً لمحاولات التعميم والتفسير فإن ذلك لم يثن عزيمة مؤلفي هذا الكتاب عن السعي إلى ترسم الخطى في سبر أغوار وخبايا منطقة الشرق الأوسط في محاولة لفهم مختلـِـف أوجه التجاذب والتفاعل بين أبرز الفاعلين السياسيين في المنطقة.

ويهدف هذا الكتاب إلى توفير دليل شامل وسهل الاستيعاب للقارئ بقصد تيسير عملية فهم العلاقات الدولية في منطقة الشرق الأوسط خلال القرن المنصرم. ومما لا شك فيه أن قلة قليلة من بلدان العالم ظلت أسيرة التجاذب بين مطرقة الصراعات وسندان الحروب. ومن المؤكد أيضاً أن القليل من مناطق العالم حظيت بالقدر نفسه من اهتمام الكتّاب، وبقيت مقيدة داخل دائرة السجالات، كما هو الحال بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه، ظلت المنطقة محط مغالطات وأفكار نمطية ومُقولبة لفترة طويلة من الزمن.

ومن المهم الإشارة إلى أن القراءتين، قراءة العلاقات الدولية من جانب أول، وقراءة السياسات تُجاه المنطقة من جانب آخر، تتسمان كلتاهما بطابع الاعتمادية المتبادلة، كما يؤكد ذلك الاطلاع ولو بشكل خاطف على أبرز الكتابات بهذا الخصوص. ولا يمكن بأي حال من الأحوال لأي كتاب يتناول منطقة الشرق الأوسط أن يغفل أثر القوى الخارجية في تحديد مسار سياسات واقتصادات المنطقة ولا التطورات الاجتماعية التي تشهدها، بل لا يمكن تجاهل مساهمات المنطقة في تشكيل معالم البيئة العالمية.

ولعل أكثر الخصائص المثيرة للاستغراب ضمن أدبيات العلاقات الدولية أنه وعلى الرغم من إحراز تقدم ملموس خلال السنوات الأخيرة فإنه تم حتى الآن إعداد أعمال محدودة تهدف إلى تقريب المسافة الفاصلة بين هاتين المقاربتين، أي المقاربة القائمة على دراسة العلاقات الدولية والقراءة المستندة إلى دراسة السياسات الشرق أوسطية. ومع أن العديد من المناطق الأخرى من العالم استأثرت باهتمام كبير من الكـتّـاب، إلا أن العلاقة بين دراسات الشرق الأوسط وحقل دراسة العلاقات الدولية لا تزال تعاني حالة من الارتباك والضبابية.

ويسعى هذا الكتاب إلى ملء هذا الفراغ والنأي بعيداً عن اجترار الأطروحات التقليدية التي تُركز في العادة على طابع الاستثنائية الذي يلتصق في معظم الأحيان بمنطقة الشرق الأوسط، ومحاولة الاستعاضة عن ذلك بصياغة مقاربة متكاملة تتعايش في إطارها مجموعة من الأفكار والمفاهيم الرئيسية التي تحكم حقل دراسات العلاقات الدولية جنباً إلى جنب مع عدد من المحاور الأساسية التي تؤطر حقل الدراسات الشرق أوسطية، ومن ثم العروج على مناقشتها بشكل منهجي ودقيق.

وعلى الرغم من أن عنوان هذا الكتاب قد يبدو للوهلة الأولى بديهياً ولا يطرح أي إشكاليات معينة، وعلى الرغم أيضاً من أنه ليس أول، ولن يكون بكل تأكيد آخر، كتاب يحمل هذا العنوان، فإننا نعتقد أنه من الضروري تقديم بعض الشرح لدلالاته ومغازيه. وفي هذا الإطار، يجدر التذكير بأن مصطح (الشرق الأوسط) دخل حيز الاستخدام منذ الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من بروز مواقف متباينة حول امتدادات استخداماته وحول ما إذا كان من الصواب تقليص مداه المفاهيمي من أجل استبعاد الدول العربية الواقعة جغرافياً في القارة الإفريقية غرب مصر، أو العمل بدلاً من ذلك على توسيع نطاقه المفاهيمي ليضم (بالإضافة إلى دول أخرى) الجمهوريات الإسلامية الواقعة في قلب آسيا الوسطى، يبدو أن الخيار في أغلب الأحيان يميل إلى تبني تعريف توفيقي، حيث إن منطقة الشرق الأوسط في الوقت الراهن تُعرَّف بأنها الرقعة الجغرافية التي تشمل الدول العربية غرب آسيا وشمال إفريقيا ـ أو بعبارة أخرى الدول المنضمة تحت راية جامعة الدول العربية ـ إضافة إلى كل من إيران وتركيا وإسرائيل. وهذه بالضبط هي المنطقة التي سيتم التعامل معها في متن هذا الكتاب باعتبارها تمثل منطقة الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن تحديد منطقة الشرق الأوسط على هذا النحو ليس مقنعاً إلى حد كبير ولا يتمتع بوضوح امتداداته القارية ولا شفافية امتداداته الجغرافية، فإنه ينطوي على جملة من الخصائص (المنظَّمة) تدعمها مجموعة من الخصائص التي تُوحـِّـد كيانه الواسع.

أما بالنسبة لمصطلح (العلاقات الدولية) فهو مصطلح يستمر في التطور ولا يزال يفتقر إلى الدقة، كما يتم توظيفه لتوصيف حقل من حقول العلوم الاجتماعية، وهو بدوره حقل يفتقر إلى عنصر الدقة. وفي حين كانت أبحاث ودراسات العلاقات الدولية في الماضي منحصرة في دراسة وتحليل العلاقات بين الدول، انتقلت في الآونة الأخيرة إلى دائرة البحث في الكيانات التي ليست بالضرورة كيانات دول. فحقل دراسات العلاقات الدولية اليوم يمتد إلى خارج حدود مفهوم الدولة وعلاقاتها بالدول الأخرى، والغاية من ذلك هي دراسة طيف واسع من علاقات التفاعل بين الشعوب والمجتمعات أو (شبكة السياسات العابرة للأوطان)، كما عبر عن ذلك فرانكل في كتابه الصادر في عام 1988.

