; logged out
الرئيسية / محفزات التقارب والتباعد بين الخليج وروسيا

العدد 103

محفزات التقارب والتباعد بين الخليج وروسيا

الإثنين، 28 كانون1/ديسمبر 2015

حتى بدايات الألفية الثالثة، كانت العلاقات بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية وروسيا (الاتحاد السوفيتي سابقاً) يغلب عليها الفتور ويشوبها عدم الثقة. ولذلك خلفيات تاريخية معروفة، فالدول الخليجية من جانبها دعمت بطريقة غير مباشرة الحركات والتوجهات الإسلامية في الشيشان وداغستان، وقبل ذلك دعمت المجاهدين الأفغان بشكل كبير وبصورة مباشرة في حربهم ضد الاحتلال السوفيتي.  وفي المقابل اتبع الاتحاد السوفيتي (ومن بعده روسيا) سياسة إقليمية في الشرق الأوسط تتعارض مباشرة مع مصالح وأمن دول الخليج. ابتداءً من ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بدعم النظام البعثي في كل من العراق وسوريا، إضافة إلى مساندة النظام الاشتراكي في اليمن الجنوبي. ثم الاضطلاع بدور الظهير السياسي والعسكري لكل من إيران وسوريا في الثمانينيات والتسعينيات.

ومع دخول الألفية الجديدة وما صحبها في 11 سبتمبر ثم الاحتلال الأمريكي لأفغانستان وبعدها العراق. تعاظم تركيز موسكو في التحالف والتنسيق مع إيران ودعم طموحاتها الإقليمية. بالتوازي مع تقوية الروابط مع سوريا الحليف العربي الرئيسي. وتجسد هذا التحالف الثلاثي لاحقاً في الدعم الروسي الإيراني المشترك، الذي لعب دوراً جوهرياً في إطالة أمد الأزمة السورية ومنع سقوط نظام الأسد. ما أفضى إلى تحول الثورة السلمية إلى حرب أهلية ثم إقليمية، وأخيراً دولية بالتدخل العسكري الروسي المباشر. وقد أوجدت هذه الخلفيات حالة من التوجس وعدم الثقة.

في المقابل، شهدت العلاقات مظاهر إيجابية ومحطات تعاون في السنوات الأخيرة.

على سبيل المثال، بالرغم من أن روسيا تعتبر من أكبر وأبرز المنتجين خارج أوبك، الأمر الذي يضعها في مواجهة وتنافس مباشر مع دول الخليج على الحصص في السوق النفطية. إلا أن ذلك لم يحل دون التعاون للحفاظ على مستويات الإنتاج واستقرار الأسعار لفترة طويلة (2001 – 2014م). قبل أن يعود التباين مجدداً في سياسات التسعير النفطية، على خلفية زيادة دول أوبك حجم الإنتاج بشكل أصاب أسعار النفط في السوق العالمي بهبوط شديد، حتى تدنت في عام 2015م، إلى ما دون 50 دولار.

وحدث أن العام ذاته شهد مظاهر أخرى لتعارض المصالح والسياسات ومن ثم فتور وتوتر العلاقات. كما في الأزمة السورية، حيث تقف روسيا ودول الخليج على طرفي نقيض بشأن كيفية حل الأزمة والخروج من المأزق. ويكشف ذلك التسلسل الزمني، كيف عكست التفاعلات المتباينة وتعدد المسارات بين الجانبين، تذبذباً واضحاً في وتيرة العلاقات بين الدفء والفتور.

محفزات التقارب والتباعد:

1 العامل الأمريكي:

غني عن الإيضاح أن للعامل الأمريكي أهمية وتأثير في مجمل الأوضاع بالشرق الأوسط، سواء لجهة التحالفات القائمة أو التفاعلات الدائرة بين دول المنطقة وسياساتها تجاه القضايا الإقليمية. ويمكن القول أن تراجع التأثير الأمريكي في المنطقة، ومن ثم إفساح المجال أمام قوة عظمى أخرى، سواء روسيا أو غيرها، هو نتيجة توجه أمريكي جديد وليس رد فعل على تحول سياسات دول المنطقة تجاه واشنطن. فقد تخلت واشنطن عن الانخراط المباشر في قضايا المنطقة، وتبنت مواقف سلبية تجاه التطورات والأزمات المتلاحقة، بل كانت أحياناً سبباً مباشراً في تفاقم تلك الأزمات وتعقيدها. وهو ما حدث بشكل واضح وصارخ في الأزمة السورية التي لولا التخاذل الأمريكي في دعم المعارضة السورية ونصرة مطالب الشعب السوري، لربما انتهت الأزمة ونجحت الثورة السورية من الشهور الأولى لها. وهو ما ينطبق أيضاً على حرب "داعش"، إذ كانت مواجهتها أسهل وأقل كلفة في المراحل الأولى لنشاط التنظيم.

من ثم فإن "خيبة الأمل" تعد سبباً رئيساً في توجه بعض دول المنطقة إلى الاستعانة بالدب الروسي، والبحث عن تعويض ولو جزئي لدى موسكو عن غياب المظلة الأمريكية. ومن زاوية أخرى، فإن اتجاه واشنطن إلى أقصى الشرق الآسيوي، هو الذي سمح لموسكو بالعودة إلى الشرق الأوسط بقوة. الأمر الذي يعني بالضرورة أن التفاعلات الإقليمية (بما فيها الخليجية) الروسية، حتى وإن لم تكن بهدف إيجاد بديل لواشنطن، فهي على الأقل لمواجهة ذلك "الإقبال" الروسي الخشن على المنطقة، والذي يمكن اعتباره اندفاعاً "هجومياً" نحو الشرق الأوسط بالمعنى الشامل، خصوصاً سياسياً وعسكرياً.

لكن ما يجب التذكير به، أن الارتباط الإقليمي بالولايات المتحدة الأمريكية، ليس محصوراً في الدور الأمريكي المباشر تجاه قضايا المنطقة. فالعلاقات الثنائية وثيقة وعميقة بما يجعل التحلل منها بشكل كامل غير وارد لا أمريكياً ولا إقليمياً، وينطبق هذا الارتباط القوي بصفة خاصة على دول مجلس التعاون الخليجي. حيث العلاقات قوية وممتدة ويصعب تصور تقليصها أو استبدال موسكو بواشنطن خصوصاً في المجالين الاقتصادي والعسكري. ما يعني أن العامل الأمريكي ليس مرشحاً للاستبعاد من معادلات المنطقة، خصوصاً في مسار العلاقات الخليجية الروسية المباشرة، سواء الثنائية أو الجماعية على مستوى مجلس التعاون ككل.

2- تحالف موسكو- طهران:

كما أن لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ارتباطات وثيقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، فإن لروسيا أيضاً مصالح وارتباطات قوية مع إيران. ولتلك الارتباطات وجهان أساسيان، أولهما تعاوني ينبع بالأساس من حزمة منافع متبادلة على المستوى الثنائي، خصوصاً في المجالين النووي والعسكري. حيث تقدم موسكو التكنولوجيا النووية والخبرة لطهران، إضافة إلى منظومات تسليح روسية متقدمة، مقابل عوائد اقتصادية تسهم في تخفيف الضغوط عن الاقتصاد الروسي. فقد تجاوزت قيمة واردات الأسلحة الروسية لطهران 300 مليار دولارًا خلال ربع قرن (1995 – 2015م). وبعد الاتفاق النووي الإيراني الغربي، زادت قدرة طهران توفير السيولة اللازمة لشراء مزيد من الأسلحة الروسية المتقدمة. وبالفعل أعلنت إيران في سبتمبر الماضي، أنها أبرمت صفقة جديدة مع موسكو تبلغ قيمتها 21 مليار دولار، للتزود بطائرات سوخوي طرازي إس 30 وسوبر جيت 100، إضافة إلى معدات وأجهزة أقمار صناعية. وفي سياق التعاون الاقتصادي، تشهد العلاقات تطوراً مستمراً باتجاه مزيد من التقوية والترابط، فقد بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 1,68 مليار دولارًا في عام 2014م. وفيما يتعلق بالاستثمارات، ينتظر أن تصل قيمة المشروعات الاقتصادية المشتركة في السنوات القليلة المقبلة إلى 40 مليار دولارًا. وهناك من الإشارات ما يؤكد أن العلاقات الإيرانية الروسية تتمتع بحوافز اقتصادية تدفع الطرفين للحفاظ عليها وتمتينها. من تلك الإشارات أن موسكو أبرمت فيأغسطس 2014م،واحدة من أكبر صفقاتها الاقتصادية مع طهران بقيمة 20 ملياردولارًا لمدة خمس سنوات. وتتركز بالأساس على قطاع الطاقة، بتدعيم وتطوير قطاع الصناعة النفطية وبناء منشآت وشبكات جديدة للطاقة في إيران. إضافة إلى التعاون في نقل وتسويق ومبيعات النفط الإيراني. وتوريد معدات ومستلزمات صناعية وسلع استهلاكية. هذه الصفقة كانت رسالة واضحة من موسكو وطهران بأنهما ماضيتان معاً في التنسيق لمواجهة العقوبات الغربية على كل منهما. وأن هذا التعاون ليس مرتبطاً بمآلات المفاوضات النووية التي كانت تمر في تلك الفترة بمرحلة حرجة ودقيقة للتوصل إلى الاتفاق المبدئي الذي وقع لاحقاً في نوفمبر 2014م.

