; logged out
الرئيسية / تأسيس هيأة خليجية علمية للطاقة النووية السلمية: ضرورة استراتيجية

العدد 125

تأسيس هيأة خليجية علمية للطاقة النووية السلمية: ضرورة استراتيجية

الخميس، 30 تشرين2/نوفمبر 2017

لا يمكن الحديث عن طاقة نووية سلمية في منطقة الجزيرة والخليج العربي دون التفكير بتأسيس هيأة علمية تجمع طاقات خليجية وعربية وعالمية فريدة، تقوم على أساس الاختصاص العلمي الدقيق، لتؤسس لبرنامج عربي خليجي مشترك، من شأنه أن يقود إلى وحدة خليجية على مستوى إنتاج الطاقة الذي يعزز أواصر العلاقات الخليجية، ويضعها على صعيد المستقبل في بوتقة ثقافية واحدة، وينقلها إلى مستوى الوحدة الاقتصادية والسياسية في عالم تتفجر أزماته يومًا بعد آخر، لاسيما في منطقة الشرق الأوسط الذي يتعرض إلى مخاطر التمزق، ليكون الجواب البليغ على كل ذلك  ممثلاً بتعزيز وإنتاج طاقة خلاقة تضع الإنسان الخليجي في ترابط عضوي مع منطقته الخليجية والعربية، متهيئًا ومسلحًا بالعلم والتكنولوجيا ، ليشيّد تجربته وجعلها من  أقوى مصدات الأمن القومي العربي الخليجي.

الجامعات العربية وإنتاج صفوة مبتكرة

على الرغم من الدور العلمي والثقافي الذي تضطلع به الجامعات العربية بشكل عام منذ مطلع القرن العشرين في رسم خرائط الحداثة في المجتمع العربي، إلا أن دورها الابتكاري لا يزال قاصرًا في نقل القوالب النظرية إلى طور التطبيق الخلاق، فلا زالت المناهج العلمية على المستويات كافة، غير قادرة بشكل فعال على وضع المجتمع العربي في مرحلة التحول البنيوي سواء الثقافي أم التكنولوجي، ما يجعل أهمية إنشاء هيأة علمية خليجية حاجة تتزايد يومًا بعد أخر، تأخذ على عاتقها استقطاب الطاقات العلمية العربية والإسلامية والخبرات العالمية، ولاسيما في علوم الطبيعة، للقيام بأبحاث ودراسات علمية مقننة قادرة على إنتاج طاقة نووية سلمية لرفد التنمية الإنسانية، ليس على مستوى المجتمع الخليجي، إنما على نطاق الوطن العربي، من أجل نهضته وأخذ زمام المبادرة في تنمية عربية خليجية خلاقة أكثر ابتكارًا، تنفض عنه  غبار التأخر، مع الأخذ  بنظر الاعتبار على أن  ذلك لا ينفصل عن الاستفادة من التراث العلمي العربي والإسلامي، وتوظفيه في خطوات التراكم العلمي في مرحلته الحاضرة والمستقبلية، مما يستلزم مراجعة نقدية لواقعنا الثقافي والعلمي، سواء على مستوى مهام الجامعات ومراكز الأبحاث، أم على مستوى السياسات التنموية الجارية في المجتمع الخليجي،  ليكون لازمًا على المعنيين في إنشاء هذه الهيأة العلمية، التفكير بالقيام بتنمية معرفية تقود إلى إنتاج تقني متقدم يضع المجتمع، وجها لوجه أمام واقع جديد يمكّنه من النهوض في عالم يخوض صراع تقني محتدم، فالوسائل التقليدية في الإنتاج الصناعي والزراعي وغيرهما، لا يمكن أن يجاري ما يحصل في عالم متغير جل اهتمامه بات منحصرًا في إنتاج طاقة نظيفة، فالنهوض بواقع المجتمع الثقافي الخليجي لا يمكن إن يتم إلا بوجود معرفة تقنية يستوعبها العقل العربي الخليجي، وتستجيب لها  البنى الثقافية التقليدية لتحديث نفسها، إذ لا يمكن الفصل بين الأصالة الثقافية العربية المشرقة والحداثة التقنية بأي شكل من الأشكال وهذا هو طريق النهضة العلمية لمجتمعاتنا الحاضرة.

