; logged out
الرئيسية / التجربة التونسية في مواجهة الإسلام السياسي فشل الإخوان في مصر وعنف ليبيا من أهم أسباب التوافق في تونس

العدد 118

التجربة التونسية في مواجهة الإسلام السياسي فشل الإخوان في مصر وعنف ليبيا من أهم أسباب التوافق في تونس

الخميس، 30 آذار/مارس 2017

تاريخيًا تعتبر جماعات الإسلام ا لسياسي في تونس من أقدم الجماعات في المغرب العربي حيث كان لحركة الاتجاه الإسلامي التي أصبحت بعد عام 1989م، حركة النهضة، تواجد منذ سبعينات القرن الماضي وعلاقات وتعاون مع مثيلاتها في الجزائر، ومصر، والمغرب على المستوى الفكري والتنظيمي والدعم.

لقد عاشت هذه الحركة فترة هامة من مراحلها بين السجون والمنافي ولها أنصار وموالين، أكدوا حضورهم والتفافهم حولها وبرهنوا على تنظيمهم بعد الثورة (2010م) حيث تمرسوا على العمل السري. ونجحوا في فرض خطابهم الخاص وإرساء بنية فكرية لذلك الخطاب وأصبح المختصون يتحدثون عن خصوصية الإسلام السياسي التونسي المتجذر في بيئته السياسية والاجتماعية. وقد"نشأت الحركة الإسلامية لتجيب على الأسئلة الكبرى حول الوجود والتاريخ والدين ونظام الحياة والموقف من الحداثة والقضية الفلسطينية والعلاقة مع الغرب ومواقف الغرب من الإسلام والمستقبل العربي."(1).

ومع انطلاق عملية الانتقال منذ ثورة 2010م، وسيرها البطيء في ظل أزمات سياسية متعددة انتعشت حركة الجهادية وتنامى معها التطرف. وبعد سقوط النظام السابق وأمام الفراغ الكبير الذي أحدثته الثورة، ظهرت المجموعات الراديكالية وشرعت في التمركز على الساحة ونشر أفكارها واستمالة الآلاف من الشباب الذين فقدوا الأمل في إصلاحات النظم السابقة. ومن ثم تصرفت حركة النهضة بشكل منهجي ودعمت مركزها السياسي.

أثناء الثورة تأسست في تونس جماعة سلفية جهادية (ابريل2011م) وشرعت بالاجتماعات والتجمعات وباشرت الدعوةلفكرهاالمتطرف من خلال الخيام الدعوية التي أقيمت في الساحات العامة وأمام المدارس والجامعات وفي الأسواق وتطور عملها إلى اعتداء على السلطة والنظام العام وبرزت أحزاب دينية أخرى تحمل نفس الفكر المتطرف وفضلت العمل السياسي وعدم الالتجاء إلىالعنف. وبذلكأصبحت الساحة السياسية بعد الثورة بمثابة المختبر المفتوح على تفاعلات هذه التيارات المتوافقة والمتنافرة والمتضادةأحيانًا. وعلى امتداد سنوات الثورة الستعاشت التجربة التونسيةصعود التيارات الإسلامية ووصل بعضها إلى السلطة وواجه مسار الانتقال الديمقراطي صعوبات جمة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي كادت أن تعطل المسيرة وتذهب بنجاح التجربة، إذ ازداد منسوب العنف وتطور الإرهاب وتزايدت الاعتداءات على رموز السلطة وتفشى الفساد وأصبحت الدولة عاجزة عن الحلول لوضع أضحى يتردى بصفة مستمرة، ومل الشعب من الوعود وفقد ثقته في الطبقة السياسية. لكن غلب مناخ الحكمة والتوافق ليعطي مع بروز كل أزمة مجالات للتجاوز والحل وتتواصل مسيرة الإصلاح ببطء لكن بثبات وتفاؤل.

كيف ظهرت هذه الجماعاتالإسلامية وانتشرت في تونس؟

ماهي علاقاتها بجماعات الإسلام السياسي الخارجية وبالثورة التونسية؟ وكيف تعاملت الدولة والشعب مع هذه الجماعات، وكيف يتم التعايش بين الجانبين في التجربة التونسية؟ هذا ما سيتم طرحه في هذه الورقة.

1-   ظهور جماعات الإسلام السياسي

كانت ولادة الحركة الإسلامية في تونس من رحم التيار الإخواني ثم وضعت لنفسها نمطًا وطنيًا، ومرت بعديد المحطات الهامة. لقد كانت أهم وأنضج هذه الجماعات حركة النهضة  التي استلهمت أفكارها ومبادئها من فكر منظري الإخوان المسلمين في مصر وعلى رأسهم سيد قطب، إلى جانب مفكرين بارزين مثل مالك بن نبي وعلال الفاسي وغيرهما، بيد أن قادتها خاصة راشد الغنوشي، أكدوا مرارًا قبل الثورة وبعدها، أن النهضة طورت منهجها وغيرت مقارباتها وباتت متجذرة في واقعها التونسي.(2).."إن الحركة الإسلامية فيتونس ذات خلفية فكرية متنوعة تداخلت فيها في محصلة التحليل عناصر ثلاثة: التدين التونسي التقليدي..... أو المذهب المالكي، والثقافة الإصلاحية المشرقية، والثقافة العقلانية الحديثة".(3)

أكدت النهضة في بيان تأسيسها أنها ذات مرجعية إسلامية، وتسعى إلى "النضال من أجل تحقيق وحدة المغرب العربي كخطوة باتجاه تحقيق الوحدة العربية، فالوحدة الإسلامية وتحرير فلسطين". وأضافت أنها لا تقدم نفسها ناطقًا رسميًا باسم الإسلام، وحددت جملة من الأهداف منها: بعث الشخصية الإسلامية لتونس، وتجديد الفكر الإسلامي، والسعي إلى أن تستعيد الجماهير حقها في تقرير مصيرها، وضمان تنمية اقتصادية عادلة.

وجددت النهضة التزامها بالمنهج الديمقراطي في التداول على السلطة، وبمبادئ حقوق الإنسان، وبنبذ العنف. وأعلنت بوضوح قبل ثورة يناير 2011م، وبعدها أنها تقبل بصحيفة الأحوال الشخصية التي منحت المرأة التونسية حقوقًا واسعة، باعتبار أن ما ورد في تلك الصحيفة اجتهاد من ضمن اجتهادات إسلامية.

