; logged out
الرئيسية / مسلسل الإصلاح بالمغرب: ربيع عربي قبل الأوان

العدد 107

مسلسل الإصلاح بالمغرب: ربيع عربي قبل الأوان

الإثنين، 09 أيار 2016

 

عاش العالم العربي ومنذ أواخر سنة 2010م، على إيقاع حراك همَ العديد من الدول العربية، بعد أن أوقدت الثورة شرارتها الأولى في تونس بتاريخ 17 ديسمبر 2010 م، حين قام أحد الشباب التونسيين بإحراق نفسه كاحتجاج على حالة البطالة والفقر التي يعيشها ومصادرة عربته مصدر رزقه والتي يعول من خلالها نفسه وأسرته، وهو ما أدى إلى اندلاع مظاهرات شملت العديد من المدن التونسية وأفضت إلى هروب رئيس الدولة إلى خارج البلاد. تلتها العديد من المظاهرات والاحتجاجات بالعديد من الدول العربية تمكنت بعضها من إسقاط الأنظمة الحاكمة، في حين وقع البعض الآخر في مأزق الفوضى والانقسامات دون أن تتمكن إلى الآن من إسقاط النظام ولا من عودة الأمن للدولة. وبقيت دول أخرى وعلى رأسها الأنظمة الخليجية خاصة والملكية عامة بعيدة عن حراك أفضى إلى تغيير فعلي على مستوى أنظمتها.

ولقد فرضت الثورات العربية نفسها منذ بداياتها بسبب قوة وشرعية مطالبها التي توحدت في المطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والقطع مع عصور الاستبداد ومن ثمة الانتقال إلى مصاف الدول الديمقراطية. كما أنها بدأت مدنية متحضرة وسلمية ولكنها اتخذت نتيجة مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية مسارًا عنيفًا بامتياز. وانتهت في العديد من الدول إلى نتائج سياسية ومجتمعية لا تتناسب والمبادئ التي قامت من أجلها ولا لتطلعات من قام بها في البدايات مناديًا بالتغيير والإصلاح. وهو ما يتطلب فهم ودراسة أعمق لطبيعة المجتمعات العربية ولماذا لم تتمكن الدول العربية من الانتقال السلس والسلمي للسلطة؟

بالنظر إلى دول العالم العربي نلاحظ أن هناك قواسم مشتركة للمشاكل التي كان ولا يزال يتخبط فيها العالم العربي، تفاقم نسب الأمية، البطالة، الفقر والتفاوت الطبقي، استشراء الفساد... الدَين الخارجي في تزايد مستمر، كما أن الدول العربية تحتل المراتب الأدنى على مستوى التصنيفات والمؤشرات العالمية على مستوى الحرية السياسية والشفافية وأيضًا التنمية الاقتصادية والمجتمعية. وهو ما ينذر بأن المرحلة الحالية شديدة الحساسية وتشكل مخاضًا عسيرًا يلقي بظلاله على تطور وتقدم المجتمعات العربية، ويتطلب تضافر الجهود بين الحكومات والشعوب من أجل الخروج من هذه المرحلة وتغليب المصلحة الوطنية على أي توجهات إيديولوجية أو عرقية أو دينية.

وكغيرها من الدول العربية شهدت المغرب حراكًا شعبيًا بعد أن دعت مجموعة من الشباب إلى التظاهر يوم 20 فبراير/شباط 2011م، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما حدث فعلا حيث اتسعت دائرة المشاركين لتجمع مجموعة من الحركات الشبابية والجمعيات الحقوقية وأيضًا حركات دينية كحركة العدل والإحسان المحظورة، وعمت الاحتجاجات العديد من المدن المغربية.