الوجه الآخر في العلاقات بين طهران وموسكو تنافسي. وهو غير ظاهر حالياً، حيث يتعلق بصفة خاصة بالوضع في بحر قزوين حيث يوجد خلاف تاريخي بين طهران وموسكو حول المياه الإقليمية والحدود البحرية وكيفية تقسيم واستغلال الموارد الاقتصادية بين الدول المُشاطئة. لكن في المجمل، تجميد الخلاف حول بحر قزوين مقابل استمرار الدعم الروسي لطهران في أنشطتها النووية وطموحاتها التسليحية العسكرية، عوامل تجعل علاقة روسيا مع إيران مرشحة لمزيد من التقارب والتقوية. ومن ثم تعد أحد أهم كوابح التقارب بين موسكو ودول الخليج العربية.

غير أن ذلك الوجه التنافسي في العلاقات قد يكشف عن نفسه مجدداً في ملفات أو مناطق تبدو حتى الآن ساحات تعاون. على رأسها سورية التي يمثل التدخل الروسي فيها انتقاصاً من رصيد وثقل الدور الإيراني، حتى وإن كان الهدف الرئيس لكليهما واحد، بعدم السماح بانهيار نظام الأسد ولو مرحلياً. أما ما وراء الإبقاء على الأسد، فلكل طرف حساباته الخاصة وتقديراته لكيفية الاستفادة من الدور والحضور والتأثير في حاضر ومستقبل سوريا، ومن بعدها المنطقة ككل. هذا التسلسل قابل للتحقق ليس فقط في سوريا، لكن أيضاً في ليبيا، وربما أيضاً في اليمن. بالتالي، فإن تمايز المصالح ومن ثم السياسات بين طهران وموسكو في الملفات الإقليمية، مدخل مهم أمام دول مجلس التعاون الخليجي في إدارة العلاقات مع موسكو حاضراً ومستقبلاً.  

3- الإسلاميون:

الموقف من "الإسلاميين" ليس محدِداً ثابتاً لبوصلة العلاقات الخليجية الروسية، خصوصاً لجهة المستقبل القريب. ففي الماضي كان هذا الملف جوهر خلاف شديد بين الجانبين، نبع بالأساس من التناقض الجذري بين المرجعية الدينية التي تلتزم بها دول الخليج في سياساتها الداخلية والخارجية. مقابل المرجعية اللادينية للسياسات السوفيتية ثم الروسية. وتجسد هذا التناقض في محطات مهمة. منها الاحتلال السوفيتي لأفغانستان، ثم التعامل مع تطلعات وتحركات بعض المناطق والجمهوريات (السوفيتية سابقاً) ذات الطابع الإسلامي، مثل القضية الشيشانية.