فالجزء الأعظم من هذا الكتاب معني بطبيعة الحال ليس بآليات ومؤسسات العلاقات الرسمية بين الدول فحسب، بل هو معني أيضاً بالتفاعلات التي لا ترقى إلى المستوى الرسمي ولا تلامس أنماط السلوك التي تتبلور ضمن مستويات ما فوق وما تحت مؤسسات الدولة. وهذه المستويات تبدو ذات صلة وثيقة وخاصة بمنطقة الشرق الأوسط. وبالنسبة لمجتمع الباحثين والمؤرخين، على وجه الخصوص، ظلت الدراسات المرتبطة بالكيانات غير كيان الدولة، تمثل الحالة المألوفة والعادية، أو بعبارة أخرى، ظلت تمثل الموقف الغائب الحاضر.

ومن أجل إيضاح ذلك، أشير إلى أنه خلال فترة طويلة من القرن العشرين، اعتبر كثيرون مفهومي العروبة والإسلام من المكونات المهمة لمنظومة العلاقات الدولية في منطقة الشرق الأوسط. كما أن الـهُـويـتـيـن القبلية والدينية استبقتا وتعالتا فوق حدود الدولة في إطار تشكيل السلوكيات الإقليمية. وبحلول القرن الحادي والعشرين، وعلى الرغم من أن بعض الدول بدت أفضل وأقوى حالاً من ذي قبل، فإن تلك المكونات ظلت مستحوذة على صدارة تشكيل الـهُـويـة. ومثلت تجليات ظاهرة الإرهاب إحدى القوى العابرة للأوطان، والتي نجحت في لفت الأنظار، كما تجسدت بشكل ملحوظ في شبكات الجماعات الإسلامية المتطرفة العابرة لحدود الدول. وهذه الجماعات وما تقوم به من أعمال تمثل تحدياً كبيراً ومصدراً لتقويض المشروعية الهشة للعديد من الأنظمة في المنطقة، وبالتالي فإنها قادرة على فتح الباب أمام التدخلات الأجنبية، فتوجيه الاتهام للنظام الحاكم في كل من أفغانستان ثم العراق على أنهما يدعمان شبكات الإرهاب ساهم في حدوث حملات تدخل في هاتين الدولتين بقيادة الولايات المتحدة خلال عامي 2001 و2003 على التوالي.

ومن ناحية أخرى، تكرست بعض تيارات التجانس الإقليمي في أشكال متنوعة تجد لها تجسيداً ضمن العنوان الفرعي للكتاب (الصراع والتعاون)، وهو ما يستدعي قدراً من الإيضاح. ففي حين لا يطرح مصطلح (الصراع) أي إشكالية تـُـذْكـَـر، ربما يجد البعض استخدام مصطلح (التعاون) مثيراً للاستغراب في هذا السياق. فحالة الصراع حالة غائبة قابلة للتبلور في إطار العلاقات الدولية، بينما يمثل التعاون نطاقاً يتم ولوجه بحذر حينما تتبلور ظروف وخصائص معينة. كما أن الرؤية السائدة إزاء منطقة الشرق الأوسط تنظر إلى المنطقة على أنها مسرح للصراعات والحروب، كما أنها تجسد في أعين البعض صورة لعالم تطغى عليه حالة الطبيعة على الصعيد الدولي، كما يصفه الفيلسوف توماس هوبز، أي عالم تسوده الفوضى والجشع والصراع من أجل الاستئثار بمصادر القوة، وذلك في ظل غياب السلطة المطلقة صاحبة الحق الشرعي في اللجوء إلى استخدام العنف كما تجسدها الدولة. والشرق الأوسط يبدو منطقة (غير مستكمَلة)، شأنها في ذلك شأن العديد من مناطق العالم النامي، بما يعني ذلك من وجود دول ضعيفة ومؤسسات إقليمية تتسم بالوهن، وحيث تطغى النـزاعات بسبب الخلافات الحدودية والحروب بين الدول. ولا تبرز إلا في حالات نادرة تعكس أنواع التعاون، كما يحددها ويفسرها على نحو مقتضب الباحثون المتخصصون في حقل العلاقات الدولية، وتظهر مجموعة من الفاعلين العقلانيين وهم يسعون إلى تحقيق أقصى قدر من المنافع على المستوى الأمني ومستوى القوة. لكن، وعلى خلفية هذا المشهد الفوضوي، تبرز رؤية مناقضة وجذابة تعكس النظام، وهي صورة لطالما ظلت حاضرة في أذهان الباحثين الإقليميين. وهي صورة تعرض شعوباً متعايشة ضمن فضاء مترابط نسبياً تسود فيه قيم التسامح والتعددية على الصُـعُـد الثقافية واللغوية والدينية.

وحتى السنوات القليلة الماضية، استمر هذا التباين في الرؤية بوصفه اختلافاً بين من هم في الداخل ومن هم في الخارج. بمعنى أن أهل الداخل، أي الباحثين الإقليميين، المتابعين لتفاصيل سياسات دول الشرق الأوسط، اهتموا بالروابط التي تقرب شعوب المنطقة، حيث إن إحدى الميزات البارزة في العالم العربي، والتي تميزه عن باقي مناطق العالم، تتمثل في التعامل مع فشل أي دولة من الدول العربية وكأنه فشل لجميع الدول العربية. ومثل هذه الملاحظة لم تكن لتنطبق على أوروبا قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، كما أنها لا تنطبق بالمعنى نفسه على القارة الإفريقية ولا على المناطق الآسيوية. وبهذا المفهوم، يبدو أن توجهات القومية العربية اتسمت بفرادتها.