وعلى عكس الاحتجاجات في دول الحراك العربي لم يكن مطلب إسقاط النظام حاضرًا في شعارات حركة 20 فبراير واقتصرت المطالب على الإصلاح بالدرجة الأولى، فعلى المستوى السياسي تمت المطالبة بدستور ديمقراطي شكلًا ومضمونًا يمثل الإرادة الحقيقية للشعب،  حل الحكومة والبرلمان وتشكيل حكومة انتقالية مؤقتة تخضع لإرادة الشعب،قضاء مستقل ونزيه،  محاكمة المتورطين في قضايا الفساد واستغلال النفوذ ونهب خيرات الوطن، الاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة رسمية إلى جانب العربية والاهتمام بخصوصيات الهوية المغربية لغة , ثقافة , وتاريخًا،إطلاق كافة المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي ومحاكمة المسؤولين. وعلى المستوى الاجتماعي طالبت الحركة بالعيش الكريم وذلك من خلال الإدماج الفوري والشامل للمعطلين في أسلاك الوظيفة العمومية،ضمان حياة كريمة بالحد من غلاء المعيشة والرفع من الحد الأدنى للأجور، تمكين عموم المواطنين من ولوج الخدمات الاجتماعية وتحسين مردوديتها، والكرامة والعدالة والمواطنة....

وهو ما سيستجيب له النظام الحاكم ليخرج المغرب من حالة الحراك بسلاسة جعلته يشكل نموذجًا فريدًا في إدارة هذه المرحلة على المستوى الإقليمي، فما هي العوامل والمحددات التي جعلت من المغرب بلد الاستثناء؟

نظرة على مسلسل الإصلاح بالمغرب منذ الاستقلال وإلى العهد الجديد:

تشكل التجربة المغربية كما سبق القول مثار إشادة من الخبراء والسياسيين بعد أن اتخذ الحراك ببعض الدول العربية مسارًا مغايرًا لأهداف الثورات والحراك، وخيمت عليها الفوضى وشبح التقسيم وتوالت عليها الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

ولقد عاش المغرب في مرحلة ما بعد الاستقلال مخاضًا عسيرًا حيث كان يريد الخروج من تبعات الاستعمار وتأسيس مؤسسات دولة حرة ومستقلة. ولقد جاء أول دستور للدولة لسنة1962م, ليؤكد على أن نظام الدولة المغربية هو نظام ملكية دستورية ديمقراطية واجتماعية. وعلى العكس من العديد من دول المنطقة فقد منع المغرب منذ استقلاله نظام الحزب الوحيد، وتأسست بعض الأحزاب التي كان دورها محصورًا في تأطير المواطنين وتمثيلهم دون أي إمكانية للوصول إلى السلطة حيث أن من يملك السلطة هو الملك وبمقتضى الدستور وهو ما يؤكد عليه الفصل التاسع عشر الذي ينص على أن  " الملك أمير المؤمنين، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين، والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيآت، وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة." كما نص الدستور على عدد من الفصول المهمة والأساسية والتي تضمنتها مواثيق حقوق الإنسان حيث نجده نص في الديباجة على أن "المملكة المغربية التي أصبحت عضوًا عاملًا نشيطًا في هذه المنظمات، تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق وواجبات.  كما تؤكد عزمها على مواصلة العمل للمحافظة على السلم والأمن في العالم ". كما نص الفصل الثامن على أن "الرجل والمرأة متساويان في التمتع بالحقوق السياسية. يحق لكل مواطن ذكرًا أو أنثى أن يكون ناخبًا إذا كان بالغًا سن الرشد ومتمتعًا بحقوقه الوطنية والسياسية.  والفصل التاسع على أنه "يضمن الدستور لجميع المواطنين: -حرية التجول وحرية الاستقرار بجميع أرجاء المملكة؛ - حرية الرأي وحرية التعبير بجميع أشكاله وحرية الاجتماع؛ - حرية تأسيس الجمعيات وحرية الانخراط في أية منظمة نقابية وسياسية حسب اختيارهم.  لا يمكن أن يوضع حد لممارسة هذه الحريات إلا بمقتضى القانون" والفصل العاشر على أنه "لا يلقى القبض على أحد ولا يحبس ولا يعاقب إلا في الأحوال وحسب الإجراءات المنصوص عليها في القانون. والمنزل لا تنتهك حرمته ولا تفتيش ولا تحقيق إلا طبق الشروط والإجراءات المنصوص عليها في القانون" والفصل الحادي عشر "لا تنتهك سرية المراسلات ".

واحتفظت الدساتير التي تلت أول دستور في البلاد على نفس المنوال لكنها لم تحرز أي تقدم في مجال حقوق الإنسان سواء دستور [1]1970 أو دستور [2]1972، وخصوصًا وأن هذه الفترة التاريخية عرفت توترات على المستوى الاجتماعي والسياسي وشهدت محاولات انقلاب على السلطة ومظاهرات احتجاجية شعبية، قابلتها اعتقالات واختفاء قسري ومحاكمات غير عادلة وعقوبات قاسية دون محاكمة بلغت حد الإعدام والاعتقال مع التعذيب القاسي مدى الحياة. وتعد هذه الفترة التاريخية أسوأ فترة في تاريخ انتهاك حقوق الإنسان بالمغرب.