تقلص كثيراً ذلك التأثير السلبي للموقف من الإسلاميين على العلاقات بين الجانبين، بعد تفجيرات 11 سبتمبر وما كشفت عنه من فرق واضح بين الإسلاميين الجهاديين الذين يتبنون العنف منهجاً ووسيلة لتحقيق أهدافهم وترجمة أفكارهم، والإسلام كدين والمسلمين الذي يعتنقونه كعقيدة دينية سلمية. وتزامن إدراك الدول الكبرى في العالم ومن بينها روسيا، هذا الفرق الجوهري. مع تأكيد دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية –عملياً- تمسكها الشديد بتعاليم ومبادئ وأسس عقيدتها الإسلامية، ونبذها العنف الحركي وما وراءه من تطرف فكري. فبدأ الاقتراب المتبادل والفهم المشترك حول ظاهرة انتشار حركات وتنظيمات الإسلام السياسي، الجهادي خصوصاً.

لكن في السنوات الأخيرة، تحديداً منذ بداية موجة الاحتجاجات الشعبية في بعض الدول العربية. اختلطت الأمور وتداخلت المعايير بشأن تحديد أي من الجماعات والفصائل الإسلامية تتبنى فكراً متطرفاً أو تمارس نشاطاً عنيفا. وذلك على خلفية التباس وتباين المنطلقات بشأن تعريف "الإرهاب" والتمييز بينه وبين اللجوء إلى القوة المسلحة للدفاع عن النفس أو الأرض أو الشعب. الأمر الذي مثل – ولا يزال- مصدر اختلاف خليجي روسي، بشأن تقييم وتوصيف خارطة الفصائل الإسلامية المسلحة التي تقاتل في سوريا ضد نظام بشار الأسد. حيث تضعها موسكو جميعاً في سلة واحدة وتعتبرها كلها "إرهابية". فيما الصورة أكثر وضوحاً وتفصيلاً على الجانب الخليجي، حيث تميز دول مجلس التعاون بين تنظيمات مثل "داعش"، وتنظيمات أخرى ذات مرجعية إسلامية، لكنها لجأت إلى حمل السلاح دفاعاً عن الشعب السوري الأعزل في مواجهة الآلة العسكرية للنظام والأطراف الداعمة له.

على هذه الخلفية، من المتوقع استمرار الخلاف بين الرؤى الخليجية والروسية حول هذه الظاهرة، انطلاقًا من معطيات الأزمة في سوريا. وهو الخلاف المرشح للاستمرار مستقبلاً في أي أزمات أخرى قائمة أو محتملة، مثلاً بخصوص الوضع في اليمن والموقف من الجماعات والفصائل والقوى السياسية هناك.

4- الاقتصاد والطاقة:

تعتبر موسكو أن دول الخليج (خصوصاً السعودية) لعبت دوراً جوهرياً في الخفض المستمر لأسعار النفط. في سياق التعاون مع السياسة الأمريكية العقابية ضد موسكو بسبب الأزمة الأوكرانية. الأمر الذي كبد الاقتصاد الروسي 100 مليار دولار خسائر نتيجة فروق الأسعار عن المقدرة سابقاً. فضلاً عن خسائر العقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية المباشرة. والتي بلغت قيمة أضرارها على روسيا في العام الأول لتطبيقها حوالي 40 مليار دولارًا.

