; logged out
الرئيسية / مجلس التعاون الخليجي: حانت لحظة قيام الاتحاد

العدد 95

مجلس التعاون الخليجي: حانت لحظة قيام الاتحاد

الإثنين، 01 حزيران/يونيو 2015

مقدمة

ولد مجلس التعاون الخليجي زمن لهيب الحروب و الثورة و كانت نشأته بمثابة ردة فعل دفاعية لدول الخليج العربي الأصغر حجما والأكثر عرضة للتهديدات الأمنية المتصاعدة التي أحدثتها الثورة العارمة في إيران و التي أطاحت بشاه إيران الحليف الإقليمي لهذه الدول، و عقب هذه الكارثة نشب أول الصراعات الإقليمية الداخلية المسلحة بين الجارتين المدججتين بالسلاح إيران و العراق، ثم جاء الاجتياح السوفيتي لأفغانستان (الذي شكل بدوره تهديدا مباشرا لأمن باكستان، حليفة دول الخليج في جنوب آسيا)،وجاء ذلك في الفترة نفسها للسلم بين مصر و إسرائيل، مما أدى إلى عزلة القاهرة الإقليمية و "نبذ" أهم قطب و مرجع سياسي و أمني عربي بالنسبة لدول الخليج العربي، وبعدها جاءت واقعة الاحداث العنيفة في المسجد الحرام بمكة المكرمة من قبل مجموعة متشددة من الإرهابيين، فتضاعف الشعور بعدم المناعة و أصبح الخطر وشيكا، كما أن الأثر الاقتصادي لتدهور الوضع الأمني بات واقعا ملموسا، و في حين تم رفع أسعار البترول استجابة للانحدار الحاد لقيمة الأسهم التي بناها مصدرو النفط منذ بداية السبعينات، بدأت أسعار البضائع و الخدمات التي كانوا يستوردونها من الخارج في الارتفاع.

في بداية الأمر ظهرت النواة الأولى للمجلس في شكل منتدى شبه إقليمي في 1981م، ونمت أهميته مع مرور الزمن وتعاقب الأحداث خلال ذلك العقد من الزمن – الحرب اللبنانية عام 1982 م، ونشأة حزب الله، الميليشيا العربية ذات المرجعية الشيعية، تزامنا مع العدوان الإيراني الهائل على العراق الذي هدفت من وراءه طهران لاستبدال النظام القائم في الجارة العراق بحكم - إسلامي1 – مما زاد من أهمية الرهانات الجيوسياسية بالنسبة لدول الخليج العربي. ثم إن سلسلة الأحداث المتتالية مثل الاعتداءات على سفن الشحن التجارية من قبل طرفي النزاع، و التدخلات العسكرية الإيرانية في الكويت و دعمها غير المشروع للمعارضة الشيعية في البحرين في بداية الثمانينات، إلى جانب الصد العسكري للمملكة العربية السعودية، و قد أعطى كل هذا دفعا قويا لمجلس التعاون الخليجي في الأعوام الأولى لنشأته، من خلال زيادة التقارب بين الكويت و البحرين وعمان و المملكة العربية السعودية بشكل خاص من أجل محاولة تكوين أرضية مشتركة لبناء المجلس، و يرجع تاريخ إنشاء منظومة الدفاع الجوي المشترك إلى هذه الحقبة، و في شهر مايو 1984م، ظهرت أول بوادر العمل المنسّق كردّ على التهديدات الإيرانية لمسالك الشحن الخليجية. و بهذه المناسبة، دعت دول مجلس التعاون الخليجي إلى اجتماع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة و قدمت من جهتها و لأول مرة مشروع قرار يطالب إيران "بالتوقف الفوري عن التدخل في عمليات الشحن التي تخص دولا ليست طرفا في النزاع القائم"2 و حتى نهاية النزاع في 1988م، استمرت دول مجلس التعاون الخليجي في إبراز علاقة مزدوجة مع حليفها الأهم، الولايات المتحدة الأمريكية – "كن موجودا عندما نحتاج إليك، و لكن لا تبق هنا" – مما لم يفض للأسف، رغم بعض التشجيعات الأمريكية إلى مزيد من التماسك داخل منظمة إقليمية أوسع، و رغم جدية و خطورة الأحداث التي شهدتها حقبة الثمانينات، إلاّ أن أهميتها تلاشت نوعا ما أمام خطورة اجتياح العراق و احتلاله للجارة الكويت التي تشكل جزءًا من مجلس التعاون الخليجي في أغسطس 1990م. على إثر تلك التطورات انتقل المجلس من مرحلة الطفولة إلى طور المراهقة وأدرك أعضاؤه تمام الإدراك دور المجلس كتحالف منظم و أداة للدفاع عن مكوناته من الدول الأعضاء. و قد سهل بلوغ "الوعي الذاتي" جهود مجلس التعاون لتقوية أواصر الشراكة داخل منطقة الشرق الأوسط و خارجها، و هكذا حاولت دول مجلس التعاون في 1991م، خلق تحالفات متعددة و بناء روابط أمتن مع مصر و سوريا (حلفاءها في حرب تحرير العراق)، في الوقت ذاته قامت الدول الأعضاء في المجلس بتعميق علاقاتهم الأمنية مع التحالف الغربي، و قد شكلت قضية الدفاع المشترك المحور الرئيسي لمداولات مجلس التعاون الخليجي بعد العام 1991م، و ما فتئت تشغل بال قادة المجلس منذ ذلك الحين و اكتست ثقلا أكبر عقب حرب العراق في 2003 م، التي تسببت في اضطرابات جيوسياسية هائلة داخل المنطقة، و مع ذلك فإن الدفاع المشترك ليس إلا عنصرا واحدا من جملة الأهداف الاستراتيجية المرسومة لتحالف مجلس التعاون الخليجي حيث أنه مع مرور الزمن اكتست العلاقات السياسية والاقتصادية مع بلدان العالم الأخرى دورا لا يقل أهمية.

إن أهمية الحاجة إلى كيان إقليمي عملي وفعال مثل مجلس التعاون الخليجي بلغت أهمية غير مسبوقة، وهذا ما سيتم مناقشته لاحقاً. ونظرا للظروف الجغرافية السياسية لنشأة المجلس ولعدم الاستقرار الذي تعاني منه المنطقة، أصبح من الضروري تعميق مؤسساته، ولكن تأثيرات العولمة (كقوة خارجية ساحقة) من جهة، وغريزة البقاء لدول مجلس التعاون الخليجي (من حيث التحديات الداخلية والإقليمية) من جهة أخرى، مما يجعل التقارب بين هذه الدول لتشكيل منظمة ذات نسيج متماسك أمرا مرغوبا بشكل متزايد، إن لم نقل أمرا محتّما.