أما بالنسبة لأهل الخارج ـ مثل الباحثين المتخصصين في مجال دراسة العلاقات الدولية الذين عادة ما يهتمون ويلحظون الصورة في جزئياتها الكاملة ـ فالعامل الأكثر تأثيراً هو استمرار حالة الصراع. وحتى النـزاعات بين الدول التي يعتبرها البعض جزءاً من الماضي تطل برأسها بأشكال جلية وبديهية، سواء تعلق الأمر بالحرب بين العراق وإيران (1980 ـ 1988) أو الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982، ناهيك عن المواجهات المسلحة السابقة بين الدول العربية وإسرائيل، بالإضافة إلى حرب الخليج خلال عامي 1990 ـ 1991، أو الاحتلال الأجنبي بقيادة الولايات المتحدة للعراق في عام 2003.

وربما ليس بالأمر الغريب بالنسبة للباحثين المتخصصين في دراسة العلاقات الدولية، من أمثال ستيفن وولت أو جوزيف ناي، أن توفر منطقة الشرق الأوسط فرصاً لإجراء دراسات حول سلوك الدول في أجواء الفوضى الدولية، وهي عبارة تُستخدَم في العادة لتوصيف طبيعة النظام الدولي المنفلت من عقال الضوابط ومن قيود السيطرة.

ووجد الباحثون في الداخل والخارج أنفسهم ـ بمن فيهم عدد من المساهمين في هذا الكتاب ـ مضطرين إلى اعتمار (قبعتين)، كما عبر عن ذلك بفصاحة بالغة آڤـي شلايم، حيث يعمدون إلى استبدال القبعة الشرق أوسطية بقبعة العلاقات الدولية في سبيل تحقيق التناغم مع بيئات ومجتمعات مختلفة. وهذا الكتاب يمثل محاولة للجمع بين رؤيتين متباينـتين واستبدال القبعتين بقبعة واحدة.

وفي الحقيقة، فإن الرؤية الخارجية بدأت بالفعل في التغير. فهناك بعض المساهمات الرصينة للسجال الدائر، والتي تندرج ضمن حقل دراسة العلاقات الدولية وتُعنى بمتطلبات دراسة منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي تسهم في تحقيق (نهضة متواضعة) من خلال إدماج التنظير بالخبرة في مجالات معينة. والكتاب الذي بين أيدينا يكرس ويطور هذا التوجه من خلال إيضاح مبدأ أن العلاقات الدولية لمنطقة الشرق الأوسط تبقى مبهمة دون التوصل أولاً إلى فهم الأطر الداخلية والإقليمية التي تتحرك ضمنها الدول، وثانياً السعي إلى إيجاد حالة من التزاوج بين أنماط التعاون من جهة وحالات الصراع من جهة أخرى. فاستيعاب هذه العلاقات يوفر مجموعة من المؤشرات التي تتيح فرصة التوصل إلى فهم أوضح لأنماط الحرب والسلم، إضافة إلى فهم مسار بناء مؤسسة الدولة في المنطقة.

وينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء جاءت على النحو التالي:

1- جزء استهلالي يعرض لمحة تاريخية شاملة للقرن العشرين. فالتاريخ عادة ما يوفر نقطة حيوية تمهد السبيل لفهم السياسات الدولية لأي منطقة من مناطق العالم. وكما جاء على لسان أحد مؤرخي المراحل الأولى من القرن العشرين، فإن (التاريخ في مجمله هو تاريخ معاصر). علاوة على ذلك، فإن حرص المؤرخ على رصد التفاصيل الدقيقة وتحليلها يقدم لنا ما نحتاج إلى معرفته عن الحقبة الراهنة، وذلك من خلال إشراك مخيلتنا من خلال فتح حوار لا متناهٍ مع الماضي.

2- يتناول الجزء الأوسط من الكتاب جملة من المحاور الرئيسية المرتبطة بالعلاقات الدولية والاقتصاد السياسي، ويطبق تلك المحاور على منطقة الشرق الأوسط. وفي هذا المقام، يتم تمحيص مجموعة من القضايا مثل النفط والعولمة ودور الفكر والـهُـوية وعملية التحول الديمقراطي وإدارة العلاقات الإقليمية والخارجية وأنماط الحرب والسلم ـ وهي محاور ومفاهيم عامة تندرج ضمن إطار دراسة العلاقات الدولية وسياسات الاقتصاد الدولي ـ وذلك من خلال ربطها بتجارب المنطقة. ويدأب كتّاب مختلفون ضمن هذا الجزء من الكتاب على طرح قراءات متنوعة تقوم على أساس دراسة العلاقات الدولية، ويقيِّمون فوائدها النسبية في فهم المنطقة وتفاعلاتها مع باقي مناطق العالم.

3- يتناول الجزء الأخير من الكتاب مجموعة من دراسات الحالة المعينة مع أخذ الصراعات والأحداث التي تشهدها المنطقة ودور الأطراف الفاعلة من الخارج في تشكيل ملامح العلاقات الدولية في المنطقة في الاعتبار. ويتضمن هذا الجزء الصراع العربي ـ الإسرائيلي ومحاولات إيجاد حل له، وحروب الخليج المتلاحقة ودور سياسات الولايات المتحدة والقوى الأوروبية في تشكيل ملامح المنطقة.

وعلى الرغم من أن أجزاء الكتاب ليست شاملة وتبقى مرتبطة بعضها ببعض، فإن كل جزء من أجزاء الكتاب يطرح مجموعة من القراءات القائمة بذاتها، لكنها تبقى متداخلة فيما بينها. ولعل هدف الكتاب من وراء تقديم خيارات متعددة هو الوصول إلى أوسع قاعدة من القراء المتخصصين في دراسات منطقة الشرق الأوسط والعلاقات الدولية والاقتصاد السياسي الدولي. كما أن فصول الكتاب المختلفة تم تصميمها بحيث يمكن الاطلاع عليها بشكل منفصل لكل من يود التركيز على حقبة تاريخية معينة أو حدث محدد، لكن بمقدور القارئ الاطلاع على الفصول بكاملها، وبالتالي فالكتاب يتيح فرصة لاكتساب رؤية ثاقبة ومتكاملة حول أي تساؤل من التساؤلات المرتبطة بمنطقة الشرق الأوسط.

