; logged out
الرئيسية / من الخليج إلى المحيط: التكامل ليس خياراً بل ضمير الشعب العربي وتوقه للوحدة

العدد 107

من الخليج إلى المحيط: التكامل ليس خياراً بل ضمير الشعب العربي وتوقه للوحدة

الإثنين، 09 أيار 2016

  • يمتد العالم العربي من الدوحة إلى نواكشوط، أو كما قال الشاعر فخري البارودي: من بغداد إلى تطوان. مساحة، مع الأسف، فيها الكثير من المسافة، رغم اتصالها الجغرافي وجذورها التاريخية وصلاتها الوجدانية الإنسانية. مساحة تقترب من ١٤ مليون كم٢، تقع في قلب العالم، قديمه وجديده، تشغل أهم المواقع الاستراتيجية في قارتي آسيا وأفريقيا، لقربها من قارة أوروبا وإشرافها المباشر على العالم الجديد، عبر المحيط الأطلسي، من وسط شرقه. كما أن العالم العربي ليس بعيدًا، لا جغرافيا ولا إنسانيًا ولا ثقافيًا، بحضارات العالم القديم في جنوب وجنوب شرق آسيا.. وشرقًا بحضارات فارس والصين، وحتى اليابان. 

 

عالم ثري بتاريخه وحضارته وجغرافيته وموارده وإنجازات إنسانه. كما أن العالم العربي هذا به من احتمالات التكامل الإقليمي، ما لم يتوفر في أنجح تجارب التكامل الإقليمي المعاصرة، ويأتي في مقدمتها الاتحاد الأوربي. إمكانات وافرة - حقيقية ومحتملة - تميّز العالم العربي، وإن كنّا لا نتجاوز القول: الوطن العربي، لولا الحرص على الدقة والعلمية في استخدام المصطلحات، نظرًا لحقائق الجغرافيا السياسية، التي كانت ومازالت أهم عائق أمام تطور تجربة تكاملية، ولا نقول، أيضًا: وحدة، تضم الشعب العربي، في حياض هذا الإقليم الغني الواسع الممتد، الذي نطلق عليه العالم العربي.

 

مقارنة، بتجربة الاتحاد الأوربي التكاملية، العالم العربي بحقائق الجغرافيا، بشقيها التضاريسي والإنساني، تتوافر فيه إمكانات التكامل الإقليمي، بما لا تتوفر في أي تجربة تكاملية ناجحة، مثل الاتحاد الأوربي. العرب يتكلمون بلسان واحد، وإن تعدد لغات العرب ولهجاتهم الجهوية، تماما كما هو حال كل الشعوب في الدول التي تتكلم لغة رسمية واحدة. كما أن العرب يدينون بديانات، ويعتنقون مذاهب، لا تخرج عن تلك التي نزلت أو تطورت في أرض الرسالات. بالإضافة إلى أن العرب، من المحيط إلى الخليج، تجمعهم ثقافة حضارية واحدة، وإن تعددت صورها "الفلكلورية"، من منطقة إلى أخرى. تعددية حضارية وثقافية وتاريخية، لا تجدها في أي شعب آخر، عدا العرب.

 

كما أن العرب، في هذا الكيان الإقليمي الذي يزيد عن ثلثي مساحة الولايات المتحدة وكندا معًا، غني بموارد طبيعية وافرة ومتنوعة، تجمع بين مصادر الطاقة (في العالم العربي ٥٥٪ من احتياطات النفط المؤكدة و٢٧٪ من احتياطات الغاز العالمية المؤكدة ).. كما أن العالم العربي غني بالثروات الطبيعية اللازمة لتكنولوجيا الصناعة الحديثة. بالعالم العربي، أيضًا، قوة بشرية تتجاوز ٤٠٠ مليون نسمة تزيد بـ ٥٠ مليون نسمة عن عدد سكان الولايات المتحدة وكندا معًا، وتزيد عن ثلاثة أرباع عدد سكان الاتحاد الأوربي بدوله الـ ٢٨. الأهم، من كل ذلك: الشعب العربي، من الخليج إلى المحيط، يجمعه حس قومي قوي يعتز بعروبته.. ويفخر بتاريخه، مخلص في ولائه لقضايا العرب، وتشغله هموم العرب ومشاكلهم وتطلعاتهم ومكانتهم. هذه ليست شعارات، ولا أوهام ولا تخيلات، غير واقعية... إنها حقائق مغروسة بعمق في الضمير العربي، وتظهر عفويًا، وبدون مقدمات، في ظروف الفرح وأي بادرة للتضامن والتقارب بين الدول العربية، خاصةً عند المواجهة مع أعداء العرب، وهي قليلة.. وكذا يتجلى هذا الشعور القومي عند العرب في مظاهر الحزن والأسى، أوقات الهزائم والنكسات والنوازل، التي تصيب بلدان وأقوام العرب، وهي كُثر.  