وقد تطورت الحركة عبر الزمن وتأقلمت مع متطلبات المجتمع وثقافته ونموذجه المجتمعي."وأسفرت عملية التفاعل بين الفكر الإسلامي الوافد وبين الواقع التونسي عن بلورة ما يمكن اعتباره على نحو ما صيغة تونسية     للفكر الإسلامي وللحركة الإسلامية وتمخض ذلك عن قناعة عامة في الوسط الإسلامي أن تونس لا يناسبها أن تستورد  حل ثوري وإنما بحاجة إلى حل يتفاعل مع البيئة التونسية لا يقلب الأوضاع رأسًا على عقب.(3)وأدى ذلك التدرج إلى تغيير اسمأكبر الحركات الإسلامية في تونس ليساير التغيرات وأسلوب عملها السياسي  من الجماعة الإسلامية(1979م) إلى حركة الاتجاه الإسلامي (1981م) ثم إلى حركة النهضة(1989م) وإلى حزب حركة النهضة (2011م) كما طورت أدبياتهاو أضحت لها بعض المساهمات الفكرية لمؤسسها راشد الغنوشي وساعدت الظروف الدولية والمحلية بعد الثورة على انتعاش الظاهرة الإسلامية بتونس، وقد نشأت جماعات الإسلام السياسي من صراع " فكان الصراع في العمق ليس بين تيار تحديثي وتيار تقليدي محافظ بقدر ما كان صراعًا بين مشروعين للتحديث مشروع يقوده تيار التغريب على حد تعبير راشد الغنوشي .وبين تيار التعريب حيث لا يرى التيار الأول طريقًا للدخول بالبلاد في العصر من دون تهميش الإسلام أو في الأقل تطويعه للقيم الغربية ."(4)

لقد تمكنت الجماعاتالإسلامية من الانتشار بسهولة في البلاد بسبب ضعف الخطاب الديني والفشل في معالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية العالقة كالتنمية والبطالة، فبرزت رموز التيار السلفي كمكون جديد من مكونات" الإسلام السياسي التونسي" وتزايد دور السلفيين السياسي في البلاد منذ 2011م، لعدة أسباب أهمها:

  -انتشار الفكر السلفي المحافظ خاصة في الجنوب والأحياء الشعبية بالمدن الكبرى.

- محاولات رموز من تيار السلفية الجهادية الاستفادة من أخطاء حركة النهضة التكتيكية والاستراتيجية ليقدموا أنفسهم كبديل عنها مستفيدين من تراجع المستوى العلمي والثقافة الدينية والنضج الفكري لدى الشباب ومن مناخ الضعف الأمني والسياسي والإعلامي.

- تسببت عقود لمحاصرة حرية التفكير والتعبير في انتشار تيار سلفي محافظ داخل حركة النهضة ذاتها.

- وجود قوى وطنية وعربية ودولية تسعى إلى تشجيع نمو التيارات السلفية المحافظة وإضعاف التيارات العقلانية التحديثية للإسلام حتى تسهل عملية إضعاف دور الإسلام في الحياة العامة ثم تهميشه وتوريطه في صراعات عقائدية وايديولوجية وسياسية (5). ومن المفارقات أن تزامن انتشار السلفية الجهادية في تونس مع انطلاق عملية التحول الديمقراطيبعد الثورة التي كان من المفترض أن تجعل أفكار تلك العناصر أقل شعبية، لأن مناخ الحريات مكن الجماعات الإسلامية من الإعلان عن نفسها والانخراط في العمل السياسي ومكن هذا المناخ الناشئ حزب حركة النهضة الإسلامي من الحكم حيث فاز في أول انتخابات بعد الثورة (أكتوبر2011م) وكذلك حزب جبهة الإصلاح السلفي الذي شارك في انتخابات أكتوبر (2014م) وظهرت أحزاب إسلامية أخرى مثل "حزب التحرير " وتنظيم" أنصار الشريعة ". ويمكن إرجاع أسباب تطور الجماعات الإسلامية المختلفة ونموها لحالات المنع التي امتدت حقب في عهد الزعيم الحبيب بورقيبة (1957 إلى1987م) وزين العابدين بن علي (1987الى2011م). مع تهميش التعليم الديني وفرض رقابة مشددة على المساجد. وحتى بعد الثورة تم التركيز على معالجة القضايا السياسية والدستورية وإغفال القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي كانت سببًا في اندلاع الثورة الأمر الذي غذى الإحساس بالإحباط بين أوساط الشباب.

ولفهم جذور السلفية في تونس لا بد من فهم أسباب تهميش حكومات ما قبل الثورة للدين منذ استقلال البلاد (1956م)، فقد سعى بورقيبة إلى السيطرة على الفضاء فأغلق التعليم الديني الزيتوني وتم تعويضه بكلية الشريعة وأصول الدين (6) ومنذ تسلم زين العابدين بن على السلطة حاول استخدام الدين لتعزيز شرعيته في البداية، فحاول المصالحة وتمت إعادة الزيتونة إلى وضعها السابق وعفى عن زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي الذي كان محكومًا بالإعدام، ووعد بالسماح للحركة بالعمل السياسي وخفف القيود على أعضائها، لكن عندما ظهرت قوة الحركة في انتخابات (1989م) تراجع النظام وعاد لتضييق الخناق على رموزها وسجن المئات منهم ودفع بالكثيرين للبحث عن ملاذات آمنة، فانتقلت قيادة الحركة إلى أوروبا وتمت السيطرة الأمنية على المساجد، وفرضت قيود على الملابس والحجاب واعتبر أي تعبير علني عن التدين تهديدًا للمجتمع (7).

