; logged out
الرئيسية / 4 أسباب تحمل بذور الإرهاب في المغرب العربي والغرب يموله ليبيا مفتاح استقرار المغرب العربي وفوضى الربيع العربي أسقطت نظرية الإرهاب وليد القمع

العدد 119

4 أسباب تحمل بذور الإرهاب في المغرب العربي والغرب يموله ليبيا مفتاح استقرار المغرب العربي وفوضى الربيع العربي أسقطت نظرية الإرهاب وليد القمع

الأحد، 07 أيار 2017

عند انطلاق الثورات العربية سنة 2011م، وفي غمرة الأحاديث والتحاليل الحالمة آنذاك، حذّر بعض المراقبين من خطورة الوضع الليبي الذي سيفتح جرحًا غائرًا في منطقة المغرب العربي وسيكون من الصعب اندماله بعد ذلك، وستشمل عواقبه الوخيمة كل المنطقة، وسيحدث أفغانستان إفريقية تهدّد الاستقرار في الدول المجاورة وهي تونس والجزائر والنيجر وتشاد والسودان ومصر، بل تهدّد بلدانًا أخرى غير بعيدة ومنها بلدان أوروبية ([1]). فعلى العكس من تونس ومصر، حيث مبدأ الدولة الوطنية راسخ منذ القرن التاسع عشر، فيمكن أن يسقط نظام الحكم دون أن تسقط مؤسسة الدولة، يختلف الوضع الليبي جذريًا لأنّ البلد لم يكد يشهد قيام دولة بالمعنى الحديث، لا قبل القذافي ولا في عهده.

استند هذا التحليل إلى عوامل موجودة قبل سنوات من الثورات العربية ظلت تمثل بمثابة القنابل المؤقتة التي يمكن أن تنفجر في أية لحظة:

فالعامل الأول، هو وجود بقايا من الجماعات الإرهابية التي أنهكت الجزائر في العشرية الأخيرة من القرن العشرين، وقد تحصنت جيوب منها بالمنطقة الصحراوية المتاخمة للحدود الليبية، وكانت فاقدة القدرة على الحركة والفعل قبل عاصفة 2011م، ثم وجدت الطريق سالكة أمامها ورأت وضعًا جديدًا أغراها بالتخطيط لعمليات إرهابية داخل الجزائر ذاتها، ثم منها إلى مناطق أخرى بعد أن اصطدمت بردود قوية من الجيش والأمن الجزائريين.

ومن المعلوم أنّ "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" بزعامة عباسي مدني وعلي بلحاج كانت قد شكلت في الجزائر تنظيمًا مسلحًا سريًا تحوّل إلى العمل العنيف بعد إلغاء الدورة الثانية للانتخابات سنة 1992م، وأصبح يتسمّى بالجيش الإسلامي للإنقاذ. ثم حلّ نفسه سنة 1997م، في إطار مشروع المصالحة الذي طرحه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة منذ عام 1999م، وتجسّد بالميثاق من أجل السلام والمصالحة الذي عرض على التصويت الشعبي وأصبح قانونًا نافذًا سنة 2006م، بيد أن بعض القيادات الأكثر تطرفًا لم تنخرط في ذاك المسار وأعلنت تمرّدها عليه، وتشكلت إثر ذلك مجموعات بأسماء مختلفة أهمها "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" التي بايعت "القاعدة" لاحقًا وتحالفت مع بعض القيادات لتكوين ما أصبح يعرف بتنظيم القاعدة بالغرب الإسلامي. ونجد ضمن هذا التحالف كتيبة الموقعين بالدم بزعامة مختار بالمختار الذي لم يتأكد خبر موته ويعتبر أخطر إرهابي في تاريخ المنطقة.

