; logged out
الرئيسية / الخدمات .. والتكامل الاقتصادي الخليجي

العدد 101

الخدمات .. والتكامل الاقتصادي الخليجي

الأحد، 01 تشرين2/نوفمبر 2015

قد تكون السياسة الخاصة بدول مجلس التعاون الخليجي محل استفسار أو مثيرة للجدل في بعض الأحيان[1].لكن المجلس نجح وطور التعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء ليشمل التبادل التجاري والاستثمارات المشتركة. وطبقاً لعدد من المقاييس، تظل تجربة التكامل الاقتصادي لدول مجلس التعاون تشكّل مثالاً ناجحاً. ويمكن القول: أن أبناء دول مجلس التعاون، ومعهم صنّاع القرار، ركزوا على الأهداف الكبرى والطموحة، مثل الاتحاد النقدي والاتحاد الجمركي الذي أثار كثيراً من النقاش، ليس بدرجة أهمية إجراءات التقييس والتقارب التنظيمي التي من شأنها أن تسهّل الاستثمارات المشتركة والمتبادلة، حتى وإن كانت أقل بروزاً، وهو مجال عمل يحتلّ مكانة أهم من التجارة البينية العابرة للحدود التي لا تزال محدودة النطاق.

شهد اقتصاد دول مجلس التعاون نموّاّ سريعاً منذ بداية ارتفاع أسعار النفط في أوائل الألفية الثالثة، لكن الاقتصاد الكلّي لهذه الدول لا يزال في مرتبة هامشية مقارنة بالاقتصاد العالمي، حيث بلغ مجموع الناتج الإجمالي المحلي للمنطقة نحو 1.6 تريليون دولار في عام 2013م، أي أقل من كندا، وأكثر قليلاً من نصف الناتج الإجمالي المحلي الفرنسي. ولذلك، فإنه لا عجب في أن تظلّ أهمية التبادل التجاري مع بقية دول العالم أكبر كثيراً من مكانة التبادل الإقليمي الداخلي بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي. ففي حين أن حجم التبادلات التجارية البينية داخل مجلس التعاون قد تضاعف منذ عام 1980م، فهي لا تزال تمثّل نحو 8 % فقط من إجمالي التبادل التجاري الخليجي حالياً.

ولا يعود توجه التجارة نحو الخارج إلى صغر حجم الأسواق الخليجية فقط مقارنة بالأقاليم الشريكة، مثل آسيا وأوروبا أو أمريكا الشمالية، بل هناك أيضاً محدودية في تبادل السلع بين دول مجلس التعاون بسبب عدم التكامل بين اقتصادات دول المنطقة. فجميعها تنعم بثروات طبيعية متشابهة من حيث موارد الطاقة، ورأس المال الوفير، والقوى العاملة الرخيصة التي تتكون من العمالة الوافدة. وتميل هذه الدول إلى إنتاج السلع نفسها خارج قطاع المحروقات، ولاسيما منتجات الصناعة الثقيلة ذات الاستهلاك المكثف للطاقة، وكذلك بعض منتجات الصناعات التحويلية من مشتقّات النفط.

وتفتقر كتلة دول مجلس التعاون إلى عنصر ذي قيمة مضافة، وهو مجمّعاتسلاسل القيمة المتشعبة التي سبق وأنشأتها المناطق الاقتصادية الأعظم، مثل الاتحاد الأوروبي، ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان). ففي هذه المناطق، تقوم الشركات من مختلِف الدول بإنتاج البضائع المتقدمة، مثل السيارات والطائرات والمعدّات الصناعية بصورة مشتركة، حيث تسهم الاقتصادات المختلفة في شتى مراحل عملية الإنتاج، بحسب مخزونها من الثروات والموارد وأسعار التكلفة وقدراتها التقنية. ولا يتم استغلال إلاّ القليل من مثل هذه المزايا التنافسية. وبالنسبة لدول مجلس التعاون، بل في منطقة الشرق الأوسط بأسرها على الأرجح، فإنه لا يوجد إلاّ القليل من التبادل الصناعي البيني، كما أن معظم الإنتاج يتم على المستوى المحلي، وليس عن طريق الشراكة الإقليمية أو التجارة العابرة للحدود.

وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل حجم التجارة البينية الإقليمية أعلى في رابطة الآسيان (تشكل أكثر من خٌمس إجمالي حجم التبادل التجاري العالمي)، أو في أوروبا (تشكل أكثر من نصف حجم ذلك التبادل). ويرجع غياب سلاسل القيمة العابرة للحدود جزئياً إلى نقص التطور التكنولوجي في مجال التصنيع. ويمكن التغلب على هذا النقص مع مرور الوقت. إلى جانب ذلك، تظل العقبات البيروقراطية واللوجستية الكبيرة التي تعيق التجارة البينية الإقليمية قائمة. وقد سبق أن تسببت الاختلافات السياسية والإدارية في تباطؤ تدفق السلع عبر الحدود بين السعودية والإمارات وسلطنة عُمان وقطر. ويمكن الحدّ من هذه العوائق أيضاً مع مرور الزمن.

لكن التشابه من حيث عناصر الإنتاج المتاحة ومستويات الأسعار بين بلدان مجلس التعاون يجعل من إيجاد مجمعات التصنيع المتشعبة العابرة للحدود هدفاً صعب المنال، حتى على المدى البعيد. وحتى إذا تحقق ذلك، فمن الأرجح أن تنشأ سلاسل القيمة بالاشتراك مع اقتصادات الجوار مع توفر عوامل انخفاض تكلفة اليد العاملة والعجز في رأس المال، مثل مصر والأردن.

ولا توجد دراسة موثوق بها حول تأثير التكامل التجاري في دول مجلس التعاون في الاقتصاد الكلّي، ولكن نظراً لتركيبة التجارة الحالية والمستقبلية المحتملة فإنه من الواضح أن تأثيرات النموّ ستكون على الأرجح متواضعة نسبياً. إن نشاطات الصناعة التحويلية المحدودة التي حققت مستوى عالمياً في المنطقة، مثل البتروكيماويات والألمنيوم والبلاستيك، بدرجة أقلّ، موجّهة إلى الخارج، وهي تعتمد على الطلب الآسيوي بدلاً من الأسواق الإقليمية الأصغر.

سوقالخدمات

إن كانت إمكانات التجارة في البضائع محدودة، فهل يعني هذا أنه على دول مجلس التعاون أن تكبح جماح طموحاتها نحو التكامل الاقتصادي الإقليمي؟ لعلّ هذا مجرد استنتاج خاطئ، فقد ركزت دول المجلس على تحرير التجارة أساساً، لأن ذلك يمثل الوصفة التقليدية الدولية لتحقيق التكامل الاقتصادي. إلاّ أن الاقتصاد العالمي يشهد تغييراً مستمراً مع تنامي أهمية التبادلات التجارية في قطاع الخدمات والاستثمارات العابرة للحدود، وليست منطقة مجلس التعاون بمنأى عن هذه التوجهات، التي هي على الأقل، معلنة بشكل أوضح في بقية العالم، إضافة إلى تركيز نظم التكامل الاقتصادي خارج مجلس التعاون على تنظيم التجارة في مجال الخدمات والاستثمار الأجنبي المباشر، وهو في المقابل تحول لم يحدث إلا بنسق بطيء في كتلة مجلس التعاون الخليجي على الأقل على مستوى السياسات العليا.

وعلى الرغم من شحّ المعلومات الموثوق فيها في هذا المجال، فإنه من الواضح جداً أن التبادل التجاري في قطاع الخدمات شهد ازدهاراً كبيراً اعتباراً من بداية الألفية الثالثة، إذ كان حجم هذا التبادل ضعيفاً جداً قبل ذلك. وقد ظهر روّاد هذا المجال الإقليميون، وحتى العالميون في بعض الأحيان في قطاعات الاتصالات والطيران والإمداد اللوجستي والخدمات البترولية والتجزئة والسياحة والعقارات، فضلاً عن مشاريع البناء والتشييد الواسعة النطاق.