لذلك لجأت حركة النهضة للعمل السري، وبدأ صعود الحركة السلفية وهي حركة تعتمد قراءة حرفية للنصوص الدينية، وغالبًا ما تصنف السلفية إلى فئتين: السلفية العلمية، وهي غير سياسية وترفض الخروج عن الحكام، والسلفية الجهادية التي تؤمن بالعمل المسلح لإقامة دولة إسلامية. وقد نمت الأولى في تونس في فترة التسعينات واستمالت الكثير من الذين كانوا يرغبون في المعرفة الدينية عبر القنوات الفضائية والكتب والحلقات، وكان النظام متسامحًا مع هذا التيار وأنشطته ظنًا أن هذا التيار قد يكون البديل لحركة النهضة لكن مع ذلك ظهرت السلفية الجهادية وانخرط كثير من التونسيين في أعمال الإرهاب والقتال أثناء الغزو السوفيتي ثم الأمريكي لأفغانستان، وغزو العراق (2003م)، ويمكن تفسير تطور الحركة السلفية الجهادية في تونس بعد الثورة بعدد من العوامل منها صعود الايدولوجيا الجهادية في بعض أنحاء العالم، إضافة إلى الفراغ الأمني الذي شهدته البلاد ، كما ساهمت الأنشطة الدعوية والخيرية من توسيع نفوذهم في المجتمع وتجنيد المتشددين في الضواحي الفقيرة والمناطق الداخلية خاصة (سيدي بوزيد وجندوبة والقيروان والقصرين) فقدموا المساعدات للمحتاجين وأغاثوا الفارين من الصراع الليبي (2011م) ونجحوا في إقامة شبكات تهريب في المناطق الحدودية الفقيرة وفتحت لهم المنابر الإعلامية للتعبير عن أفكارهم وآرائهم .

 كان المناخ المتساهل وموقف حكومة "الترويكا" بعد الثورة (ائتلاف بقيادة حزب حركة النهضة) شجع وساعد على انتشار ذلك التيار وأفكاره (8) وبرغم اشتراك تلك الجماعات في نفس الأفكار والمبادئ وتعاونها فيما بينها، لذلك يمكن القول أن تيار مثل" أنصار الشريعة المرتبط بالسلفية الجهادية يشكل كيانًا فريدًا تأسس في أبريل 2012م، بعد أن تم الإفراج عن مؤسسة سيف الله بن حسين المعروف باسم "أبو عياض" في إطار العفو العام الذي شهدته البلاد. (9).

والحقيقة أن عدم وجود قيادة موحدة لتنظيمات" أنصار الشريعة" يعود إلى أن هذه التنظيمات كانت تعمل سرًا للقاعدة وتأكد ذلك بعد التحقيقات في ملف محاكمة "أنصار الشريعة" واقتصرت تحركات هذا التنظيم على تركيز هياكله التنظيمية في عدد من المدن وكان له تواجد مكثف بالجنوب والوسط الغربي من البلاد. في سبتمبر 2011م، عقد مؤتمر سلفي عربي بالعاصمة التونسية حضرته عدة جماعات سلفية من عدد من الدول العربية والإسلامية وكان ذلك يحدث لأول مرة في تاريخ تونس، وفي يوليو 2011 م، عقد مؤتمر جمع العائلة الإسلامية الموسعة للتيار الإسلام السياسي والتيار السلفي بكل مكوناته في منطقة "سكرة" بالعاصمة وقد تم الاتفاق على خارطة طريق تعتمد ظاهريًا توحيد العمل الإسلامي في تونس وقد حضر الاجتماع رموز من حركة النهضة مع رموز التيار السلفي وكان يهدف إلى تحديد تقاسم الأدوار من أجل تمكين الإسلاميين من الوصول إلى الحكم. وقد فتح نجاح حركة النهضة في انتخابات أكتوبر 2011م، الباب أمام أنصار الشريعة للعمل والتحرك بشكل مريح.(10) وتتكون حركة أنصار الشريعة من ثلاثة أجيال من الجهاديين ذوي الخلفيات المختلفة .جيل الجهاديين الذي ينتمي إلى تنظيم القاعدة والذين حوكموا في تونس، والجيل الذي يشتبه في انضمامه إلى القتال في العراق بعد الغزو الأمريكي (2003) ووجدوا في نفس السجون خلال العقد الماضي وساعدهم السجن على الإعداد والتنظيم والتأطير لحركة السلفية الجهادية التي سينبثق عنها فيما بعد " أنصار الشريعة"، وبعد الثورة انضم جيل ثالث أصغر سنًا تم استقطابه وتسييسه بسرعة بفعل مناخ التحرر وحرية الإعلام التي شهدتها البلاد (11). لكن التيار العنيف داخل الحركة غلب ودفع إلى أعمال عنف متعددة في تونس. إذ شهدت الأشهر الستة الأولى لسنة2012م،  عمليات عنف ضد رموز المجتمع المدني من مثقفين وسياسيين بتونس وحاول التيار إنشاء إمارات إسلامية في بعض المناطق وكانت كل العمليات تنتهي بالإفلات من العقاب وشهد العام 2012م، حركة كبيرة في تسفير الشباب لسوريا ويعتبر "أنصار الشريعة" أحد الأطراف النشطة في هذا التجنيد، كما كثف تعامله مع شبكات التهريب وكانت سنة م،2013 سنة صعبة على أكثر من صعيد حيث تواترت العمليات الإرهابية ضد قوات الجيش والأمن فتم تنفيذ قرابة 15 عملية إرهابية في عدة مناطق. وكان اغتيال الناشطين الحقوقيين شكري بالعيد ومحمد البراهمي في فبراير ويوليو 2013م، إيذانا بنهاية الهدنة بين الحكومة التونسية و"أنصار الشريعة "التي أثبتت التحقيقات تورطها في الاغتيالين وتصاعدت وتيرة العنف بالاعتداء على السفارة الأمريكية (2013م) وأظهرت التوقيفات العديدة في صفوف عناصر هذا التيارأن هناك مخططات للاغتيالات وعمليات إرهابية وتم إعلان تيار "أنصار الشريعة" في أغسطس 2013م، تنظيم إرهابي وفي سنة2014م، تم تصنيفه من طرف أمريكا كتنظيم إرهابي دولي (12).

