; logged out
الرئيسية / تجربة الجزائر في قراءة مستقبل الإرهاب وكيفية مواجهته

العدد 130

تجربة الجزائر في قراءة مستقبل الإرهاب وكيفية مواجهته

الأحد، 13 أيار 2018

إيمانًا منها بضرورة مكافحة الإرهاب، واجتثاث جذور التطرف العنيف، والإسهام في نشر السلم والسلام في العالم، أبت الجزائر إلا أن تقاسم تجربتها التي حققتها في مجال مكافحة هذه الظاهرة، مع كل الدول والمنظمات الدولية، التي طلبت منها الاستفادة من هذه التجربة، التي أصبح العالم يشيد بها في كل المناسبات.

إن الجزائر التي عانت ويلات الإرهاب، ودفعت ثمنًا باهظًا في مواجهته خلال فترة التسعينيات من القرن العشرين، كانت حذرت المجتمع الدولي بأن ظاهرة الإرهاب لا تقتصر على بلد دون سواه أو منطقة دون أخرى، بل سوف تزحف إلى كافة المناطق في العالم إذا ما وجدت البيئة المهيأة لها والسند والدعم لتقويتها. كما أنها لم تقتصر على التنبه والتحذير، وإنما انخرطت بقوة في كل المبادرات التي من شأنها محاربة الظاهرة واستئصالها من جذورها، كما انضمت إلى العديد من الآليات الدولية والإقليمية التي وضعت لهذا الغرض (مكافحة الإرهاب). ومن ثم أسهمت، وما زالت تسهم، في تقديم مقاربتها المتعددة الأبعاد في مواجهة هذه الظاهرة.

إن الغرض من تقديم هذه الورقة البحثية، ليس الحديث عن الإرهاب ومظاهره المدمرة لقيم السلم والأمن في العالم، وإن كان موضوع في غاية الأهمية، وإنما المراد منها هو محاولة إبراز التجربة الجزائرية في محاربته بمختلف أشكاله وتنوع مصادر تمويله، حيث أصبحت هذه التجربة محل اهتمام وتقدير من طرف العديد من الدول في العالم، إلى جانب المنظمات والهيآت الدولية والإقليمية المعنية بمكافحة هذه الآفة. كما تحاول هذه الورقة أيضًا أن تقدم رؤية الجزائر لمستقبل الإرهاب ومدى قدرة الدول على مواجهته. طالما أنه ما زال يضرب في أماكن مختلفة من العالم، وفي كل مرة يحصد المزيد من الضحايا الأبرياء.

ولكن لا بأس أن نتطرق باختصار لمخاطر الظاهرة الإرهابية وانعكاساتها على أمن واستقرار الدول، قبل الدخول في صلب موضوع هذه الورقة البحثية.

1-   الظاهرة الإرهابية وانعكاساتها على الأمن القومي

تعتبر الظاهرة الإرهابية من أخطر الظواهر التي يشهدها العالم اليوم،وهي مسألة على قدر كبير من الأهمية، لما لها من تأثير ليس فقط على الاستقرار المحلي والإقليمي، بل أيضًا على السلم والأمن الدوليين. ولكن ينبغي النظر إليها بنظرة الحذر، خاصة من حيث المفهوم الذي يبقى غامضًا وغير محدد، لم يرق إلى إجماع دولي حوله، بالرغم من الاتفاق على أن الظاهرة الإرهابية أضحت تشكل تهديدًا حقيقيًا على أمن الدول والمجتمعات، وهي بالتالي تمثل تحديًا وتهديدًا أمنيًا حقيقيًا للعديد من الدول في العالم، مهما كان حجمها وقوتها في ميزان العلاقات الدولية. ولأن الظاهرة لا دين لها ولا جنسية، فهي تنشأ وتتمدد إذا ما وجدت البيئة التي تحتضنها وترعاها، خاصة في ظل العولمة التي اختصرت المسافات وألغت مفهوم الحدود من خلال التطورات التكنولوجية الهائلة التي نشهدها اليوم، حيث أصبحت التنظيمات الإرهابية تتهيكل وتنشط في فضاءات افتراضية يصعب مراقبتها.