العامل الثاني، هو مسؤولية بعض البلدان الغربية في تمويل هذه الجيوب الإرهابية التي احترفت خطف مواطنين أوروبيين عبروا المناطق الصحراوية البعيدة إما للسياحة أو للعمل أو للقيام بعمليات استخباراتية، وكانت الحكومات الغربية تسدّد بطرق ملتوية الفدية لتخليص مواطنيها، ومن لم يتم افتداؤه بالمال كان مصيره القتل من قبل خاطفيه ([2])، وبهذه الطريقة استطاع الإرهابيون جمع رصيد مالي ضخم قدّر بعدّة ملايين من الدولارات، وظّفوه في تجارة التهريب، وخاصة تهريب مواد التدخين والأدوية، ثم استعملوه بعد 2011م، في شراء الأسلحة من ليبيا وإغراء المئات من الشباب للالتحاق بهم بغرض تكوينهم عسكريًا في مخيمات أقيمت للغرض.

العامل الثالث، يتصل بالجغرافيا، إذ الصحراء الفاصلة بين المغرب العربي وإفريقيا السوداء تمتدّ إلى أكثر من 8 مليون كم مربع ويستحيل مراقبتها مراقبة محكمة ودقيقة، فإذا أضيف إلى ذلك سقوط بلد بكامله فإن هذه الصحراء التي كانت تمثل منطقة عزل طبيعي بين الجهتين تصبح مكانًا مفضلاً تسيطر عليه الجماعات الإرهابية المتحالفة أو المتعاونة. وقد فتح الطريق بين إرهاب مغربي يعبّر عنه خاصة تنظيم "القاعدة" في الغرب الإسلامي وإرهاب إفريقي تعبر عنه الجماعة المعروفة بـ"بوكو حرام"، ويمثل هذا التماس بين التنظيمين تطوّرا بالغ الخطورة في المنطقة من الصعب تطويقه والسيطرة عليه، لا سيما وقد تطوّر الإرهاب في بلدان الساحل الإفريقي لأسباب تتعلق بالأوضاع الداخلية في كلّ من مالي والنيجر ونيجيريا، فاتسع الخرق في منطقة تفوق مساحتها قارة أستراليا. ومع أنّ الحركات الإرهابية في المغرب العربي مختلفة عن مثيلاتها الإفريقية فقد تشكّل ما يمكن أن يعتبر سوقًا موحدة مفتوحة للمتاجرة بالأسلحة ومواد التهريب والمخدّرات، تستفيد منها مختلف المجموعات الإرهابية بطرق مختلفة.

هذه العوامل الثلاثة أساسية في تفسير السرعة الخارقة لانتشار الإرهاب في منطقة المغرب العربي والساحل الإفريقي منذ سنة 2011م، إلى اليوم. فمن الواضح أنّ الظروف كانت مهيّأة لتحويل "ربيع" المنطقة إلى ربيع للإرهاب. وقد كذبت الوقائع منذ 2011م، النظرية التي تذهب إلى أنّ الإرهاب نتيجة من نتائج القمع. فعلى العكس من ذلك، تنامى الإرهاب كلما توفّر المجال لممارسة سياسية أكثر انفتاحًا وديمقراطية، لأنه يتمتع بحاضنة اجتماعية وثقافية عميقة. لقد كانت الأطروحات التكفيرية وكتب سيد قطب ومحمد قطب وأمثالهما منتشرة بين الأجيال من الشباب في المغرب العربي دون رقيب، بل كانت أحيانا حاضرة في المقررات الدراسية. كما أثرت أحداث المشرق تأثيرًا سلبيًا لدى بعض الشباب هناك لأنها قرأت قراءة عاطفية منتزعة عن السياق المشرقي المعقّد. ولقد تفاعل كثيرون مع "الجهاد" الأفغاني ثم "الثورة الإسلامية" بإيران ثم "المقاومة" اللبنانية ثم خطب صدّام حسين في تحدّي الغرب ثم تفجيرات 2001م، بتدبير "بن لادن" ثم "المقاومة" العراقية للاحتلال الأمريكي... كل هذه الأحداث المختلفة في سياقاتها والمتباينة في دوافعها بدت للبعض في المغرب العربي وكأنها حلقات من مقاومة غزو غربي يستهدف العروبة والإسلام، فكان من الطبيعي أن يؤجّج في بعض النفوس التعاطف والانبهار. فما أن أصبحت الفرصة سانحة للانتقال من الحماسة إلى الفعل حتى ألقى بعض الشباب نفسه في أتون صراعات لم يكن يفقه خلفياتها.