  • تعل

أما " حزب التحرير" فقد أصبح ثالث حزب إسلامي في تونس ينشط بشكل قانوني بعد الثورة، على غرار حركة النهضة، التي تقود الائتلاف الحاكم في البلاد وحزب جبهة الإصلاح السلفي، وظهر حزب التحرير في تونس عام 1978م، كامتداد للحزب الذي أسسه الفقيه الراحل تقي الدين النبهاني بالقدس عام 1953م، ثمّ أسس فروعًا له في كل من سوريا ولبنان والأردن والعراق ومصر. وهو محظور في عدد من الدول العربية والغربية. ورغم أنه ليس حديث النشأة، عكس حزب جبهة الإصلاح الذي حصل على ترخيص في مايو 2012م، فإنّ "حزب التحرير" لم يتحصل على ترخيص إلا في 17يوليو2012م، ويقول عضو المكتب الإعلامي بحزب التحرير عماد الزواري أن رئيس الحكومة السابقة الباجي قائد السبسي "رفض شخصيًا" منح التأشيرة لحزبه، الذي يسعى لإعادة العمل بالخلافة الإسلامية."(13) ويضيف "الحصول على ترخيص للعمل السياسي لم يكن هاجسنا. نحن حصلنا على تأشيرتنا من الله"، مشيرًا إلى أن حزبه لم يتوقف عن العمل يومًا" رغم المضايقات في العهد السابق.وتعرّضت قيادات "حزب التحرير" إلى اعتقالات ومحاكمات عام 1983م، في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، وإلى موجة ثانية من الملاحقات بعد صعود زين العابدين بن عليإلى الحكم، لا سيما عام 1991م. ومنع الحزب من العمل بسبب توجهاته التي تهدف لإقامة الخلافة الإسلامية وهو مبدأ يرفضه قانون الأحزاب الذي يتمسّك بمدنية الدولة وبالنظام الجمهوري. ويعتبر حزب التحرير التونسي نفسه قادرًا على تنظيم الحياة المعاصرة ضمن إطار إسلاميِ محض، بعيدًا عن أفكار العصر التي يعتبرها دخيلة على الفكر الإسلامي. وصاغ مشروع دستور ينظم الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، استمدّت جميع فصوله من الأحكام الإسلامية، (14).

ورغم أن مبادئه ترتكز على أحكام الشرع الإسلامي، فإنّ حزب التحرير ينفي أن يكون حزبًا سلفيًا مثلما تصفه بذلك أوساط سياسية وإعلامية. ويقول مكتبه الاعلامي "إنه حزب سياسي منظم عكس الحركة السلفية التي ليست منظمة أو مؤطرة ولا تملك برنامجًا واضحًا لتغيير الأوضاع".

وأثار إصرار الحزب على الفكر الديني وعدم تقبله لمبادئ الديمقراطية انتقادات كبيرة لدى الأوساط العلمانية التي تتزايد مخاوفها من ظهور هذه الحركات بعد الثورة. في سنة 2016 م، أصدرت المحكمة الابتدائية قرارًا بتعليق نشاط حزب التحرير ثلاثين يومًا بسبب مخالفته قانون الأحزاب الصادر في 2011م، بناء على طلب تقدمت به الحكومة وأعلن «حزب التحرير" أنه لن يمتثل للقرار القضائي بتعليق نشاطه لمدة شهر بسبب مخالفته قانون الأحزاب، داعيًا السلطات إلى التراجع عن القرار.

وقال عضو هيأة الحزب محمد ناصر شويخة أن الحزب "لن يوقف نشاطه وسيواصل عمله"، ووصف القرار بأنه "تنفيذ لحرب المستعمر الأميركي والإنجليزي على حزب التحرير في العالم لمنعه من العمل والتضييق عليه".

 

2-علاقات جماعات الإسلام السياسي:

أ-علاقات "حركة النهضة"

لم تمر ستة أشهر على انطلاق الثورة التونسية، حتى انطلقت حركة النهضة في فتح قنوات التنسيق مع التيار السلفي بشقيه العلمي والجهادي وتم ضبط ملامح التعامل بين الطرفين والالتزام بقواسم مشتركة رغم الخلافات. وانتظم بتونس المؤتمر السلفي سالف الذكر في محاولة لترشيد الظاهرة الإسلامية والسلفية، لكن برزت الخلافات وتضاعف نسق المظاهرات السلفية الداعية إلى فرض تطبيق الشريعة وتحركت الجمعيات الكثيرة المساندة لهذا التيار للسيطرة على المساجد وأصبح التيار يكتسح كل يوم فضاءات جديدة كالمساجد ودور الثقافة.

وتعتبر حكومة" الترويكا" (تحالف النهضة وحزبين علمانيين) أول تجربة وأول اختبار لحكم الإسلاميين في تونس، فقبل الثورة كانت النهضة جزءًا من تجمع سياسي نشأ عام 2005 وأطلق عليه اسم مجموعة 18 أكتوبر2005م، ويضم أبرز أطياف المعارضة اليسارية والليبرالية والإسلامية (15).

لكن أغلب مكونات ذلك التجمع لم تنخرط في حكومة "الترويكا" إذ رفضت بعض الأحزاب من وسط وأقصى اليسار التحالف مع حزب حركة النهضة ويبررون ذلك باختلاف الرؤى والبرامج. واحتدمت الخلافات بين النهضة وشريكيها في الحكم حول التعامل مع السلفيين بعد أن تفاقمت المظاهرات السلفية وتحولت إلى أعمال شغب ومهاجمة الفنادق والتعدي على المواطنات من أجل اللباس واتهمت النهضة بالتعامل اللين مع التيار السلفي في اعتدائه على جامعة منوبة، وأصبحت أطراف الحكم الثلاثة تتبادل التهم وخيم جو من التوتر في ظل العجز على الأداء وتلبية المطالب الشعبية الملحة، فتقدم الاتحاد العام التونسي لشغل أكبر منظمة نقابية بمبادرة للحفاظ على مدنية الدولة التي أصبحت مهددة أمام التلويح السلفي بتغيير النموذج المجتمعي التونسي .فقبلت حركة النهضة انخراطها في المبادرة بعد تردد ،وكثفت الحكومة من تحذيراتها للتيار السلفي مع تنبيهه كل مرة للتقيد بالقانون .لكن لم تستطع حركة النهضة السيطرة بشكل كامل على التيار السلفي الذي خفض من منسوب العنف لكنه ظل عصيًا على الانصياع لقوانين الحياة السياسية. وتواصل تمرد تيار أنصار الشريعة ولجأ في آخر المطاف إلى حمل السلاح في وجه الدولة.