سباق التكتل الإقليمي

إن موجة التكامل بين أهم الاقتصادات العالمية لتشكيل شبكة مترابطة (و متداخلة) من الأنظمة القائمة على التجارة و الاستثمار قد شجعت الاقتصادات الناشئة للتكتل حول منصات إقليمية، كوسيلة للدفاع عن الذات في البداية و لمواجهة القوة الضاربة لظاهرة العولمة، و لكن مع مرور الزمن تطورت هذه المنصات الدفاعية لتظهر في شكل كتل إقليمية متكاملة بشكل متزايد و تدافع عن مصالح أعضائها بصورة استباقية في المنابر الدولية، و بالتوازي مع ذلك كله استطاعت هذه التجمعات بناء مؤسسات متكاملة رأسيا، و مما قد يشكل مفارقة، وفي عملية جدلية، فرضت العولمة أقلمة الاقتصاد العالمي أيضا، و مع ظهور المنظمات القائمة على العنصر الاقتصادي في مختلف أنحاء المعمورة، بات من الصعب على الدول المنفردة أن تشق طريقها داخل النظام العالمي دون دعم الكتلة الإقليمية التي تنتمي إليها، وينطبق هذا الأمر بشكل خاص على الاقتصادات الصاعدة بوتيرة سريعة نحو العولمة في آسيا و أمريكا اللاتينية، و لا عجب إذن في ظهور أكثر هذه المنظمات الإقليمية تكاملا و تطورا في بؤر النشاط الاقتصادي – جنوب شرق آسيا و أوروبا ، والأمريكيتين، ومنطقة الخليج العربي. لكن في حال دول الخليج نتحدث عن منطقة شبه إقليمية: نظام ذو مستويين مختلفين، فيه من جهة نشاط اقتصادي ذو قيمة عالمية يجري في دول مجلس التعاون الخليجي، ومن جهة أخرى إيران والعراق المتخلفتان عن جيرانهما الجنوبيين على جميع المؤشرات الاقتصادية دون استثناء.3

و من الواضح أن دول مجلس التعاون الخليجي تبنت درب العولمة وسارت عليه وزرعت جذورا لها في كافة مناطق العالم التي فيها حركية اقتصادية.4 و قد زادت ثروتها النفطية من حجم حصتها في النظام الاقتصادي الليبرالي السائد، وخولت لها أن تبتاع لنفسها حصة في أكبر اقتصادات العالم وأن تستثمر في أكثر القطاعات الصناعية تقدما، و بهذه الصورة فإن دول مجلس التعاون الخليجي أصبحت أشبه بـ"صياد" يقتنص الفرص حيثما استطاع ذلك، ويتناقض هذا السلوك مع بدايات المجلس كمنظمة شبه إقليمية ذات غايات دفاعية بالأساس، و مع ذلك تحظى منطقة مجلس التعاون بالعديد من المزايا مقارنة بغيرها و التي عليها أن تستغلها ومن بينها:

 أولا: عضوية المملكة العربية السعودية في مجموعة العشرين G20) ) وهي الدولة الرائدة في العالم، وهذا الدور الذي تؤديه المملكة كقوة اقتصادية عالمية يعود بالفائدة على بقية الدول الأعضاء في المجلس، ذلك أن هذه المكانة التي تحتلها المملكة العربية السعودية ليست فقط لأجل تمثيل مصالح دول المجلس ككل على طاولات الحوار الاقتصادي العالمي، و إنما أيضا للدفاع عن مصلحة كل دولة من الدول الأعضاء في هذا التكتّل، و تجلب عضوية المملكة في مجموعة العشرين منافع مباشرة و غير مباشرة (ملموسة و غير ملموسة) لمجلس التعاون لدول الخليج العربي ككل.

ثانيا: تتمتع منطقة مجلس التعاون الخليجي بميزة ضمّها لعدد من الاقتصادات الأكثر ديناميكية في غرب آسيا والعالم العربي، ورغم قلة عدد السكان، وربما بفضل ذلك، تتصدر الكويت وقطر والإمارات الترتيب الإقليمي للديناميكية الاقتصادية وتوليد الثروات، ولا تتمتع بمثل هذه الميزة إلا قلة من المناطق الاقتصادية، والمتمثلة في وجود نصف أعضائها في المستوى الأعلى من التصنيف الاقتصادي، وهكذا هو الحال بالنسبة لمنطقة مجلس التعاون الخليجي. في عام 2013م، حيث قدّر الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة مجلس التعاون الخليجي بـ1.7 ترليون دولار و هو ما يشكل نصف ناتج منطقة الشرق الأوسط بأسرها البالغ 3.1 ترليون دولار، و كذلك فقد حازت على 2.0 ترليون دولار كقيمة لصافي إجمالي الأصول الأجنبية، و هذا الرقم الأخير هو أعلى من مجموع الناتج المحلي الإجمالي لدول المنطقة الأكثر كثافة سكانية. وكما هو مبين في الشكل 1، فإن دول مجلس التعاون الخليجي تقود الركب الاقتصادي لمنطقة الشرق الأوسط.

الجدول 1: المؤشرات الاقتصادية الرئيسية لمنطقة الشرق الأوسط، 2013

البلد

الناتج المحلي الإجمالي

مليار $

عدد السكان (مليون)

نمو الناتج المحلي الإجمالي (%)

الأصول الأجنبية % من الناتج الإجمالي المحلي

الكويت

177

1.3

2.0

240

قطر

204

2.0

5.4

180

السعودية

743

30.0

3.9

124

الإمارات

405

9.2

4.7

123

الجزائر

214

37.0

3.9

94

إيران

387

77.8

0.4

15

العراق

218

34.6

3.0

67

مصر

268

83.7

2.1

5

 

المصدر: معهد المالية الدولي، لمحة عامة إقليمية عن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: معركة بلدان "الربيع العربي"، آفاق خليجية مواتية (واشنطن، دي سي، معهد المالية الدولي، 2013)

Institute of International Finance, IIF Regional Overview on Middle East and North Africa: “Arab Spring” Countries Struggle, GCC Prospects Favorable (Washington, DC: IIF, 2013).