لقد التحق مثلاً حوالي 5000 شاب تونسي بـ"الجهاد" في العراق وسوريا في فترة شهدت فيها تونس مسارًا سياسيًا منفتحًا لتحرير دستور جديد وتنظيم انتخابات حرة ونزيهة، لكنّ هؤلاء لم يروا أنفسهم معنيّين بما يحصل في بلدهم بقدر اهتمامهم بما يحصل في المنطقة، وذلك نتيجة من نتائج قراءتهم للأحداث والمستجدات وتغليبهم الرؤية الإقليمية على الرؤية الوطنية. والحقيقة أنّ هذه الشبكة في القراءة هي بدورها نتيجة تراكمات طويلة في نشر مقولات للإسلام السياسي وأطروحاته بطريقة سلمية أحيانا لكنها تحمل في طياتها بذور العنف والانقسام المجتمعي.

بيد أنّ كلّ ما حصل في بلدان المغرب العربي كان يمكن احتواؤه لولا وجود المشكلة الليبية، إذ أنّ كلّ بلدان المغرب العربي استطاعت بعد فترة من البهتة والتردّد أن تستعيد مقومات الاستقرار، ولو بالحدّ الأدنى، ما عدا ليبيا. ففي هذا البلد، كانت الأسلحة موزعة على اللجان الشعبية منذ عهد القذافي وقد تحوّل العديد من هذه اللجان إلى ميليشيات "ثورية" و"إسلامية". وأقيمت في ليبيا عشرات المعسكرات لتدريب المقاتلين من البلدان المجاورة. ومن المهم أن نتذكّر أن ليبيا الغنية بالنفط كانت منذ عقود منطقة جذب لعشرات الآلاف من الشباب الذين يأتون من الجوار المغربي والإفريقي للاسترزاق والعمل وإرسال الإعانات لأسرهم وذويهم، ولقد تواصلت حركة الجذب مع تغيير جذري في طبيعتها، فأصبح هؤلاء يأتون للقتال مع الميليشيات المحلية ويحترفون مهن الدمار لجمع الأموال وتحقيق الغايات ذاتها. كما أصبحت ليبيا معبرًا للهجرة غير الشرعية نحو أوروبا، ومن لا يسعفه الحظّ في الوصول إلى الشواطئ الأوروبية يجد له ملاذًا في الانخراط في الميليشيات المقاتلة في ليبيا.

ينبغي التأكيد بقوّة أن ليبيا ليست سبب الإرهاب في المنطقة بقدر ما هي ضحيته الأولى، بيد أنّ أوضاعها المنهارة هي التي سمحت للمجموعات الإرهابية المختلفة بأن تفتح بين بعضها البعض طرقًا للعبور والتعاون والتحالف، بعد أن وجدت في بعض المناطق الليبية ملاذا آمنا لإنشاء معسكرًا للتدريب وشراء الأسلحة. وفي حين تبدو كلّ دول المغرب العربي قادرة على ضبط أوضاعها ولو بطريقة نسبية، فإنها تظل عاجزة عن التأثير في الوضع الليبي، بما يجعلها تتعرض باستمرار لتبعاته. ويمكن أن تقدّم عملية "بنقردان" التونسية مثالاً جيدًا على ذلك. ففي آذار/ مارس 2016م، حصلت أوّل محاولة جدية لإقامة إمارة داعشية في منطقة المغرب العربي، وكانت العملية محلّ تخطيط وإعداد طويلين من ليبيا وفي مخيم جمع العديد من أبناء مدينة "بنقردان" الواقعة على الحدود مع ليبيا وهي المعبر الرئيسي بين البلدين. لكنّ قصفًا أمريكيًا للمخيم دفع المجموعة الإرهابية إلى تنفيذ مخططها قبل الأوان وبطريقة مرتبكة سمحت للجيش والقوى الأمنية التونسية بالسيطرة على الوضع وإفشال المخطط، مع سقوط 10 قتلى بين الأمنيين وسبعة من المدنيين منهم طفل.