وتميل المؤسسات الخليجية الرائدة في قطاع الخدمات، مثل زين وأرامكس والفطيم وإعمار، إلى تركيز أعمالها على النطاق الإقليمي أكثر من نظيراتها من شركات التصنيع التي تسيطر الدولة على ملكيتها، مثل سابك أو صناعات قطر. وحيث إن شركات الطيران الكبرى المملوكة للدولة، مثل طيران الإمارات والخطوط القطرية، تنتهج استراتيجية عالمية، فإن شركات خاصة أصغر حجماً، ولكنها مهمة، مثل العربية والجزيرة، تقوم بتقديم خدمات إقليمية في أغلبها.

وتظل العقبات التي تحول دون أنشطة قطاع الخدمات العابرة للحدود قائمة في بعض الأسواق المهمة، فلا يزال النفاذ إلى سوق الطيران خاضعاً للقيود، حيث لم تبدأ السعودية في فتح قطاع الطيران المحلي المهم لديها إلاّ مؤخراً أمام المنافسين من جيرانها الخليجيين. كما أن النفاذ إلى سوق الخدمات المصرفية للأفراد لا يزال محدوداً، ولكن أينما تم السماح بتقديم الخدمات العابرة للحدود، ازدهرت هذه التجارة مستفيدة من المزايا التنافسية الحقيقية للشركات المنفردة.

وفي دول مجلس التعاون، يبدو أن أهمية وفورات الحجم Economies of scale هي فعلاً أكبر في أسواق الخدمات منها في أسواق التصنيع، حيث أن مزايا القرب الجغرافي في قطاع الخدمات أكثر من مزاياه بالنسبة للتصنيع، نظراً لكون القدرة على تكييف الخدمات لتلبية الحاجيات والمتطلبات المحلية أكثر أهمية، وليس خوض السوق العالمية ضرورياً حتى يكبر حجم الشركة. وحسنت المنافسة البينية داخل كتلة مجلس التعاون بشكل كبير من إمكانيات الاختيار، ومن جودة الخدمات في المنطقة، حتى إنه يمكن القول إن قطاع الخدمات الخليجي متقدم على القطاع الصناعي، مع تزايد العلامات التجارية التي تحظى بالشهرة والاعتراف حتى خارج حدود المنطقة على الرغم من تركيزها الكبير على الأسواق الخليجية.

وقد اضطلعت الإمارات، ودبي على وجه الخصوص، بدور محوري في هذا المضمار، وهي لا تزال المركز الرئيسي لصناعة الخدمات في المنطقة. وقد نجحت الشركات المصدّرة للخدمات في الأسواق المجاورة في تبنّي نماذج الأعمال التي تم تطويرها في دبي، وشكلت دبي مركزاً مهماً لاستقبال الاستثمارات الخليجية في قطاع الخدمات.

الفضاء الاستثماري

يفسر ازدهار الاستثمارات العابرة للحدود في الواقع وإلى حد بعيد نشأة سوق متحدة للخدمات في منطقة الخليج، وهي مستمرة في التطور حتى وإن كانت مسيرة التكامل على الصعيد السياسي لم تحقق تقدماً يُذكَر.

ويتركز الاستثمار العابر للحدود على نطاق واسع في قطاعات الاتصالات والتجزئة والعقارات والسياحة والصحة والخدمات المصرفية لغير الأفراد (وبدرجة أقل التصنيع). ويمرّ هذا النوع من الاستثمار بمرحلة من الإقلاع التدريجي في قطاع الطيران. وقد استقطبت مؤسسات ملك الدولة، إضافة إلى الشركات الخاصة، واكتسب ديناميكية إضافية مع ظهور صناعة السندات الإقليمية الخاصة التي تقودها الشركات الرائدة، مثل انفستكورب INVESTCORP أو "أبراج" اللتين تعهدتا بصفقات عابرة للحدود متوسطة الحجم، تغطي مجموعة واسعة من القطاعات.

وقد بلغ معدل التدفق السنوي للاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى دول مجلس التعاون نحو 30 مليار دولار منذ عام 2001م، بعد أن كان أقلّ من مليار خلال تسعينيات القرن الماضي، مما يشكل نصيب الأسد من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة في العالم العربي، والأهم من ذلك هو أن ثلث المبلغ (30 مليارًا أو أكثر)، كان من الاستثمارات الأجنبية المباشرة النابعة من بلدان مجلس التعاون الخليجي نفسها.