ثالثا: بفضل ثرواتها ومكانتها، فإن الطاقة الشرائية الجماعية لهذه البلدانوسلاستها الناجمة عن وفرة السيولة الهائلة لديها قد مكنتها من الاستفادة من العولمة ككتلة واحدة. وككتلة واحدة أيضا، يمكن لها أن تستفيد من المشاركة مع البلدان والمناطق الرائدة واتخاذ مكانة لنفسها كمجموعة متكاملة تحضيرًا للمرحلة القادمة من التنمية الشبه إقليمية، وبكل تأكيد، للشراكات المستقبلية مع القوى الاقتصادية الآسيوية.

وأخيرًا، تعد دول مجلس التعاون الخليجي من أكثر البلدان تقدمًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من ناحية جاهزية الشبكة، حيث تسجل درجة اندماج رقمي جيدة لمواطنيها في الشبكات العالمية، فلهذه الدول قدرة فريدة على دخول العالم الرقمي وتطويعه لخدمة دولهم بشكل منهجي وسلس، ونتيجة لذلك فقد أصبحت اليوم في مقدمة دول المنطقة في عدة مجالات خدمية وأنشأت فعليا فضاء دوليا في مجالات النقل البحري والجوي، وفي القطاع المصرفي والمالي والسياحي. إن نجاح دول مجلس التعاون الخليجي في أن تتحول إلى أقطاب تجارية واستثمارية وسياحية ومراكز للتنمية العقارية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والابتكار والتجديد يزيد تأكيد أهمية توسيع الجانب التنظيمي وتعميقه لهذه الكتلة من أجل إدارة شؤون هذا الجزء من المنطقة داخليا، إلى جانب علاقاتها الخارجية، ورغم النجاحات المشهودة التي تم تحقيقها إلى الآن، تستطيع منطقة مجلس التعاون تقديم أداء أفضل بكثير. فلا تزال هناك ضغوط يجب التفطن لها، مثل تلك التي تنتج عن العولمة في الدول الأعضاء وتمس التماسك الداخلي للمجلس. فبعض التوترات السياسية التي تصيب العلاقات بين بعض أعضاء المجلس هي على الأرجح نتيجة للسياسة الاقتصادية وليست متعلقة بالسياسة الخارجية.

السياق الدولي

كما لاحظنا سابقا، يمكن القول بأن العولمة قد ساعدت على تصاعد النفس الإقليمي وعلى الاندماج المستمر للدول والاقتصادات في العالم الرأسمالي للاقتصاد الدولي وبالتالي فقد شجعت قيام المؤسسات الإقليمية، على أساس الدفاع عن مصالح الدول الأعضاء فيها وحمايتها في الكثير من الأحيان، وفي الوقت نفسه شهدت معظم هذه المؤسسات حركة للتكامل الرأسي والتعزيز المؤسسي استجابة لحاجيات الأعضاء والعلاقات العالمية المتغيرة بشكل سريع.

واستجابة للقوى العالمية العظمى التي تتحكم بوجهة الاقتصادات المحلية والوطنية، شهدت العديد من مناطق العالم موجة التجمع الإقليمي هذه، وبشكل خاص، في أمريكا وآسيا، دون أن ننسى أوروبا. و في بعض الحالات، ظهرت منظمات إقليمية جديدة للوجود لتدعيم التعاون الإقليمي – مثل منظمة شانغهاي للتعاون – و في بعض المنصات الإقليمية الأخرى لأجل التقريب بين البلدان المتباعدة جغرافيا لتشكيل تجمعات إقليمية – مثل المنتدى الآسيوي لبلدان المحيط الهادي، و منظمة الشراكة عبر المحيط الهادي ومنظمة الشراكة عبر المحيط الأطلسي للتجارة و الاستثمار، و هي أمثلة حية عن هذا التوجه، و نظرا لتعدد الدول و اختلاف المصالح و تنوعها على الساحة، فقد أثمرت هذه التكتلات إلى حد الآن على نتائج متفاوتة وغير مرضية في أغلب الأحيان. غير أن وجود مثل هذه المبادرات الهادفة للتجمع الإقليمي يشير في حد ذاته إلى نزعة عالمية حقيقية للتجمّع والتقارب الإقليميين بين الدول على أسس البنية التحتية المؤسسية لكل منطقة.

ولكن أهم التطورات تظهر لنا في تلك الكيانات الإقليمية الرئيسية التي نشأ بعضها قبل تسارع وتيرة العولمة دون غيرها. ففي القارة الأمريكية مثلا تشكل مجموعة "نافتا" أو منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية ثلاثية الأعضاء أعظم منطقة حرة في العالم، مع 450 مليون نسمة واقتصاد جماعي يبلغ حجمه 17 ترليون دولار. وجنوبي هذه المنطقة، يمكننا ملاحظة النجاح المتزايد لمجموعة ميركوسور لجنوب أمريكا المكونة من أربعة أعضاء. و منذ نشأتها في عام 1991م،  (أي 10 سنوات بعد قيام مجلس التعاون الخليجي)، أدت العضوية المحدودة لهذه المنظمة (متكونة من الأرجنتين و البرازيل و البراغواي و الأوراغواي، و تضم 250 مليون نسمة) إلى تأسيس اتحاد جمركي للدول الأعضاء و تمكنت من خلق شبكة من الجمعيات الإقليمية التي ساعدت على ربط المسار الاقتصادي للدول الأخرى في المنطقة بنجاحاتها المحققة، و هكذا، في حين تدرس المنظمة إمكانية انضمام فنزويلا لها، منحت وضعية "عضو مشارك" لخمسة من دول جنوب أمريكا الأخرى، وهي بوليفيا، وتشيلي، و كولومبيا، و الإكوادور، و البيرو. ومن خلال منحهم هذا الوضع الاستثماري والتجاري التفاضلي، عمقت منظمة ميركوسور الروابط الاقتصادية بين هذه الدول والدول الأعضاء، مما يعزز عملية إيجاد فضاء لتوسيع مجال خطط التجارة والاستثمار لأعضائها الثابتين، ومما يسهل في الوقت نفسه مسار التنمية للأعضاء المشاركين. كما أن منظمة ميركوسور اتخذت خطوات باتجاه تعميق و تثبيت مؤسساتها الداخلية، بتقوية أمانتها العامة وتزويدها بالصلاحيات، و ذلك في إطار جهودها الرامية إلى ترسيخ التعددية في صلب المنظمة، و قد كان حجر الأساس لهذا المسار يتمثل في إقامة برلمان خاص بمنظمة الميركوسور بواسطة الانتخاب المباشر (بداية من 2014م)، و الذي يهدف إلى منح مواطني مجموعة الدول الأعضاء حصة مباشرة و فرصة أعظم للمساهمة في ازدهار المنظمة الإقليمية، و في الوقت، نفسه نجحت المنظمة في مساعي التقارب مع الكيانات الإقليمية الأخرى، و بالتحديد مجموعة دول الأنديان ANDEAN، و ذلك كسبيل لتوسيع مجال تأثيرها. وتباعا، اتفقت في 2009 م، على خلق كتلة تجارية أوسع وهي اتحاد أمم أمريكا الجنوبية، مما زاد من قدرة ميركوسور على التأثير في تشكيل سياسات واقتصادات أمريكا الجنوبية.