لم يكن واردًا أن يصبح هؤلاء الشباب من المدينة بهذه الدرجة من الخطورة لولا مخيمات التدريب التي استقطبوا إليها في ليبيا، وكانت العديد من الأسر صرحت للإعلام بأنها كانت تظنّ أبناءها متواجدين في ليبيا بقصد العمل والاسترزاق كما كان يحصل منذ عقود. كان يمكن لهؤلاء أيضًا أن ينضموا لعمليات الاحتجاج والإضراب والتظاهر في الطريق العام، كما يحدث في المدينة منذ سنوات بسبب البؤس الذي يخيم عليها بعد تراجع المبادلات التجارية المنظمة بين تونس وليبيا واستفحال التهريب والتجارة الموازية، أما الانضمام إلى العنف والإرهاب فهو جزء مما يدعى في العلوم السياسية بتأثير الجوار السيئ (Bad Neighboring).

إنّ القوى الغربية التي تدخلت عسكريًا في ليبيا ثم تركت البلاد تتخبط في مشاكلها دون معين تتحمّل أيضًا مسؤولية كبرى في ما آلت إليه الأوضاع هناك، فقد كان عليها مساعدة الليبيين لبلوغ برّ الأمان بعد عقود من الدكتاتورية الفوضوية، وتمكينهم من إرساء مؤسسات سياسية قادرة على ضبط الأوضاع وإدارة البلاد، لكن بدل ذلك تهافتت العواصم الغربية في توقيع الاتفاقيات النفطية مع جهات مختلفة بعضها لم يكن يحظى بالشرعية، فكان مستقبل النفط الليبي أهم لديها من مستقبل الشعب الليبي. والنتيجة أنها خسرت النفط أيضًا بعد أن تراجع انتاجه بحدّة، وهو حاليًا في مستوى النصف مما كان عليه في عهد القذافي وقد نزل في بعض الفترات إلى العشر ويتوقع أن ينهار من جديد بسبب الأزمة الحالية التي تعصف بالمنطقة المعروفة بالمثل النفطي. وتواجه أوروبا تحديًا آخر هو انطلاق الهجرات السرية من السواحل الليبية القريبة من إيطاليا، وقوارب الموت التي تحمل المئات من الرجال والنساء والأطفال، فإما أن تطلب اللجوء أو تغرق في المتوسط ([3]). لقد أدركت أوروبا متأخرًا حجم الكارثة وسعت إلى ضبط الأوضاع بإطلاق مسار للتسوية انتهى باتفاق الصخيرات (2015م) والإعلان عن المجلس الرئاسي وحكومة فائز السراج، بيد أنّ الأوضاع في الأثناء كانت قد تردّت إلى حدّ كبير، بما جعل هذه المبادرة غير قابلة للتنفيذ على أرض الواقع وتلك الحكومة غير قادرة عل حماية نفسها فضلا على أن تحمي الليبيين.