وفي سياق هذا الكتاب، وعوض اتباع الميول الفكرية الرائجة حالياً، نعتقد أنه من المستحسن تبني الثقل والأهمية اللذين تتسم بهما الموضوعات والقضايا بدلاً من تبني التسلسل الزمني كدليل للكتاب. وإذا ما تأملنا في مشهد العلاقات الدولية المعاصرة لمنطقة الشرق الأوسط، فإننا نجد أن قضايا الحرب والسلم وقضايا العلاقات مع القوى الخارجية وعمليات التحرر السياسي والاقتصادي وسياسات الـهُـويـة وتشكيل التحالفات، جميعها قضايا تبرز بشكل جلي. يتناول هذا الكتاب مثل هذه التساؤلات مع الأخذ في الاعتبار أن طبيعة التساؤلات ذاتها قد تطرأ عليها تغيرات أو أنها فعلاً في طور التغيير.

الجزء الأول: لمحة تاريخية شاملة

في الفصل الأول من الجزء الأول، يستهل الكاتب أوجين روغان بتناول أصول نشأة نظام الدولة في منطقة الشرق الأوسط أو دخول تلك الدول في النظام العالمي بمفهومه الأوسع. ويعرض هذا الفصل خلفية أساسية عن نشوء منطقة الشرق الأوسط الحديث ضمن إطار النظام الدولي كما عرفه القرن العشرون. ومن خلال تحليلاته، يبدو روغان متأثراً بأفكار )المدرسة الانجليزية( للعلاقات الدولية، والتي تستلهم أيديولوجيتها من أفكار هيدلي بول وعدد من المفكرين الآخرين الذين يعتبرون أن العلاقات الدولية يمكن فهمها بشكل أفضل بالاستناد إلى مفهوم (المجتمع الدولي) الذي لا يزال يعاني من الفوضى بالمعنى الذي أشرنا إليه آنفاً، لكنه نظام قادر على بناء منظومة من القيم والممارسات والمعايير المشتركة. وشهدت مرحلة نشأة منطقة الشرق الأوسط دخول بعض الدول ومشاركتها في المجتمع الدولي، إلاّ أننا نلحظ في خلفية هذه المعطيات التاريخية عناصر من المقاومة والتمرد، حيث إن نظام الدولة فشل في تلبية احتياجات الشعوب المختلفة، وأمسى رديفاً لممارسات القمع وانعدام المساواة بما تحمله تلك الممارسات من عواقب لا يزال صداها يتردد إلى يومنا هذا، ليس فقط في أرجاء منطقة الشرق الأوسط، بل أيضاً في مناطق مختلفة من العالم النامي.

أما الفصل الثاني من الكتاب فيرصد الأحداث التي تبلورت في المنطقة خلال فترة الحرب الباردة. وفي هذا السياق، لم يتوصل الباحثون المتخصصون في العلاقات الدولية والباحثون المتخصصون في الدراسات الشرق أوسطية على حد سواء إلى اتفاق يحدد بدقة العوامل التي وجهت التطورات الإقليمية. فضمن عمليات التأريخ لحقبة الحرب الباردة، تربط القراءات التأويلية التقليدية جذور الحرب الباردة بعوامل خارجية، وبالتالي تظل متصلة بالنسق الواقعي السائد أو النسق القائم على مركزية مفهوم الدولة، كما يتم التعامل معهما ضمن حقل دراسات العلاقات الدولية. فالسياسات الأمريكية يُنظر إليها باعتبارها ردة فعل إزاء التهديدات السوفييتية ـ والعكس صحيح ـ وتتم صياغة تلك السياسات تماشياً مع هذا المعطى من حيث ميزان القوة وطبيعة سياسة الاحتواء. كما أن القراءات التصحيحية التي برزت في السنوات الأخيرة تميل إلى إيلاء أهمية أكبر لدور العوامل والفاعلين في الداخل أو على مستوى الإقليم في تشكيل الأحداث والتأثير في مسارها. وبحسب رأي الكاتب بيتر سلوغليت، فإن قدرة الإقناع التي تتمتع بها المدرسة الواقعية تنطوي على قدرة تفسيرية كبيرة. وعلى الرغم من اهتمامه بالإطار الإقليمي، فإن سلوغليت يميل إلى الأطروحة القائلة إن سياسات القوة والتأثير، كما كانت مدمجة وقتذاك في بنية النظام ثنائي القطبية، تحدد إلى حد كبير سلوك الأطراف المعنية. وبهذا المعنى، كانت منطقة الشرق الأوسط خلال فترة الحرب الباردة قابلة للتأثر بفعل ضغوط وقوة تأثير القوى العظمى. ويدلل سلوغليت على طرحه من خلال دراسة حالة العراق وكيف أن عقليات وأسلوب تفكير الساسة والمفكرين في ذلك الوقت كانت تُحددها السياسات والأيديولوجيات المقابلة لكل من الاتحاد السوفييتي سابقاً والولايات المتحدة، الأمر الذي أفرز تداعيات مستديمة على صعيد المنطقة.