الاقتصاد هاجس يشغل روسيا، وهو في الوقت ذاته مصدر قوة وأداة حركة خليجية. الأمر الذي يعني وجود مساحة للتوافق والالتقاء بما يخدم أهداف الطرفين كل من منظوره. وهو ما بدأت إشاراته بالفعل في الأعوام الأخيرة، غير أنه لا يزال بانتظار مزيد من التطوير والترجمة على الأرض. مثلاً في مجال التبادل التجاري، وصل حجم التجارة الخليجية الروسية عام م،2013 حوالي 3.75 مليار دولارًا، بزيادة نسبتها 50% عن العام السابق 2012 م. لكن يلاحظ أن الوزن النسبي للتجارة بين البلدين ضئيل بالنسبة لإجمالي التجارة الخارجية لكل منهما. فإجمالي التجارة بين دول مجلس التعاون الخليجي الست وروسيا، لا يتجاوز إلا قليلاً حجم التبادل التجاري بين روسيا ومصر. كما أن توزيع حجم التجارة الخليجية ليس متوازناً بين الدول الست ولا يعكس أيضاً القدرات الاقتصادية الحقيقية لكل منها. حيث الإمارات هي الشريك التجاري الخليجي الأكبر مع روسيا، بنسبة تقترب من 75% من إجمالي التجارة الخليجية الروسية. ولا شك أن هذا التفاوت ينعكس بدوره على درجة الارتباط المصلحي أو ما يعرف اقتصادياً بالاعتماد المتبادل بين روسيا وكل من دول الخليج على حدة.

وينبغي على دول مجلس التعاون التنسيق معاً وبلورة رؤية عامة متكاملة للعلاقات مع موسكو، يستفاد فيها من التجارب السابقة مع القوى الكبرى، خصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية. ونشير في ذلك إلى نموذج اتفاقات التجارة الحرة بين واشنطن وبعض العواصم الخليجية. والتي اتبع التفاوض حولها اقتراب التفاوض الفردي وإبرام اتفاق مع كل دولة على حدة، وليس اتفاقاً جماعياً ينظم حرية التجارة بين واشنطن ودول مجلس التعاون ككل. ويزيد من أهمية التنسيق الخليجي- الخليجي أمام روسيا، محورية الجانب الاقتصادي في العلاقات وفعالية تأثيره على السياسات والتوجهات الروسية الخارجية. وهو ما أدركته بالفعل دول مجلس التعاون، ليس فقط في مجال التجارة لكن أيضاً في نطاق الاستثمار. غير أن التعامل قُطري أيضاً وليس جماعياً. فيبدو الأمر -ولو ظاهرياً- كأن هناك تسابقاً بين دول الخليج ذاتها على توثيق الروابط الاقتصادية مع موسكو. ومن الأرقام ذات الدلالة في ذلك، أن الاستثمارات الإماراتية في روسيا تزايدت بمعدل كبير في السنوات الأخير حتى وصلت قيمتها إجمالاً عام 2014م، إلى حوالي 18 مليار دولارًا. فيما أعلنت السعودية في يوليو 2015م، تخصيص 10 مليارات دولار لشراكة استثمارية بين صندوق الاستثمارات المباشرة الروسي وصندوق الاستثمارات السيادي السعودي. وهو ما يتجاوز حجم استثمار الإمارات في الصندوق، بقيمة 7 مليارات دولار.

5-النووي العربي:

رغم أن "النووي" يندرج ضمن الاقتصاد والطاقة بصورة أساسية، إلا أنه من الأهمية بما يجعله بمفرده مدخلاً مفتاحياً لتطوير العلاقات الخليجية الروسية. وفي هذا السياق يعد "النووي" محفزاً على تقارب لا دافعاً نحو التباعد بين الجانبين. فهو أحد المجالات التي يعتمد عليها الاقتصاد الروسي بالاستفادة مالياً من تقديم التكنولوجيا والخبرة الفنية اللازمة للدول الساعية إلى تشغيل برامج نووية. وفي ظل اتجاه عدد من الدول العربية إلى البرامج النووية السلمية كمصدر نظيف ورخيص للطاقة، اكتشف الجانبان أن "النووي" مصدر التقاء وتبادل منافع دون أعباء عالية على أي منهما. بل يكتسب التعاون النووي العربي الروسي مزايا خاصة لا تتوافر في حالات أخرى، من أهمها أن محددات القرار الروسي في التعاون النووي الخارجي، اقتصادية بامتياز. وتأثير العوامل والقيود السياسية عليه يتضاءل كثيراً لصالح الاعتبارات الاقتصادية والفنية. مع الالتزام الثابت بخضوع كل البرامج والاتفاقات للمعايير الدولية وإشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية. بينما تخضع الاتفاقيات والبرامج النووية التي تسهم فيها الدول الغربية، خصوصاً الولايات المتحدة، لشروط وقيود فنية وسياسية تختلف من حالة إلى أخرى.