من المستبعد حاليًا أن يسيطر تنظيم إرهابي معين على أي بلد من بلدان المغرب العربي، بيد أنّ الوضع الليبي سيجعل الإرهاب معطى حاضرًا في المنطقة ولن يختفي في وقت قريب. وسيجعل من الصعب على أي بلد أن يضبط سياسة خاصة به للاستئصال الكلي لهذه الظاهرة. ومع ذلك، فقد اتخذت كل الدول إجراءات حازمة للحدّ من الأخطار بأكبر قدر ممكن. فالمغرب الأقصى كان قد استبق تطورات الأوضاع بتعزيز الرقابة على حدوده مع الجزائر وفرض التأشيرة على كلّ المسافرين ومنهم الجزائريون رغم أنّ معاهدة اتحاد المغرب العربي، ومقرّه في المغرب، قائمة على مبدأ حرية التبادل والتنقّل والملكية بين مواطني دول المغرب العربي. كما اتخذ المغرب الأقصى مبكرًا إجراءات صارمة لمنع تدفّق الليبيين إليه بأعداد كبيرة. أما بالنسبة لإفريقيا، فقد اعتمدت سياسة أكثر تنوّعا نجح من خلالها في ضرب أكثر من هدف بحجر واحد، فقد سمح بدخول جزء من اللاجئين الأفارقة إلى أراضيه وهو يعلم أن غايتهم العبور إلى أوروبا، وفاوض الأوربيين في إيقاف هجرتهم مقابل الحصول على مساعدات مالية لاحتوائهم، وباعتبار الأراضي المغربية شاسعة فإن تواجد الآلاف من هؤلاء لم يؤثر في البلد بل أفاد الاقتصاد بصفة غير مباشرة عبر توفير يد عاملة رخيصة في بعض القطاعات أو تشجيع قدوم الطلبة للدراسة في الجامعات المغربية الخاصة. وفي الوقت ذاته، طوّر المغرب في السنوات الأخيرة استثماراته في إفريقيا وفرض نفسه مدخلا إلى هذه القارة التي يتوقع كلّ المراقبون الاقتصاديون أن تشهد نموًّا مطردًا على مدى العقود القادمة وأن تستقطب جزءًا مهما من الاستثمارات العالمية، ويتضح ذلك مثلا من خلال الرحلات الجوية التي أصبحت تربط المغرب مع أهم العواصم الإفريقية والتي يمرّ عبرها المستثمرون في إفريقيا من كل بلدان العالم. ولم ينجح المغرب في هذه الاستراتيجية إلاّ لكون أجهزته الأمنية والاستخباراتية لم تتأثر قطّ بأحداث الثورات العربية وظلت قادرة على ضبط الأوضاع والتصدّي لكلّ محاولات التسلل من قبل الإرهابيين، رغم بعض العمليات التي حصلت وأهمها عملية مراكش (أبريل 2011م) وعملية الدار البيضاء (مايو 2013م).

الاستراتيجية الجزائرية مختلفة اختلافًا بيّنًا ولا تركز على الجانب الاقتصادي بقدر تركيزها على الجانب الأمني البحت، لأنّ الجزائر تقع مباشرة على حدود دول مضطربة. اعتمدت الجزائر منذ 2011م، سياسة حازمة على الحدود التونسية تقوم على التنسيق المباشر مع الجيش التونسي لضبط هذه الحدود، لا سيما في فترات الاضطراب السياسي والاجتماعي بين 2011 و 2013م، وقد تدخلت أحيانا لممارسة الضغوط على الحكومات التونسية المتعاقبة لثنيها عن الاستنجاد بجهات غربية في هذه الحدود، ودعا الرئيس بوتفليقة عدّة مرات سياسيين تونسيين بارزين للتفاوض معهم مباشرة ودون المرور بالقنوات الحكومية الرسمية، وتواصل التعاون الرسمي دون انقطاع أيضًا وأصبحت الجزائر الوجهة الأولى التي يقصدها كلّ رئيس حكومة جديد (تغيرت الحكومات سبع مرات في غضون السنوات الست الأخيرة). وهكذا نجحت الجزائر بفضل خبرتها الطويلة في محاربة الإرهاب من أن تضبط حدودها من جهة وتضبط الحدود التونسية أيضًا، وذلك بعد فترة قصيرة من الاضطراب استغلتها بعض المجموعات المتكونة من تونسيين وجزائريين للتحصّن ببعض الجبال التونسية الواقعة على الحدود بين البلدين، كما استغلتها لتنفيذ بعض العمليات الإرهابية المحدودة في الجزائر، أبرزها احتجاز 800 رهينة في منشأة نفطية في يناير 2013م، للمطالبة بوقف التدخل العسكري الفرنسي في مالي.