ويتناول الفصل الثالث والأخير من هذا الجزء مرحلة ما بعد الحرب الباردة. وكما هو الحال بالنسبة للفصلين السابقين، تم رصد أهم وأبرز الأحداث والمستجدات مع محاولة العزوف عن السرد التاريخي والتحليل والاستعاضة عنهما باستعراض مقدمة لجملة من الملفات والمحاور التي تهيمن على حقل العلاقات الدولية المعاصرة لمنطقة الشرق الأوسط. ويمكن القول إن هذا الفصل يؤسس جسراً فعلياً أو رابطاً يصل بين الأجزاء الثلاثة للكتاب. وكما جاء على لسان الدكتور بهجت قـُـرنـي فهو يساعدنا على (فرز وإنارة منظورنا المفاهيمي في فترة ما بعد الحرب الباردة). وينجز قـُـرنـي ذلك من خلال التصدي لقضايا النفط وأنماط الحرب والسلم وظاهرة العولمة ومعالم السياسات القائمة على مفاهيم عقائدية، وهي جميعها محاور تتم مناقشتها وتحليلها في الفصول اللاحقة. ولعل أهم ما يثير الاهتمام هو العرض الذي يقدمه قـُـرنـي حول الأحداث التي تبلورت خلال عقد التسعينات عقب الانفراج الذي شهده الصراع العربي ـ الإسرائيلي في مدريد (1991) ثم بعدها في أوسلو (1993)، باعتبار أن تلك التطورات كانت تحمل بشائر بوجود إمكانية حقيقية لتحقيق سلام دائم، وتعزز الأمل في التحرك بعيداً عن دائرة العنف والصراع، والاتجاه بدلاً من ذلك نحو تحقيق تعاون إقليمي واسع النطاق ومشاركة دولية موفقة.

الجزء الثاني: محاور مرتبطة بالعلاقات الدولية والاقتصاد السياسي

ضمن الجزء الثاني من الكتاب، يتم تناول بعض المحاور الرئيسية المتصلة بالعلاقات الدولية والاقتصاد السياسي الدولي، حيث يعكف كل من الدكتور جاكومو لوشياني وكليمانت هنري على التوالي على مناقشة مقاربتين مفاهيميتين تحدث عنهما الدكتور بهجت قـُـرنـي، أي النفط والعولمة. ومن خلال هذه المناقشة، يتصدى الكاتبان لمجموعة من الإشكاليات المركزية المرتبطة بالاقتصاد السياسي للمنطقة وكيف يتبلور التفاعل بينه وبين الاقتصاد السياسي الدولي بمفهومه الأوسع.

ففي الفصل الرابع، يتطرق لوشياني لملف النفط باعتباره ملفاً مهيمناً ولا مناص من مناقشته. فإذا كان النفط يحتل موقعاً مركزياً داخل ساحة السجال الدائر حول السياسات الداخلية لدول المنطقة، فإنه أيضاً يتصدر الجدل الدائر حول طبيعة العلاقات الدولية المرتبطة بالنفط. وفي هذا المقام، يبين لوشياني الروابط الوثيقة التي تجمع النفط وعملية تكريس وتطور نظام الدولة الحديثة. ومن الاستـنـتاجات التي يستخلصها لوشياني أنه وعلى الرغم من وجود قوى خارجية أدرجت النفط باستمرار ضمن حساباتها السياسية الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط، فإن النفط لم يبرز بشكل واضح ضمن أجندات السياسات الخارجية للدول العربية، والتي أظهرت اهتمامات ضيقة. أما في ما يخص السياسات الداخلية، فإن نموذج (النظام الريعي) كما صاغه لوشياني يشير إلى دور النفط في تحديد النتائج والتطورات السياسية في كل من الدول الغنية بالنفط والدول الفقيرة، حيث إنه ساهم في إجهاض آمال الإصلاح وسُدت آفاق التجديد كما تبلورت في مناطق أخرى من العالم. وفي هذا السياق، ينطوي النفط على أهمية خاصة، لأنه يعين على تحديد ميزان القوى الإقليمي ويحدد مسلكيات القوى الخارجية تُجاه المنطقة.

وفي الفصل الخامس، يتطرق الكاتب كليمانت هنري للاقتصاد السياسي في منطقة الشرق الأوسط من خلال تبني منظور مختلف يلعب ضمن ملف النفط دوراً مركزياً في (صدام العولمات) كما يعبر عن ذلك كليمانت نفسه، وكما تشهدها في الوقت الراهن منطقة الشرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم. ويبدو أن المنطقة وفقاً لتحليل كليمانت تتحول إلى ساحة مواجهة تتقارع فيها رؤى متباينة ومتنافسة لماهية النظام العالمي الجديد. وتتم العودة لمناقشة هذا المحور بطرق مختلفة في الفصول الأخرى من المجلد. وليست هذه المواجهة إنعاشاً لأطروحة صدام الحضارات كما تبناها صامويل هانتنغتون، والذي يضع الإسلام في مواجهة صِدامية مع الغرب، لكنها مواجهة تتمعن في الرؤية الأمريكية الراهنة للعالم، وهي تصطف ضد دعاة العولمة من مختلـِـف الأطراف. وفي حين تبدو دول منطقة الشرق الأوسط وكأنها تؤسس مسرح هذا الصراع، غير أنها تبقى مـُـطـالـَـبـة بالتعاطي مع أعمال جماعات المعارضة الراديكالية في الداخل وما يتمخض عن ذلك من تداعيات. ويتضمن هذا الفصل أيضاً مناقشة لحالات سابقة واستتباعات المظاهر المختلفة لظاهرة العولمة والآليات المختلفة التي يمكن لدول منطقة الشرق الأوسط تبنيها للتعامل مع هذه الظاهرة.