وقد انتبهت دول مجلس التعاون الخليجي لهذا الفارق المهم، والذي ازداد وضوحاً وأهمية مع تقدم المفاوضات النووية الإيرانية واتضاح أن إبرام اتفاق نهائي ليس إلا مسألة وقت، وذلك قبل ثلاثة أعوام تقريباً من التوقيع عليه فعلياً. فطرقت دول المجلس الباب النووي الروسي مبكراً، وسرعان ما استجابت موسكو للاتجاه الخليجي نحوها نووياً. فتم بالفعل في 17 ديسمبر 2012م، إبرام اتفاقية تعاون نووي بين الإمارات وروسيا. وهي اتفاقية شاملة لمختلف مراحل البرنامج النووي، بما في ذلك إقامة المنشآت اللازمة وتوفير متطلبات دورة الوقود النووي، فضلاً عن تقديم الخبرة والدعم الفني لإعداد كوادر بشرية وطنية متخصصة. ويشار هنا أن الإمارات أبرمت اتفاقات نووية مع دول أخرى منها دول غربية، غير أن تعدد الدول التي يجري التعاون معها، والاتجاه إلى روسيا تحديداً، له دلالات مهمة لجهة البوصلة المستقبلية للعلاقات سواء مع الدول الغربية أو مع روسيا.

وقامت السعودية أيضاً بخطوة مماثلة، ففي 18 يونيو 2015م، وقعت الرياض وموسكو اتفاق تعاون نووي. يضمن أيضاً للمملكة امتلاك برنامج نووي للأغراض السلمية. وكان ذلك ضمن حزمة اتفاقيات اقتصادية وفنية توجت زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى موسكو. وكان من بين مجالات التعاون التي شملتها تلك الاتفاقيات، أبحاث وتكنولوجيا الفضاء. ومعروف أن الرياض تخطط لتوفير 20% من احتياجاتها الطاقوية نووياً بحلول عام 2025 م. إضافة إلى التوسع في استخدام تحلية المياه، والعمل بالنظائر المشعة في مجال الطب والأبحاث العلمية. وهو ما استدعى توسيع نطاق البرنامج النووي السعودي ليصل حسب المخطط له إلى 16 مفاعل.

ويمثل المجال النووي فرصة تاريخية لمزيد من التقارب بين دول مجلس التعاون الخليجي وروسيا. إذ يصلح أساساً لتشكيل هيكل قوي من المصالح المتبادلة بين الجانبين، قابلة للمقارنة بالروابط النووية الروسية مع طهران. والتي يمثل "النووي" فيها حجر زاوية.

في المحصلة النهائية، يمكن القول إن مصفوفة محفزات التقارب ودواعي التباعد، تنتهي في صالح التقارب الخليجي الروسي، لاعتبارين مهمين: أولهما أن محركات الاقتراب أكثر ديمومة وثباتاً من مبررات الخلاف. ثانيهما، أن منظومة العلاقات والتفاعلات الجارية إقليمياً وعالمياً في المديَيْن القصير والمتوسط، تدفع هي الأخرى باتجاه تقريب المسافة بين الخليج وروسيا. ويبقى أن اتجاه الطرفين فعلياً لتحقيق التقارب وتحسين مستقبل العلاقات بينهما، مرهون بالإرادة المشتركة، وكذلك بالقدرة على إدارة الملفات الخلافية –ليس بالضرورة حلها نهائياً- بما لا يعطل تطوير العلاقات الثنائية.

رؤية استشرافية:

في ضوء ما سبق، يمكن القول إن تحسين العلاقات الخليجية- الروسية أمر ممكن بل مطلوب إلى حد الضرورة. لأسباب متعددة، أبرزها أن الحضور الروسي في المنطقة صار أمراً واقعاً. والمعطيات التي شكلت القرار الروسي بالتواجد الإقليمي في الشرق الأوسط بهذه الكيفية، كفيلة بتثبيته بل ربما توسيع نطاقه ليشمل نقاط تمركز أخرى إلى جانب سوريا.