 

فشل خيار الوحدة العربية

 

الوحدة ليست خياراً للعرب، كما هي ليست خيارًا عن أي تجربة تكاملية ناجحة، مثل الاتحاد الأوربي. لا يمكن تصور، حتى في الأمد البعيد نسبيًا، إقامة وحدة أوربية، ولو في صيغة فيدرالية مثل الولايات المتحدة، رغم تفاؤل الكثيرين في الاتحاد الأوروبي، بإمكانية ذلك... وكان عمليًا وواقعيًا، أن يختار الأوروبيون لتجربتهم التكاملية صيغة الاتحاد عن صيغة الوحدة. الدولة القومية الحديثة، في أوروبا، وبرغم تطور مؤسساتها ورفعة القيم التي تتحكم في حركة السلطة في المجتمعات الأوربية، إلا أن الدولة بخلفيتها السيادية الأنانية المستحوذة، مازالت تحتفظ لنفسها بسلطات نافذة في الشأن الداخلي، في القضايا الاقتصادية والمالية والأمنية وآليات تداول السلطة، وكذا في السياسة الخارجية، ما يحول دون تحول تجربة التكامل الإقليمي في الاتحاد الأوربي إلى صيغة الاتحاد الفيدرالي، مثل الولايات المتحدة أو الاتحاد الروسي. 

 

إذا كان خيار الوحدة شبه مستحيل في حالة تجربة الاتحاد الأوروبي، فهو من رابع المستحيلات أن يحدث بين العرب. أخذًا في عين الاعتبار الفوارق الجوهرية، بين صيغة الدولة القومية الحديثة في أوروبا وما تطورت إليه من إمكانية إقامة تجربة إقليمية تكاملية ناجحة، وتلك التي تطورت في بلدان العالم العربي. صيغة الدولة القومية الحديثة، التي تطورت في العالم العربي، حديثة نسبيا، حيث سبقتها أوروبا في هذا المجال، بثلاثة قرون ونصف، على الأقل. كما أن هناك فوارق، أيضًا في نظام القيم، الذي يتحكم في حركة مؤسسات الدولة وشرعية النخب الحاكمة، بين تجربة المجتمعات الأوربية الديمقراطية، وتجربة الأنظمة العربية المغرقة في شموليتها.

 

أوروبا، منذ القرن السابع عشر طورت مصادر لشرعية أنظمة الحكم بها، ترتكز على مبدأ الإرادة الشعبية، في مغادرة واضحة لأي مصادر غيبية كانت السلطة في المجتمعات الأوروبية، في العصور الوسطى، ترتكز عليها، مثل نظرية (الحق الإلهي) في الحكم للحاكم أو البابا، مع إخراج الكنيسة، في فترات لاحقة، من العملية السياسية، بصورة نهائية. تطور فكرة العلمانية.. وبعد ذلك تطور نظريات العقد الاجتماعي، بالإضافة إلى التقدم التكنلوجي والعلمي، الذي دشنه عصر النهضة، بروز فكرة القومية، وهزيمة مشاريع الإمبراطوريات التوسعية، التي كان آخرها هزيمة نابليون في معركة واترلو ١٨١٥م، واستبدالها بحروب محدودة لتوحيد أقاليم بعض الدول الأوروبية الحديثة، على أسس قومية، مثل ما حدث في ألمانيا، التي وحدت على يد بسمارك ( ١٨١٥ - ١٨٩٩م)، الذي أنشأ ( الرايخ الألماني الثاني ) وكان أول مستشار لألمانيا الحديثة بعد توحيدها، وإعلان قيامها، في ١٨٧١م.. وقدم الإيطاليون كفاحا لمدة ٦٥ سنة بعد هزيمة نابليون في معركة واترلو ليتخلصوا من الفرنسيين والنمساويين ويوحدوا الولايات والجمهوريات الإيطالية ويعلنوا قيام إيطاليا الحديثة وعاصمتها روما ١٨٧١م.