وبينما توجد تقاليد عريقة من الاستثمار الأجنبي المباشر الكويتي والسعودي في البحرين، إلاّ أن التدفقات ازدادت تنوعاً خلال العقد الأخير، فقد أصبحت دولة الإمارات بمناطقها الحرة أهم مركز للاستثمارات الأصغر حجماً. وقد أصدرت السلطات في مختلِف الإمارات 30425 ترخيصاً تجارياً للمواطنين الخليجيين بين عامي 2000 و2012، 43.2 % منها أُسندت لمواطنين سعوديين. كما أصبحت المملكة العربية السعودية بدورها قبلة مميزة للمستثمرين من دول المجلس المجاورة، نظراً لحجم السوق الكبير والمتنامي، وكذلك بسبب صعوبات النفاذ إلى هذه السوق لغير الخليجيين من المستثمرين، مما يمنح أفضلية استراتيجية للشركات الخليجية.

وقد تعزّز حضور الشركات الإماراتية الناشطة في ميادين العقارات والسياحة بالسعودية على غرار إعمار وداماك أو روتا. وتمثل السوق السعودية نحو نصف سجلّ الطلبات والإيرادات لشركة درايك آند سكال للمقاولات العاملة بدبي. وتشمل بعض العلاقات الجديدة نشاط شركات التجزئة الإماراتية والكويتية في المملكة العربية السعودية، واستثمارات الشركات الإعلامية السعودية والكويتية في الإمارات، والأنشطة الواسعة النطاق للشركات العقارية القطرية في سلطنة عُمان، مع استثمارات هائلة عابرة للحدود في قطاع الاتصالات تشمل دول مجلس التعاون كافة، سواء كمصدرٍ أو كمتلقٍّ.

التقارب الحقيقي

لم تنشأ أسواق الخدمات المتكاملة هذه من فراغ تنظيمي؛ وعلى الرغم من أن هذا لا يشكل أولوية كبرى على الصعيد السياسي فإن الحكومات الخليجية بذلت جهوداً ملحوظة باتجاه فتح قطاعات مهمة أمام الاستثمار الأجنبي وتوحيد المعايير التنظيمية. وقد عملت بلدان مجلس التعاون على منح المستثمرين الإقليميين المكانة نفسها التي يتمتع بها نظراؤهم من المواطنين في إطار السوق الخليجية المشتركة، حتى وإن عانت هذه السياسات، في المراحل الأولى، من بعض الصعوبات على المستوى العملي. وحيثما نجحت السياسات، كان لها أثر إيجابي مباشر في المستهلكين. وفي قطر، مثلاً، المعروفة بارتفاع الأسعار ومحدودية المنافسة المحلية، أصبح على أصحاب وكالات السيارات أن يتنافسوا مع وكالات البيع من البلدان المجاورة، مما أدى إلى خفض الأسعار.

كما تم إجراء التوحيد فيما يتعلق بمعايير المنتجات، ومواءمة المقاييس أو إمكانية الانتفاع بالتأمين الاجتماعي، مما سمح لمواطني دول مجلس التعاون الخليجي بالعمل في الدول الخليجية المجاورة بقدر أكبر من الراحة. وعلى الرغم من أن عدداً من سياسات التكامل العليا ظلت عالقة، على غرار المجال الجوي المشترك أو الأسواق المالية المشتركة أو الاتحاد النقدي، فقد تم إحراز كثير من التقدم في مستوى منخفض، في شؤون التحرير الاقتصادي والتقييس، دون أن يتم التنويه بهذا علناً.