أنتج صعود تيار الإسلام السياسي في تونس نوعًا جديدًا من العلاقات بين التيارات الإسلامية مع بعضها البعض، بين الإسلام السياسي والإسلام السلفي وبين الإسلاميين والعلمانيين وبين الإسلاميين والغرب."و تحكم هذه العلاقات ثنائية الصراع والتوافق من خلال مسائل الهوية والتدين وطبيعة الحكم والعلاقة مع الغرب "فالتوافق والخلاف بين الإسلاميين والعلمانيين ينبع من نظرتهم للدين والهوية .فحركة النهضة حاولت التعامل مع المسألة بتطوير النظرة التقليدية فأصبحت تقبل النقاش في المسائل الدينية وتؤكد على احترام الحريات برغم وجود أطراف رافضة لهذا التمشي والأكثرية ذاهبة في التوافق رافعة شعار الإصلاح الديني وتؤكد أن ذلك لا يتعارض مع الديمقراطية. وبخصوص علاقة حركة النهضة بالسلفيين فيغلب عليها التوافق، فالنهضة لا تستمد جذورها من المرجعية السلفية وتسعى للبحث معهم على عناصر تلاق وتدعوهم للحوار ولرفض العنف. ومرت علاقة حركة النهضة "بأنصار الشريعة" بمرحلتين، مرحلة التقارب، ومرحلة المواجهة، تميزت الأولى والتي امتدت من 2011 إلى 2013 م، بسرعة انتشار التنظيم وتمكنه من التحرك والاستقواء أثناء فترة حكومة حمادي الجبالي( الأمين العام لحركة النهضة) تم تواصل في الفترة الأولى من حكومة علي العريض ( قيادي في النهضة) وابتدأت مرحلة المواجهة منذ الاعتداء على السفارة الأمريكية في 14 سبتمبر 2013م، وساءت العلاقة أكثر مع العثور على ألغام في جبل "الشعانبي" أودت بحياة العشرات من قوات الأمن والجيش.وأمام اشتداد الأعمال الإرهابية اضطرت الحكومة إلى تصنيف أنصار الشريعة تيارًا إرهابيًا، فأصبحت الحرب مفتوحة بين الطرفين(16). وتعتقد النهضة أن الظرف غير موات ولا يساعد على تطبيق كل مبادئ الحركة لذلك فهي تلجأ إلى استراتيجية كسب النجاح المرحلي بالتوافق مع العلمانيين وتسعى إلى إرضاء الغرب وإقناعه بأنها حداثية. أما العلمانيون فيؤكدون في مواقفهم على ضرورة فصل الدين عن الدولة وتعايش الدين مع القيم الكونية الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبينما يريد السلفيون دولة إسلامية حالاً تريد النهضة دولة إسلامية في المدى المتوسط (17).

 ويريد العلمانيون دولة ديمقراطية تقوم على مبدأ المواطنة وضمان الحريات الأساسية بما فيها حرية المعتقد. أما علاقة الإسلاميين بالغرب فهي تتسم بالقبول المرتكز على قواسم مشتركة كالقبول بالديمقراطية ومقاومة دكتاتورية السلطة واحترام حقوق الإنسان وتطور علاقة الدين بالدولة. علمًا أن الإسلاميين الذين عاشوا عقودًا يتمتعون باللجوء السياسي داخل تلك الدول تغيرت نظرتهم، فلم يعد الغرب في نظرهم مصدر الشر والخطر الأكبر على الحضارة الإسلامية، بعد حوارات ولقاءات وتعايش مع الغرب استمرلعقود من الزمن.

وتبدو علاقة حركة النهضة بأمريكا في تحسن ملحوظ، فقد زار كبار مسئولي الحزب بعد الثورة أمريكا التي قدمت دعمًا سياسيًا وماليًا للحكومة من خلال القروض الميسرة والاستثمارات والمساعدات الأمنية والعسكرية وكذلك أوروبا، إذ قامت ألمانيا وفرنسا بإسقاط جزء من ديون تونس وحولتها إلى استثمارات وقامت دول آسيوية مثل اليابان والصين بخطوات مماثلة فقدمت الهبات والقروض الميسرة والترفيع في حجم الاستثمارات. هكذا تحولت علاقة الإسلاميين بالغرب من حالة العداء إلى تحالف يتطور باطراد.

ب-علاقات تيار "أنصار الشريعة"

لقد ُضرب تيار أنصار الشريعة في تونس منذ تصنيفه كتنظيم إرهابي في العمق حيث تم تدمير كل مكوناته وتفكيك هيكله واللجنة الشرعية التي تضم قيادات التنظيم وتفكيك مكاتبه الوطنية السياسي والدعوي والاجتماعي والإعلامي والأمني الذي يضم الجناح المسلح، والذي تم كشفه خلال التحقيقات. كما تم قتل معظم قياداته في اشتباكات متفرقة وخاصة في كميني قفصة (القطار وسيدي عيش 2015)، فقد كان للتيار علاقات تقارب ومواجهة مع حركة النهضة، كما أن له علاقات جيدة مع الأحزاب السلفية المعترف بها كحزب جبهة الإصلاح وحزب الأصالة وحزب الرحمة وحزب التحرير التي كانت تشاركه كل تظاهراته ولم تتبن موقف الحكومة الذي صنفه تيارًا إرهابيًا.

لهذا التيار علاقات مع جمعيتين لأنصار الشريعة في ليبيا واحدة في مدينة بنغازي والأخرى في مدينة درنة حيث تسيطر القاعدة وتتكاثر مراكز تدريب الجهاديين، ومن أبرز قيادات "أنصار الشريعة الليبي" محمد الزهاوي قتل في إحدى المعارك(2015م) وسفيان بن قمو الذي يوفر الحماية لأبي عياض قائد أنصار الشريعة منذ فراره إلى ليبيا في نهاية 2013 علمًا أن هذا الأخير لم يعد يحظ بالمكانة الكبيرة في صفوف التنظيم منذ فراره من تونس، حيث نشأ صراع حول من يتولى القيادة والتسيير بعد أن أصبح التيار ممنوعًا قانونيًا.