وينقلنا الفصل السادس من مناقشة عملية تحرير الاقتصاد لرصد وتحليل جملة من القضايا المرتبطة بعملية الإصلاح السياسي. وفي هذا السياق، يرى ريتشارد نورتون من خلال تحليله لإشكالية التحول الديمقراطي التي يُطلق عليها وصف (لغز الإصلاح السياسي) أن المنطقة قابعة بمعنى من المعاني خارج دائرة التوجهات العالمية. وهو يتجنب استخدام مصطلح (الاستثنائية). لكن واقع الحال يؤكد أن العالم العربي بشكل خاص يعاني من عجز على مستوى التحول نحو الديمقراطية. وفي هذا الفصل، وعلى غرار بقية الفصول الأخرى، يتم تسليط الضوء على الاقتصاد السياسي للدول وظاهرة استمرار الصراعات وطبيعة الأنظمة الحاكمة، إلى جانب الضبابية التي تلف العلاقة بين الديمقراطية والعقيدة الإسلامية، والتي لا تمثل بالضرورة علاقة تناقض، حيث إن نورتون يشير إلى أن جزءاً كبيراً من الخطاب الإسلامي يتسم بالدعوة للمشاركة وبقبول التنوع والاختلاف، وليس محكوماً بسمتي الصرامة والتعصب. فضلاً عن ذلك، يتمتع المجتمع المدني بحيوية ملحوظة في العديد من دول المنطقة. وعلى الرغم من أن ردود الفعل الغربية إزاء عملية الإصلاح السياسي في المنطقة طبعها الفتور في ظل تفضيل الدول الغربية لحالة الاستقرار على الديمقراطية، غير أن هذا الوضع ربما يسير في درب التغيير. وتشير الدلائل من قلب المنطقة إلى أن الشعوب تتطلع إلى حكومات أفضل، ولو أن المطالب الشعبية تفتقر إلى الوضوح بخصوص نوع الحكومات التي ترغب فيها. ومن منظور العلاقات الدولية، تـُـعـتـبـَـر هذه القضية مركزية باعتبار الجدل المحموم الدائر حول العلاقة بين النظم الديمقراطية المستقرة وقضية السلام.

ويعرض الفصل السابع بقلم ريموند هاينيـبوش بشكل واضح ونقدي لما تتمتع به مسألة الـهُـويـة من مقومات تفسيرية والحدود التي تقيدها في فهم شؤون المنطقة. يُشار إلى أن دور الفكر والـهُـويـة وجد سبيله للدخول إلى مجال البحث الأكاديمي المتخصص في العلاقات الدولية من خلال أعمال المدرسة البنائية. وقد ساهمت أعمال كل من مايكل بارنيت وآخرين في تقديم مساهمة قيّمة في هذا السجال. ولعله من الممكن إبراز أهمية مساهمات هؤلاء الكتاب، حيث إن هاينيـبوش يبين كيف ومتى بدأ الفكر العروبي في التلاشي وكيف أن الإسلام يحتل فضاءً مماثلاً وقادراً على تجاوز حدود الأوطان وبمقدوره أن يتعالى فوق الكيانات القومية. غير أن هاينيـبوش يتوخى الحذر عند تعامله مع منظومة الفكر منفردة، محاولاً ألاّ يعيرها أهمية كبرى، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن القاعدة (المادية) للـهُـويـة، إلى جانب مجموعة من العوامل الأخرى تساهم في رسم ملامح النظام الإقليمي وتدعم الاستمرارية النسبية لنظام الدولة. فالعروبة والإسلام كلاهما وقع في قبضة الدول وقياداتها، وبالتالي اتخذت الهوية أشكالاً قومية مميزة، كما أن أثرها بقي ويبقى مرتبطاً بالقيود المستمرة على المستويين الداخلي والخارجي مما يـحـدّ من قوتها التفسيرية.

وتلعب الـهُـويـة أيضاً دوراً مهماً في الفصل الثامن بقلم لويز فوسيت تستعرض ضمنه لمحة شاملة عن ديناميات التعاون المتغيرة وبناء التحالفات في المنطقة. ويتطرق هذا الفصل لفكر النـزعة الإقليمية والممارسات النابعة عنها، وفقاً لمجموعة من التأويلات العريضة، جنباً إلى جنب مع مقاربات العلاقات الدولية التي تركز على دور منظومة الفكر ودور العوامل الداخلية والخارجية في تفسير الجهود المختلفة الرامية إلى بناء الإجماع والتعاون حول القضايا الجوهرية. وفي معرض الحديث من منظور مقارن عن تاريخ الجهود المختلفة المبذولة بهدف تحقيق التعاون، يبين هذا الفصل حالة التجانس الرديء على مستوى العلاقة بين الاهتمامات التقليدية لحقل العلاقات الدولية وواقع المنطقة. ويبدو أن العوامل الداخلية والإقليمية والدولية تتضافر لتفسير ضعف سجل المنطقة في مجال إدارة الحكم وبناء المؤسسات، مع أن بعض السوابق المهمة من الماضي تشير إلى إمكانية تبلور بدائل إقليمية في المستقبل.

ويقدم الفصل التاسع بقلم جانيس ستاين، وهو الفصل الأخير ضمن هذا الجزء من الكتاب، تحليلاً مركزاً بشكل كبير للمعضلة الأمنية المستمرة التي تواجه المنطقة. ومن خلال استعراض رؤيتها حول دينامية الحرب والسلم في المنطقة، تستشف ستاين المعوقات التي تحول دون التوصل إلى أي تسوية طويلة الأمد للصراع الإقليمي، وهي معوقات تحتاج إلى المعالجة حتى يتسنى لمنطقة الشرق الأوسط إحراز التقدم المنشود في اتجاه تبني أجندة أمنية جديدة وشاملة.

وباستنادها إلى مجموعة من دراسات الحالة كما توفرها الحروب المتتالية بين العرب وإسرائيل، تسلط ستاين الضوء على النواقص وجوانب العجز التي تتخلل القراءات التحليلية الواقعية كلما تم تطبيقها على صراع يرى فيه البعض أكثر الصراعات واقعية. فاستراتيجيات الردع القائمة على تفوق القوة العسكرية تكللت بالفشل مراراً وتكراراً في خضم محاولاتها منع اندلاع الحرب، بينما لا تزال قائمة المظالم والتظلمات في المنطقة قائمة. ومما لا شك فيه أن الضغوط والقيود الداخلية، مثلها مثل ميزان القوة العسكرية، تحدد قرارات الحرب في المنطقة، وسوف يستمر الحال كذلك إلى حين تتم صياغة وتفعيل عقد اجتماعي جديد يؤطر العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

الجزء الثالث: القضايا المحورية والفاعلون الرئيسيون

في حين تستثمر جانيس ستاين أدوات من حقل العلاقات الدولية لتحليل طبيعة المعضلات الأمنية المركزية التي تواجه المنطقة، يعرج الفصلان الأولان من هذا الجزء على تناول ما يمكن اعتباره أكثر القضايا إثارة للجدل وأكثرها أهمية ضمن إطار العلاقات الدولية للشرق الأوسط الحديث، ألا وهي قضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي وما يحيط به من محاولات لتسويته وإحلال السلام في المنطقة.