 

أما صيغة الدولة القومية الحديثة في العالم العربي، رغم حداثتها النسبية، إلا أنها ظلت متمسكة بقيم تقليدية لتأسيس شرعية النخب الحاكمة في العالم العربي، كان نتيجة هذا سيادة أنظمة حكم شمولية في العالم العربي، زاد تدخل العسكر في بعض المجتمعات العربية، من عرقلة تطور تنمية سياسية حقيقية تقوم على المشاركة السياسية الواسعة للناس للتعبير عن خياراتهم السياسية بحرية وبدون أية وصاية، من أي مصدر كان، مما قاد إلى الحؤول دون تطور أي شكل من أشكال التداول السلمي للسلطة. بعبارة أخرى: صيغة الدولة القومية الحديثة في العالم العربي عصية على إمكانات التطور الذاتي في مؤسساتها وفكرة الرقابة على أداء من هم في السلطة وكفاءة وفاعلية مؤسسات الحكم وتطوير طرق أكثر استقرارا ومرونة وفاعلية لتداول السلطة سلمياً... ما بالك توفر احتمال قيام تجربة تكاملية ناجحة في العالم العربي.... دعك من تصور تطور تجربة وحدوية تربط وتجمع خليج العرب شرقًا بمحيطه غربًا.

 

لقد فشلت أحدث تجربة وحدوية في العالم العربي بين مصر وسوريا ( ١٩٥٨ - ١٩٦٢)، تقريباً، كما فشل مشروع الوحدة العربية التي قادها شريف مكة بمساعدة الإنجليز، للثورة على الدولة العثمانية، أثناء الحرب العالمية الأولى. مشروع وحدة مصر وسوريا جاءت منافية لحقائق الجغرافيا ونتيجة لقراءة خاطئة لأوضاع العالم وتوازناته، منتصف القرن الماضي، في أوج نظام الحرب الباردة. أما الأولى، تاريخياً، فقد جاءت بتخطيط ووفق أجندة دولة عظمى، كانت تعمل على تقسيم العالم العربي وتفتيت وحدة ترابه، لا توحيده. في الحالتين كان الشعب العربي، في التجربتين، آخر من كان لمدخلاته وإسهامه ومشاركته دور فيهما. أليس غريباً، أن ينفصل السودان عن مصر ١٩٥٦م، ويعمد من سمح بذلك الانفصال، الشروع في وحدة (اندماجية) مع سوريا!؟ ألم يكن الأجدر لمصر والسودان استثمار واقع اتحادهما، والعمل على ترسيخه ببرامج تكاملية مجدية، بدلا من خيار الانفصال، الذي تكرر بعد نصف قرن بسلخ جنوب السودان عن شماله. قارن هذا بجهود الوحدة التي سادت المجتمعات الأوربية القرن التاسع عشر، ومهدت لأكثر تجارب التكامل الإقليمي نجاحاً في العالم: تجربة الاتحاد الأوربي. 

 

تعثر تجارب التكامل العربية

 

من غرائب تاريخ العرب الحديث: أن فكرة الوحدة سبقت تجربة قيام الدول القومية الحديثة.. وأن تجربة التكامل الإقليمي سبق بها العرب شعوب العالم! وإن كان شريف مكة تدفعه طموحاته التوسعية لزيادة رقعة ملكه، إلا أنه كان يجسد فكرة الوحدة المضطرمة في وجدان العرب، التي عمل العثمانيون طوال ثمانية قرون على إخمادها. وإن كان مشروع الشريف حسين "الوحدوي" يقتصر على الشق الآسيوي في العالم العربي، إلا أنه كان أفضل من إقامة إحدى عشرة دولة في نفس الرقعة من الأرض، بينهم واحدة ذهبت لألد أعداء العرب والإنسانية (الصهاينة).

