; logged out
الرئيسية / الاستفتاء مساومة من برزاني لتحقيق مكاسب وهروب إلى الأمام ومخرج للأزمات الداخلية

العدد 124

الاستفتاء مساومة من برزاني لتحقيق مكاسب وهروب إلى الأمام ومخرج للأزمات الداخلية

السبت، 21 تشرين1/أكتوير 2017

أيدت الغالبية من الكرد الانفصال عن العراق، في الاستفتاء الذي جرى يوم 25 أيلول/سبتمبر 2017م، إذ كانت نسبة المشاركة كما أعلنها الإقليم (72%)، أيد (92.7%) منهم الانفصال، ورفض ما يقارب (7,2%) ذلك، ورغم أن النتيجة لا تؤدي إلى أي تغييرات إدارية، ولا تشكل إعلانًا صريحًا لإعلان الدولة الكردية، إلا أنها تمهد الطريق إلى ذلك من خلال المفاوضات القادمة مع بغداد كما أعلنها رئيس إقليم كردستان مسعود برزاني. وفي ضوء هذا الواقع تطرح مجموعة أسئلة: ما هو تقرير المصير الذي يحلم به الكرد؟ وهل لدى إقليم كردستان العراق القدرة على إعلان الانفصال من جانب واحد؟ وما موقف العراق من ذلك؟ وهل يوجد لدى بغداد مسوغات قانونية تدفع بها لعدم قبول المجتمع الدولي والمنظمات الدولية ذلك الانفصال؟ وما هي التحديات الداخلية والخارجية التي سيواجهها الإقليم في حال الانفصال؟

إقليم كردستان وحق تقرير المصير:

تستند أغلب حجج إقليم كردستان العراق بالانفصال على نقطتين رئيستين هما: أولاً، الحق في تقرير المصير. ثانيًا تاريخ القمع، والذي شمل اضطهاد وإبادة على يد الحكومات العراقية المتعاقبة.

وحق تقرير المصير ارتبط بفكرة تمكين الشعوب الرازحة تحت سيطرة الاستعمار الأجنبي من تقرير مصيرها والحصول على استقلالها في كيان تجسده دولة مستقلة ذات سيادة كما أعلنه الرئيس الأميركي وودرو ولسون عام 1918م. وانتشر هذا المفهوم بصورة واسعة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وأصبح من المفاهيم الأساسية في العلاقات الدولية، والتي أكد عليها ميثاق الأمم المتحدة عام 1945م، كما جاء في المواد (1، 21، 55) وتعززت تلك المكانة القانونية أكثر بعد وروده في العديد من المواثيق الدولية وفتاوى محكمة العدل الدولية وقرار الجمعية العامة المرقم (1514) لعام 1960م، والمتضمن إعلان منح الاستقلال للشعوب والبلدان المستعمرة، إذ شرع لمسألة ضرورية حينئذ للتخلص من الاستعمار الأجنبي، ليعطي الشعوب حقها في تقرير مصيرها واختيار أنظمتها وحكوماتها، وعلى الرغم من اعترافنا بهذا الحق، غير أنه لا يفهم منه الإطلاقة في التطبيق بدون قيود أو شروط تلازم ذلك الحق وتضبطه منها:  أولاً، إن تفسير حق تقرير المصير يختلف خارجيًا عنه داخليًا، خارجيًا يعني التخلص من الاستعمار وتكوين دولة مستقلة ذات سيادة، أما داخليًا يكون سقف المطلوب في اطار حق تقرير المصير هو الحرية في اختيار المركز السياسي-القانوني داخل كيان الدولة ومؤسساتها، وبهذا المعنى فإن حق تقرير المصير يضمن للأقليات الحق في الحصول على تمثيل لها في إطار الحكومة المركزية، وهو ما يقتضي في بعض الأحيان منح بعض الأقليات ذات الخصوصية القومية حق الحكم الذاتي أو الفيدرالية ضمن حدود الدولة القائمة مما يضمن لها مركزًا مزدوجًا (قانونيًا - سياسيًا) لا يصل إلى حد الانفصال.ثانيًا، حق تقرير المصير الذي يقره القانون الدولي العام في أحد اتجاهاته لا ينشئ سوى حق تقرير المصير الخارجي في حالات المستعمرات السابقة والاحتلال العسكري الأجنبي، أو حينما يحال بين مجموعة محددة وحقها في الوصول إلى الحكم على نحو مجد للسعي نحو النمو السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. ثالثًا، إن تطبيق هذا المفهوم بمطلقه سيقود إلى مطالبة الكيانات والأعراق الصغيرة بإنشاء وتكوين دول مستقلة لها، وسيكون سببًا حقيقيًا للتفتيت الداخلي، وهذا يؤدي إلى عدم الاستقرار الإقليمي والدولي نتيجة تصاعد الاختلافات والصراعات داخل الدول وما بين الدول حول الحدود السياسية وغيرها من المصالح المتباينة. ولهذا فإن الإشكال يدور اليوم حول ما يراد لهذا الحق من تفسير وتطبيق يتاح من خلاله لشرائح أو فئات شعبية تنتمي كأقليات إلى شعوب دول تتمتع بالاستقلال والسيادة، حق المطالبة بتقرير مصيرها بوصفها أجزاء من شعب الدولة الأم، أو الانفصال عنها بجزء من إقليمها في إطار دولة مستقلة.