من جهة أخرى، استمرّ نموّ اقتصادات دول منظمة الآسيان، وهي أقوى منظمة إقليمية آسيوية (تضم 10 أعضاء ويبلغ مجموع ناتجها المحلي الإجمالي ما يزيد عن 2.2 ترليون دولار وعدد سكانها 601 مليون نسمة). و قد اتفقت دول الآسيان في قمتها المنعقدة في 2007م، على بناء ما سمته بـ"المجتمع الآسياني" بحلول 2015م. و من المقرر أن تقام استراتيجية هذا المجتمع "الآسياني" المستقبلي على محورين أساسيين: "المجتمع الاقتصادي" و "المجتمع السياسي – الأمني"، و تعتبر الدول الأعضاء هذين المحورين (أو السلّتين) سوف يعطيان منطقة الآسيان سوقا و قاعدة إنتاج موحدة إلى جانب المجتمع القائم على القواعد المستمدة من قيم هذه الأمم و مقايسها المشتركة، و تجسد هذه التطورات درجة عالية من النضج تتميز بها المنظمة، و التي تظل إلى اليوم متشبثة بحرمة سيادة الدول الأعضاء، و قد تطورت المنظمة أفقيا من 5 أعضاء في 1967م، إلى ضعف ذلك العدد في يومنا هذا، و لكنها أيضا حرصت على مسار النمو الرأسي و اتخذت الخطوات اللازمة لاكتساب مزيد من الكثافة و الصلابة، بعد 40 عاما فقط من تأسيسها.

وفي الجانب الآخر من المشهد، في أوروبا، لم يكتف الاتحاد الأوروبي بتوسيع مجال العضوية فيه ولكنه أيضا أنشأ مؤسسات قوية لتعزيز وتعميق أواصر التكامل بين أمم القارة وإدارة العلاقات الخارجية المعقدة للاتحاد. ومن الجدير بالملاحظة أن الممثل السامي للاتحاد للعلاقات الخارجية والسياسة الأمنية منذ خلق هذا المنصب في 2009م، دأب على المشاركة في كافة منابر الحوار الدولية ليدلي بصوت الاتحاد الأوروبي في شتى المناسبات. و خلال مفاوضات "3+3" مع إيران حول برنامجها النووي، و في الأزمات الأوكرانية و التونسية، و المصرية، و السورية و الصراع العربي الإسرائيلي، و في المحادثات مع الصين و روسيا، كان الممثل الأعلى للاتحاد مفوضا من قبل الدول الأعضاء الثمانية والعشرين للتحدث باسمها ككيان واحد في كافة هذه القضايا الدولية الحيوية، و بهذه الصورة تجلب هيبة هذا المنصب التقدير و الاحترام في العالم بأسره، و لذلك، رغم تعالي الأصوات عبر الاتحاد الأوروبي ضد التكامل الرأسي المستمر – كما تمت ملاحظته في نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية في شهر مايو 2014 م– واصلت المنظمة مسيرة نموها و ترسيخها للاتحاد. ولا ينبغي النظر إلى الدعوات المنادية لتوخي مزيد من إجراءات المساءلة والكفاءة على أنها بوادر تفكك لأكثر المنظمات الإقليمية نجاحا وابتكارا في العالم، بل على أنها بوادر توجه نحو تعزيز المساءلة والقدرة على الاستجابة للحاجيات المحلية.

ومن وجهة نظر بعيدة المدى، يبدو أن تجارب المنظمات الإقليمية الأخرى يمكن أن تشكل نماذج واقعية لآليات تعميق التكامل بين دول مجلس التعاون الخليجي، وفي الواقع، يتبين من خلال دراسة مقارنة لهذه التجارب أن معظم الكيانات الإقليمية تبدأ العمل على تعميق التكامل بعد نحو 40 عام من نشأتها، وقد بلغت منظمة مجلس التعاون الخليجي ما يكفي من النضج لاتخاذ الخطوة القادمة، وفي هذا المسعى يمكنها استخلاص الدروس من تجربتي الآسيان وميركوسور. وقد رسمت منظمة الآسيان على أرض الواقع في مسارات عدة وعلى مختلف المستويات، سبل وآليات التطور التي يمكن توخيها بالنسبة للكيانات الإقليمية مثل مجلس التعاون الخليجي. وبالنظر للظروف الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وإذا كان توسيع العضوية لا يعتبر خياراً وارداً بالنسبة لدول المجلس، فإن التكامل الرأسي – بعد 30 سنة من الوجود – على شاكلة التكامل الذي خططت له منظمة الآسيان يمكنه أن يمثل الخطوة الثورية القادمة بالنسبة للمنظمة الإقليمية. من ناحية أخرى، تقدم منظمة الميركوسور نموذجا واضحا لخارطة الطريق الممكن تبنيها لتحقيق الحوكمة الإقليمية على النطاق الواسع في منطقة مجلس التعاون الخليجي، ويستطيع مجلس التعاون الخليجي بدوره خلق وضع "العضو المشارك" للعديد من جيرانه في المنطقة، بدءا بالأردن على سبيل المثال، وبالتالي تقريب هذه البلدان المجاورة لمدار التأثير الخاص بالمجلس. غير أن مجلس التعاون الخليجي يستطيع فعل ذلك بكل ثقة وبمنهجية فقط عند تحقيق تكامل وتجانس أكبر داخل المجلس نفسه وعندما يكون قادرا على تركيز شبكة أمتن داخل وبين الدول الأعضاء حاليا.