المعرفة والتكنولوجيا النووية السلمية

لاشك أن المجتمع الذي يأخذ بناصية العلم والمعرفة لابد أن يحقق درجة عالية من التقدم الاجتماعي والثقافي والذي يفضي بدوره إلى بناء إنسان قادر على تحدي  الصعاب المختلفة وتوليد معرفة مجردة تقود إلى ميدان تطبيقي أصيل، فكل شيء يمكن تطويعه بالعلم، ولا طريق أمام المجتمع الخليجي في المرحلة الحالية غير ذلك، لاسيما وأنه يمتلك إمكانيات اقتصادية هائلة يمكن  توظيفها في بناء الذات في فترة زمنية قياسية، إذا ما توفرت النية والعزيمة، ففي عصر المعرفة المنفتح يمكن تطوير تجربة واعدة، وهذا لا يأتي إلا بالاستفادة من المعرفة التي أضحت متاحة للجميع، وما الطريق إلى ذلك إلا بالتصميم على تأسيس هيأة علمية ومعرفية تتبنى المعرفة والتكنولوجيا بما تشمله من معرفة تراكمية، ومبتكرات تقنية في شتى المجالات، ما سيتيح أمامه فرص حقيقية ضمن تخصصات الهيأة العلمية التي ينبغي أن تسهم في تطوير موارد بشرية على نطاق واسع، ولاسيما الشباب الذي ينخرط بأعداد كبيرة بالجامعات والمعاهد التقنية من خلال تعزيز برامجها العلمية وربطها بالهيأة واستقطاب كفاءاتها وقدراتها العقلية الشابة، واحتضانها وتهيئة المستلزمات الضرورية لتبعث في نفوس أصحابها عنصر الإبداع والأمل في بناء مجتمع حديث  يتفاعل مع عالم متطور بشكل صميمي وحقيقي، وليس شكليًا، كما يجري للشباب الجامعي في معظم الجامعات والمعاهد العربية، وبخاصة في استحواذ معارف وعلوم  دون أن يكون بينها وجانبها التطبيقي تفاعل خلاق.

إن بناء طاقة نووية خليجية ليس بالأمر الهين ولا السهل إذا بقي الحال على ما هو عليه من محاولات فردية لدولة معينة التي ينبغي أن تكون مشتركة وتأخذ طريقها إلى العمل من خلال الاهتمام بالمستقبل، مع الاحترام لتلك المحاولات الضخمة، إلا أن العمل المشترك بين الدول الخليجية العربية في هذا المجال سيجعلها تسير بتوازي لبناء مجتمع عربي خليجي معرفي، فالبناء العمراني والطرق الجميلة واستيراد التكنولوجيا بأنواعها على الرغم من أهمية كل ذلك في عملية التحديث، إلا أنه يبقى ناقصًا إذا لم نتمكن من بناء قدرات علمية ومشاريع تكنولوجيا يساندها نسق ثقافي  يتفاعل معها باستمرار.