ومع أن فصول الدساتير السابقة تضمنت العديد من الفصول المهمة إلا أنها بقيت مجرد نصوص دستورية معطلة بسبب ارتباطها بقوانين تنظيمية لم تصدر إلى اليوم. وربما شكل هذا الإرث السيئ أساس بعض الانفراج الذي شهدته فترة الثمانينات وخاصة وأن التوجه الدولي آنذاك وضع المسألة الحقوقية على رأس أولوياته.

وفي ظل تزايد مطالب بالتعديل ووجود رغبة من الشعب والقيادة لإحداث نقلة نوعية في مسار الحياة السياسية المغربية، جاء دستور [3]1992 وتلاه التعديل الدستوري لسنة 1996[4] والذي ظل محتفظًا بنفس روح الدساتير السابقة مع وجود بعض التعديلات على مستوى الاعتراف بحقوق الإنسان وإعطاء أهمية أكبر للبرلمان الذي أصبح يتشكل من غرفتين مجلس للنواب والمستشارين....

ومهدت هذه التعديلات الدستورية بالإضافة إلى مجموعة من التدابير وعلى رأسها إحداث المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان والتي وكلت له مهمة النهوض بحقوق الإنسان في المغرب والعمل كهيأة استشارية إلى جانب الملك لحماية حقوق الإنسان. واستحداث وزارة حقوق الإنسان لإعداد وتنفيذ سياسة الحكومة في مجال حقوق الإنسان ومراقبة احترامها والنهوض بها والمساهمة في إرساء دولة الحق والقانونسنة 1993م،تم الإفراج عن معتقلي اليسار وإجازة مناقشة "ملتمس الرقابة" على الحكومة والبرلمان... لوصول حكومة التناوب بقيادة المعارض عبد الرحمن اليوسفي سنة 1998م، أبرز المعارضين والمنتمين لحزب الاتحاد الاشتراكي، والذي كان منفيًا خارج البلاد بسبب مواقفه المعارضة للنظام بالمغرب. وهو ما شكل انفراجًا سياسيًا بكل المقاييس وبداية إصلاح جدي استطاع خلق الثقة بين الأحزاب والنظام ومن ثمة بين الشعب والنظام، وأساس مسلسل الإصلاح الذي سيقوده الملك الحالي محمد السادس بعد وفاة والده سنة 1999م.

 

الإصلاحات بالمغرب بالعهد الجديد: خطوات جادة ونتائج ملموسة

 

 تولى الملك محمد السادس العرش سنة 1999م، بعد وفاة والده الحسن الثاني، وارثًا بذلك مجموعة من التحديات سواء على المستوى السياسي وخاصة بعد الانفراج الديمقراطي الذي بدأه الحسن الثاني أو على المستوى الاجتماعي والاقتصادي مع استمرار وجود مجموعة من المشاكل والمطالب وعلى رأسها الحياة الكريمة وإيجاد حلول فعالة للقضاء على البطالة والفقر، والاهتمام بالتعليم والصحة، والإفراج عن المعتقلين السياسيين والاعتراف بالمكون الامازيغي، والاهتمام بالفئات والمناطق المهمشة....