السياق الإقليمي

إن التجارب المتعددة للمناطق الأخرى، إلى جانب العولمة السريعة والمتواصلة للاقتصاد العالمي، لا تشير فقط إلى مبررات التطور الداخلي للكيانات الإقليمية، و لكنها أيضا تؤكد على أهمية مشاركة الأطراف الفاعلة الأخرى (إقليميا و عالميا), و لما نضع مجلس التعاون الخليجي على محك المقارنة الدولية الأوسع، يمكننا أن ندرك بسهولة حجم التطور الذي حققه منذ 1981م، و لكننا أيضا نلمس المسافة التي لازالت تفصله عن غيره من الكيانات القائمة دوليا, و بالتالي، هناك سياق دولي كاف لتطور مجلس التعاون الخليجي نحو "اتحاد" قائم الذات, إلا أن الظرف الإقليمي هو الذي يمكن أن يجذب المجلس للانتقال نحو اتحاد أكثر تماسكا. وكما سبق أن لاحظنا، فإن ميلاد مجلس التعاون الخليجي كان نتاجا لعدم الشعور بالأمان في المنطقة، وباعتباره المنظمة الإقليمية الوحيدة الفعالة، كان عليه الاستجابة لسلسلة من التحديات الداخلية والخارجية منذ نشأته، ومن المؤكد أن المجلس طالما كان على وعي بالقيود التي تواجهه في إدارة الأزمات الإقليمية كما أدرك دائما الصعوبات المتصلة بالرهانات الأمنية المتعددة التي تواجهها الدول الأعضاء. ولهذه الأسباب، سعى إلى إيجاد الحلول التوافقية كأفضل طريقة للتعامل مع المخاوف الأمنية، وفي هذا الصدد، كان المجلس سباقا في بناء التحالفات وتقريب وجهات النظر وبالتالي لم يتستر عن الاختلافات في الأولويات السياسية للدول الأعضاء.

ومع ذلك، لا بد من الملاحظة بأن السياق الجيوسياسية كان دافعا للتغيير في الأسس التنظيمية لمجلس التعاون الخليجي، وتحيط بمنطقة مجلس التعاون انكسارات أمنية واضحة، فعلى حدوده الغربية يتعامل المجلس مع الاضطرابات الأمنية لشقي السودان، وعدم الاستقرار السياسي في إرتريا والتوتر والهشاشة الاقتصادية في مصر، أما شمالا، فعليه أن يدير علاقاته مع إيران، ووضع سياسات واضحة تجاه دولة العراق ومكوناتها، مع ضمان عدم تفاقم الوضع في العراق والمساس بدول المجلس المجاورة له. وعليه كذلك أن يضمن تواصل استقرار المملكة الهاشمية المجاورة غربا تحت تأثير تصاعد الضغوط الداخلية والخارجية وخاصة من جهة مسرح الصراع العربي الإسرائيلي، والمشاحنات السياسية اللبنانية من جهة أخرى، دون نسيان الحرب الأهلية في سوريا، جنوبا ولا تجاهل الأزمة الأمنية المستمرة في اليمن وتفشي ظاهرة الجهاديين في هذا القطر. وإذا لم يكن هذا كافيا، فإن على دول مجلس التعاون الخليجي ترتيب علاقاتها الدولية لتعكس الوزن الحقيقي لآسيا في استراتيجياتها التجارية والاستثمارية وكذلك التململ الغربي في بذل كافة الجهود (العسكرية، والاقتصادية، والديبلوماسية، والسياسية) لحل جملة المشاكل الاستراتيجية التي تعاني منها المنطقة. وعلى المستوى الاستراتيجي، لا بد من معالجة عدم التكافؤ بين الجغرافيا السياسية والجغرافيا الاقتصادية.

الدوافع المنطقية

من الواضح تماما أن المنطقة كانت في حالة تغير مستمر لبعض الوقت وازدادت الفوضى الإقليمية منذ حرب العراق عام 2003م، مما كثّف التوترات الإقليمية وأثر على العلاقات بين الدول، ودفعت هذه التقلبات بالعديد من القوى الجيوسياسية إلى الواجهة وكان على دول مجلس التعاون أن تتعامل معها، ومن الواضح أن بعض الخلافات الناشئة عن التحولات الجيوسياسية الإقليمية تتجاوز قدرات مجلس التعاون الخليجي ولا يستطيع احتواءها، ناهيك عن إدارتها. في الوقت نفسه وفي حين أن المهمة الرئيسية لمجلس التعاون الخليجي في بداياته كانت محاولة التخفيف من تأثير الضغوط الجيوسياسية الخارجية على الدول الأعضاء والمجتمعات المحلية، و منذ أواخر التسعينات، وغالبا استجابة للظروف الإقليمية المتغيرة، إلا أن هذه الدول أظهرت تغيرا في نسق سياساتها الخارجية، ورافقت هذا التغيير في الإيقاع درجة أكبر من روح المبادرة، و بالتالي، فإن عددا من العوامل السياقية الهامة ينبغي اعتبارها كقوى تساهم في تحديد الوجهة التي يسير نحوها المجلس، أولها مجموعة الضغوط متعددة الأوجه على المنطقة العربية و الناجمة عن التغيرات الديناميكية التي تلت الثورة الإيرانية و الحرب العراقية الإيرانية، و التي أعادت فتح الجراح التي بدأت في الالتئام بعد موت جمال عبد الناصر في مصر، حيث جرت الثورة والحرب خلفها وبال التشتت للمنطقة العربية في الثمانينات، و هو ما أدى في التسعينات إلى الاستقطاب و الانهيار النهائي للمنظومة العربية.5 يضاف إلى هذه التوترات الهيكلية زوال العراق كطرف إقليمي مؤثر، و الديناميكيات الإقليمية الجديدة الناجمة عن انهيار النظام البعثي في العراق و صعود إيران كقوة إقليمية.6

إن خسارة العراق كقوة جيوسياسية مضادة لإيران تركت تأثيرًا دائمًا على عدة دول في مجلس التعاون الخليجي، التي ترى في إيران خطرا واضحا وحاضرا يتهدد ازدهار مجلس التعاون الخليجي، وقد أحست الدول الأصغر حجما مثل البحرين والإمارات بوجود يد إيرانية بداخله، وجلبت الظروف الجيوسياسية المعقدة الناتجة عن الثورات العربية نصيبها من التوترات منذ 2011م، حيث زادت الانكسارات داخل المنطقة العربية. وفي الواقع، تركت الانتفاضات العربية انطباعا فريدا من نوعه لدى دول مجلس التعاون الخليجي، حيث شجع بعض الدول الأعضاء الصغرى على التدخل في مبادرات غير مسبوقة في مسار التغيير والانتقال في دول المغرب والمشرق العربي. بهذا العمل، قد يكون في هذا العمل تحدّ للسلطة المركزية لمجلس التعاون الخليجي، إلا أنه في الآن ذاته يبرز حيوية وقدرة المجلس ككتلة إقليمية قائمة الذات.