ولم تتم كل الإصلاحات المتعلقة بمنظومة الاستثمار والتقارب التنظيمي تحت رعاية خليجية بحتة. ففي حال السعودية، مثلاً، تم تحرير الاستثمار في أسواق الخدمات الرئيسية كإجراء تمهيدي للالتحاق بمنظمة التجارة العالمية في عام 2005م، كما أن الخطوات الأخرى من عملية تحرير الاستثمار الأجنبي المباشر عبر دول مجلس التعاون الخليجي – مثل إقامة المناطق الحرّة أو فتح قطاعات التجزئة والعقارات للمستثمرين الأجانب – كانت خطوات عامة، ولم تكن تقتصر على دول مجلس التعاون الخليجي.

وفي الواقع، فقد جاء جزء كبير من عمليات الانفتاح على الاستثمار الأجنبي المباشر والتسهيلات التنظيمية كنتيجة للمنافسة داخل دول مجلس التعاون وليس كنتيجة التعاون: ومع بروز دور الإمارات الرائد في وضع المعايير للتنظيمات الملائمة للاستثمار، شعرت الحكومات الخليجية بضغوط متزايدة لجعل أسواقها وجهات جذّابة للمستثمرين الدوليين والإقليميين والحفاظ على ذلك المكسب. وقياساً، فإنه كثيراً ما كان التنافس هو الذي يؤدّي إلى عدم التعاون على المستوى الرسمي، مما دفع الحكومات إلى التنافس بعضها مع بعض لجذب المستثمرين. ومن المفارقات أن هذا الأمر قد أفضى إلى التكامل، ومن أهم الجهات المستفيدة من تحرير الاستثمار، حتى لو كانت هذه العملية ذات صبغة عالمية في باطنها، هي في الأغلب الشركات الخليجية التي كان بإمكانها استخدام خبراتها المحلية والبنية التحتية المتاحة لها بكل سهولة للتوسع في الأسواق المجاورة.

أسس التكامل الاقتصادي

ينبغي أن يكون تحقيق مزيد من التكامل على مستوى أسواق الخدمات وتسهيل الاستثمار عبر الحدود محور التركيز الرئيسي لجهود التكامل الاقتصادي الخليجي في المستقبل. وليس من الممكن التنبّؤ بدقّة بمدى تأثير مثل هذه السياسات في الاقتصاد الكلّي. ومع ذلك، فمن الواضح من الناحية الهيكلية أن التنويع والتكامل في أسواق الخدمات قد شكّلا خطوة حاسمة بعيداً عن الاعتماد على المحروقات في المنطقة. وتمثل دبي مثالاً جيداً لاقتصاد ما بعد النفط والغاز. فهي من بين جميع أسواق دول مجلس التعاون الخليجي تُعَدّ الأكثر تكاملاً وإسهاماً في تقديم الخدمات عبر الحدود والاستثمار الأجنبي المباشر.

إن الفوائد الملموسة التي جلبتها الخدمات والاستثمارات العابرة للحدود لمواطني دول مجلس التعاون واضحة وجلية، منها خدمات أفضل وأرخص للهواتف الجوّالة، وخيارات أفضل بكثير للنقل الجوي والسياحة المحلية والإقليمية، وتنوع وتنافسية أكثر في قطاعات التجزئة.  ومن خلال تكامل أسواق الخدمات، ربما أكثر من أي سياسة اقتصادية أخرى على مستوى دول مجلس التعاون، يمكن للحكومات الإقليمية بناء الدوائر الانتخابية الشعبية التي تدعم مزيداً من التعاون الإقليمي.

 وتبدو منافع مشروع الاتحاد النقدي الرفيع المستوى أقلّ أهمية مقارنة بالتكامل في مجال الخدمات والاستثمارات الأجنبية المباشرة نظراً لكون معظم عملات دول مجلس التعاون مرتبطة بالدولار. وسوف يتمثل التأثير على الأرجح في انخفاض تكلفة عمليات الاستثمار العابر للحدود، وهي خطوة مهمة، ولكنها ليست كفيلة وحدها بتسهيل إقامة السوق الخليجية المشتركة. ونظراً للرهانات السياسية والرمزية العالية التي يشملها المشروع النقدي، فإن الاستثمار في العمليات الأقرب إلى الواقع من تقييس وانفتاح قطاعي قد يعود بفائدة أكبر.