مما تقدم هناك عدة شروط توازي تحقيق تقرير المصير منها:

1-أن تكون تلك الأقلية أو ذلك العرق تحت الاضطهاد والعنف المستمرين من قبل الحكومة المركزية.

2-لم يحصل ذلك العرق على حقوقه السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية في إطار الدولة التي يعيش فيها. بمعنى افتقاده لأي مركز قانوني - سياسي داخل إطار الدولة.

3-ألا يؤدي الانفصال إلى حروب وصراعات داخلية أو إقليمية يهدد السلم والأمن الدوليين.

4-ألا يهدد تقسيم الدولة الأم إلى دويلات صغيرة متناحرة ومتصارعة.

5-ألا يعلن من طرف واحد على أساس أحادي الجانب. بل ينبغي أن يبنى على اتفاق ورضا داخلي.

7-أن تساعد الظروف الإقليمية والدولية على تحقيق ذلك لنيل العنصر الأساس والمتمثل بالاعتراف.

وعلى أساس ذلك، هل تنطبق الشروط أعلاه على مساعي إقليم كردستان العراق ولاسيما الحجج التي يستند عليها؟   أولاً، إن الإقليم ليس في وضع الاحتلال المباشر من قبل قوة أجنبية مستعمرة له ليطالب بتقرير مصيره واستقلاله. ثانيًا، لا بد من تبيان أن للإقليم مركزه القانوني والسياسي ضمن إطار الدولة العراقية الواحدة، ويتمتع مواطنوه بجميع حقوقهم السياسية والاجتماعية والثقافية، فللإقليم حكمه الذاتي منذ عام 1992م، علاوة على ما أعطاه الدستور العراقي الدائم لعام 2005م، صلاحيات واسعة وكبيرة، فله برلمانه وحكومته وميزانيته الخاصة به، وله إنشاء أجهزته الأمنية والعسكرية، وإقامة قنصليات، واستقبال مسؤولين أجانب، وإجراء تعاملات خارجية من دون العودة إلى الحكومة المركزية في بغداد. وللإقليم أيضًا علَمُه ونشيده الوطني. وهذا ما لا يحتويه أي نظام فدرالي في العالم، كما أنه طرف غير مغيب على مستوى الحكومة الاتحادية، بل يشكل القاعدة السياسية الرئيسة فيها، إذ يصح أن نطلق عليه حامل اللقبان في ضوء التوازنات السياسية العراقية، فضلاً عن ذلك، إن اللغة الكردية تشكل اللغة الثانية للبلاد إلى جانب اللغة العربية كلغة رسمية. أما الحديث عن الاضطهاد، فهذا يتعلق بتاريخ العراق السابق التي تعاقبت عليه أنظمة دكتاتورية، والتي لم تستهدف في اضطهادها المكون الكردي فحسب، بل مارسته على الغالبية من هذا البلد منذ عام 1921م، فضلاً عن ذلك فإن عراق ما بعد عام 2003م، هو يختلف عن عراق ما قبل ذلك التاريخ لأن أغلب المكونات كانت شريكة في تأسيس نظامه الجديد ودستوره بل حتى اختيار الأشخاص للمواقع الحكومية لندخل فيما يطلق عليه بـ"الديمقراطية التوافقية" أي اشتراك الجميع في الاختيار والامتيازات والمنافع.