أصبح الحديث المتردد عن منطقة الشرق الأوسط كمكان خطير وغير مستقر مقولة متداولة على كل لسان، إذ لا يمر يوم واحد دون وقوع أعمال عنف يقترفها هذا الطرف أو ذاك، وغالبا ما تكون الجهات المسؤولة هي دول هشة أو أطراف أخرى خارجة عن القانون، وعلى عكس ما مضى، هذه الأحداث ليست معزولة. وهكذا، فإن العنف متفش في كافة أنحاء المنطقة ويؤثر على مواقف الدول وعلى علاقاتها. علاوة على ذلك، وعلى عكس حقبة الثمانينات حيث اقتصرت جغرافيا العنف على مسارح محدودة، فإن أحداث العنف التي نشهدها اليوم يمكن أن تقع في أي وقت وفي أي مكان في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كما أن العنف أكثر شدة وقسوة ولا يستثني أحدا. بالنسبة لدول مجلس التعاون المحاطة بدول تجمع بين الضعف والهشاشة والعدوانية الكامنة، فإن الأمن (انعدامه) لم يسبق له أن يكتسي هذه الدرجة من الأولوية. تواجه دول مجلس التعاون تحديات أمنية معقدة تشمل أطرافا "حكومية" وغير تابعة للدول، وعادة ما يكون تشتت التهديدات الأمنية سببا في تعميم المخاطر ومضاعفتها.

 من ناحية الجماعات غير الحكومية، تخشى دول المجلسفي المقام الأولمن تفشي الطائفية التي قد تتعمق لتهدد تماسك النسيج الاجتماعي وتتسبب في انقسام المجتمع، وكما نرى في العراق، عندما يتفكك النسيج الاجتماعي، يصبح الإصلاح شبه مستحيل، وتضعف السلطة المركزية وتصبح معرضة للخطر. ثانيا، يعتبر خطر الإرهاب واقعا في يومنا هذا وتعي بلدان مجلس التعاون جيدا مخططات تنظيم القاعدة الإرهابي ومشتقاته ونواياهم في شبه الجزيرة العربية، ولا خيار أمامها غير توخي الحيطة واليقظة والعمل يدا واحدة مع بعضهم البعض ومع حلفائهم من أجل احتواء هذا الخطر الداهم. ثالثا، أصبحت دول المجلس تحس بالضغوط الثورية التي لم يكن لها وجود على الإطلاق – في شكلها الراهن، على الأقل – قبل 30 عاما مضت. فقد حاولت الحركات الإسلامية المتشددة زرع جذورها في بلدان مجلس التعاون الخليجي وقد ساعدتهم التطورات الحاصلة في أنحاء أخرى من المنطقة العربية على هذا العمل، وهو ما رفع من حساسية دول المجلس لهذه الحركات للتطورات التي تشهدها بلدان المنطقة الأخرى ولكنها لم تكن دائما تمتلك الأدوات والأموال الكافية لتغيير مسار الأحداث في بلدان الجوار. وحيثما استطاعوا، تدخلوا ولكن في غياب استراتيجية شاملة لدول المجلس، مما يعني أن هذه الجهود تظل مفرقة أو متضاربة.

أما على مستوى الدول، تواجه دول مجلس التعاون الخليجي تحديات يمكن تقسيمها إلى صنفين: تداعيات انهيار الدول الضعيفة من جهة، وتدخلات القوى العظمى من جهة أخرى، ضمن الفئة الأولى، تشكل العراق واليمن مصدر قلق وسوف يشكل انهيارهما – بطرق متعددة – تهديدا لأمن دول مجلس التعاون الخليجي، أما من ناحية التدخل الأجنبي، تظل العديد من دول المجلس غير مطمئنة للنوايا الإيرانية، وبرنامجها النووي ودورها الإقليمي. إذ تقبل دول المجلس بمكان لإيران في المنطقة و لكنها ترفض أعمالها التخريبية داخل منطقة مجلس التعاون بالإضافة إلى الدور الذي تلعبه في العراق و سوريا و لبنان و ربما كذلك في اليمن، و بالنظر لجملة القضايا المتعددة و المعقدة و التي تؤثر على مواقف كل طرف، تزداد بالنسبة لدول المجلس صعوبة إدارة علاقاتها الثنائية مع طهران, و العمل الجماعي مطلوب في هذا الصدد، و بنفس الصورة في علاقة بإسرائيل و تدخلاتها في المنطقة العربية, و تطرح كل من هذه الدول، إلى جانب تركيا، جملة من القضايا و التحديات المتنوعة على مجلس التعاون الخليجي.

بعيدا عن المنطقة، يجب على دول مجلس التعاون الخليجي أيضا أن تنتبه للآثار المترتبة على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من جراء "التحول الممنهج" على المستوى العالمي وكذلك دور القوى الآسيوية المتنامي في غرب آسيا. التحول الممنهج يعني إزاحة السلطة، الأمر الذي غالبا ما يخلق فراغا. على الرغم من أن التحول المنهجي قد ينطوي على تغير شامل، إلا أن آثاره ليست مطلقة. لذلك، في حين أن الشرق يشهد صحوة، فمن المؤكد أن هذا لا يتم بالضرورة على حساب الغرب، أو أن الغرب آخذ في الانحدار بالضرورة. صعود آسيا لا يعني زوال الغرب. ومع ذلك، فإن صعود الصين والاقتصادات الآسيوية الأخرى له بالتأكيد آثار استراتيجية على مجلس التعاون الخليجي المعولم. التغاضي واحد ولكن جانبا هاما من تنامي نفوذ الشرق في الشرق الأوسط يطرح مخاطر لهذا الأخير من التوترات الأمنية الخاصة في آسيا زرع أنفسهم في الخليج. وهناك جانب هام، رغم أنه كثيرا ما يتم التغاضي عنه، من جوانب تأثير الشرق على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهي المخاطر التي قد تتهدد هذه المنطقة بسبب التوترات الأمنية الآسيوية التي قد تنتقل إلى دول الخليج. إن ضجة الاضطرابات التي تتسم بها العلاقات بين البلدان الآسيوية تبعث على القلق ويجب أن يستعد مجلس التعاون الخليجي لمواجهة تحديات أمنية جديدة وغير متوقعة وناتجة عن المنطقة التي تتركز فيها معظم تبادلاته التجارية والأسواق والاستثمارات. ففي هذه مناطق جنوب وشرق آسيا غير المهيكلة رغم كثافتها، يؤجج التنافس بين الدول لهيب الاضطرابات التي يمكنها أن تتسرب لتؤثر في رفاه الشعوب الأخرى. ويمكن القول بأن الاستراتيجية التي يمكنها أن تنجح هي نموذج "شبكة النجمة" hub and spoke – التي تشمل قوى إقليمية وغير إقليمية بطريقة انتقائية لتعزيز الأمن الداخلي لمنطقة مجلس التعاون الخليجي. غير أن هذا الأمر لا يمكن تطبيقه والعمل به إلا عند بلوغ مستوى من التكامل داخل المنظمة أفضل بكثير من التصور السائد إلى حد الآن في مجلس التعاون الخليجي.