تفاعل معرفي وتكنولوجي نووي مع تجارب عالمية فعالة

الاستفادة من العالم المتقدم معرفيًا وتكنولوجيا ضرورة ماسة ينبغي أن تهيمن على المعنيين في  الدول العربية الخليجية، وتأخذ اهتمامًا بارزًا من نشاطهم، لأن مستقبل هذه الدول مرهونا بالتقدم العلمي في المجلات كافة، ولاسيما في مجال الطاقة النووية، كطاقة بديلة من جهة، وقدرتها على الدفع بهذه البلدان إلى الأمام من جهة أخرى،  حتى تحتل مكانة فعالة على الخريطة العلمية والاقتصادية والثقافية والسياسية في منطقة الشرق الأوسط، فمكانة الدول اليوم تقاس بتفوقها العلمي والتكنولوجي الابتكاري، وهذا لا يأتي إلا من خلال البعثات العلمية إلى الجامعات الرصينة في العالم المتقدم، واستقبال الكفاءات العائدة ودعم أصحابها بكل السبل، فضلا عن إيجاد مكان فعال في الهيأة العلمية والتكنولوجية التي ندعو إليها، من أجل تأسيس قاعدة علمية وطنية، كما ينبغي التواصل باستمرار مع المراكز العلمية العالمية، ومتابعة دورياتها العلمية في مجال الطاقة النووية، والعمل على إيجاد آليات لتطويعها بما يتناسب وحركة التطور العلمي المتاحة والمخطط لها في برامج ومناهج مؤسسات الهيأة العلمية الخاصة بالطاقة النووية السلمية لدفع عجلة التنمية إلى الأمام، وإيجاد قاعدة للتصنيع الوطني في المجالات المختلفة، الصناعية والزراعية والتعليمة والثقافية بصيغ مقنعة ومتفاعلة مع البنية العقلية الخليجية ،  وتحقيق التكيف الإيجابي والهادف مع التكنولوجيا المتقدمة،  بما يساعد في بناء مجتمع معرفي يستجيب لعملية التقدم التكنولوجي، ويفتح آفاق التواصل بين هذا المجتمع والمجتمعات المعرفية العالمية الذي يصب في نهايته بكل تأكيد في مصلحة تقوية أواصر العلاقات في المجتمعات العربية بشكل عام، والمجتمع الخليجي بشكل خاص، التي تشهد نوعًا من التفكك الاجتماعي والثقافي بفعل الهجمة الاتصالية التي تتعرض لها، فضلا عن  مواجهة  حالة التمزق السياسي الخطيرة التي تتعرض لها  في المرحلة الحالية.

 دعم البحوث والدراسات في العلوم الطبيعة

يتطلب تأسيس هيأة علمية للطاقة النووية السلمية في منطقة الجزيرة والخليج العربي، فتح آفاق غير محدودة من الدعم المادي والمعنوي على الصعيدين الشعبي والرسمي، وتعزيز ثقافة علمية ابتداءً من الأسرة إلى المؤسسات الأخرى، فتهيئة مستلزمات التفاعل مع النهضة العلمية يتطلب تهيئة المجتمع اجتماعيًا وثقافيًا أولا، وتوفير مستلزمات النهضة المادية على الأصعدة كافة ثانيًا بزيادة الاستثمار في مجال تطوير القدرات العلمية للمؤسسات الأكاديمية، وربطها مباشرة بقنوات الهيأة المقترحة بعمل دؤوب لا ينقطع مع التأكيد على ترجمة المورث الثقافي بصفته عاملاً مساعدًا ومساندًا لعملية انبثاق فجر جديد من الفتح العلمي، ففي تراثنا الكثير من المساندة لعملية الدفع العلمي إلى الأمام، من خلال العمل على تعزيز التوجه نحو ثقافة إنتاجية مضادة لثقافة الاستهلاك السائدة في أغلب مجتمعاتنا، وهذا يتطلب دعمًا سياسيًا مرتكزًا على استراتيجية نهضوية طويلة الأمد، وكل ذلك مرتبط أصلا بدعم المشروع بتأسيس مصانع ومراكز أبحاث متخصصة في المجالات الإنسانية والطبيعية في آن واحد لأن النجاح في النهضة ينبغي أن يتم بجناحي العلم الإنساني والطبيعي معًا.

توظيف الطاقة النووية في التنمية الإنسانية

تعد الطاقة النووية السلمية واستخدامها في عملية التطوير العلمي والتكنولوجي  من أهم سمات الألفية الثالثة، مع تعاظم الطلب على الطاقة النظيفة في المجتمعات الحديثة، لذا أبرز مجالات توظيف الطاقة النووية  تكمن في المجال البيئي والغذائي وإنتاج تكنولوجية تحويلية تساهم في بناء ركائز الاقتصاد الصناعي القوي القادر على تحقيق معدلات عالية من الاكتفاء الذاتي، بما يسهم في تنمية المجتمع في المجالات المختلفة الاجتماعية والثقافية وبناء الدولة الحديثة المنفتحة على العالم، والمتفاعلة معه في تبادل الخبرات، ولاسيما الاستفادة من برامج الأمم المتحدة للتنمية البشرية، فضلاً عن توظيف الطاقة النووية في مجالات الطب والزراعة والصناعة والكهرباء والبيئة وغيرها.