في ضوء الحقائق السابقة والامتيازات التي يتمتع بها الإقليم، يطرح سؤال جوهري ومهم، لماذا أصر مسعود برزاني على إجراء الاستفتاء بوقته المحدد رغم التحذيرات الداخلية والخارجية؟ هناك العديد من الأسباب التي تدفع إلى ذلك منها، بلوغ الحرب ضد (تنظيم الدولة الإسلامية داعش) نهايتها فلا بد من إقامته قبل أن يتحول التوازن العسكري لصالح العراق الفيدرالي، إضافة إلى ما ينظر اليه مسعود برزاني من أن الاستفتاء يشكل مخرجًا له من أزمات وملفات شائكة كثيرة، تتصدرها مسألة "المناطق المتنازع عليها" بين أربيل وبغداد، وخاصة ما يتعلق بمحافظة كركوك الغنية بالنفط التي استولت عليها قوات البيشمركة بعد طرد عناصر (داعش)، فضلاً عن المناطق التي دخلتها قوات البيشمركة إبان معركة الموصل الأخيرة.  علاوة عن ذلك، يمثل الاستفتاء مخرجًا لبرزاني في مواجهة جملة تحديات سياسية واقتصادية حرجة، وكذلك لشرعية وجوده في السلطة بعد انتهاء فترة ولايته؛ الأمر الذي دفعه إلى تعطيل البرلمان عام 2015م، واحتقان علاقته، بسبب ذلك، مع القوى والتيارات السياسية الكردية الرئيسية الأخرى، وعلى رأسها الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير. إضافة إلى ما يسعى إليه مسعود برزاني من السلطة والمجد الشخصي إذا ما ارتبط ذلك الاستفتاء بإنشاء الدولة الكردستانية، على الأراضي العراقية. ولكن هل يحق له ذلك من منظور العلاقات الدولية والحقوق الجغرافية التاريخية؟

الحدود العراقية والجغرافية الدولية:

جاءت معاهدة سيفر عام 1920م، وهي أحد مقررات الصلح بين الحلفاء والإمبراطورية العثمانية حينئذ، لتقر للقومية الكردية بإقامة حكم ذاتي لها، على جزء من الجغرافية التركية مقابل النفوذ البريطاني والفرنسي في الأناضول، بمعنى آخر إن العراق لم يكن داخل ضمن هذا التقسيم الجغرافي للإقليم الكردي ولم يكن ضمن بنوده. غير أن هذا الإقرار لم يستمر إلا ثلاث سنوات، إذ جاءت معاهدة لوزان عام 1923م، بين بريطانيا وتركيا، لتلغي الحكم الذاتي لكردستان، والاعتراف بدولة تركيا الموحدة، فضلاً عن إقرار الشكل الحالي للحدود العراقية ولاسيما في المنطقة الشمالية منه، وبما أن هذه المعاهدة أقرت بإشراف عصبة الأمم، وأن الأخيرة وريثتها في التنظيم الدولي الأمم المتحدة، لذا فإن الحدود العراقية مقرة حسب اتفاقيات دولية وبإشراف دولي. وفي سياق مواز، لو افترضنا إن سيفر أقرت حكم ذاتي للكرد عام 1920م، وأن العراق الحديث أسس عام 1921م، وأن بريطانيا المشرفة على هذه المعاهدة وعلى ذلك الإنشاء معًا، فإنها لم تقر ذلك في شمال العراق حسب السياق التاريخي والسياسي والقانوني والإداري، وبذلك يكون العراق خارج نصوص الوعد الجغرافي بإنشاء دولة كردستان.