وما دمنا نتحدث عن ظاهرة الإرهاب فهذا يعني أننا نتحدث عن مصدر من مصادر التهديدات الأمنية التي أضحت تشكل هاجسًا مقلقًا لاستقرار وطمأنينة الأفراد والمجتمعات في بلدانهم، في ظل إسقاط نظرية الأمن المطلق بشكل كامل ونهائي، حتى بالنسبة للدول الكبرى أو العظمى كأمريكا، على الرغم من انفرادها بدور القوة الأولى الفاعلة في النظام الدولي، والمحركة لنشاطاته.

وكذلك في ظل ازدياد أعداد، وتغير أنواع مصادر التهديدات والمشكلات الأمنية، لتشمل أيضا الجماعات الصغيرة والأفراد الذين أصبحوا قادرين على خرق جدار الأمن وتهديده حتى بالنسبة للدول العظمى، إذا توفرت لهم القدرات اللازمة والظروف المناسبة.[1] ضف إلى ذلك اتساع نطاق التهديدات الأمنية وارتفاع درجة خطورتها، بعد أن أصبحت أسلحة الدمار الشامل الكيميائية والبيولوجية، وربما النووية مستقبلاً، في متناول كل الراغبين في استخدامها.[2] وعليه يمكن القول حسب الباحث توفيق هامل أن "المجموعات المسلحة تعتبر أعضاء حية، وليست هياكل ميكانيكيةـ فهي تتغير، وتتحول، وتعيد تشكيل نفسها. حيث تبقى في مسار تبدلي غير متناهي، مما يدفع بالاستراتيجيات والمفاهيم إلى التغير مع الوقت"[3]

ومن هذا كله ينغي إعادة تقييم مصادر التهديدات الأمنية على ضوء التحولات التي يشهدها العالم المعاصر، خاصة العولمة التي اصطبغت بمظاهرها العلاقات الدولية الراهنة، حيث يقول الأستاذ الدكتور وليد عبد الحي : إن مصادر التهديد يجب إعادة النظر فيها من ناحيتين: مصادر التهديد الموجهة (أي التي يعمل الأطراف الآخرون على بنائها وتنفيذها) ومصادر التهديد غير الموجهة (فاكتشاف بديل للبترول على سبيل المثال قد يزعزع أمن دول الخليج تمامًا، دون أن يكون الاكتشاف العلمي في هذا المجال موجهًا ضد هذه الدول تحديدًا)

و يبدو أن مؤشرات تنامي الثانية نتيجة التماهي الذي أشرت له سابقًا تتزايد على حساب الأولى دون أن تلغيها- على الأقل في الزمن المستقبلي المنظور، من ناحية أخرى لا بد من التفكير في مصادر التهديد المستقبلية سواء للدولة أو للنظم الدولية والإقليمية من ناحية أخرى، وتشكل التكنولوجية المصدر الأكثر ضرورة لمراقبته من هذه الناحية، بخاصة من ناحيتين هما إيقاع التسارع المتزايد في التغير وهو ما يكشف المنحنى السوقي أولاً، ثم العجز عن التكيف مع هذا التسارع مما خلق فجوة بين البنية القائمة والبنية التي يفرضها التغير المتسارع[4]

إن الظاهرة الإرهابية اليوم لم تعد تقتصر على منطقة في العالم، بل زاد توسعها جغرافيًا و انتشارها بشريًا، حيث أفراد الجماعات الإرهابية ينتمون إلى جنسيات مختلفة قد تختلف ظروف انخراطهم في هذه التنظيمات، وفي هذا الشأن يقول محمد لسير: " إن الربيع العربي أعطى للجهادية نفس جديد، فبعد حرب العراق 2003م، نشهد اليوم جهاد معولم، الذي يمتد إلى ما وراء المسارح التقليدية ليصل إلى المغرب العربي وأوروبا، إن التحالفات الإقليمية والغربية التي استفاد منها في بعض المراحل، على الجبهة السورية، سمحت له لتدعيم تواجده في المشهد العالمي."[5]