وعرفت السنوات الأولى من حكم الملك الجديد للمغرب اهتمامًا واضحًا بالمناطق المهمشة من التنمية وأيضًا بالفئات المهمشة وعلى رأسها الفقراء وذوي الاحتياجات الخاصة. ثم انتقل المغرب إلى مرحلة الخطوات الملموسة والجادة حيث تم تأسيس ديوان المظالم سنة 2001م، والذي كان الهدف منه هو خلق نوع من التواصل بين المواطنين وبين المصالح الحكومية، ورفع المظالم. وشهدت سنة 2003 م، تأسيس هيأة الإنصاف والمصالحة الحدث الأبرز الذي يعد تجربة رائدة في مسلسل حقوق الإنسان بالمغرب ودشن لدخول المغرب في مرحلة العدالة الانتقالية. والتي تأسست بمقتضى قرار ملكي بتاريخ 6 نوفمبر 2003م، حيث تم تأسيس لجن للحقيقة والإنصاف والمصالحة، و صودق على نظامها الأساسي بموجب ظهير شريف رقم 1.04.42 الصادر 10 أبريل سنة 2004 م، وجاء التأسيس للهيأة تزامنًا مع الإفراج عن مئات السجناء السياسيين وسجناء الرأي، وتقديم التعويضات المالية لضحايا الاعتقالات وانتهاكات حقوق الإنسان ولعائلاتهم، كمحاولة للقطع مع إرث الماضي والقيام بتقديم تعويض معنوي ومادي للمعتقلين السابقين ولعائلاتهم، ومحاولة فتح صفحة جديدة مع المواطنين وتحقيق نوع من المصالحة وجبر الضرر المادي والنفسي....

وفي سنة 2004م، صدرت مدونة الأسرة التي طورت الحقوق الاجتماعية للمرأة بالمغرب وشكلت قفزة نوعية تمكنت معها المرأة من الحصول على عدة حقوق وفي جميع حالاتها (كزوجة وأم ومطلقة وأرملة...) وشكلت بداية لمسلسل من المكتسبات الجديدة لها والتي جعلت من المغرب له الريادة اليوم على مستوى حقوق المرأة، وهو ما ساعد أيضًا في انخراط المرأة إلى جانب الرجل في مسلسل الاحتجاجات بعد ذلك بكل سلمية، وهو ما لا يمكن إغفال أهميته على اعتبار أن المرأة تشكل أكثر من نصف المجتمع المغربي.

كما عرفت سنوات ما قبل الحراك العربي إطلاق العديد من المشاريع المهمة كالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية وعلى أساس الحكامة الجيدة وإرساء دولة الحق والقانون.

   وتم الاهتمام بإصلاح القضاء والعمل على تعزيز استقلاليته ودعمه بإنشاء محاكم مختصة كالمحاكم الإدارية والتجارية وقضاء الأسرة.  وقد خصص الملك محمد السادس خطابه بمناسبة الذكرى 56 لثورة الملك والشعب لإصلاح منظومة القضاء بالمملكة حيث أكد على أن الأولوية لـ "أولًا دعم ضمانات الاستقلالية.... ومراجعة النظام الأساسي للقضاء، في اتجاه تعزيز الاحترافية، والمسؤولية والتجرد، ودينامية الترقية المهنية... وإعادة النظر في الإطار القانوني المنظم لمختلف المهن القضائية. 
و تحديث المنظومة القانونية ولاسيما ما يتعلق منها بمجال الأعمال والاستثمار، وضمان شروط المحاكمة العادلة ...وذلك في تناسق مع مواصلة تأهيل المؤسسات الإصلاحية والسجنية. .. وكذا اعتماد خريطة وتنظيم قضائي عقلاني، مستجيب لمتطلبات الإصلاح. 
تأهيل الموارد البشرية، تكوينًا وأداءً وتقويمًا، مع العمل على تحسين الأوضاع المادية للقضاة وموظفي العدل.... والرفع من النجاعة القضائية، للتصدي لما يعانيه المتقاضون، من هشاشة وتعقيد وبطء العدالة. وهذا ما يقتضي تبسيط وشفافية المساطر، والرفع من جودة الأحكام، والخدمات القضائية، وتسهيل ولوج المتقاضين إلى المحاكم، وتسريع وتيرة معالجة الملفات، وتنفيذ الأحكام. و أخيرًا وليس أخرًا تخليق القضاء لتحصينه من الارتشاء واستغلال النفوذ، ليساهم بدوره في تخليق الحياة العامة، بالطرق القانونية..." . وهي مقتضيات في غاية من الأهمية لحساسية جهاز القضاء ودوره داخل الدولة والمجتمع.

وبما أن الدين يعد أحد مكونات المجتمع المغربي فقد كان للحقل الديني نصيبه من الإصلاح حيث تمت إعادة هيكلته بما يتلاءم وخصوصية المجتمع المغربي، حيث تم نهج سياسة تهدف إلى حماية مبادئ الإسلام السمحة، مع التركيز على نشر مبادئ الدين المعتدلة والبعيدة عن التطرف والغلو في الدين، وعلى هذا الأساس تم تأسس مجالس علمية بكل المدن المغربية مع تكوين أطرها وتخريج أفواجًا من المرشدات الدينيات تولوا مهمة توجيه وتوعية وتأطير المواطنين في الحقل الديني.