ولعل الدروس بالنسبة للباحثين المتخصصين في دراسة العلاقات الدولية كثيرة في هذا السياق، ففي الفصل العاشر بقلم تشارلز سميث، يتم كشف النقاب عن الجوانب العسكرية والسياسية والاقتصادية للصراع. وتناغماً مع باقي فصول ومحاور الكتاب، يعكف سميث على تبيان كيف أن كلاً من النهج الواقعي وملامح سياسات الـهُـويـة تحدد مواقف الدول المختلفة في المنطقة. بل إنه حتى أشد مراحل الصراع، والمتمثلة في حرب عام 1967، دارت رحاها انطلاقاً من مفهوم الـهُـويـة العربية بقدر ما كانت في صميمها صراعاً مع إسرائيل. والمفارقة الغريبة هنا أنه بينما اكتسبت السياسات العربية مزيداً من الواقعية، لا يزال الجدل الدائر في إسرائيل مرتكزاً على هـُـويـة الدولة اليهودية التي لا تزال محط خلاف. كما أن العديد من المحاور التي يتضمنها هذا الفصل معروفة لدى المراقبين المتتبعين لشؤون المنطقة وترتبط بشكل انسيابي بباقي فصول الكتاب.

وانطلاقاً من هذه الخلفية، نوجه أنظارنا للفصل الحادي عشر بقلم آڤـي شلايم، الذي يتناول بالعرض والتحليل سلسلة جولات المفاوضات التي انعقدت خلال عقد التسعينات وانتهت بتوقيع اتفاقيات أوسلو في عام 1990، مدشنة بذلك أول الجهود المبذولة للتوصل إلى تسوية سلمية للصراع العربي ـ الإسرائيلي. ويتم ضمن هذا الفصل تسليط الضوء بالتفصيل على تلك الأحداث والتطورات التي هيمنت على المشهد الإقليمي واستقطبت اهتمام المجتمع الدولي، خصوصاً أنها تساعد القارئ، ليس على فهم طبيعة وتوجهات السياسات تُجاه منطقة الشرق الأوسط فقط، بل تساعده أيضاً على فهم تموقع وتوجهات تلك السياسات ضمن إطار النظام العالمي بمفهومه الأوسع، كما تم رسم ملامحها الأولى خلال الفترة الرئاسية الأولى للرئيس جورج بوش.

وفي البداية، بدت اتفاقيات أوسلو من خلال توفيقها بين مواقف الطرفين الرئيسيين في الصراع، أي الفلسطينيين والإسرائيليين، وكأنها تجسيد لنظام عالمي جديد أكثر ليبرالية (وهي احتمالات يتطرق لها الدكتور بهجت قـُـرنـي). إلا أن الأسس الهشة التي قام عليها هذا النظام، سواء في منطقة الشرق الأوسط أو في غيرها من مناطق العالم، ما فتئت أن سقطت عنها ورقة التوت، وانكشفت حقيقتها بعد مرور وقت قصير من الزمن. وفي هذا الإطار، تقدم السياسات الداخلية، كما يشير إلى ذلك آڤـي شلايم، جزءاً من الإجابة عن التساؤلات بهذا الخصوص. فبحكم الهيمنة التي تمارسها إسرائيل على صعيد ميزان القوة الإقليمي، يبدو أن السبيل الوحيد لاستدامة زخم التوجهات السلمية يتمثل في التدخل الأجنبي. وعندما لم يتحقق ذلك لأسباب تكشف النقاب عنها مساهمة مايكل هودسن حول سياسات الولايات المتحدة، تبددت فرصة السلام. وكما هو الحال بالنسبة لنهاية فترة الحرب الباردة، اتسمت وعود تبلور نظام عالمي جديد بسطحيتها وسرعة تبددها، خصوصاً أنها كانت تستند إلى قوة تأثير مجموعة من الفاعلين الإقليميين والخارجيين.

أما بالنسبة لدول الخليج فلم تحقق سوى نجاح محدود في محاولاتها لتجاوز المعضلات الأمنية التي تواجهها، كما يبين ذلك الفصل الثاني عشر بقلم جريجوري غوز. فمن خلال تطرقه للديناميات المتغيرة على صعيد العلاقات الدولية في هذه المنطقة الحساسة من العالم، يتناول غوز السياسات التي ينتهجها اللاعبون الرئيسيون في المنطقة، وعلى وجه التحديد المملكة العربية السعودية والعراق، بالإضافة إلى الاندفاع المتزايد من قبل الولايات المتحدة للانخراط بشؤون المنطقة. وفي ما يخص السعودية والعراق وتماشياً مع باقي فصول الكتاب، يبدو أن المنهج الواقعي التقليدي، أي أهمية ميزان القوة، ينطبق جزئياً هنا لتفسير تموقع الدول، في حين ينطوي الإطار الداخلي وتفاعلاته الإيجابية والسلبية مع التأثيرات العابرة للأقطار ودور القوى الخارجية بالنسبة لأهمية التوصل إلى فهم الأطر المختلفة التي يتحرك ضمنها الفاعلون في الداخل، سواء تعلق الأمر بإيران الثورية أو عراق صدام حسين أو الأنظمة الـمـلَـكـيـة الخليجية.