1-1-الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب

تتفق الدول جميعها على أن الإرهاب الدولي يشكل جريمة مخلة بالسلم والإنسانية في القانون الدولي كما يشير تقرير اللجنة المختصة في مسألة الإرهاب، إذ أنه في أغلب الأحيان، تكون أعمال الإرهاب الدولي منافية لقواعد القانون الدولي والأخلاق والمجاملات الدولية ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة والمقاصد التي جاء من أجلها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. [6]

ظاهرة الإرهاب أضحت ممارسة من طرف 371 منظمة منتشرة في 63 دولة تمارس نشاطها في 120دولة، وقد ارتفع عدد الحوادث الإرهابية 1968 إلى 111 حادثة، ليصل عام 1989 إلى 3000 حادث، الأمر الذي دفع بمجلس الأمن الدولي إلى إصدار قراره رقم 1044 بتاريخ 31 يناير 1996 لإدانة " الإرهاب الدولي" بشدة داعيًا إلى ضرورة مكافحته وضرورة التعاون الدولي لمواجهته[7]

في أول ديسمبر 2004 م، قدم الفريق الرفيع المستوى –الذي عينه الأمين العام للأمم المتحدة-المعني بالتهديدات والتحديات تقريرًا عنوانه " عالم أكثر أمنًا: مسؤوليتنا المشتركة" حيث اعتبر الإرهاب أحد التهديدات الستة الرئيسية للسلم والأمن الدوليين، وأوصى الفريق بأن تقوم الأمم المتحدة، وعلى رأسها الأمين العام بالتشجيع على وضع استراتيجية شاملة تتضمن تدابير واسعة النطاق لا تدابير قسرية.[8]

2-   دور الجزائر في مكافحة الإرهاب والاعتراف الدولي بتجربتها.

تعرضت الجزائر في بداية التسعينيات من القرن العشرين، ولفترة أزيد من عشر سنوات، إلى أعمال إرهابية أدت إلى مقتل ما يقارب 200 ألف قتيل وخسائر مادية قدرت بعشرات المليارات من الدولارات، حيث طالت الأعمال التخريبية العديد من المنشآت والمؤسسات الاقتصادية والإدارية، وحتى المؤسسات التعليمية. وكانت تواجه الظاهرة الإرهابية آنذاك لوحدها دون مساعدة ولا اهتمام من قبل المجتمع الدولي، حيث عانت الأمر لوحدها، ولم يكن يصغى إليها عندما كانت تحذر من تداعيات الظاهرة وخطورة استفحالها في العالم، ولكن بفضل حنكة وعزيمة القوات الأمنية الجزائرية، استطاعت أن تقضي على الظاهرة، وإعادة الأمن والاستقرار إلى الوطن، ومنذ ذلك الحين بدأت تتوالى الأحداث الإرهابية في مناطق مختلفة من العالم، طالت دول كبرى في أوروبا وحتى أمريكا التي كانت تعتقد أنها بمنأى عنها. حتى تبين للعالم أجمع مصداقية التنبؤات التي كانت تحاول التنبيه إليها.

2-1-المقاربة الجزائرية في مكافحة الإرهاب

لقد فهم القادة الجزائريون بأن الإجابة عن التطرف العنيف لا ينبغي أن يتوقف على البعد الأمني، ولكن من خلال وضع استراتيجية ذات أبعاد متعددة، حيث تم وضع ثلاث مقاربات مهيكلة تتمثل في:

  • مسار المصالحة الوطنية.
  • ترقية الديمقراطية.
  • سياسة محاربة التطرف متعدد القطاعات.