كما إن ذلك يتطلب إشراك أبناء المجتمع بهذه النهضة، الأمر الذي يفرض على وسائل الإعلام المختلفة تبصير الناس بجدوى ذلك على مستوى الحاضر والمستقبل وضرورة الاندماج الحضاري مع حركة التقدم في العالم، ومواجهة التحديات التي تواجه الإنسان الخليجي في المرحلتين، الحالية والمستقبلية، وهذا يتطلب استحضار طاقات الشباب وتوجيهم نحو البحث العلمي في العلوم الطبيعية، كما يتطلب إشراك المرأة بكل الجوانب الحياتية والعلمية، وتفعيل قدراتها العلمية والمهارية في خدمة مشروع التنمية الإنسانية في البلاد.

رعاية مستمرة وصلبة لمشروع الهيأة العلمية للطاقة النووية السلمية

 إن توفر رعاية قيادية وإدارية علمية  صلبة منتخبة، يحقق نجاح مؤكد  للهيأة المشار إليه، وهو أمر ضروري وحتمي من لدن صناع القرار في مجلس التعاون الخليجي، وأن تقام بأكبر الدول الخليجية ثقلاً ودورًا  في النواحي المختلفة، وبهذا تكون المملكة العربية السعودية هي من أكثر الدول ملاءمة واستحقاقًا، لمكان إقامة المشروع وتكون تحت رعاية صاحب القرار مباشرة دعمًا وتشجيعًا وشحذ همم، على إن تكون لها  فروع أو مؤسسات في جميع دول الخليج العربية ، وتحظى برعاية أصحاب القرار في تلك الدول أيضًا، لأن مسألة تحقيق خطوات نهضة حضارية فاعلة يتطلب دعمًا سياسيًا واقتصاديًا على أعلى المستويات، لاسيما  عندما يتعلق الأمر بإنتاج تكنولوجيا نووية سلمية، فالرعاية هنا ينبغي إن تسند إلى زعيم ذو سمات كاريزمية تضع في نصب عينها عملية تحول بنيوي صناعي وثقافي ليكون بمثابة حدث تاريخي قادر على  نقل المجتمع إلى مرحلة حضارية حديثة، لا تقل أهمية عن النماذج الحضارية المنتجة في العالم المتقدم اليوم، وتكون على المستوى دول الخليج العربية مجتمعة، محور اهتمام إنسانها  حاضرًا ومستقبلاً .

إن وجود النظام البيروقراطي العلمي الصارم في مثل هذه المشاريع العملاقة ضرورة تنظيمية يتطلبها العمل في كل خطوة من خطواتها،  لاسيما عندما يرتبط مباشرة بصانع القرار نفسه رعايةّ وإشرافًا، فضلاً عن ربط مؤسسات الهيأة بالجامعات ومراكز الأبحاث والمؤسسات الصناعية والزراعية وغيرها، فكل هذا سيؤدي في نهاية المطاف لبناء مؤسسات علمية قادرة على إنتاج مؤسسات مهتمة بالمعرفة، وتكوين طاقات إنسانية قادرة على توليد المعرفة المجردة والعمل على إخراج الإنسان من  قالبه التقليدي، إلى قلب محدث لمرحلة تطبيقية نابعة من الجذر الثقافي العربي نفسه، وغير مقلدة، أي معرفة مبتكرة على مدى المستقبل، فالرعاية الصلبة من  أصاب القرار مباشرة، هي الإشارة الصحيحة لحركة التغير الثقافي في مجتمعاتنا. لتكّون بمجملها حلقة علمية منتجة على نطاق مجلس التعاون الخليجي. الأمر الذي يعطي دفعًا مستمرًا ومثمرًا لحركة النهضة الحضارية التي ستظهر نتائجها المذهلة خلال سنوات عدة، وبما يعزز الشعور الوطني نحو الوحدة الخليجية.

مجلة آراء حول الخليج