وبحكم أن مبدأ حماية أمن النظام لا يزال المحدد الحاكم للسياسات الخارجية التي تتبناها الدول في هذه المنطقة، فإن الحاجة إلى معالجة التهديدات الداخلية والخارجية أمر مهم للغاية. ويستند غوز إلى حالة العراق بشكل خاص لتوضيح الدور الذي لعبته التهديدات في تحديد قرارات الفعل السياسي مع الإشارة إلى الصعوبات التي جابهت المملكة العربية السعودية في محاولاتها الرامية إلى إيجاد حالة من التوازن بين حاجتها إلى الدعم الأمريكي من جهة، والتعامل مع القوى الداخلية والقوى العابرة للأوطان التي تتحرك في اتجاه آخر من جهة أخرى.

ويتابع مايكل هودسن البحث في بعض هذه المحاور ضمن دراسته لسياسات واشنطن تُجاه المنطقة، مستهلاً حديثه بمراجعة أصول السياسات الأمريكية ومراحل تطورها خلال القرن المنصرم. وفي قلب هذه القراءة التحليلية ـ ومع توجيه نقد ضمني للمقاربة الواقعية ـ تتداخل العلاقة المحورية التي تربط الدوائر السياسية المختلفة في الولايات المتحدة من جهة وتنفيذ سياساتها الخارجية من جهة أخرى، وهي علاقة أفضت في المرحلة الراهنة إلى ما يوصف بثورة المحافظين الجدد. غير أن التاريخ، كما يشير إلى ذلك هودسن نفسه، يحدثنا عن رواية مختلفة. ففي البداية، كانت الولايات المتحدة دولة نجحت في تفادي أن توصم بانتهاج سياسات القوة، التي ظلت ملتصقة بالغريمين الرئيسيين في المنطقة (بريطانيا وروسيا). وعلى الرغم من وجود قيود جيو-سياسية بديهية تتحكم بصياغة مواقف وسياسات الإدارات الأمريكية المتلاحقة خلال فترة الحرب الباردة، برهنت الولايات المتحدة على أنها وسيط رئيسي في العديد من الصراعات القائمة وقتذاك. وتكرس هذا النمط عند انتهاء حقبة الحرب الباردة. غير أن النـزعة التدخلية التي توجه السياسات الخارجية للإدارة الأمريكية وباستنادها إلى تحالفات جديدة في الأوساط الحكومية والمجتمعية تبدو اليوم مختلفة بعض الشيء. وهذه التوجهات التدخلية تفترض امتلاك القدرة على بناء منظومة أمنية إقليمية جديدة تضم دولة عراقية بعد أن تخضع لعملية إصلاحية. كما أن نجاح أو فشل مشروع من هذا القبيل سوف يعتمد ليس على البيئة الإقليمية فقط، وهي بيئة معروفة بمناهضتها لأي شكل من أشكال التدخل الأجنبـي، لكنه سيعتمد أيضاً على تحقيق توازن حساس بين القوى الداخلية في الولايات المتحدة نفسها.

ويتناول الفصل الرابع عشر بقلم روزماري هوليس، وهو آخر فصول هذا الكتاب، مراحل تطور المقاربات الأوروبية في التعامل مع منطقة الشرق الأوسط. ولعل السؤال المركزي في هذا السياق هو: إلى أي مدى تستطيع أوروبا لعب دور مناسب أو الاضطلاع بدور اللاعب الفعال في الـتأثير في الأنماط السياسية السائدة في منطقة الشرق الأوسط والتطورات التي تشهدها المنطقة؟ وما هي الأسباب التي تُبقي أوروبا، مع العلم أنها قوة اقتصادية عملاقة، قزماً سياسياً في منطقة تكتسي أهمية تاريخية وتنطوي على مصالح آنية ضخمة؟

ربما تحيلنا قراءة واقعية إلى التفكير في عدم جدوى وعدم ملاءمة مؤسسات من قبيل الاتحاد الأوروبي، ولو بقدر نسبي. ومع ذلك، يـبـدو أنه بمقدور القوى الوسطى، إذا ما اعتبرنا أن أوروبا تدخل في خانة هذه القوى، أن تؤثر في نتائج العلاقات الدولية. وبالفعل، هناك عدد من الدول الشرق أوسطية لجأت إلى أوروبا لتأمين إعادة التوازن للمنطقة، سواء من حيث التوازن المعياري، أو حتى التوزان على المستوى السياسي. وقد نجح برنامج الشراكة الأورو ـ متوسطية الذي انطلق في عام 1995 في التدليل على مثل هذه الإمكانية. كما يُحتمل مستقبلاً أن تفضي هذه الشراكة إلى تعضيد روابط التعاون الإقليمي. لكن يبدو أن المشكلة بالنسبة لأوروبا، كما توضح ذلك روزماري هوليس، لا تنبع فقط من الصعوبات القائمة على أرض الواقع أو الخلافات بين أوروبا وواشنطن، مع العلم أن هذه المشكلات لها تأثيراتها الملموسة، لكنها ترتبط أيضاً بتشنج العلاقات داخل الاتحاد الأوروبي نفسه على مستوى صياغة مواقف موحدة أو تفعيل سياسات مشتركة.

وأخيراً، لا بد من الاعتراف بأن هناك ثغرات بديهية على مستوى التداخل والتكرار واستبعاد بعض القضايا. ولا ريب في أن اختيار فصول أي كتاب يطمح إلى استعراض العلاقات الدولية لمنطقة الشرق الأوسط ينبني بالضرورة على عملية ذاتية، وبالتالي ينبغي أخذ مجموعة من العوامل في الاعتبار، مع أن ركوب الموجة السائدة في الوقت الراهن يقتضي خياراً مخالفاً. ففي الوقت الذي أصبحت فيه الدولة تمثل مفهوماً أكل الدهر عليه وشرب، وأيضاً في الوقت الذي يمكن النظر إلى مفهوم الأمن عبر منظار مختلف، كما أوحى بذلك أمين عام الأمم المتحدة كوفي أنان في معرض حديثه عن مفهوم (الأمن الإنساني)، فقد بات من الممكن معالجة الموضوع على نحو مختلف.

 

مقالات لنفس الكاتب