ومن هذا المنطلق كان مسار المصالحة الوطنية الذي بدأ عام 1995م، من خلال قانون الرحمة، والذي توج عام 2005م، بميثاق السلم والمصالحة الوطنية، الذي تم المصادقة عليه عن طريق استفتاء شعبي، والذي سمح لآلاف الإرهابيين للتخلي عن سلاحهم والعودة إلى أسرهم وذويهم. ثم المقاربة الثانية تمثلت في ترقية الديمقراطية من خلال إعطاء مجال أوسع لحرية الرأي والتعبير والمشاركة في العملية السياسية، وهذا ما تضمنه التعديل الدستوري لسنة 2008، ثم دستور 2016م.

أما المقاربة الثالثة فتتمثل في سياسة محاربة التطرف متعدد القطاعات، حيث أدخلت الجزائر جملة من الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية، والأمنية والسياسية، ولم تغفل البعد الفكري والديني في مقارباتها الشاملة.

2-2-انخراط الجزائر في العديد من الآليات الهادفة إلى محاربة الإرهاب

سعيًا منها للإسهام بفعالية في مكافحة الإرهاب وتسخير تجربتها في هذا المجال، انخرطت الجزائر في العديد من الآليات الدولية والإقليمية الهادفة إلى محاربة هذه الظاهرة:

-         فكانت عضوًا نشطًا ومؤسسًا في المنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب (FGCT)، الذي أنشأ سنة 2011م، من طرف 29 دولة، والذي يسعى لتشجيع الدول الأعضاء على تنفيذ استراتيجية الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب. كما تترأس مناصفة مع كندا مجموعة العمل حول غرب إفريقيا.

-         إلى جانب احتضانها مقر المركز الإفريقي للدراسات والبحث حول الإرهاب في إفريقيا (CAERT)، ونفس الشيء بالنسبة لمركز آلية التعاون الشرطي الإفريقي (AFRIPOL).

-         المشاركة في لجنة الأركان المشتركة لدول الساحل (CEMOC) مع مالي وموريتانيا والنيجر. وفي هذا الإطار، حرصت الجزائر على استقبال وحدة الدمج والاتصال لتبادل المعلومات التابع لهذه اللجنة.

-         تكثيف النشاط داخل مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENAFATF) الخاصة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

-         المشاركة في “الشراكة من أجل مكافحة الإرهاب عبر الصحراء” (TSCTP)، هو برنامج إقليمي أمريكي مشترك بين الوكالات يهدف إلى بناء قدرات حكومات دول إقليم المغرب العربي ومنطقة الساحل لمواجهة التهديدات التي يخلقها الإرهاب.

-         وظفت الجزائر حوالي 100 مليون دولار خلال 7أو8 سنوات من أجل تكوين العشرات من مؤسسات القوات الخاصة، إلى جانب تقديم معدات عسكرية لبعض الدول كليبيا، وتشاد، وموريتانيا، والنيجر، كما أقدمت الجزائر منذ سنة 2013م، على إلغاء أكثر من 900 مليون دولار كديون لـ 14 دولة إفريقية منها 4 دول من الساحل (بوركينا فاسو، مالي، موريتانيا، والنيجر)

2-3-مؤشرات نجاح التجربة الجزائرية

تعد الجزائر واحدة من أقل الدول تعرضًا للهجمات الإرهابية خلال السنوات الأخيرة، وذلك على الرغم من تطور الظاهرة الإرهابية وتمدد موجاتها في المحيط الجيوستراتيجي للجزائر، سواء في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أو في دول الساحل أو حتى في القارة الأوروبية، وقد دلت على ذلك المؤشرات الآتية:

ü    تتحدث العديد من التقارير والدراسات البحثية عن الوضع الأمني في الجزائر، وكيف استطاعت أن تعيد السلم والأمن إلى ربوع الوطن بعد عشرية من الحزن والدمار والقتل الهمجي الذي عاشه الشعب الجزائري خلال موجة الإرهاب التي ضربته. فنجد تقريرًا صادرًا حديثًا عن كتابة الدولة الأمريكية، يشير إلى أن الجزائر نجحت في تجفيف منابع تمويل الإرهاب، وأن الأرقام التي بحوزة الإدارة الأمريكية تؤكد تراجعًا ملحوظًا لوتيرة العنف في هذاالبلد

ü    وهذا ما أكده مؤشر الإرهاب العالمي (Global Terrorism Index 2017) عندما صنفالجزائـر في المرتبة 49 من بين 163 دولة عالميًا من حيث الدول الأكثر أمنـًا في العالـم، حيث منحـها نقطة 3.97 (المؤشر يبدأ من 10 بالنسبة للدول الأقل أمنا إلى 0 بالنسبة للدول الأكثر أمنا)، وبذلك تكون الجزائر قد أصبحت أكثر أمنا من المملكة المتحدة وفرنسا.

ü    كما صنفت الجزائر في المرتبة الأولى إفريقيًا وعربيًا الأكثر أمنًا، في مؤشر عام 2017م، للأمن والنظام العام الذي يصدره معهد جالوب (GALLUP) لصبر الآراء حيث منحها 90 نقطة من أصل 100، من بين 37 دولة جرى حولها استطلاع الرأي، واحتلت المرتبة السابعة عالميًا من أصل 135 دولة جرى حولها استطلاع الرأي.[9]

ü    وفي تقرير قدمه مجلس السلم والأمن حول نشاطاته ووضعية السلام والأمن في إفريقيا، بمناسبة الندوة 30 لرؤساء الدول والحكومات للاتحاد الإفريقي، أبرز فيه جهود الجزائر في مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف.

ü    وكمعيار الحكم على نجاح التجربة الجزائرية في مكافحة الإرهاب نرصد ذلك العدد الضعيف من الجزائريين المنخرطين في صفوف التنظيمات الإرهابية، حيث لم يتجاوز 170 منخرط، حسب تقرير مكتب الاستشارة الأمريكي (The Soufan Center)، الذي صنف الجزائر سنة 2016م، كبلد الأقل معني بالتجنيد الإرهابي في العالم.

3-   استراتيجية الجزائر في محاربة الإرهاب

عندما نتحدث عن نجاح التجربة الجزائرية في مكافحة الإرهاب، هذا ليس معناه أن الجزائر أصبحت في منأى عن مخاطر وتهديدات الظاهرة الإرهابية، بل بالعكس هناك تحديات وتهديدات أمنية أفرزتها التطورات الأخيرة التي تشهدها المنطقة العربية اليوم، إلى جانب الوضع الأمني المتدهور في منطقة الساحل الإفريقي. وبالتالي ما زالت جهود الجزائر متواصلة لمواجهة هذه التهديدات والتحديات الأمنية التي فرضتها المرحلة الراهنة. ومن ثم فإن استراتيجيتها منصبة على إعطاء الأولوية لدائرتين جغرافيتين أقرب منها وهي الدائرة العربية، وبالخصوص منطقة المغرب العربي، والدائرة الإفريقية، تحديدًا منطقة الساحل الصحراوي.

3-1-التداعيات الأمنية للحراك الشعبي في المنطقة العربية

لقد أدى الحراك الشعبي العربي، الذي اندلع في مجمله بداية عام 2011م، إلى جملة من الإفرازات انعكست سلبًا على دول المنطقة، خاصة ما تعلق منها بالجانب الأمني، من خلال تنامي ظاهرة الإرهاب بشكل خطير، حتى أصبحت أجزاء من أراضي بعض الدول العربية ذات السيادة، محتلة من طرف تنظيمات إرهابية، فرضت منطقها الإرهابي على سكان تلك المناطق.