الدور الروسي في الملف السوري بدأ فعلياً قبل ثلاثة أعوام، مع تبني موسكو موقفاً مسانداً على طول الخط لنظام بشار الأسد في الأزمة السورية. وتطور تدريجياً ليتحول من موقف دفاعي سياسي خصوصاً في مجلس الأمن، إلى تحرك هجومي عملي بالتدخل العسكري المباشر. الأمر الذي سيغير المعطيات السياسية والجيواستراتيجية في النطاق الإقليمي ككل وليس فقط بالنسبة لسورية. ما يجعل التعاطي الخليجي مع دور روسي شرق أوسطي أمراً اضطرارياً لا اختيارياً.

وفي المقابل، فإن البعد الاقتصادي في العلاقات بين الجانبين يمثل مصدر قوة للجانب الخليجي في مواجهة المستجد الجيواستراتيجي الذي استحدثته روسيا لصالحها عبر سوريا. بل إن ما تمتلكه موسكو في سوريا وإن طال أمده سيظل مؤقتاً. بينما الورقة النفطية ستبقى في صالح دول مجلس التعاون ربما لعقود مقبلة. وفي ضوء التضرر الشديد الذي يعانيه الاقتصاد الروسي مع استمرار انخفاض أسعار النفط في السوق العالمي، فإن تماسك وصمود السياسة الخارجية الروسية والطابع "الهجومي" الذي بدأت تصطبغ به، يواجَه بأعباء داخلية تتفاقم وتزداد صعوبة نتيجة ارتباك حسابات الموازنة والتراجع الهائل في الدخل القومي بسبب انكماش عائدات النفط والغاز.

بالإضافة إلى ذلك، تملك دول الخليج أوراقاً اقتصادية أخرى لا تقل أهمية، مثل الاستثمارات في روسيا، سواء القائمة أو المستقبلية، حيث توجد فرص استثمارية كبيرة في روسيا أمام رؤوس الأموال الخليجية، خصوصاً في بعض الأنشطة الصناعية والخدمية. وغني عن البيان ما سيكون لتلك الاستثمارات من تأثير إيجابي على إنعاش الاقتصاد الروسي عبر زيادة فرص العمل ورفع حجم احتياطي النقد الأجنبي.

وهو ما ينطبق أيضاً على ضرورة رفع مستوى التبادل التجاري بين الجانبين، بما يخلق روابط مصلحية مباشرة لموسكو وبالتالي حرص سياسي على إبقاء الأسواق الخليجية مفتوحة أمامها. ما سينعكس بالضرورة على السياسة الروسية سواء تجاه دول المجلس بشكل مباشر، أو تجاه القضايا الإقليمية التي تهم الطرفين، خصوصاً تلك الخلافية.

إذا تحققت على أرض الواقع هذه الصورة المحتملة لعلاقات خليجية روسية جيدة وثابتة وظيفياً (اقتصادياً ونووياً)، أي بعيداً عن الخلافات السياسية. فمن المتوقع بقوة أن تدخل السياسة لاحقاً في نطاق التعاون، ليس بالضرورة في كل الملفات الخلافية. لكن ربما بشكل جزئي وتدريجي. وهو ما قد يفتح الباب لاحقاً إلى دور روسي إيجابي في بعض الملفات غير المطروحة على أجندة العلاقات بينهما حالياً. من أهمها مستقبل الأوضاع في اليمن وجنوب البحر الأحمر، والأمن في منطقة الخليج (في عام 2001 م، طرحت روسيا تصوراً لأمن الخليج). وفي ضوء تأثر هذين الملفين تحديداً بالدور الإقليمي الإيراني، وبميزان القوى الإقليمية والعالمية في الشرق الأوسط ككل. فإن تأسيس روابط مصلحية عضوية بين دول الخليج وروسيا، من شأنه تغيير -أو على الأقل تطوير- ليس فقط مواقف موسكو تجاه هذين الملفين والنظام الإقليمي الخليجي، وإنما أيضاً الحسابات والسياسات الروسية في الشرق الأوسط بشكل عام.

مجلة آراء حول الخليج