; logged out
الرئيسية / محددات (الربيع العربي) في دول الخليج

العدد 88

محددات (الربيع العربي) في دول الخليج

الأحد، 01 كانون2/يناير 2012

تتصف تصريحات السياسيين والمثقفين والقادة الخليجيين حول موجة (الربيع العربي) واحتمالات تأثيرها على دولهم بالتنوع الكبير. ولو تم تمثيل تلك التصريحات والآراء على خط مستقيم فإن المرء سيجد في إحدى نهايات الخط من يعتقد أن دول الخليج في مأمن من التأثيرات المختلفة التي حملها (الربيع العربي) إلى 5 دول حتى الآن. أما في النهاية الأخرى للخط المستقيم، فسيجد المتابع أولئك الذين يرون أن موجة التغيير التي بدأت في تونس ووصلت اليوم إلى سوريا لن تستثني أحداً. وبين طرفي الخط المستقيم، هناك العديد من الآراء التي تميل لأن تكون أقل حدية في تأكيد التأثير المحتمل أو في ادعاء الحصانة التامة من حدوث مثل ذلك التأثير.

يحاول هذا التحليل إلقاء الضوء على أهم العوامل التي يمكن أن تضعف أو تزيد من قوة تأثير موجة (الربيع العربي) على دول الخليج والمتمثلة في: سياسات التكيف، استجابات الشعوب، العامل الإيراني، ودور الغرب.

سياسات التكيف

يتمثل أول وأهم محدد لتأثيرات موجة (الربيع العربي) على الدول الخليجية في السياسات التي تتبعها الحكومات الخليجية للتكيف مع الأوضاع السياسية المتغيرة من حولها. وهناك نوعان من سياسات التكيف: الأول إيجابي، ويتمثل في الدفع بالإصلاح السياسي قدماً بوتيرة عالية وخصوصاً في جوانب المشاركة السياسية والحريات المدنية والحكم الرشيد، وبما يلبي الحد الأدنى على الأقل من تطلعات مواطني الخليج.

أما النوع الثاني من سياسات التكيف، فيمكن أن يطلق عليه (التكيف السلبي)، الذي يقوم بشكل أساسي على التعامل مع (الربيع العربي) على أنه مجرد عاصفة لن تلبث أن تضمحل، ويتبنى بالتالي سياسات تعالج الأعراض الخطرة بالمهدئات، ومن دون النفاذ إلى مسببات الأمراض. وتندرج سياسات تحريك الأجور والعلاوات، وتوسيع مظلات الضمان الاجتماعي والتأمين ضد البطالة لتشمل جماعات جديدة، والوعود المؤجلة بالإصلاحات الجزئية، وغير ذلك من السياسات المشابهة ضمن سياسات التكيف السلبي التي، حتى إن نجحت في الأجل القصير، فإنها تحمل الكثير من المخاطر في الأجلين المتوسط والطويل.

فالوعود بالإصلاحات الجزئية تمثل اعترافاً بشرعية المطالب الشعبية مع تأجيل في الإيفاء الجزئي بتلك المطالب، وسياسة مثل هذه من شأنها أن تزيد من حدة مطالب الإصلاح. أما سياسات تحريك الأجور وتوزيع المنافع وزيادة الإنفاق الحكومي بشكل عام فمن شأنها، في ظل اقتصادات تعتمد في دخولها النقدية على عائدات النفط المتقلبة، أن تزيد بسرعة من حدة المشكلات المالية والاقتصادية مع ملاحظة أن بعض دول الخليج ستكون أكثر عرضة لتلك المشكلات خلال الأجل القصير، ناهيك بالطبع عن التأثير السلبي لتلك السياسات على برامج الإصلاح الاقتصادي والمالي الهادفة إلى تحقيق النمو المستمر للاقتصادات الوطنية. وهذا يعني أن سياسات التكيف السلبي بقدر ما تشتريه من رضا مؤقت، فإنها يمكن أيضاً أن تنتج في الأمدين المتوسط والطويل وفي بعض الدول الخليجية في الأمد القصير أيضاً حالة من السخط يكثر فيها عدد الشاكين ويقل عدد الشاكرين.

ويلاحظ أن سياسات التكيف التي اتبعتها الحكومات الخليجية مع (الربيع العربي) حتى اللحظة، ورغم وجود تنوع كبير في تلك السياسات، ربما يندرج معظمها ضمن سياسات التكيف السلبي التي لا تتعاطى مع المشكلات المزمنة والتي تمثل الأسباب المباشرة لعدم الاستقرار.