لقد دفع الانهيار الأمني في ليبيا، على غرار ما حدث في العراق وسوريا واليمن، إلى فوضى انتشار السلاح، وبروز تنظيمات إرهابية جديدة تضاف إلى تنظيم القاعدة، ومن ثم أصبحت منطقة المغرب العربي، والجزائر ضمنها، تعيش وضعًا أمنيًا صعبًا، يسوده الحذر واليقظة المستمرة، خاصة بعد أن بدأ تنظيـم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامـي يعيد ترتيب شبكتـه في منطقة المغرب العربـي والساحـل. ويقول الباحث توفيق هامل في هذا الشأن : إن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي (AQMI)، وبعض التنظيمات الإرهابية في المنطقة لا يشكلون تهديدًا استراتيجيًا بالنسبة للدولة الجزائرية، بقدر ما يشكلون اهتمامًا أمنيًا هامًا، لقد انسحب تنظيم القاعدة (AQMI) إلى أقصى الجنوب إلى الساحل بفعل الضربات المتتالية التي تلقاها من طرف قوات الأمن الجزائرية."[10]

3-2-التهديد الإرهابي في منطقة الساحل الإفريقي ودور الجزائر في مواجهته

تنطلق الاستراتيجية الجزائرية في معاملاتها مع منطقة الساحل من منطلق الأسس العقائدية التي تؤمن بها، وهي الوحدة الترابية للدول (احترام الحدود)، ثم مكافحة الإرهاب باعتباره عامل مهدد للأمن والاستقرار في المنطقة، كما تتبنى سياسة الاعتماد على النفس، وهذا ما فعلته أثناء مواجهتها للإرهاب خلال العشرية السوداء، والأساس العقائدي الذي كرسته في مسيرتها الكفاحية ضد الإرهاب هو إيمانها بالحل السياسي للنزاعات والحوار البناء. ونظرًا للمخاطر الأمنية التي يشكلها تواجد الجهاديين في شمال مالي بالنسبة للجزائر، فقد أعادت هذه الأخيرة توجيه أولوياتها الدبلوماسية نحو منطقة الساحل، التي تعتبر " عمقها الاستراتيجي"، حيث أصبح شغلها الشاغل هو إيجاد تسوية للصراع في مالي، والذي أضحى أولوية، إذ تبذل قصارى جهدها لحل الصراع بكل الطرق، الحوار، التفاوض والتفاهمات.

ولقد توجت مجهوداتها الدبلوماسية في الأزمة المالية والمفاوضات التي جرت تحت وساطتها للتوصل إلى إمضاء اتفاق السلام والمصالحة بين الحكومة المركزية في باماكو والفصائل المسلحة الترقية والجهاديين الذين أوصلوا البلاد إلى حافة الانفجار عام 2013، هذا الاتفاق الذي رمت الجزائر بكل ثقلها لإنجازه، كان محل تقدير واعتراف المجموعة الدولية، التي بادرت إلى تقديم التهاني لها، وأكدت على الدور الأساسي للوساطة الجزائرية.[11] 

إن الساحل بالنسبة للجزائر يعتبر الموجه الشرعي لسياستها الخارجية، وعلية فالمهمة ليست سهلة، بسبب شساعة المنطقة، فمنطقة الساحل امتداد طبيعي للصحراء الجزائرية، حيث تتقاسم المنطقة أطول حدود مع دولتين، مالي (1300 كلم) والنيجر (1200كلم)، إضافة إلى الإدماج الهجين بين الإرهاب والجريمة، وبالتالي فإن كل استراتيجية أمنية إقليمية لا بد لها من إدماج هذا البعد الأخير، بالنسبة للتنظيمات الإرهابية تعتبر منطقة الساحل منطقة عبور نحو التجمعات السكنية (المناطق الحضرية في الشمال) دول شمال إفريقيا وأيضًا تجاه أوروبا، باعتبار أن ساحة المعركة في المستقبل ستكون في المراكز الحضرية أين تجد التنظيمات الإرهابية والمجموعات الإجرامية ملاذًا وصدرًا للتموين وتشجيع المنخرطين فيها وفي المدن الكبرى أين يكون مصدر الإقصاء السياسي والعنف الحضري.