 ولتيار أنصار الشريعة علاقات مع "داعش" تعود إلى ما قبل احتلال الموصل بعامين عندما كان يتم تجنيد تونسيين للقتال في سوريا. ومنذ معركة الموصل (يونيو 2014) التي حقق فيها تنظيم "داعش" انتصارات ميدانية أعلن أبو عياض في بيان نشره بعنوان فتوحات" داعش "أنه يطلب من كل الفصائل والكتائب الجهادية بما في ذلك "القاعدة "وجبهة النصرة التوحد والاجتماع في رمضان 2014 م، لوضع خطة موحدة للتحرك. لقد دخل تيار أنصار الشريعة مرحلة الأزمة منذ أن خسر حلفاء له كانوا في الحكم فأصبحت قدراته على الحركة والمناورة محدودة للغاية مع أنه مازال يحظى بمساندة الجمعيات السلفية التي ترفض إلى اليوم تصنيفه تنظيمًا إرهابيًا ويبقى مستقبله في ليبيا مرتبطًا بمآل تطورات الأوضاع السياسية والأمنية في هذا البلد. ومع صعود التيار الديمقراطي الليبرالي والمستقلين في ظل مطاردة الولايات المتحدة والمجتمع الدولي لهذا التيار سيكون المستقبل صعبًا.(18)

ج-علاقات حزب التحرير.

حزب التحرير في تونس، هو فرع حزب التحريرالذي تأسس سنة 1953م، في القدسعلى يد القاضي تقي الدين النبهاني، ورئيس مكتبه السياسي في تونس هو عبد المجيد الحبيبي، وترتبط أفكار حزب التحرير بكافة فروع الحزب في العالم، حيث يدعو إلى "استئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة الخلافة"، ويتبع الفرع التونسي إلى قيادة الحزب المركزية .تم إعطاء التأشيرة للحزب في تونس في17يوليو 2012م،بعد الثورة التونسية.

يتخذ الحزب من البلاد الإسلامية مجالاً لعمله لإقامة دولة الخلافة، ولديه ناطقين رسميين في عدد من البلاد الإسلامية، والكثير من المكاتب الإعلامية، وله انتشار واسع في العالم، مثل فلسطين ولبنانوتونس و شرق آسيا، والمملكة المتحدة وأستراليا. والحزب محظور في معظم الدول العربية والإسلامية، وفي ألمانيا وروسيا(19).

في المنطقة العربية شهدت علاقاته مراحل من المد والجزر، فبينما كانت بعض الدول تبطش به، كما كان الحال في ليبيا و العراق، نجد له نشاطاتٍ رسمية في دولٍ أخرى مثل لبنان والسودان ومصر .ومنذ سنة 2012م، يعيش الحزب في تونس بعض التضييقات وخلافًا لباقي الحركات الإسلامية ويعود السبب في ذلك إلى أن الحزب يدعو إلى تقويض نظام الحكم القائم وإحلال الخلافة كبديل ويعتبر أن الحكام الحاليين يطبقون أنظمة وضعية ودولتهم "دار كفر"،ويعرف في دستوره الذي يسميه  "مشروع دستور دولة الخلافة" في المادة الثانية دار الكفر على أنها «هي التي تطبق أنظمة الكفر،ويكون أمانها بغير أمان الإسلام". وتقول المادة 191"المنظمات التي تقوم على غير أساس الإسلام، وتطبق أحكام غير أحكام الإسلام، لا يجوز للدولة أن تشترك فيها، وذلك كالمنظمات الدولية مثل هيأة الأمم ومحكمة العدل الدولية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي وكالمنظمات الإقليمية مثل الجامعة العربية ".

أما في العالم الإسلامي فإن لحزب التحرير انتشارًا علنيًا في إندونيسيا وماليزيا، كما أنه له وجود كبير في وسط آسيا، وبخاصة في أوزبكستان، وقد حُظر حزب التحرير في بنغلاديش.

3-تعايش الجماعات الإسلامية في التجربة التونسية

ا-تطور نظرة "النهضة" للحكم

انتقلت حركة النهضة عبر مسيرتها من موقف رافض للتحديث رفضًا مطلقًا إلى رفض معدل ولعل الموقف الرافض للمشروع التحديثي في تونس غداة الاستقلال(1956م) كان وراء ظهور الحركة الإسلامية وكان الرفض يشكل المضمون الإسلامي لمشروعية وجودها والمحدد لقاعدتها الاجتماعية التي أعطت القوة السياسية لها في سبعينات القرن الماضي لذلك لم يكن من اليسير التفريط في هذا الموقف "العداء الخالص والشامل لمشروع الدولة الوطنية الحديثة وللنخب المدافعة عنه" (20).

 باعتبار أنه يمس عوامل ظهور الحركة والأسباب الاجتماعية التي ساعدت على بروزها.

بهدف فك الارتباط بين الديني والاجتماعي في محاولة لخصخصة الديني أي جعله مسالة "ضمير شخصي" فركز مجال التحديث على المسائل التي يهيمن عليها الدين سواء كانت نصا أو ممارسة اجتماعية أو سلطة المشايخ ومؤسسات (المحاكم الشرعية) فتم تباعا إصدار صحيفة الأحوال الشخصية وإلغاء التعليم الزيتوني وإلغاء المحاكم الشرعية وإبطال دور الفقيه والقضاء الديني في القانون مع إنشاء محاكم مدنية تقوم على القانون الوضعي وكذلك إلغاء الأحباس أي تفكيك مؤسسات "الصدقة الجارية" كل ذلك دفع بظهور الحركة الإسلامية، كحركة احتجاجية (21).

وفق هيمنة الأنموذج الحداثي الأوروبي وثانوية الأنموذج الإسلامي الذي خضع للتوظيف والانتقائية فكان مرجعية غير أساسية. عجل العامل الاقتصادي وفشل تجربة التعاضد 1969م، في ظهور حركة اجتماعية باسم الدين ووضفت الحركة الإسلامية ذلك الفشل واستثمرت الطاقة الاحتجاجية التي عبرت عنها البطالة وازدياد نسبة الفقر والنزوح من الأرياف إلى المدن أدى ذلك إلى تأزم المشروع التحديثي وأعطى الحركة الإسلامية مشروعية الظهور بداية من السبعينات (1973م) وكان موقفها الرفض الشامل لمشروع التحديث وتقديم البديل في مشروع الإسلام الشامل (22).