موجة التغيير التي بدأت في تونس ووصلت اليوم إلى سوريا لن تستثني أحداً

استجابات الشعوب

تشهد دول مجلس التعاون الخليجي بوتيرة عالية، ومنذ وقت طويل، عملية عولمة لنظمها الاقتصادية والمالية والثقافية والإعلامية، والتكنولوجية في حين لا تزال نظمها السياسية تجد صعوبة كبيرة في مواكبة تلك التحولات رغم الضغوط الداخلية والخارجية المتزايدة عليها منذ أحداث الـ 11 من سبتمبر 2001. وتؤدي الفجوة المتنامية بين عولمة الاقتصاد والمال والثقافة من جهة وعولمة السياسة من جهة أخرى إلى وضع كابح على العولمة الاقتصادية وعلى النمو الاقتصادي.

صحيح أن سكان الخليج بشكل عام يتمتعون بمستوى من الرفاه الاقتصادي والاجتماعي يجعلهم في وضع مختلف عن نظرائهم في الدول التي شهدت تحركات (الربيع العربي)، إلا أن ذلك كما يعلمنا التاريخ يجعلهم أكثر وليس أقل تطلعاً، كما يعتقد البعض، للحصول على المزيد من الحقوق السياسية والحريات المدنية. وفي الوقت الذي تواصل فيه حكومات الخليج سياسات التكامل فيما بينها لما لتلك السياسات من أثر إيجابي على شرعيتها بما تخلقه من انطباع عن وجود وحدة خليجية، فإن التفاوت الكبير من دولة خليجية إلى أخرى في درجة تمتع المواطنين الخليجيين بالحقوق السياسية والحريات المدنية يخلق المزيد من الضغوط على كافة الحكومات. فالذين يتمتعون ببعض الحقوق والحريات يطالبون بالمزيد، والذين لا يتمتعون بأبسط الحقوق والحريات يطالبون بمساواتهم بنظرائهم في دول الخليج الأخرى. ويرتبط الاستقرار السياسي في هذه الحالة بحدوث توازن بين مطالب الأفراد والجماعات بالمشاركة والمزيد من الحريات من جهة، وبين قدرة الحكومات الخليجية على مواجهة تلك المطالب عن طريق بناء مؤسسات سياسية واقتصادية واجتماعية فاعلة، من جهة أخرى.

وأخذاً في الاعتبار حقيقة أن مطالب الإصلاح السياسي في الخليج قد وجدت منذ وقت طويل، لكنها ظلت كامنة أو مكبوتة في بعض المجتمعات الخليجية وليس كلها، فإنه يلاحظ أن التحركات التي شهدها (الربيع العربي) قد أدت حتى الآن إلى زيادة شعور المواطن الخليجي بمشروعية مطالبه بالإصلاح السياسي وبالتالي زيادة ملحوظة في تعبيره العلني عن تلك المطالب كلما أتيح له ذلك. وامتدت رقعة المطالبين بالإصلاح بشكل عام والإصلاح السياسي بشكل خاص لتشمل شخصيات مثلت وما زالت تمثل حتى اليوم جزءاً من الحكومات الخليجية القائمة.

وصحيح أن الدول الخمس التي شهدت تحركات (الربيع العربي) لم تتمكن حتى الآن من تحقيق التغييرات التي سعت إلى تحقيقها، وأن تحقيق ذلك قد يستغرق سنوات تزيد أو تنقص. وصحيح أيضاً أن بعض تلك الدول يشهد حالة يسهل إدراكها من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني قد تستمر إلى وقت طويل، إلا أنه من غير المتوقع أن يكون لتلك التطورات خلال المدى القصير تأثير سلبي على دعاة الإصلاح في الخليج. فالدرس المستفاد من تجارب تونس، مصر، ليبيا، اليمن، وحتى سوريا والبحرين والمغرب أيضاً، والحالات الثلاث الأخيرة ما زالت نتائجها غير واضحة، هو أن التغيير قد يكون مكلفاً جداً، لكن احتمالات الفشل في التغيير تظل حتى الآن غير واردة.