أما الحدود الجزائرية الليبية فهي تحت سيطرة محكمة من الجيش والاستخبارات التي فتحت علاقات مع الفصائل المختلفة المسيرة على المناطق المتاخمة ونجحت بذلك في مراقبتها واحتوائها، لا سيما أنّ هذه الفصائل تدرك جيدًا قدرة الاستخبارات الجزائرية على معاقبتها في حال تهديدها الأمن الجزائري. وأثناء التدخل العسكري في "مالي" سنة 2013م، ناورت الجزائر بذكاء كي تبقى خارج العمل العسكري وتستفيد منه في الآن ذاته، وحافظت على دورها كمفاوض بين الفصائل المتناحرة، بما يجعلها على علم دقيق بمختلف التطورات.

وإذا كانت الحدود الجزائرية تبدو محكمة اليوم في مراقبتها فإنّ العديد من المراقبين يرى أنّ التخوّف يأتي من الداخل الجزائري ومن أزمة خلافة الرئيس الحالي بوتفليقة بسبب سنه المتقدمة ووضعه الصحّي. وفي حال وجود خلافات وأزمات فقد تجد بعض الجماعات الفرصة مناسبة للعودة إلى العنف، لا سيما أن قانون المصالحة الذي طبق ابتداء من سنة 2006م، قد مكن العديد من المقاتلين والإرهابيين سابقًا من الاندماج مجددًا في المجتمع وفي الحياة العامة، لكنّ البعض الآخر من المراقبين يرى أنّ هؤلاء أصبحوا يعيشون حياة جيدة بل تظهر على بعضهم علامات البذخ فمن المستبعد أن يتركوا الامتيازات التي حصلا عليها بفضل قانون المصالحة للعودة من جديد إلى الجبال والكهوف.

والواقع أن الوضع الجزائري يبدو قائمًا على مفارقة بارزة، فبقدر ما يتمتع الجيش والمخابرات في الجزائر بأكبر الخبرات في المنطقة في مجال محاربة الإرهاب، بحكم السبق التاريخي في الاصطدام بهذه الظاهرة، فإنّ نقطة الضعف تظلّ مرتبطة بالداخل ويصعب التنبّؤ بما ستؤول إليه الأوضاع بعد الرئيس بوتفليقة لكن الأكيد أن مسار انتقال السلطة سيكون مؤثرًا إذا لم يحصل بطريقة سلسلة.

وفي تونس، حالت تقلبات الأوضاع هناك دون رسم استراتيجيات واضحة في محاربة الإرهاب. فبعد انتخابات 2011م، تشكلت حكومة ذات أغلبية إسلامية تطرح شعار وحدة العمل الإسلامي وتعتمد الحوار مع مختلف المجموعات "الإسلامية" لإقناعها بمساندتها واعتبارها حكومة إسلامية شرعية، وأدّت هذه السياسة إلى غضّ الطرف عن تنامي العنف الذي مارسته هذه الجماعات ضدّ المثقفين الفنانين والنساء ومهاجمة كليات ودور سينما وعروض فنية ومسرحية، ثم تمّ التغاضي عن شبكات تسفير الشباب إلى سوريا بل تشجيع ذلك من طرف خفي بمقتضى "إعلان النفير" الصادر من القاهرة في يونيو 2013م، تحت رعاية الرئيس الإخواني المخلوع محمد مرسي. وعندما حصلت عملية اقتحام السفارة الأمريكية وتخريب المدرسة الأمريكية المتاخمة لها (سبتمبر 2012م) وهدّدت الولايات المتحدة الأمريكية بالسحب الكامل لموظفيها (سحب الجزء الأكبر منهم) بدأ الموقف يتغيّر بسبب هذه الضغوط، ثم أغتيل الزعيم اليساري البارز شكري بلعيد في شهر فبراير 2013م، فاستقال رئيس الوزراء حمادي الجبالي وعوّضه علي العريض الذي كان أكثر حزمًا في التعامل مع الجماعات القريبة من الأطروحات الإرهابية، لكنه لم ينجح في توحيد مواقف حزبه في الموضوع واستمرت ضبابية المشهد وحصل اغتيال ثان ضحيته النائب اليساري محمد البراهمي نفس السنة فطفح الكيل واضطرت الحكومة للاستقالة وعوضتها حكومة تكنوقراط نجحت في الضبط الجزئي للإرهاب رغم تواصل بعض العمليات المتفرقة الذي ذهب ضحيتها عسكريون وأمنيون. وكان يظنّ أن الحكومة التي تشكلت بعد انتخابات 2014م، تحمل استراتيجية واضحة ضدّ الإرهاب لكن سرعان ما حصلت عملية المتحف الوطني بباردو (آذار/ مارس 2014م) ثم عملية فندق الأمبريال بمدينة سوسة السياحية (يونيو 2015م)  فعاد الوضع إلى نقطة البداية، حتى أنّ الرئيس الباجي قائد السبسي قال في خطاب إلى الشعب بعد العملية الثانية إنه إذا حصلت عملية ثالثة فستنهار الدولة، ومع ذلك ظلت الدولة قائمة عندما حصلت بعد ذلك عملية "بنقردان" التي أشرنا إليها سابقًا، ثم هدأت الأوضاع نسبيًا منذ ذلك التاريخ ولم تسجل عمليات كبرى إلى حدّ اليوم. ويعود السبب أساسًا إلى توسيع صلاحيات الجيش الذي ظلّ المؤسسة الوحيدة المتماسكة من مؤسسات الدولة، ومع ذلك لا يمكن الجزم بوجود استراتيجية وطنية متكاملة في القضية وإنما يغلب تعامل واقعي تفرضه الأحداث والمستجدّات.