 

لعلَ أنجح محاولات الوحدة، التي شهدها تاريخ العرب الحديث، تلك التي قام بها الملك عبد العزيز في توحيد معظم الجزيرة العربية في كيان سياسي واحد (المملكة العربية السعودية). هذا الكيان العظيم ما فتىء عوده يغلظ وساقه يشتد وتترسخ جذوره في الإقليم والعالم، مع الوقت. لقد جاء الملك عبد العزيز في فترة فاصلة في تاريخ العرب ليكرر إنجاز قادة عظام في أوروبا، مثل بسمارك، بعد أكثر من خمسين عاماً من إنجاز تجارب وحدوية ناجحة في أوربا، مثل ألمانيا وإيطاليا. لقد جاء الملك عبد العزيز، في لحظة تاريخية فاصلة، وبعد قيام نموذج الدولة القومية الحديثة في العالم المتقدم، وبدايات قيامها في العالم العربي، مع أو حتى بعد انتهاء الأخذ بحق الفتح، في القانون الدولي، كأساس لقيام الدول الحديثة.

 

تتجلى عبقرية الملك عبد العزيز الفذة، كرجل دولة تاريخي من الطراز الأول، في فهمه الفطري لمسيرة حركة التاريخ.. واستيعابه الثاقب لتوازنات القوى الدولية والإقليمية، في عصره... وقد تجلى كل ذلك في حسابه الدقيق والموضوعي والمتواضع، لطموحاته السياسية، وفقاً لإمكاناته المتاحة ومعطيات البيئة الدولية والإقليمية، التي يتحرك فيها. لقد عُرضت عليه الخلافة وعرشها يسقط في الآستانة، لكنه رفضها، لأنه كان يرى ببصيرته الفذة مسيرة حركة التاريخ تتكشف أمامه. كان الملك عبد العزيز، كما سبق وقلنا: رجل دولة تاريخي، يعرف ما يريد، ومصمم على تحقيقه... وقد كان له ما أراد، ليدخل التاريخ بوصفه الزعيم العربي الوحيد، الذي حقق أعظم وأقوى مشروع وحدوي في تاريخ العرب الحديث.  

 

العرب، كما هم سباقون في تجربة نموذج الوحدة، كانوا أيضاً سباقين في الأخذ بتجربة التكامل الإقليمي. الجامعة العربية تأسست بإعلان بروتوكول الإسكندرية ( ٢٢ مارس ١٩٤٥م)، أي قبل سبعة أشهر من قيام الأمم المتحدة ( ٢٤ أكتوبر ١٩٤٥) .. كما أن جامعة الدول العربية تأسست قبل ثلاثة عشرة عاماً من اتفاقية روما ( ١ يناير ١٩٥٨م)، التي كانت النواة الأولى للاتحاد الأوربي.

 

هذا السبق الذي حظيت به أكبر منظمة إقليمية أسسها العرب في تاريخهم، لم تتجاوز تقريبا - من حيث الإنجاز التكاملي - مرحلة كتابة ميثاقها، التي يتوقع أن يكون قد بٓلِيَ الآن ورق مسودته الأصلية وبهت المداد، الذي كتبت به! نحن هنا لا نتجنى على الجامعة العربية، بل نحن لسنا في موضع اللوم لها... لكن الحقيقة هي دائما ضالتنا ووجهتنا. تجربة الجامعة لم تُسطر فقط في ميثاق، بل انبثقت عنها مؤسسات تكاملية إقليمية في شكل هيئات عليا ووكالات متخصصة.. ويزخر ارشيفها بمئات الدراسات الجادة، إن لم نقل الآلاف، التي تبحث في وتستشرف آفاق التكامل العربي، الذي ممكن أن تضطلع به جامعة الدول العربية. 

 

من حق الجميع، بعد سبعين سنة من تأسيس جامعة الدول العربية، أن يتسألوا: أين مجلس الوحدة الاقتصادية العربية.. ماذا حل بمعاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء.. هل نجح مجلس السلم والأمن العربي في حل أي من النزاعات البينية بين الدول العربية.. ماذا عن اتفاقية السوق العربية المشتركة، أين وصل مشروع محكمة العدل العربية.. ما هو مدى التزام الدول العربية بمقررات القمم العربية، التي أصبحت أهم مؤسسات جامعة الدول بعد إجراء أول تعديل على الميثاق ( ٢٠٠٢م) والعمل بدورية انعقادها السنوي. ثم أهم شيء ماذا فعلت جامعة الدول العربية للمواطن العربي، الذي هو محور أي عمل تكاملي إقليمي... وأين وصلت قضايا العرب القومية، في قضايا الأمن القومي العربي.. والتنمية، بشقيها السياسي والاقتصادي... وتطلعات الشعب العربي في التكامل الإقليمي، ولا نقول في الوحدة.  