إن الاختلافات السياسية بين دول مجلس التعاون الخليجي، المدفوعة إلى حد كبير بالأولويات الوطنية المختلفة، خلقت انقسامات واضحة في الكتلة، مما أدى إلى الاعتقاد بأن المجلس قد يكون متجها إلى الانهيار بسبب الضغوط المتنافسة التي تفرض عليه. صحيح أن الخلافات السياسية والسياسة الخارجية بين قطر واثنين من دول مجلس التعاون الخليجي على مدى تأثير جماعة الإخوان المسلمين في دول مجلس التعاون الخليجي قد وضعت ضغطا على كتلة مجلس التعاون الخليجي، ولكن هذه الاختلافات وأخرى مماثلة لها لم تستطع حتى الآن تقويض اللحمة المؤسسية للمنظمة, وعلاوة على ذلك، ساعد تعامل سلطنة عمان الثنائي مع إيران على تسهيل الحوار مع إدارة الرئيس حسن روحاني وأظهرت للغرب القيمة الاستراتيجية لدول مجلس التعاون الخليجي كشركاء في معالجة المشاكل الإقليمية، وأخيرا، و على الرغم من التوترات، ظل المجلس كتلة واحدة وحاول التوفيق بين الأطراف المختلفة بداخله و تقريب وجهات نظرهم المتباعدة، ولكن مع نتائج متفاوتة.

من جهة أخرى، يمكن للتعددية في مجال السياسة الخارجية ضمن سياق اتحاد وثيق – كما شهدنا في أوروبا – أن يعود بالفائدة على المجموعة ككل. في أوروبا، تمكن الأعضاء الرئيسيون في الاتحاد، من خلال القبول بالأهداف المشتركة، من البروز في المحافل الدولية وبالتالي من تقوية مكانة الاتحاد الأوروبي على المستوى العالمي. وبصورة مماثلة، في منطقة الخليج، وعن طريق وضع أهداف مشتركة مستمدة من القيم والعادات والأعراف التي تجمع بين دول المجلس، يستطيع الأعضاء استخدام حنكتهم وفطنتهم السياسية لممارسة النفوذ في المنطقة على نطاق واسع خدمة لمصلحة دول المجلس، ويمكن القول بأن سياسات بعض الدول مثل قطر وعمان قد تبدو ضربا من النشاز وذلك يمكن تفسيره بغياب التنسيق الوثيق على مستوى مجلس التعاون الخليجي.

لتحقيق الاتحاد، ينبغي على دول مجلس التعاون الخليجي إعادة النظر في المبادئ التي أدت إلى إنشاء الكتلة في المقام الأول - وهما الدفاع والأمن المشتركان – وأن تدرك حقيقة أنه في حين أن العولمة قد مكنت البعض منها لتطوير علاقات دولية فريدة من نوعها، فإن موقع دول مجلس التعاون الخليجي في هذه المنطقة شديدة التقلب والديناميكية يجعلها دائما عرضة لضغوط جيوسياسية, و لا يمكن إدارة هذه الضغوط إلاّ في تحت مظلة واقية، و بشكل جماعي فقط يمكن لهذه الدول أن تتوصل إلى تسوية مع إيران، و أنه بشكل جماعي فقط يمكنهم مواجهة أي ردة فعل سلبية من طرف الجماعات الجهادية السنية الناشطة على مقربة من ديارهم في سوريا والعراق واليمن، ومصر.

بالإضافة إلى المتطلبات الجيوسياسية لقيام "اتحاد الخليج"، يمكن للمرء أيضا استعراض الأساس المنطقي الاقتصادي لهذا الأمر. من المثير للاهتمام أن مجلس التعاون الخليجي قد بدأ مداولاته حول الاتحاد النقدي قبل المنظمات الإقليمية الأخرى في جنوب الكرة الأرضية و، في حين أن موعد إعلان هذا الاتحاد عام 2010 قد جاء وذهب، تفرض ضغوط العولمة على المنظمة إعادة النظر في مشروع العملة الواحدة مرة أخرى في المستقبل القريب ومعالجة أثر اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية التي توصل إليها بعض أعضائها. ومن المعلوم أن شرط الازدهار في تقلبات الاقتصاد العالمي هو أن تعمل دول مجلس التعاون الخليجي بمزيد من الانسجام من أجل تقليل المخاطر الناجمة عن التقلبات الاقتصادية وأيضا لتعظيم الفوائد التي يمكن نيلها من الفرص التي تتيحها بوادر النموّ في آسيا والتعافي في أوروبا والولايات المتحدة. كما سيساعد تعزيز الاتحاد أيضا دول مجلس التعاون الخليجي في محاولة التعامل مع التيارات الأخرى الناشئة من حوله بما في ذلك اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ ومنطقة التجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي وأمريكا. هذه هي المبادرات الرئيسية التي سوف تؤثر بشكل مباشر على مجلس التعاون الخليجي، ولكن لا توجد كتلة إقليمية أخرى لديها الوسائل المالية لمواجهة التحديات والفرص العالمية الناشئة، وليس التعاون الوثيق بين هذه الدول سوى خدمة لمصلحة وخير المجموعة ككل، ومن المفارقات أنه حين تدرك الأمانة العامة للمجلس منافع الاتحاد النقدي، إلا أن الأزمة المالية في أوروبا والارتفاع السريع للأصول والأموال الخارجية لمصدري النفط الرئيسيين قد كبحت حماس الدول تجاه الاتحاد النقدي.