وباعتبار الجوار الليبي المعقّد، تنأى تونس بنفيها عن التدخل المباشر في المسألة الليبية، لكنها بادرت في الفترة الأخيرة بإطلاق مساع مشتركة مع الجزائر وليبيا بقصد تفعيل اتفاق الصخيرات، إلاّ أن تأثيرها على الوضع الليبي يظل محدودًا، فلئن كانت تمسك بورقة ضغط تتمثل في أنّ الليبيين بكل فئاتهم مضطرون للسفر والعلاج عبر الأراضي التونسية فإن الميليشيات الليبية المختلفة تقوم أيضًا بالضغط على السلطات التونسية من خلال عمليات اختطاف العمال التونسيين في ليبيا أو غلق معبر "رأس جدير" التجاري الذي تعيش منه آلاف الأسر التونسية في الجنوب. مع العلم أنّ منطقة الغرب الليبي المحاذية لتونس تسيطر على أغلب أجزائها الميليشيات الإسلامية، عكس المنطقة الشرقية المحاذية لمصر التي يسيطر عليها خليفة حفتر وأتباعه. لذلك يمكن إغراء بعض الشباب التونسي في ليبيا بالعودة وتنفيذ عمليات إرهابية ضدّ وطنهم.

فالخلاصة أنّ منطقة المغرب العربي لن تخرج من جحيم الإرهاب بصفة كلية إلاّ إذا توفّر الاستقرار والأمن في ليبيا، وهو مطلب صعب المنال حاليًا. لكن يمكن لدول المغرب العربي أن تتفادى الكوارث إذا ما واصلت سياسات حازمة ضدّ الإرهاب ثم خاصة إذا ظلت أوضاعها الداخلية، السياسية والاجتماعية، مستقرّة، ولم تشهد انفجارات شعبية على غرار ما حصل سنة 2011م.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

[1]راجع مثلا: محمد الحدّاد، "حذار من القاعدة في شمال إفريقيا"، الحياة، 08/07/2011م.

[2]آخر هذه الضحايا الفرنسي هرفي قوردال بيار الذي اختطفه فصيل يدعى بجند الخلافة وقطع رأسه في سبتمبر 2014.

[3]قدرت منظمة الأمم المتحدة عدد الهالكين في البحر المتوسط من بين هؤلاء اللاجئين بـ3770 شخصا سنة 2015 و3800 سنة 2016.

مقالات لنفس الكاتب