ويبدو أن المغرب الذي بدأ مسلسل الإصلاح منذ عهد الملك الراحل كان عازمًا قيادة وشعبًا على المضي قدمًا في هذه الإصلاحات، وهو ما لمسناه خلال فترة الحراك العربي حين خرجت المظاهرات مطالبة بمزيد من الإصلاحات بالدولة بعيدًا عن أي مطالب بإسقاط النظام أو بالتقسيم.

مرحلة الحراك العربي بالمغرب: مطالب شعبية مشروعة وقيادة حكيمة:

 

انتفض الشارع المغربي كغيره من دول العالم العربي يوم 20 فبراير/شباط 2011م، استجابة لنداء مجموعة من الشباب الذين طلبوا من الشعب الخروج في احتجاجات للشارع للمطالبة بإصلاحات اقتصادية وسياسية واجتماعية، وتفعيل القوانين وتوفير شروط العيش الكريم،  وترسيخ ملكية برلمانية وصياغة دستور جديد يعطي صلاحيات أكبر للحكومة ويعترف بالهويات الموجودة بالمغرب وباللغة الامازيغية كلغة رسمية إلى جانب العربية، وإسقاط الفساد، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، والحد من غلاء المعيشة، ورفع الأجور وتعميم الخدمات الاجتماعية...

ولقد اتسمت الاحتجاجات بالمغرب بكونها كانت سلمية تخللتها بعض الأعمال الاستثنائية التخريبية من بعض المجموعات التي استغلت الاحتجاجات من أجل القيام بعمليات إجرامية، ولكن تم تقويضها بسرعة لتستمر الاحتجاجات في سلميتها معبرة عن وعي ورقي المجتمع، والذي حدد أهدافه المشروعة منذ أول يوم من الاحتجاجات والتي بقيت بعيدة عن المطالبة بتغيير النظام أو إسقاطه.

واستجابة لنداء الشارع أعلن العاهل المغربي في خطاب له بتاريخ 9 مارس 2011م، عن تشكيلة لجنة لتعديل الدستور وأوكل مهمة رئاستها لأستاذ القانون الدستوري عبد اللطيف المنوني، من أجل إصلاح شامل للدستور يتماشى ومطالب وتطلعات الشعب والمرحلة الإستراتيجية التي يمر منها المغرب.

وبعد عرض نتائج أعمال اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور، أعلن الملك بتاريخ 17 يونيو 2011م، عن إجراء استفتاء[5] بشأن اعتماد الدستور الجديد، وتمت الموافقة عليه بنسبة كبيرة بلغت 98.5%مع نسبة مشاركة كبيرة.

وشكل الدستور الجديد بالمغرب نقطة تحول كبيرة بالمغرب وتمكن من خلال التعديلات التي تم إدماجها أو استحداثها من امتصاص غضب الشارع المغربي وبداية لاستكمال بناء الدولة الديمقراطية الحديثة. كما أنه تمكن من الحفاظ على الثوابت الراسخة للأمة المغربية من جهة وعلى توطيد السمات الأساسية للطابع البرلماني للنظام السياسي بالمغرب من جهة أخرى. 

وبالاطلاع على دستور 2011م، نجد أنه قام بإرساء ضمانات قوية في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وعلى مستوى حقوق الإنسان وتوزيع السلطات.