هنا لابد من طرح السؤال: هل هذه هي "لحظة الاتحاد" لدول مجلس التعاون الخليجي؟ وقد طرحت هذه المسألة في قمة رؤساء دول مجلس التعاون الخليجي لعام 2011م، بالرياض، وتم التعمق فيها في اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي في الكويت عام 2012م، و تم تقديم مقترح عملي بعنوان "نقلة نوعية في التعاون المتبادل": بناء هيكل متكامل وآلية موحدة لتعزيز قدرة دول مجلس التعاون الخليجي للرد على التهديدات الجيوسياسية التي تواجه دول الخليج الست, و تلت ذلك الكثير من النقاشات حول مفهوم الاتحاد، ومال المشككون إلى التركيز على فقدان السيادة, ومع ذلك، بالنسبة لمجموعة من الدول المنخرطة بعمق في عالم معاصر "ما بعد الحداثة" بالأساس، الذي ما انفك يرتسم رغم استمرار التعلق بالسيادة الترابية النابعة من عقليات القرن العشرين في الشرق الأوسط، يمكن معالجة مثل هذه المخاوف من خلال التفاوض على مبادئ الاتحاد والتي سوف توازن في نهاية المطاف بين الوحدة و التنوع.

يمكن للسيادة الجماعية، حسب تعبير صاحب السموّ الملكي الأمير تركي الفيصل أن تعزز معاني الاستقلال لكل دولة من الدول.7 وبالفعل، كما شهدنا في أوروبا وجنوب شرق آسيا، فإن خلق مجتمع متقارب أكثر لا يجب أن يكون على حساب الدول القومية، وفي الواقع، العكس صحيح: إن التعاون الوثيق الذي يسهل تجميع الموارد يمكن أن يساعد على إعادة توزيعها في مصلحة المجموعة ككل وبالتالي لأجل تحسين وضع الشركاء الأقل رفاها وحصانة. 

بعد أن حققت كتلة المجلس هذا القدر من النضج وتحولت إلى كيان إقليمي يتمتع بالمصداقية، وأصبحت بمثابة الممثل الإقليمي الأكثر أهمية في منطقة الشرق الأوسط، والكيان الإقليمي الرائد في الحوار مع المنظمات الإقليمية الأخرى مثل الاتحاد الأوروبي والآسيان، ربما يكون  قد حانت لحظة التقييم الذاتي بالنسبة لمجلس التعاون الخليجي، ومن ثم وضع تصور لمكانته في عالم الغد. مع منتصف القرن الواحد و العشرين، سوف يشهد ميزان القوى العالمي تحولا جذريا و سيقترب مركز الثقل أكثر من منطقة الخليج، لعل المنظمة تقوم بإعادة تقييم أولوياتها الاستراتيجية و من ثم، تحديد ملامح الصورة التي يريدها المجلس لنفسه حتي يضمن المصالح بعيدة المدى والأمن للدول الأعضاء، ونظرا لاختلال ميزان القوى داخل مجلس التعاون الخليجي، لا مفرّ من بروز إحدى الدول كقوة رئيسية، و لكن هذه القوة الرئيسية كما في المناطق الأخرى، نادرا ما تعني الطغيان ضمن منظمة إقليمية – إذ لم تمنح الهيمنة الألمانية في الاتحاد الأوروبي ألمانيا تفويضا مطلقا للتصرف من جانب واحد و لا توخي طريقته الخاصة في معالجة القضايا الكبرى. على ألمانيا أن تقوم بإنشاء التحالفات وأن تستثمر جهودها في سبيل تحقيق مصالح شركائها عندما تحاول دفع الاتحاد الأوروبي في هذا الاتجاه أو ذاك، وهكذا فإن بناء الشراكات القوية وحتى التحالفات داخل المجلس، بعيدا عن الاستقطاب، يمكن أن يدعم استقرار هذا الهيكل وأن يرسخ ضرورة الالتزام بخدمة مصالح الدول الأصغر حجما.

وبينما يتم تدارس مشروع إقامة اتحاد لتحقيق النجاح للمجلس، يجب على مجلس التعاون الخليجي الاقتداء بتجربة مجموعة الميركوسور في إنشاء سلسة إقليمية من الشراكات – من خلال خلق فئات "العضوية المشاركة" (أو الانتساب) وغيرها – لإعطاء دول الجوار حصة في استقرار الكتلة نفسها، وبهذا، يكون الاتحاد المرتقب قد أعد المنتسبين له (الأعضاء المشاركين) من بلدان الجوار لتبني معايير الاتحاد ومن ثم يستطيع معالجة أية نوايا معادية لدى جيرانه بطريقة مباشرة (وبناءة في الوقت نفسه).

وبناء على ما تقدم، ومن وجهات نظر عديدة ووفق مقاييس مختلفة، فإن لحظة قيام الاتحاد لدول مجلس التعاون الخليجي قد حانت.

* الكاتب

الأستاذ أنوش احتشامي هو أستاذ العلاقات الدولية و مدير برنامج صاحب السمو الشيخ ناصر المحمد الصباح للعلاقات الدولية و السياسات الإقليمية و الأمن في معهد الحكومة و الشؤون الدولية بجامعة دورهام، و هو أيضا عضو مجلس إدارة مركز جامعات "دورهام - ايدنبرغ – مانشستر" الممولة من قبل مؤسسة مجالس البحث العلمي في المملكة المتحدة، لدراسات العالم العربي (CASAW)، و الذي يركز أبحاثه منذ 2012 م , على "العالم العربي في طور التحول".

_____________________________

  1. بالنسبة للجانب العربي، فإنه لا يجوز المبالغة في تقدير نتائج التقدم الإيراني، وكما عبر عنه جلالة الملك حسين في ذلك الحين:" أعتقد فعلا بأن العراق في غاية الأهمية بالنسبة لمستقبل المنطقة بأسرها، فهي الطريق (الأرضية) المؤدية للمملكة العربية السعودية، والخليج، إلى قلب المنطقة". مجلة تايم، 26 يوليو، 1981م، ص10.
  2. صحيفة The Guardian، 26 مايو، 1984 م.
  3. انظر مقال أنوشي رافان احتشامي، ديناميكيات التغيير في الخليج العربي: الاقتصاد السياسي، الحرب و الثورة"، (New York, NY: Routledge, 2013).
  4. مهران كامرافا (ed.) The Political Economy of the Persian Gulf (London: Hurst, 2012).
  5. Paul Noble, “From Arab System to Middle Eastern System? Regional Pressures and Constraints,” in The Foreign Policies of Arab States: The Challenge of Globalizationedited by Bahgat Korany and Ali E.
  6. Joseph Kostiner, “GCC Perceptions of Collective Security in the Post-Saddam Era,” in International Politics of the Persian Gulfedited by MehranKamrava(New York, NY: Syracuse University Press, 2011), 94-119.
  7. Cited in Christian Koch, Constructing a Viable EU-GCC Partnership, Paper no. 34, Kuwait Programme on Development, Governance and Globalisation in the Gulf States,  January 2014.
مجلة آراء حول الخليج