والسيناريو المحتمل هو أن التطورات المتلاحقة التي تشهدها الدول العربية غير الخليجية ستزيد من تعزيز القناعات بمطالب الإصلاح في دول الخليج وسترفع من سقف تلك المطالب مع مرور الزمن. وقد تعمل الحكومات الخليجية على تبني إصلاحات حقيقية وفي الوقت المناسب، أو تمضي في تبني سياسات التكيف الآنية التي قد تسكت الأصوات المطالبة بالإصلاح لبعض الوقت، لكنها سرعان ما ستعود بطريقة أكثر قوة وربما راديكالية، وعندها قد يتحول مطلب (إصلاح النظام) إلى مطلب (إسقاط النظام).

العامل الإيراني

يصعب القول إن إيران تمثل شراً مطلقاً بالنسبة للمواطن الخليجي أو العربي، لكنه من المؤسف أن قطاعات واسعة في المجتمعات العربية بشكل عام والخليجية بشكل خاص تنظر إلى إيران على أنها تمثل تهديداً كبيراً، وفي السياسة لا يهم ما هو عليه الواقع بقدر ما يهم انطباع الناس عن ذلك الواقع. وقد عززت السياسات الإيرانية التي تتصف بالازدواجية تجاه تحركات الربيع العربي من المخاوف الموجودة لدى المواطنين العرب بشكل عام والمواطنين في دول الخليج العربية بشكل خاص. فقد أيد الساسة الإيرانيون مطالب الشعوب العربية في التغيير في دول مثل مصر والبحرين واليمن وأيدوا قبل ذلك عملية التغيير في العراق، لكنهم أخفقوا بشكل واضح في تبني الموقف ذاته من مطالب التغيير في سوريا حيث تسيطر أقلية علوية على مقاليد الحكم.

ونتيجة لذلك، فإن دعاة الإصلاح في الخليج العربي وخصوصاً في الدول التي توجد فيها أقليات شيعية يعتد بها، وبغض النظر عن توجهاتهم السياسية والأيديولوجية، لن يستطيعوا في تحركاتهم المطالبة بالإصلاح السياسي تجاهل العامل الإيراني. وفي حين سيظل استغلال إيران للحركات المطالبة بالإصلاح في أية دولة خليجية لتحقيق مكاسب سياسية غير مشروعة احتمالاً قائماً في نظر دعاة الإصلاح حتى يثبت العكس، فإنه من المتوقع أن يسارع المدافعون عن الوضع الراهن إلى إلصاق تهمة الارتباط بإيران بدعاة الإصلاح حتى لو لم يكن للإصلاحيين أي علاقة بإيران. وقد يتمكن المدافعون عن الوضع الراهن، من خلال توظيفهم للورقة الإيرانية، من إضعاف قدرة دعاة الإصلاح على الحركة لبعض الوقت وفي بعض القطاعات السكانية، لكنه من المستبعد أن يتمكنوا من إسكات مطالب الإصلاح كل الوقت أو بين كل السكان.

وحيث إن التطورات تشير إلى أن إيران ستستفيد استراتيجياً من تغييرات (الربيع العربي) حتى إن خسرت سوريا كحليف استراتيجي، فإنه من المهم بالنسبة للحكومات الخليجية أن تدرك أن تحصين الجبهة الداخلية ضد التدخلات الخارجية إنما يتحقق بالتعامل الجدي مع استحقاقات الإصلاح وليس الهروب منها. كما أنه من المهم بالنسبة لتلك الحكومات أن تستفيد من الخطأ الإيراني في سوريا وتتخذ من قوى التغيير في مختلف الدول العربية حليفاً لها وتعمل على دعمها لأن ذلك وبغض النظر عن أي اعتبار آخر يظل هو الخيار الأمثل.

وينبغي التأكيد هنا على أن الدور السلبي الحقيقي أو الافتراضي الذي يمكن أن تلعبه إيران في مواجهة تأثيرات (الربيع العربي) على دول الخليج سيتغير بدوره وفقاً للتأثيرات التي سيحملها (الربيع العربي) لإيران ذاتها. كما سيتأثر العامل الإيراني أيضاً بالدور الذي يمكن أن يلعبه الغرب في مواجهة التنامي المحتمل لمطالب الإصلاح. ويمكن القول (بالرغم مما حدث في البحرين) إن مطالب الإصلاح عندما تمتد لتشمل كافة المكونات الاجتماعية في دولة معينة، أو تتجذر وسط الفئة التي تمثل الأغلبية السكانية، فإنه سيكون من الصعب عندئذ على الحكومات ودول الغرب على السواء توظيف العامل الإيراني في إعاقة الإصلاح السياسي.