 

مشكلة جامعة الدول العربية ترجع بدايةً لإرادة أعضائها، الذين تعمدوا في إطلاق مسماها، بما لا يعني توفر إرادة سياسية واضحة كونها منظمة إقليمية قد تنافس بعض صلاحيات وسلطات الدول الأعضاء السيادية. لقد تعمد مؤسسوها كتابة ميثاقها بصيغة تجعل منها ندوةً للنقاش والتنسيق وليست مؤسسة إقليمية تقوم بمهام تكاملية في قضايا السياسة والاقتصاد والأمن الجماعي والتنمية وحقوق الإنسان وتسوية النزاعات بين الدول الأعضاء. لا ميثاق جامعة الدول العربية ولا منظماتها المتخصصة تتوفر فيها إمكانات التطور إلى منظمة إقليمية عليا ( Supranational Orgonization ) تتجاوز صلاحياتها وسلطاتها بعض سلطات الدول الأعضاء السيادية. 

 

المنظمات القطرية العربية

 

أمام عجز الجامعة العربية، العائد أساساً لافتقارها دعم الدول الأعضاء وجمود ميثاقها وميوعة صياغة مواده بصورة تحول دون تطور تجربة جامعة الدول العربية لتصبح منظمة تكاملية كفوء وفعالة في تفعيل تعاون بيني عربي وثيق في قضايا الاقتصاد والأمن والتنمية والسياسة الخارجية، يقوم أساساً على أسس مصلحية قوية، تتعاظم من خلاله كفاءة وفاعلية مؤسسات الدولة القومية الحديثة في العالم العربي لمواجهة تحديات الأمن والتنمية والسياسة الخارجية، بأقل قدر من التكلفة وأكبر عائد. من ثٓمّ رأت بعض التجمعات الإقليمية في العالم العربي، شرقه وغربه، الاستفادة من خصوصيات بينية في ما بينها.. وقرب مجالها الإقليمي من بعضها البعض.. وتقارب خلفيتها البشرية والاقتصادية والثقافية.. وتشابه أنظمة بعضها السياسية، أن تجربة نماذج من التكامل البيني في ما بينها، تقوم أساساً على صيغة التعاون الإقليمي يمكن أن تقود إلى تطوير تجارب تكاملية تتجاوز قصور وضعف تجربة جامعة الدول العربية. 

 

مجلس التعاون العربي

 

بعض تلك التجارب لم تحظَ بالاستمرار وسرعان ما انفض "مولدها"، إذا صح هذا التعبير، ساعة إعلان قيامها، مثل مجلس التعاون العربي ( ١٦ فبراير ١٩٨٩م). ربما فشل هذه التجربة، التي لم تحظَ بفرصة المحاولة، إلى عامل الجغرافيا. مجلس التعاون هذا ضم العراق والأردن ومصر واليمن الشمالي، حينها. لا يوجد اتصال جغرافي بين أعضائه إلا بين دولتين (العراق والأردن) اللذان حاولا تجربة وحدوية نهاية خمسينات القرن وفشلت، قبل تدشينها، بسبب ثورة يوليو ١٩٥٨م، في العراق، التي أطاحت بالملكية هناك. وإن كانت مصر، من الناحية الجغرافية أقرب للعراق والأردن، إلى حدٍ ما، فإن اليمن الشمالي بعيد جدا جغرافيًا عن الدول الثلاث.

 

كما أن من أسباب فشل مشروع مجلس التعاون العربي، عدم وجود دولة تتمتع بموارد اقتصادية قادرة على الإنفاق على التجربة في بداياتها، حتى تنضج ثمار التكامل الإقليمي في بينها. هذا الدور الرائد لدولة رئيسية في أي تجارب إقليمية تكاملية مهم جداً ومن متطلبات قيام أي تجربة إقليمية تكاملية. هذا الدور لعبته ألمانيا في تجربة الاتحاد الأوربي، ولازالت تلعبه حتى الآن لمساعدة الدول الأعضاء المتعثرة اقتصاديًا، كما حدث في حالة اليونان. إلى حدٍ كبير تلعب المملكة العربية السعودية نفس الدور في تجربة مجلس التعاون للدول العربية، هذا الدور السعودي في رعاية تجربة مجلس التعاون لدول الخليج العربية، بالرغم من تواضع مخرجات التجربة، إلا أن هذا الدور السعودي ساعد كثيرًا في صمود التجربة واستمرارها. هذا الدور الراعي للتجربة لم يتوفر في تجربة مجلس التعاون العربي، وإن كانت العراق مرشحة للقيام بذلك الدور، إلا أن العراق كان حينها خارجًا لتوه من حرب ضروس مع إيران استمرت لثمان سنوات. 