وتوترت العلاقة بين نخبتين متمايزتين من حيث المرجعية والمشروع والبدائل تمايزًا يحيل إلى التصادم والإقصاء المتبادل، ومن هنا يأتي عمق الرفض والقطيعة بين المشروعين. ومع تراكم تجارب الحركة الإسلامية في صراعها مع السلطة على امتداد عقود من الزمن، أصبح للحركة معرفة ودراية بالواقع السياسي التونسي فتراجعت نسبيًا عن نهج الرفض الشمولي القطعي لمشروع الدولة الوطنية وتبنت نوعًا آخر من الرفض " رفض معدل" فيه مبدأ القبول والتواصل وترك كل ما يؤسس للقطيعة.وأصبح الحديث عن "كيان وطني" بدل مفهوم" الأمة" وأصبحت حركة النهضة تطالب "بحماية الاستقلال والسيادة الوطنية" وكانت تشكك في استقلال البلاد وتدعو إلى تحريرها. ثم شرع في مراجعة المواقف بعد الخطاب وأصبحت هناك إشادة بالحداثة في بعدها السياسي " ضمان الحريات ووجود الديمقراطيات."(23)

وقد رافق هذا التدرج مخاض آخر في مجال تنظيم العلاقة بين الدين والسياسة والدولة. كانت حركة النهضة ترفض هذا رفضًا قاطعًا , وعبرت عن ذلك الرفض عند تأسيسها(1981م) تحت اسم حركة الاتجاه الإسلامي وذلك متأت من فهم الحركة في تلك المرحلة للعلاقة بين الدين والسياسة القائمة على ارتباط بنيوي. ويعني ذلك أن لا مجال للقطيعة بين المجالين، لأن الحركة تعتبر السلطة ضرورة في الإسلام حيث يعبر راشد الغنوشي عن ذلك في " الوظيفة الاجتماعية للسلطة في الإسلام"(24) وكان لا بد لحركة النهضة من إحداث ثورة في مجال قراءتها لقضية المرأة وبينت أنها مجددة في المجال الديني وأنها"امتداد متميز لحركة الإصلاح".(25)  

 وقد أقدمت الحركة سنة 1988م، على التوقيع مع كل الأطراف السياسية الأخرى آنذاك على وثيقة الميثاق الوطني التي اعتبرت صحيفة الأحوال الشخصية من المكاسب الوطنية.

ب- حركة النهضة وممارسة السلطة

إن تجربة حكومة" الترويكا" تعتبر أول اختبار لحكم الإسلاميين في تونس، لقد كان الانسجام الظاهر بين مكونات هذا التنظيم الذي مكن من تمرير عدة قوانين ومبادرات سياسية لكن قلص تطور المشهد الديني والسياسي في الأشهر الأولى من عمر  الحكومة المشكلة في شهر ديسمبر2011م، من عوامل الالتقاء والتفاهم بين الطرفين، النهضة وحلفائها من الأحزاب التي أدارت الحكم بعد انتخابات 2011م، والتي فازت فيها حركة النهضة بالمرتبة الأولى(99) مقعدًا من جملة218 بنسبة 41.48% يليها حزب المؤتمر من أجل الجمهورية (29) مقعدًا بنسبة9.61 % وحزب التكتل من أجل العمل والحريات (20) مقعدًا ونشأ تحالف متكون من إسلاميين وعلمانيين يضم (148) مقعدًا في المجلس الوطني التأسيسي لإدارة المرحلة الانتقالية. قررت النهضة الدخول في تحالف مع حزبين علمانيين وشكلت حكومة استأثرت فيها بوزارات السيادة ووزارات الاقتصاد والتعليم وسعت لإصدار دستور مصغر يعطي لرئيس الحكومة صلاحيات أكبر من صلاحيات رئيس الجمهورية واعتبر ذلك بداية لتركيز نظام برلماني قبل أن يبت الدستور القادم في الأمر (26).

لكن سرعان ما تباينت المواقف لاختلاف الايديولوجيات وحلت أزمة سياسية وفشلت الحكومة في تحقيق الحد المطلوب من الأمن والنمو الاقتصادي والتشغيل. فتفككت الترويكا (حزب المؤتمر) و(حزب التكتل) بسبب فشلها في الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق الأمن، إذ استفحل الإرهاب وضربت السياحة وأوشك الإنتاج على التوقف في عدة قطاعات بحكم الإضرابات والاضطرابات، وبات الوضع يهدد التجربة الديمقراطية.

بعد الانتخابات التشريعية (أكتوبر2014م) تشكلت خارطة سياسية جديدة، إذ برزت أحزاب ذات توجهات قومية ويسارية، وتعرضت الحكومات الانتقالية المتوالية التي كانت "النهضة" ضمنها إلى ضغط كبير من الشارع بسبب عدم تحقيق التوقعات.

وصعدت أحزاب جديدة (حزب نداء تونس) الذي ضم عددًا كبيرًا من منتسبي التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل، وانحاز الاتحاد العام التونسي للشغل إلى الحراك الاجتماعي المعارض. فمقاربة الحوار الوطني الرائدة التي انطلقت في 5 أكتوبر2013م، بين عدة أطراف سياسية تونسيةبتأطير ومبادرة ورعاية الاتحاد العام التونسي للشغلوالاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديةوالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسانوالهيأة الوطنية للمحامين بتونس، وعرفوا باسم «الرباعي الراعي للحوار» وبدعم من الرئاسات الثلاث في تونس وهم رئيس الجمهورية المنصف المرزوقي،ورئيسي الحكومة علي العريض، وبعده مهدي جمعة،ورئيس المجلس الوطني التأسيسي

وكان السبب الرئيسي وراء تنظيم الحوار الوطني هو الأزمة السياسية التي هزت البلاد بعد اغتيال المعارض شكري بلعيدوالنائب محمد البراهميوالاختلاف العميق بين السلطة المتمثلة في تحالف "الترويكا" والمعارضة ، وتم الاتفاق حول مبادرة الرباعي الراعي للحوار والتي تضمنت خارطة طريق تحتوي أهداف الخروج من الأزمة وانتهى إلى حلحلة الوضع من خلال المفاوضات والتنازلات والتوافقات وتوج الحوار الوطني بالحصول على جائزة نوبل للسلامعام 2015م.