يصعب القول إن إيران تمثل شراً مطلقاً بالنسبة للمواطن الخليجي أو العربي

دور الغرب

يحتفظ الغرب، والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، بعلاقات وثيقة بالحكومات الخليجية بشكل خاص والحكومات الملكية في العالم العربي بشكل عام تمتد عشرات السنين. وقد ظل الغرب طوال عقود يدعم الحكومات الخليجية في مواجهة مختلف الهزات الداخلية والخارجية. لكن تجارب (الربيع العربي) تبين بوضوح أن موقف الغرب أصبح أكثر تعقيداً مما يظن دعاة الإصلاح أو الحكومات المتحالفة مع الغرب. ففي مواجهة مطالب الإصلاح المتشابهة في كل من تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن والبحرين، استجابت حكومات الدول الغربية بسياسات مختلفة، وتم تبرير ذلك بالحديث عن اختلاف ظروف كل دولة. ولذلك فإنه لا يمكن لأحد أن يضمن اليوم بأن الغرب إلى جانبه أو ضده بشكل مطلق.

وصحيح أنه من غير المحتمل في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين أن ترسل الدول الغربية جيوشاً لقمع دعاة الإصلاح والمطالبين بالديمقراطية في أي بلد كان ومهما كان حجم المصالح، إلا أن ذلك لا يعني بأي حال أن حكومات الغرب لن تقدم الدعم المستتر للأنظمة التي تواجه ضغوطاً شعبية، كما رأينا في حالة البحرين، وخصوصاً إذا رأت حكومات الغرب أن التغيير الذي ينشده الناس في إحدى الدول يمكن أن يؤثر سلباً في مصالحها الحيوية.

ويبدو أن سياسة الغرب تجاه الخليج العربي، وربما تجاه الحكومات الملكية بشكل عام في العالم العربي، تقوم على تشجيع الحكومات على القيام بإصلاحات تستبق بها الهزات المحتملة، مفضلة بذلك نموذج المملكة المغربية في الإصلاح السياسي على نماذج التغيير السياسي في تونس ومصر. لكن نجاح السياسات الغربية سواء تجاه المغرب أو البحرين أو غيرهما من الدول العربية سيظل مرهوناً بمدى استعداد وقدرة الحكومات ذاتها على التحرك في الاتجاه الصحيح وبالسرعة المطلوبة من جهة، وبرضا الشعوب عن مستوى ما يتحقق لها من إصلاحات، من جهة ثانية.

فرصة وليس تهديداً

واجهت حكومات الخليج خلال النصف الثاني من القرن العشرين العديد من التهديدات بدءاً بالتيارات القومية الراديكالية خلال الستينات مروراً بالشيوعية خلال السبعينات والثورة الإيرانية خلال الثمانينات و(الصدامية) خلال التسعينات، وانتهاء بالإرهاب خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وتمكنت الحكومات الخليجية من التغلب على تلك التهديدات عن طريق المساهمة في إقامة التنظيمات الإقليمية مثل منظمة التعاون الإسلامي أو التكتل مع بعضها كما في حالة مجلس التعاون الخليجي أو من خلال التحالف مع الغرب أو غير ذلك من السياسات.

وتشير السياسات الرسمية المتبعة خليجياً إلى أن هناك اليوم من ينظر إلى (الربيع العربي) على أنه مجرد تهديد أيديولوجي آخر لا يختلف كثيراً عن الراديكالية اليسارية أو الدينية أو القومية، وأنه يمكن نتيجة لذلك التشابه، مواجهة تأثيرات (الربيع العربي) بالسياسات ذاتها التي تمت بها مواجهة التهديدات السابقة. وأقل ما يمكن أن يقال عن مثل هذا الفهم، وعن السياسات التي يتم اتباعها للتكيف، هو أنهما ينطويان على درجة عالية من المخاطرة. أما الطريق الآمن للجميع فهو النظر إلى تغييرات الربيع العربي وتأثيراتها المحتملة على أنها فرصة يمكن للحكومات الخليجية اغتنامها للقيام بإصلاحات حقيقية ملموسة يصعب القيام بها في أي وقت آخر وبما يجنب الحكومات والشعوب الخليجية الهزات المحتمل حدوثها، إن لم يكن غداً فبعد غد، وإن لم يكن خلال العام الحالي فخلال العام الذي يليه.

 

مجلة آراء حول الخليج