 

أيضاً، تجربة مجلس التعاون العربي تلك، كانت أشبه بالحلف العسكري منه للتكامل الاقتصادي الإقليمي. العراق، الدولة التي كان من المفترض أن تنفق على المشروع في مراحله الأولى لتجني ثمار استثمارها فيه لاحقاً، لم تكن فقط غير قادرة على تبني المشروع مادياً وسياسياً، بل كانت تدفعها أجندة توسعية غير معلنة، لم يفطن لها، على الأقل بعض الأعضاء. لقد اتضح ما كان صدام حسين يرمي له من الدعوة لإنشاء مجلس التعاون العربي بعد سنة ونصف تقريباً من قيام المجلس، عندما غزا الكويت في الثاني من أغسطس ١٩٩٠م. 

 

الاتحاد المغاربي العربي

 

ترى هل هي مصادفة تاريخية أن يعلن عن قيام الاتحاد المغاربي العربي، في غرب العالم العربي، اليوم التالي لإعلان قيام مجلس التعاون العربي، في مشرق العالم العربي! أم هو الشعور الطاغي في العالم العربي بضرورة البحث عن صيغ للتعاون بين الدول العربية خارج نطاق تجربة جامعة الدول العربية، بعد أن شاهد الجميع الإنجاز الكبير لمثل هذه الكيانات الإقليمية للتغلب على القصور الذي اعترى صيغة الدولة القومية الحديثة والصعاب التي تلاقيها الأنظمة العربية في مواجهة إشباع حاجات شعوبها السياسية والاقتصادية.

 

رغم الإمكانات الواعدة لنجاح مثل هذا الاتحاد، الذي يتكون من خمس دول عربية (ليبيا تونس الجزائر المغرب موريتانيا) تحتل الجزء الأكبر من الشمال الأفريقي، عدا مصر، فإن الاتحاد الذي اقترب من نهاية عقده الثالث لازال يخطو خطوات متعثرة في مسيرة التكامل الإقليمي بين أعضائه، بل أن مؤسساته السياسية اعتراها الانقطاع، حتى الجمود، لدرجة لم يبق من التجربة سوى اسمها! هذا راجع للخلافات السياسية العميقة بين أعضاء الاتحاد المغاربي، بالأخص تلك التي بين الجزائر والمغرب، الذي يشكل اقتصادهما معا ٧٥٪ من اقتصاديات الاتحاد. تأتي في مقدمة المشاكل التي تعتري العلاقات الجزائرية المغربية مشكلة الصحراء الغربية، التي ضمتها المغرب، وتدعم الجزائر القوى الانفصالية في الإقليم بزعامة جبهة البولساريو. كما أن العلاقات الجزائرية المغربية يعتريها التوتر، بل العداء، منذ استقلال الجزائر ١٩٦٢م، بسبب مشاكل الحدود بين البلدين.. وكذا تنافس البلدين على الزعامة الإقليمية في المنطقة، التي أثرت سلبا على فرص نجاح تجربة الاتحاد المغاربي العربي.

 

منذ البداية كانت هناك خلافات بين الدول الأعضاء على التسمية. اعترضت الجزائر على كلمة المغرب، بينما اعترضت المغرب على كلمة العربي! وكان أن جاءت كلمة المغاربي، مع بقاء كلمة العربي، التي أصرت عليها ليبيا والجزائر وتونس! فإذا ظهرت خلافات حول التسمية، وأضيفت إليها الخلافات العميقة بين أكبر أعضاء الاتحاد (المغرب والجزائر)، كما علينا ألا ننسى تحمس ليبيا القذافي لصيغة الوحدة الاندماجية، التي فشل في تسويقها في العالم العربي، وتحول لتبنيها على مستوى القارة الأفريقية، لا عجب إذن المآل الذي آلت إليه تجربة الاتحاد المغاربي العربي.  