إضافة إلى ذلك، فإن المحافظة على الحدود الجغرافية العراقية، هي الآن ضمن مسؤولية مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بحسب قرار المجلس رقم(2170) لعام 2014م، الذي اتخذ في 15 أب/أغسطس 2014م، بعد احتلال (داعش) لثلاث محافظات عراقية، إذ استخدم هذا القرار ضمن الفصل السابع، والذي أكد على استقلال جمهورية العراق وسيادتها ووحدتها وسلامة أراضيها، وبما أن العراق مستمر تحت هذا القرار فإن الانفصال لا يتفق مع نص القرار وروحه، بل أن المحافظة على وحدته وسلامة أراضيه هي من مسؤوليات مجلس الأمن المباشرة، لهذا يعد أي انفصال هو إخلال بذلك القرار الأممي. كما أن الأراضي والمنشآت التي حررتها قوات البيشمركة هي تحت هذا القرار، وضمنًا تحت الفصل السابع، لتقع المسؤولية على عاتق مجلس الأمن في الحفاظ على هذه الوحدة وديمومتها. زد على ذلك، فإن الفقرة (22) من القرار أعلاه، أوعزت إلى فريق الرصد أن يقدم تقرير عن الخطر الذي يشكله (داعش) على العراق والمنطقة، لذلك يمكن أن يؤخذ الاستفتاء كأحد تداعيات ذلك الخطر بعد الاقتراب من نهاية خطر تنظيم (داعش) هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن انفصال كردستان يشكل تهديدًا للسلم والأمن الدوليين، وهذا ما لا يتفق ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئها.

وهنا يطرح سؤال رغم ما أثير سابقًا، ما هي التحديات التي ستواجه إقليم كردستان في حال إعلان الانفصال من جانب واحد؟

التحديات الداخلية:

سيواجه إقليم كردستان العديد من التحديات الداخلية التي تجعل هذا الإقليم دولة فاشلة وهشة قبل ولادته، بل سيجعل منه "كابوسا لشعبه"، أولى هذه المؤشرات سياسية-أمنية، سيكون النظام السياسي في كردستان استبداديا رغم مظهره الديمقراطي، فهو امتداد للنظام القائم، فمسعود برزاني وعائلته يعملان على ترسيخ السلطة في شخص واحد وحزب واحد والمتمثل بالحزب الديمقراطي الكردستاني وجماعة مهيمنة واحدة، كما يعتبران أنفسهما مالكي كردستان العراق، وأمثلته كثيرة حصرها في تجميد عمل برلمان الإقليم وطرد رئيسه عام 2015م، عندما حاول البرلمان تعديل قانون الرئاسة لإجراء انتخابات رئاسية عادلة. وهنا تنتج العلاقة بين شرعية النظام السياسي والشرعية الدولية. وهذا سيقود إلى منافسة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني على الهيمنة والشرعية أيضًا، مما يعمق الانقسامات السياسية والثقافية بين منطقة بهدينان الخاضعة إلى سيطرة بارزاني، وبين المنطقة المعروفة باسم سوران، وعاصمتها الواقعة في السليمانية. فأكراد سوران يؤيدون مبدئيًا استقلال إقليم كردستان، لكنهم عمليًا لا يريدون أن يتم ذلك بقيادة بارزاني.مما يجعل المجتمع الكردي العراقي منقسمًا انقسامَا عميقًا، إلى درجة يمكن أن ينحدر معها إلى معارك ضروس سبق أن شهدها الإقليم من قبل في منتصف تسعينيات القرن الماضي والتي راح ضحيتها آلاف المواطنين.وهنا فإن الحرب الأهلية ستقوم نتيجة صراع القيادة والهيمنة بين الحزبين في الإقليم، وشاهد ذلك طبيعة هيكلية القوات العسكرية الكردية الآن فهي غير موحدة، ولا تنضوي تحت راية مؤسسة، إذ تنقسم بين الحزبين، فلكل حزب قيادة قوات البيشمركة وقوات أمنية خاصة به.