وهذا لا يعني تخلي صنّاع القرار في دول مجلس التعاون عن بعض الأهداف، مثل الاتحاد النقدي، كما ينبغي أن يستمروا في متابعة الاتحاد الجمركي حيث تم مؤخراً الاتفاق على تقاسم العائدات، مما قد يمهّد الطريق لإحراز تقدم ملموس. إلاّ أنه في الوقت نفسه، ينبغي المراهنة أكثر، على الصعيد السياسي، بشأن التفاصيل العملية لتكامل السوق المشتركة، بما في ذلك فتح قطاعات حيوية، مثل الطيران أو الخدمات المصرفية، والسعي إلى مزيد من الانفتاح والتقارب في الجوانب التنظيمية والإدارية في مجال تجارة التجزئة، والاتصالات، والبناء، والسياحة، والخدمات اللوجستية.

ويجري حالياً تنفيذ مبادرات مهمة في مجالات متنوعة، مثل تقاسم البيانات الائتمانية والسجلاّت الصحية على مستوى دول مجلس التعاون، وإنشاء معايير البناء المشتركة، وتنظيم أسعار التجوال في الاتصالات عبر الهواتف النقّالة roaming services. وتتقدم هذه المبادرات، في معظمها، ببطء، لأنها لا تلقى سوى اهتمام محدود على مستوى السياسات العليا. وإن كان صحيحاً أنه ليس لأيٍّ منها أن تتصدّر عناوين الصحف الدولية، إلاّ أن أثرها التراكمي يمكن أن يكون أعمق كثيراً من المشاريع الرائدة التقليدية قي التكامل الإقليمي في دول مجلس التعاون.

ويتطلب التكامل على مستوى "التفاصيل الجوهرية" للتقارب المثابرة وتوفير القدرات الإدارية المتخصصة. ولذلك، ينبغي بناء المزيد من القدرات في مجالات الإدارة والتخطيط السياسي على المستوى الوطني وعلى مستوى الأمانة العامة لدول مجلس التعاون الخليجي على حد سواء، وليس لتنسيق التنظيمات وتحسينها فقط، بل كذلك لإيجاد بيانات أفضل عن تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة والخدمات العابرة للحدود. كما يتعين على صنّاع القرار أيضاً التفكير في إجراء دراسات استقصائية منتظمة وإنشاء مجموعات التركيز بقصد رصد احتياجات وشكاوى المستثمرين عبر الحدود حتى يتجه تركيز اللوائح التنظيمية نحو القضايا ذات الأهمية الفعلية، ولكي يتسنى للمبادرات التي يقوم بها القطاع الخاص الاستمرار في قيادة التكامل الإقليمي.

.. ما إن تنطلق مسيرة التكامل أو الاتحاد، سوف يحصل المزيد من التكامل المتعدد الاتجاهات على مستوى المعايير والعمليات دون الوقوع رهينة للصراعات الدبلوماسية حول قضايا شكلية، مثل أسماء ومواقع المؤسسات الخليجية الجديدة، وأكثر سهولة من الوحدة النقدية. وعلى سبيل المثال، سوف يسمح التكامل المتعدد الاتجاهات بالتعاون المرن، والذي يمكن بموجبه لبعض البلدان المضي قدماً في اتحاد أعمق دون خلق إشكالات سياسية. وهكذا، فيما يخصّ التكامل الاقتصادي، ربما يتعين على دول مجلس التعاون الخليجي أن تركز أقلّ على المبادرات الضخمة، ذات العناوين والشعارات الرنّانة، وأن تجرؤ على التركيز أكثر على التفاصيل الدقيقة.

 

الهوامش

[1]. عرف مجلس التعاون الخليجي نصيباً من التعثرات السياسية في السنوات الأخيرة، حيث يبدو أن بعض المشاريع الرائدة، مثل العملة المشتركة أو الوحدة السياسية لا تزال عالقة. وفي أوائل عام 2014، أدى نزاع دبلوماسي مفتوح غير مسبوق إلى سحب ثلاثة سفراء خليجيين من قطر، وهو ما يُعَدّ تطوراً أكثر خطورة من سحب السفير السعودي في أعقاب الخلاف السعودي - القطري عام 2002.

مجلة آراء حول الخليج