 

باختصار: تجربة الاتحاد المغاربي، تُعد عمليا ميتة، إن لم يعلن وفاتها.. أو في أفضل الأحوال تعتبر ميتة سريرًا. 

 

مجلس التعاون لدول الخليج العربية

 

لعلَ أكثر صيغ التكامل الإقليمي العربية نجاحًا، التي تطورت في العالم العربي من أجل التغلب على تجربة جامعة الدول العربية، هي تجربة مجلس التعاون لدول الخليج العربية: المملكة العربية السعودية، الكويت، البحرين، الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان (٢٥ مايو ١٩٨١م). المقصود بالنجاح هنا وفق معايير استمرار التجربة وصمودها وإصرار أعضائها على خيارها والعمل على تطوير أداء مدخلات مؤسساتها لتحقيقه درجات متقدمة من التكامل الإقليمي بين الدول الأعضاء، رغم تواضع إنجازاتها في مجالات التكامل الإقليمي المختلفة، مقارنة بعمرها الزمني، حيث تعد أول تجربة تكاملية قطرية في العالم العربي.. وكذا مقارنة بتجارب تكاملية أخرى خطت خطوات تكاملية، في نفس الفترة الزمنية، أكثر بمراحل من تلك التي حققها مجلس التعاون لدول الخليج العربية الست.

 

من أهم إنجازات تجربة مجلس التعاون لدول الخليج العربية، كما سبق وذكرنا صمودها وإصرار أعضائها على خيارها. يظهر ذلك، بصورة جلية، في حرص زعماء الدول الست على حضور، كلا من قممهم الدورية السنوي، وتلك القمم التشاورية النصف سنوية، حرصاً على متابعة قرارات قممهم الدورية، أولاً، بأول. كما أن الأجهزة التابعة للأمانة العامة للمجلس، وتلك التابعة لوكالات المجلس المتخصص تحرص على سير العمل وإنجاز ما يتاح لها إنجازه في مجالات التكامل المختلفة. 

 

إلا أنه متى أتينا لإنجازات التكامل الحقيقية، وخاصةً في القضايا الاقتصادية والمالية والأمنية وتلك التي لها علاقة مباشرة بمخرجات المجلس المعني بها مواطني دول المجلس، وكذا في آليات المجلس الخاصة بفض المنازعات بين الدول الأعضاء، وإمكانية تطور مؤسسات تشريعية وتنفيذية أو صياغة دستور للمجلس أو إقامة محكمة عدل للمجلس وأخرى لحقوق الإنسان، كما هو حاصل في التجارب الإقليمية التكاملية الناجحة مثل الاتحاد الأوربي، فإن أمام مجلس التعاون لدول الخليج العربية عقبات كأداء عليه أن يتجاوزها، حتى يمكن يتحول إلى منظمة إقليمية عليا تتجاوز بعض صلاحيات وسلطات الدول الأعضاء، كما هو الحال في الاتحاد الأوربي.

 

هناك، على سبيل المثال، مشاكل في تطبيق اتفاقية السوق المشتركة.. وقد يكون موضوع العملة الخليجية الموحدة، قد علق لأجل غير مسمى، بسبب الخلاف حول مقر المصرف المركزي الخليجي، بل أن هناك دول، مثل عمان أعلنت انسحابها من مشروع العملة الخليجية الموحدة!؟ هناك مشاكل في تطبيق الاتفاقية الأمنية الخليجية، هناك تحفظات من قبل بعض دول المجلس عليها، بحجج دستورية وقانونية! ورغم أن الحافز الأمني كان من وراء الإسراع في الإعلان عن قيام المجلس، بسبب حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران في: ٢٢ سبتمبر ١٩٨٠م، إلا أن مشروع درع الجزيرة تعرض لمشاكل، وصلت لدرجة تفكيكه، بسبب التوترات المتقطعة بين الدول الأعضاء.. وتردد الكثير منها المشاركة في درع الجزيرة، بالإضافة إلى الخلافات المتعلقة بالقيادة والسيطرة.. وتظل بعض الدول الأعضاء تفضل الارتباط مع قوى خارجية لتوفير احتياجاتها الدفاعية، عن تطوير ميثاق للأمن الجماعي المشترك في إطار المجلس. 