أما اقتصاديًا، يُعتبر الإقليم أضعف على الصعيد الاقتصادي مما كانت عليه منذ سنوات. وبما أن الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني رهنا المستقبل الاقتصادي للسكان على استغلال الثروات النفطية حصرًا، أدّى الانخفاض الحاد في أسعار النفط في العام 2014م، إلى تسريع اندلاع أزمة بنيوية وأزمة توزيع. كما تشير اكتشافات حديثة إلى أن الإقليم لا يملك احتياطيات نفطية كبيرة كما أعلن سابقًا، وبما أن اقتصاد الإقليم يعتمد اعتمادًا كبيرًا على النفط فمن غير المحتمل أن يبقى صامدًا على المدى الطويل، فهو اقتصاد أحادي الجانب، استهلاكي، تعتريه مشاكل هيكلية ترتبط بالفساد وانعدام الشفافية واحتكار الأسواق والتدخل المفرط من قبل زعماء الأحزاب لصالح شركات أو أشخاص نافذين.  لهذا ممكن أن يشكل الفساد عاملاً أساسيًا مساهمًا في فشل الدولة وفوضويتها.

أما جغرافيًا، فان كردستان إقليم مغلق، فهي لا تمتلك منفذا بحريًا، ومحاطة بدول لا تدعمها بالكامل، وهذا يجعلها تخسر سيادتها أو رضوخها لإحدى دول الجوار، ورضوخها يعني زعزعة لاستقرارها، ومن ثم مسرحًا للصراعات الإقليمية حول من يسيطر. بمعنى رقعة شطرنج جديدة للعبة النفوذ والسيطرة والمصالح الإقليمية والدولية.

وفي ضوء هذه الصراعات الإقليمية، ما هي التحديات الخارجية التي سيواجهها الإقليم؟

التحديات الخارجية:

تعارض القوى الإقليمية والدولية المساعي الانفصالية لكردستان العراق. فالمنتمون للقومية الكردية يتوزعون في الشرق الأوسط على العراق وتركيا وسوريا وإيران، وحكومات الدول الأربع ترفض تأسيس دولة كردية مستقلة في شمال العراق. والحكومات العربية ذات القدر من التأثير كالسعودية ومصر ترفضه أيضًا.

ومن بين كل المواقف الدولية حيال توجه إقليم كردستان العراق نحو الانفصال، يستأثر الموقفان؛ التركي والإيراني، باهتمام خاص، من حيث أن الدولتين تريان نفسيهما الأشدّ تأثرًا بما يجري في شمال العراق؛ بسبب وجود أقليات كردية كبيرة في أراضيهما، وفي مناطق متاخمة للمناطق التي يقطنها الأكراد شمال العراق. فضلاً عمّا يمكن أن يطلقه قيام دولة كردية من نزعات انفصالية في سائر المنطقة، ستقود إلى تغيرات كبيرة في المنظومة الإقليمية، لا يمكن السيطرة عليها. بمعنى أن تركيا وإيران تتفقان أن انفصال كردستان العراق يمثل تهديدًا لأمنهما واستقرارهما، باعتبار أنه يمكن أن يحفز أكراد إيران وتركيا على تبني النهج ذاته في المستقبل.