كانت حركة النهضة رافضة لهذه المبادرة في البداية ثم اشتركت وانخرطت فيها (27). فشهدت البلاد شبه هدنة اختفي فيها النشاط السلفي مؤقتًا. أدى التوافق الحاصل إلى تجاوز عدة صعاب والشروع في تنفيذ مخططات التنمية وعاد العمل والإنتاج تدرجيًا والسيطرة على الوضع الأمني بشكل مرض بعد أن استعادت هياكل وزارة الداخلية عافيتها وتطور العمل الميداني مع وحدات الجيش التي دعمت من قدراتها العملياتية. وحاولت حركة النهضة التعامل مع الوضع بكثير من الحكمة وتطوير النظرة التقليدية للهوية والدين وأصبحت تتبنى مقولة الحريات وتقبل النقاش في المسائل الدينية (28).

ختامًا، يمكن القول أن التوافق السياسي في تونس الذي بدأ بين حركة النهضة وحزبي المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، وأفرز حكومة الترويكا، عقب انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، وساهم في تخفيض منسوب التوظيف الأيديولوجي، وقد عرف أواخر 2014م، وبداية 2015 م، نوعًا من الاهتزاز أثناء عملية تشكيل حكومة الحبيب الصيد، بعد استبعاد حركة نداء تونس الفائزة بالانتخابات، حركة النهضة من التشكيل الحكومي، ليتدعم بعدها التوافق بين حركتي النهضة والنداء، حتى إنه وصل حد حصول زعيمي الحركتين، الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي، على جائزة السلام لسنة 2015م، المقدمة من طرف مجموعة الأزمات الدولية، وتشكيل الحزبين لحكومة وحدة وطنية، جنبت البلاد الانفلات الاجتماعي والأمني. فتوفر بعض الشروط في المحيطين الإقليمي والدولي ساهم في السير بهذه التجربة إلى الأمام لأن البديل كان مزيدًا من تعميق أزمة الدولة والدفع بها إلى الفشل. "فهذا التوافق أغلق مساحات كبرى من الفراغات التي كان يمكن للانفلات النفاذ من خلالها حيث ضيق من هوامش المناورة من قبل الأطراف وسد منافذ التلاعب على المتناقضات". وتشير تقارير إلى أن فشل حكم الإخوان المسلمين في مصر وارتفاع منسوب العنف في ليبيا بعد إقرار قانون العزل السياسي، كانا من بين أهم الأسباب التي دعمت تجربة التوافق في تونس وتوظيف منطق التنازلات السياسية التي أثَرت في مجمل المسار الانتقالي بشقيه السياسي والقانوني.

إن التجربة التونسية من خلال تواجد حزب إسلامي (النهضة) مع أحزاب علمانية في السلطة أدى إلى صعوبات جمة في الأداء خيمت على الوضع الاقتصادي والاجتماعي وتمثلت في أزمة فاعلية سياسية سببها خيار نظام الحكم البرلماني الذي يجعل هناك صعوبات جمة في اتخاذ القرار في وقت يتطلب الإنجاز والعمل وسرعة الأداء أمام التوقعات الهائلة للشارع التونسي، فلم يزد ذلك الوضع إلا ترد وتحولت الحرية المكتسبة بدماء الشهداء إلى ما يشبه الفوضى بحكم المطالبات المجحفة والمسيرات المتعددة والاضطرابات والإضرابات وتعطيل العمل لأبسط الأسباب في انفلات غير مسبوق، وأجج الإعلام الذي تولى إدارة منابر للصراع السياسي وتبادل التهم بالفساد ونشر الفضائح السياسية وأصبحت التجربة التونسية مهددة بالانتكاس أمام تصلب الأطراف السياسية والاجتماعية  ومواقف المعارضة وتهديدات صندوق النقد الدولي وتردي نسبة النمو الذي لم تبلغ 1% في سنة 2016م.ظلت الحكومات تحاول رأب الصدع والبحث عن الحلول السريعة من خلال القروض وخصخصة بعض المؤسسات التي تثير جدلاً واسعًا. ومحاربة التهريب والفساد المستفحل والذي أضر بثقة المواطن وباقتصاد البلاد بشكل بالغ . وإن استطاعت الحكومة اليوم أن تسيطر على الوضع الأمني بشكل مرض فالوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والمالي مازال يتطلب الكثير من الجهد والكد والعمل. وتظل التجربة التونسية في مواجهة جماعات الإسلام السياسي تجربة رائدة ومتميزة بكل المقاييس لعبت فيها الحكمة والتوافقات أهم الأدوار واستطاعت أن تدفع بمسيرة البناء الديمقراطي إلى الأمام وتحقق السلم الاجتماعي رغم دقة وصعوبة الظروف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*رئيس المركز التونسي لدراسات الأمن الشامل

 

الهوامش:

1-3-4–من تجربة الحركة الإسلامية في تونس –الشيخ راشد الغنوشي-المركز المغاربي للأبحاث والترجمة

2-6-الإسلاميون التونسيون من المعارضة إلى الحكم- د. علية العلاني 2014

5-..الإسلاميون والعلمانيون في تونس. من السجون والاضطهاد إلى تحدي حكم البلاد.ص52 .كمال بن يونس

7-8- دراسة حول السلفية –جورج فهمي – حمزة المؤدب- مركز كانيقي للشرق الأوسط 2015

9- يلين (هارون.ي) تعرف على أنصار الشريعة في بلدك معهد واشنطن 21 سبتمبر 2011

10- 16- مكافحة الإرهاب - المفاهيم -الاستراتجيات النماذج – مركز المسبار للدراسات والبحوث ص125

11-دراسة حول السلفية –جورج فهمي – حمزة المؤدب- مركز كانيقي للشرق الأوسط 2015

12-13- http://www.aljazeera.net/news/reportsandinterviews/2012/7/26

14- مشروع دستور دولة الخلافة

15-18 -الإسلاميون التونسيون من المعارضة إلى الحكم-د. علية العلاني

17-27-28-التيارات الإسلامية الراديكالية في تونس –د.علية العلاني

19-21-موسوعة ويكيبيديا

20- 23- 22- حركة النهضة بين الإخوان والتونسة-عبد القادر الزغل –آمال موسى

24- الحريات العامة في الدولة الإسلامية طبعة تونس  - راشد الغنوشي.(2011)

25- البيان الختامي للمؤتمر التاسع لحركة النهضة 16 يوليو2012

26-الدستور المصغر وضعه  المجلس الوطني التأسيسي مؤقتًا لتنظيم عمل السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية في انتظار إصدار الدستور

 

 

مجلة آراء حول الخليج