إن بروز (داعش) في العراق وبلاد الشام، في الساحة الليبية، وبسط سيطرته على بعض المدن كسرت، ودرنة، وطموحه في إقامة خلافته في كل ربوع منطقة المغرب العربي، ومن ثم توسيع تأثيره نحو دول الساحل، كلها عوامل أسهمت في تغيير المعطى الجيواستراتيجي للمنطقة، ورفع درجة التهديدات على الجزائر، مما جعل هذه الأخيرة تضطر إلى تبني استراتيجية متعددة الأبعاد تتمثل في:

  • إعادة تنظيم تشكيلاتها العسكرية على نحو تستطيع ممارسة نوع من الحذر واليقظة الدائمة على عدة جبهات. وبحكم امتلاكها جيشًا متماسكًا ومدربًا جيدًا، قادر على القيام بالمهام المنوطة به، حيث صنفته العديد من المؤسسات البحثية العالمية كأقوى جيوش المنطقة (أحتل المرتبة الثانية على المستوى الإفريقي حسب ترتيب منظمة ( Global Fire Power)، الموقع الأمريكي المتخصص في الدفاع، إلى جانب التجربة العالمية التي يمتلكها جهاز الاستعلامات الجزائري في مجال مكافحة الإرهاب، تبدو الجزائر خلال هذا كله كالبلد الوحيد في المنطقة القادر على حفظ استقرار منطقة المغرب العربي والساحل.
  • وجدت الجزائر نفسها من جديد في المقدمة للعب الدور الدبلوماسي، من خلال الوساطة بين المتحاربين في ليبيا، حيث تلقت تفويضًا من المنظمات الدولية للوساطة، إذ بدلت، وما تزال تبدل جهودًا حثيثة لدفع الأطراف المتصارعة إلى طاولة الحوار والمفاوضات، قصد البحث عن حلول سياسية بعيدة عن الحل العسكري، لتحقيق هدف إعادة الاستقرار والأمن إلى ربوع المنطقة، وهي بذلك تدعم بدون تحفظ المفاوضات الجارية تحت غطاء الأمم المتحدة.

ويمكن القول أننا اليوم نجد العديد من القوى الغربية تعترف بالدور المحوري الذي تلعبه الوساطة الجزائرية، والضامن الأساسي للأمن الإقليمي، وبدونها لا يمكن رؤية حل دائم في الساحل والمغرب العربي.[12]

خاتمة

صدق من قال "أن الأزمة تلد الهمة ولا يتسع الأمر إلا إذا ضاق"، إذ وجدت الجزائر نفسها تواجه أزمة أمنية بالغة الخطورة، تمثلت في الظاهرة الإرهابية، فاضطرت إلى مواجهتها بإمكاناتها الخاصة، وبفضل تضحيات القوات الأمنية بمختلف أسلاكها، دون أن تتلق أي دعم أو مساندة من قبل المجتمع الدولي، بل بالعكس وجدت نفسها تعاني العزلة والصمت اللذان فرضا عليها، في الوقت الذي كانت بحاجة إلى دعم معنوي وتعاون دولي، لكن بفضل الإرادة والعزيمة التي تحلى بها الشعب الجزائري، الذي كان السند وراء قوة وصلابة الجيش الوطني الشعبي ومعه كل الأسلاك الأمنية، في محاربتها للظاهرة، أفضت إلى القضاء النهائي على الأزمة، وخرجت الجزائر منتصرة، وها هي اليوم يعترف العالم لها بالنجاح، ويستلهم من تجربتها.