لهذا جاء الموقف التركيّ متوقعًا في رفضه خطوة الاستفتاء؛ إذ وصفتها الخارجية التركية في 9 حزيران/ يونيو 2017 م، بأنها "خطأ مميت"، وعدها رئيس الوزراء بن علي يلدرم قرارًا "غير مسؤول". وقد تصاعدت نبرة الخطاب التركي تدريجيًا مع اقتراب موعد الاستفتاء وتنامي الرفض الدولي له، لتتضمن تهديدات مبطنة باستخدام القوة. إذ قامت تركيا وإيران بنشر قواتها العسكرية على الحدود المتاخمة لإحكام المنافذ المؤدية إليها، إضافة إلى إصدار البرلمان التركي قراره في 23 أيلول/سبتمبر بتمديد التفويض الخاص بنشر قوات تركية في العراق وسورية لمدة عام. بالتوازي مع ذلك أجرت تركيا مناورات مشتركة مع القوات العراقية قرب الحدود المتاخمة للإقليم. مما يوسع حدود الخيارات المتاحة للتعامل مع انعكاسات الاستفتاء على وحدة العراق. كما أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في كلمته أمام البرلمان في 1 تشرين الأول/أكتوبر 2017م، أن استفتاء إقليم كردستان العراق لا معنى له بأي حال، واعتبر أنه خطأ يجب التراجع عنه. وأضاف أنه "لا يسعنا أن نغمض أعيننا لحفر بئر فتنة مقابل حدودنا يشكل تهديدًا دائمًا للشعبين العراقي والتركي معًا"، وشدد على أن كركوك مدينة تركمانية رغم توصيف المجتمع الدولي لها بأنها منطقة متنازع عليها. وفي زيارته إلى إيران يوم 4 تشرين الأول/أكتوبر أكد أردوغان، أن استفتاء كردستان غير مشروع وأن بلاده لن تعترف به. وأضاف أن أنقرة ستتخذ خطوات أقوى ردًا على استفتاء أكراد العراق، وذلك بعد أن اتخذت بالفعل بعض الإجراءات بالتنسيق مع الحكومة العراقية المركزية وإيران، مشيرًا إلى أن الاستفتاء يفتقر إلى الشرعية ولم تعترف به سوى إسرائيل.

فضلاً عن ذلك فإن تركيا ذات أهمية اقتصادية كبرى لإقليم كردستان العراق، بعد أن اتجه الأخير خلال السنوات الماضية إلى الارتباط بتركيا اقتصاديًا وتجاريًا، لاسيما بعد تصدير النفط عبر الأراضي التركية، وتشير التقديرات إلى أن حجم التبادل التجاري بين تركيا والإقليم بلغ قرابة خمسة مليارات دولار، وأن حجم الاستثمارات التركية في الإقليم تجاوزت أربعين مليار دولار، زيادة على أن نفط إقليم كردستان العراق إلى العالم يمر عبر الأراضي التركية. لهذا فإن خسارة تركيا ستغير قواعد اللعبة بالنسبة للإقليم، إذ سيوقف كافة إيرادات الحكومة من النفط والجمارك، مما يترك الإقليم "مفلسًا ومعزولاً عن العالم".