 

مع كل تلك السلبيات، التي تعترض مسيرة مجلس التعاون لدول الخليج العربية، إلا أنها تعتبر التجربة الرائدة في التكامل الإقليمي العربي، التي يمكن محاكاتها على نطاق أوسع لتحقيق مشروع إقليمي تكاملي يضم العالم العربي من الخليج إلى المحيط. 

 

التكامل الإقليمي خيارًا ومآلاً

 

ليس أمام العرب، ليكون لهم مكان في عالم يتحول عن صيغة الدولة القومية، ليكون عالم يتكون أساساً من كيانات إقليمية عملاقة، تتجاوز صلاحياتها وسلطاتها تلك التي احتكرتها صيغة الدولة القومية، سوى خيار التعاون والتكامل الإقليمي. كما أنه في مواجهة مشاريع تقسيم المقسم، الذي تقوم به قوى كبرى معادية، في عودة لبدايات تقسيم العالم العربي بصيغة الدولة القومية الحديثة، ليس للعرب من خيار إلا تجاوز قصور، بل وحتى فشل صيغة الدولة القومية، عن طريق تطوير صيغة تكاملية عربية كفوء وفاعلة قادرة على رفع كفاءة مؤسسات الدولة ونظامها السياسي الداخلي، في إشباع حاجات الناس.. وتحقيق تطلعاتهم.. واحترام حقوقهم.. ورفع مستوى معاشهم.. وتحسين مستوى الخدمات في المجتمعات العربية، ورفع معدلات النمو الحقيقي بين فئات مجتمعات الدول العربية المختلفة من الخليج إلى المحيط. 

 

يخطئ من يعتقد أن الكيانات التكاملية الكبيرة تؤذن بزوال الدول أو تضعف من مكانة أنظمتها السياسية. بالعكس: تجعل الدول ومؤسسات الحكم فيها أكثر فاعلية وكفاءة في القيام بوظائفها والتصدي لمسئولياتها الوطنية. ذلك أنه مهما بلغ غنى الدولة وتقدمها، تظل مواردها محدودة. هذه الحقيقة حول موارد الدول المحدودة، تشكل أهم أسس شرعية قيام التكتلات الإقليمية العملاقة، التي نراها تنتشر حول العالم، وتدخله دول العالم بقناعة ورضاء، وإلا تكون قد فاتها حجز مقعد لها في قطار مسيرة التاريخ. ذلك أن مفهوم التكامل الإقليمي يقوم، بصورة أساسية على مبدأ المصلحة القومية، الذي هو أهم دافع لحركة مؤسسات الدولة القومية الحديثة.

 

لذا نجد الدول الغنية والقوية هي التي تبادر بتبني المشاريع القومية العملاقة، لأنها تعلم أن ما تدفعه من تكلفة كبيرة في بدايات إقامة الكيانات التكاملية، سوف تحصده أضعافاً عندما تكتمل التجربة وتظهر بشائر عوائدها. الدليل أمامنا ألمانيا التي تبنت مشروع الاتحاد الأوربي مع فرنسا ودفعت الجزء الكبير من تكلفته، إلى أين وصلت ألمانيا الآن بعد أن وصلت عضوية الاتحاد الأوربي إلى ٢٨ دولة. لقد أصبحت ألمانيا (الموحدة) أكثر غنىً لديها من "اليورو" اليوم أضعاف ما كان لديها من الماركات عند بداية التجربة عندما كانت مقسمة. ألمانيا، ليست فقط أغنى دولة في منطقة اليورو، هي أكثر دولة نفوذًا في أوربا، حتى من تلك المكانة التي تتمتع بها بريطانيا، التي تفكر في الخروج من الاتحاد الأوربي، بسبب هذا النفوذ الطاغي لألمانيا في الاتحاد وفي أوربا، رغم أن بريطانيا خارج اتفاقية ماسترخت الخاصة بمنطقة اليورو. 

 

التكامل الإقليمي، ليس فقط خيارًا متاحًا للعرب، بل لابد أن يكون مآلهم من الخليج للمحيط، لأنه ليس فقط يتوافق مع مصالحهم، بل أيضًا يتطابق مع ما يضطرم في ضمير ووجدان الشعب العربي من توق طاغي للوحدة والتضامن.

مجلة آراء حول الخليج