إن محاربة الظاهرة الإرهابية ليست بالمسألة الهينة، في ظل التعقيدات التي تشهدها العلاقات الدولية الراهنة، والتطورات المتسارعة التي يعيشها العالم اليوم، لكنها ليست مستحيلة أيضًا، وإنما ينبغي لمحاربتها تكاتف الجهود والتعاون المشترك بين كل دول العالم المحبة للسلام والأمن والاستقرار، والاتفاق على وضع آليات فعالة لمحاربتها واستئصال جذورها نهائيًا، والتجربة الجزائرية تبقى ماثلة وشاهدة على أن الإرادة والإيمان بالعيش في سلام تصنع من المستحيل الممكن.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أستاذ العلاقات الدولية ـ جامعة الجزائر

المراجع

- علي عباس مراد، الأمن والأمن القومي، مقاربات نظرية، ابن النديم للنشر والتوزيع، الجزائر، ودار الروافد الثقافية-ناشرون، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 2017،

- مجموعة من الباحثين، فهم الأمن القومي الجزائري من مدخلي الأمن الوطني والدفاع الوطني، دار حامد للنشر والتوزيع، عمان –الأردن، الطبعة الأولى 2015،                                        

- محمد سعادى، الإرهاب الدولي بين الغموض والتأويل، دار الجامعة الجديدة، 2009،

- هيثم فالح شهاب، جريمة الإرهاب وسبل مكافحتها في التشريعات الجزائية المقارنة، الجامعة الأردنية دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان –الأردن الطبعة الأولى، 2010،  

                               - Mansouria Mokhfi, ALGERIE : Défis intérieurs, menaces extérieurs, in , Revue Commentaire, no 151, 2015/3,

                                                       - Tewfik Hamel, La lutte contre le terrorisme et la criminalité ; un changement de paradigme ? une vision algérienne, Revue Sécurité Globale no 5 – 2016/1 ESKA

     - Mohamed Lessir, Changements stratégiques et nouveaux enjeux : quelles politiques promouvoir en Méditerranée ? Un point de vue Tunisienne sur les changements stratégiques et les implications sur les politiques en Méditerranée Occidentale

 

[1]د. علي عباس مراد، الأمن والأمن القومي، مقاربات نظرية، ابن النديم للنشر والتوزيع، الجزائر، ودار الروافد الثقافية- ناشرون، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 2017، ص10

[2] نفس المرجع السابق ص 10

[3] Tewfik Hamel, La lutte contre le terrorisme et la criminalité ; un changement de paradigme ? une vision algérienne , Revue Securité Globale no 5 – 2016/1 ESKA , p50

[4] مجموعة من الباحثين، فهم الأمن القومي الجزائري من مدخلي الأمن الوطني والدفاع الوطني، دار حامد للنشر والتوزيع، عمان –الأردن، الطبعة الأولى 2015، ص12

[5]Mohamed Lessir, Changements stratégiques et nouveaux enjeux : quelles politiques promouvoir en Méditerranée ? Un point de vue Tunisienne sur les changements stratégiques et les implications sur les politiques en Méditerranée Occidentale.

[6] محمد سعادى، الإرهاب الدولي بين الغموض والتأويل، دار الجامعة الجديدة، 2009، ص26

[7] نفس المرجع السابق ص27

[8] هيثم فالح شهاب، جريمة الإرهاب وسبل مكافحتها في التشريعات الجزائية المقارنة، الجامعة الأردنية دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان –الأردن الطبعة الأولى، 2010، ص 252

[9]www.agenceecofin.com/hebdop1/1204-560

[10] Tewfik Hamel, La lutte contre le terrorisme et la criminalité ; un changement de paradigme ? une vision algérienne, Revue Sécurité Globale no 5 – 2016/1 ESKA, p50

[11]Mansouria Mokhfi, ALGERIE : Défis intérieurs, menaces extérieurs, in , Revue Commentaire, no 151, 2015/3, p503

[12]Ibid. p504

مجلة آراء حول الخليج