ومن أهم التعديلات التي جاء بها الدستور الجديد كانت على مستوى اختصاصات وصلاحية الحكومة التي يتم تعيينها من طرف الملك من الحزب السياسي الذي تصدَر انتخابات أعضاء مجلس النواب وعلى أساس نتائجها. ويعين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها (الفصل 47 من الدستور). ويتقدم رئيس الحكومة، بعد تعيين الملك لأعضائها، أمام مجلسي البرلمان مجتمعين، ويعرض البرنامج الذي يعتزم تطبيقه. ويكون البرنامج موضوع مناقشة أمام كلا المجلسين، يعقبها تصويت في مجلس النواب (الفصل 88 من الدستور). وتعتبر الحكومة منصَبة بعد حصولها على ثقة مجلس النواب المعبر عنها بتصويت الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم لصالح البرنامج الحكومي (الفصل 88 من الدستور). ولقد أسند الدستور الجديد اختصاصات جديدة لرئيس الحكومة وهي التسمية التي حلت محل الوزير الأول سابقا). ويمكن تلخيص أهم صلاحيات الوزير في أنه يمارس السلطة التنفيذية ويمكن أن يفوض بعض سلطته إلى الوزراء، ويرأس مجلس الحكومة ويتداول في السياسة العامة للدولة قبل عرضها على المجلس الوزاري، والسياسات العمومية والسياسات القطاعية، والقضايا المرتبطة بحقوق الإنسان، ومشاريع القوانين بما فيه قانون المالية، وأيضًا مشاريع القوانين التنظيمية....

ونص دستور 2011 على مجمل الحقوق الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وجعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة." ونص على مجموعة من الحقوق وعلى رأسها الحق في المحاكمة العادلة وإعمال مبدأ قرينة البراءة: "قرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة مضمونان"، الفصل 23، الحياة الخاصة وحرمة المنازل وسرية المراسلات "لكل شخص الحق في حماية حياته الخاصة. لا تنتهك حرمة المنزل. ولا يمكن القيام بأي تفتيش إلا وفق الشروط والإجراءات، التي ينص عليها القانون. لا تنتهك سرية الاتصالات
الشخصية، كيفما كان شكلها"، الفصل 24، الحق في حرية التنقل "حرية التنقل عبر التراب الوطني والاستقرار فيه، والخروج منه، والعودة إليه، مضمونة للجميع وفق القانون"، الفصل 24، الحق في الملكية "يضمن القانون حق الملكية"، الفصل 35، حرية ممارسة الشؤون الدينية "الدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية"، الفصل 3، حرية التفكير والرأي والتعبير "حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها"، الفصل 25، الحق في الحصول على المعلومة "للمواطنين والمواطنات حق الحصول على المعلومات الموجودة في حوزة الإدارة العمومية، والمؤسسات المنتخبة، والهيئات المكلفة بمهام المرفق العام"، الفصل 27، حرية التجمع وتكوين الجمعيات والانتماء النقابي: "حريات الاجتماع ، وتأسيس الجمعيات، والانتماء النقابي والسياسي مضمونة"، الفصل 29، الحق في المشاركة في إدارة الشؤون العامة "لكل مواطن أو مواطنة الحق في التصويت، وفي الترشح للانتخابات...والتمتع بالحقوق المدنية والسياسية. وينص القانون على مقتضيات من شأنها تشجيع تكافؤ الفرص بين النساء والرجال في ولوج الوظائف الانتخابية. التصويت حق شخصي وواجب وطني"، الفصل 30 "السيادة للأمة، تمارسها مباشرة بالاستفتاء، وبصفة غير مباشرة بواسطة ممثليها. تختار الأمة ممثليها في المؤسسات المنتخبة بالاقتراع الحر والنزيه والمنتظم"، الفصل 2،الحق في المشاركة في الحياة الثقافية: "تعمل السلطات العمومية على توفير الظروف التي تمكن من تعميم الطابع الفعلي لحرية المواطنات والمواطنين، والمساواة بينهم، ومن مشاركتهم في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية"، الفصل 6.

وبالإضافة إلى هذه الحقوق، نص الدستور الجديد صراحة على الحقوق الثقافية حيث تم الاعتراف بالأمازيغية كلغة رسمية للدولة وبالحسانية والروافد الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية. وعلى حماية الحقوق الفئوية لا سيما حقوق النساء والأمهات والأطفال والأشخاص المسنين وذوي الاحتياجات الخاصة، كما نص على معاقبة جريمة الإبادة وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وكافة الانتهاكات الجسمية والممنهجة لحقوق الإنسان..... كما تبنى الدستور الجديد مبدأ الجهوية الموسعة والتي تمنح الحرية لجهات المملكة في اتخاذ القرارات المناسبة لقضايا التنمية في علاقتها مع الخصوصية السوسيو اقتصادية للجهات ودائمًا في إطار الوحدة الوطنية.