كذلك جاء الموقف الإيراني حازمًا أيضًا في معارضة الاستفتاء، بل إن استفتاء الإقليم كان أحد العوامل الرئيسة في التقارب السياسي والعسكري بين تركيا وإيران خلال الأشهر الماضيّة. ويعود موقف إيران إلى مجموعة عوامل داخليّة وخارجيّة. فالمسألة الكردية في إيران، وإن كانت تداعياتها أقل وطأة من مثيلاتها في تركيا والعراق، تمثل مصدر قلق دائم لدولة متعددة الإثنيات والقوميات، مثل إيران خاصة. ويفاقم من هذه المخاوف عودة مقاتلي "الحزب الديمقراطي الكردستاني" المعروف بـ "حدكا" إلى نشاطهم العسكري في إيران، إثر توقف دام زهاء 15 عشر عامًا من جهة، وتصاعد هجمات مقاتلي حزب "الحياة الكردستاني"، جناح حزب العمال الكردستاني في إيران، في المناطق الحدوديّة، من جهة ثانية. وتخشى طهران أن ينعكس انفصال إقليم كردستان سلبيًا على دورها الإقليمي بعد أن ضمنت موقعًا متقدمًا في العراق وسورية خلال السنوات الماضية، وترى أن الخطوة الكردية تتناغم مع التوجه الإسرائيلي الرامي إلى تقليص نفوذها عبر تقطيع جغرافي لأوصال الدول التي تنشط ضمنها. مما يثير هواجس جدية في إيران، عن إمكان تنامي النشاط الإسرائيلي في مناطق قريبة إليها جغرافيًا. لهذا صرح الرئيس الإيراني حسن روحاني في لقائه مع الرئيس التركي، أن قرار الاستفتاء في كردستان قرار خاطئ. لهذا هددت إيران بوقف التعاون الاقتصادي والأمني مع حكومة إقليم كردستان، وبتصعيد العنف ضد جماعات المعارضة الكردية الإيرانية المقيمة داخل كردستان العراق، ورافق ذلك أيضًا، انتشارًا عسكريًا ومناورات على الحدود المتاخمة للإقليم، كخيار عسكري يلوح بالأفق في حالة عدم استجابة الإقليم للضغوط السابقة.

أما على مستوى الموقف الدولي، صرّحت الولايات المتحدة الأميركية بأنها ترغب في أن يحافظ العراق على وحدة أراضيه. فهي ليست مع الانفصال في الوقت الحاضر لاعتقادها أن التصويت لا ينبغي أن يتم قبل هزيمة تنظيم (داعش) بشكل نهائي، لذلك هي مع المفاوضات بين أربيل وبغداد حول شروط علاقتهما داخل العراق. لذلك أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أن الولايات المتحدة "تشعر بخيبة أمل كبيرة" تجاه حكومة الإقليم، بل ذهبت أبعد من ذلك، بإصدار وزير الخارجية تيلرسون بيان يوم 29ايلول/سبتمبر بشأن الاستفتاء أكد فيه "لا تعترف الولايات المتحدة باستفتاء حكومة إقليم كردستان الأحادي الجانب الذي أجري يوم الاثنين. يفتقر التصويت والنتائج إلى الشرعية، ونحن نواصل دعمنا لعراق موحد اتحادي وديمقراطي ومزدهر".

وقد أيدت كل من الأمم المتحدة وبريطانيا، والعديد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي موقف الولايات المتحدة الأميركية التي عارضت بشدة الاستفتاء، وحث الكرد عوضًا عن ذلك على إجراء حوار جدي ومستدام مع الحكومة المركزية. فالمجتمع الدولي ليس مستعدًا لفتح باب تغيير الخرائط في الوقت الحالي، فمثل هذا التغيير سيكون له تأثير الدومينو في دول الجوار القريب والبعيد، ووضع خطير لتوليد الحروب والفوضى ومن ثم الهجرة غير المسيطرة عليها كما حدث سابقًا. كما أن إقامة دولة كردية ستغير من دوافع الاصطفافات الدولية والإقليمية في المنطقة، مما يكون زيادة لعدم الاستقرار فيها وتعقد المشهد الجيوبوليتيكي.

من خلال ما تقدم، فان الحجج التي ارتكز عليها الإقليم كمسببات ومبررات للاستفتاء، تئن تحت المنطق غير الواقعي لها، فللإقليم كيانه الخاص ضمن حدود الدولة العراقية، ويتمتع مواطنوه بجميع حقوقهم السياسية والقانونية والاقتصادية والثقافية، لكن يبقى الاستفتاء يمثل ورقة مساومة وابتزاز لمسعود برزاني حول مكاسب مستقبلية يسعى لها أمام الحكومة المركزية هذا من جهة، ومن جهة أخرى هروبًا إلى الأمام ومخرجًا للعديد من الأزمات الداخلية في الإقليم، أهمها الأموال والنفط والسلطة التي تمركزت بيده.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ العلوم السياسية جامعة بغداد

مجلة آراء حول الخليج