وعلى غرار الدساتير السابقة حرص الدستور الجديد على التأكيد على التعددية السياسية وحرية تأسيس الأحزاب "تُؤسس الأحزاب وتُمارس أنشطتها بحرية، في نطاق احترام الدستور والقانون" الفصل 7. وفتح الباب أمام المواطنين لتقديم عرائض إلى السلطات العمومية، الفصل 15، وأيضا ضمان المحاكمات العادلة "يعتبر كل مشتبه فيه أو متهم بارتكاب جريمة بريئًا، إلى أن تثبت إدانته بمقرر قضائي، مكتسب لقوة الشيء المقضي به." الفصل 119 و "لكل شخص الحق في محاكمة عادلة، وفي حكم يصدر داخل أجل معقول. كما أن" حقوق الدفاع مضمونة أمام جميع المحاكم". الفصل 20.

ومن أهم ما جاء به دستور 2011 هو دسترة العديد من مجالس هيآت مرتبطة بحقوق الإنسان "المجلس الوطني لحقوق الإنسان مؤسسة وطنية تعددية ومستقلة، تتولى النظر في القضايا المتعلقة بالدفاع عن حقوق الإنسان والحريات وحمايتها، وبضمان ممارستها الكاملة، والنهوض بها وبصيانة كرامة وحقوق وحريات المواطنات والمواطنين، أفرادًا وجماعات، وذلك في نطاق الحرص التام على احترام المرجعيات الوطنية والكونية في هذا المجال" الفصل 161، و"الوسيط مؤسسة وطنية مستقلة ومتخصصة، مهمتها الدفاع عن الحقوق في نطاق العلاقات بين الإدارة والمرتفقين، والإسهام في ترسيخ سيادة القانون، وإشاعة مبادئ العدل والإنصاف، وقيم التخليق والشفافية في تدبير الإدارات والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية والهيآت التي تمارس صلاحيات السلطة العمومية." الفصل 162، و"تسهر الهيأة المكلفة بالمناصفة ومحاربة جميع أشكال التمييز، المحدثة بموجب الفصل 19 أعلاه من هذا الدستور، بصفةخاصة، على احترام الحقوق والحريات المنصوص عليها في نفس الفصل المذكور، مع مراعاة الاختصاصات المسندة للمجلس الوطني لحقوق الإنسان." الفصل 164....

ولا يخلو الدستور المغربي الجديد من فصول مهمة تكرس مجموعة من الحقوق والواجبات، غير أنه يمكن التأكيد على أن مسلسل الإصلاح بالمغرب نحو دولة الحق والقانون لازال مستمرًا، ولقد أبانت التجربة التاريخية على أن المغرب بدا وكأنه عاش ربيعه منذ مدة طويلة وليس فقط في السنوات الأخيرة التي شهدت انتفاضات بالكثير من الدول العربية، وهو ما جعله يجتاز مرحلة الحراك العربي بمرونة أكبر جعلت منه نموذجًا يحتذى به.

في الأخير، يمكن التأكيد على أن الأسس المتينة التي تقوم عليها أي دولة ديمقراطية هي تنظيم علاقة المواطن والدولة، والتي لا يمكن أن تقوم إلا على احترام المواطن لواجباته من جهة واحترام الدولة لحقوق هذا المواطن من جهة أخرى.

 

[1] الدستور المغربي لسنة 1970 صدر الأمر بتنفيذه بمقتضى ظهيرشريفرقم1.70.177 بتاريخ 27 جمادى الأولى 1390 (31 يوليوز 1970).

 

[2]الدستور  لمغربي لسنة 1972 صدر الأمر بتنفيذه بمقتضى ظهير شريف رقم 1.72.061 بتاريخ 23 محرم 1392 (10 مارس 1972).

 

[3]الدستور المغربي لسنة 1992صدر الأمر بتنفيذه بمقتضى  ظهير شريف رقم 1.92.155 صادر في 11 من ربيع الآخر 1413 (9 أكتوبر 1992) .

[4]الستور المغربي 1996 صدر الأمر بتنفيذه  بمقتضى ظهير رقم 1ـ 96 ـ 157ج.ر عدد 4420 بتاريخ 7 أكتوبر 1996.

[5]الاستفتاء الدستوري هو النظام المعمول به في المغرب في إنشاء الدساتير ولا يصبح الدستور معمولا به بالمغرب إلا بعد موافقة الشعب عليه.

 

مجلة آراء حول الخليج