array(1) { [0]=> object(stdClass)#12958 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 132

البرنامج النووي الإيراني: إشكالية الاستمرار وجدلية الاستقرار

الخميس، 26 تموز/يوليو 2018

برز البرنامج النووي الإيراني كواحد من أعقد التحديات الأمنية والسياسية والدبلوماسية في القرن الواحد والعشرين، ليس على مستوى المنطقة فحسب، بل على مستوى العالم. ومما لا شك فيه أن هذا البرنامج سوف يجعل الهياكل الأمنية الحالية في الشرق الأوسط في حالة تَغَيُّرٍ مستمر، مما سيتسبب في إعادة التفكير بشكل أساسي في التحالفات الاستراتيجية الإقليمية والدولية، لأن التعقيد في تشكيل هذه الهياكل لا يمكن إهماله. وهذا التعقيد الماثل سيدفع إيران النووية أن تتخذ بالفعل توجهًا جيوسياسيًا واستراتيجيًا جديدًا يتسق مع تنامي قوة الردع، التي تمتلكها، في منطقة ظل تاريخها غارقًا في الصراعات، وانعدام الثقة، ومجموعة من العوامل التنافسية المتكاملة الأخرى، والتي لا تسمح بأنصاف الحلول.

لقد أحدث طموح إيران العسكري قلقًا جديًا بين الدول المجاورة لها، وعلى رأسها دول مجلس التعاون الخليجي العربية، وتلك القريبة منها كإسرائيل. رغم أن ردود الفعل في المنطقة حول برنامجها النووي تتباين على نطاق واسع، وتتراوح بين التعايش والتفاهم، إلى العداء والمعارضة الصريحة، بما في ذلك الجهود الرامية للحصول على رادع مضاد، يُسَرِّع الانتشار والتسابق النووي في المنطقة. ومع عدم اليقين السائدة حول ما إذا كان برنامج إيران النووي يمتلك بعدًا عسكريًا حقيقيًا أم لا، رغم تطمينات طهران المستمرة بأن هذا البرنامج مخصص لأغراض الطاقة السلمية، ولا شيء غيرها، إلا أن مجرد الاحتمال بوجود سياسة إيرانية نووية، تدعمها خبرة علمية متطورة، زادت من حدة التوترات الإقليمية. تدعمها محاولات المناوئين لوجهة النظر الإيرانية التأكيد على أن استمرار هذه السياسة النووية لها تأثير خطير على الاستقرار الإقليمي، وعلى أمن وسلامة العالم بأسره.

وبالنظر إلى الطبيعة المعقدة والملتهبة للوضع الجيوسياسي والاستراتيجي في المنطقة، يجادل هؤلاء المناوئون بأنه إذا حصلت إيران على أسلحة نووية، أو تواصل مسارها في مسعاها النووي، فستكون لذلك تداعيات لا يمكن التغاضي عنها، ولا ينبغي السكوت عليها؛ لا الآن، ولا في المستقبل. ومن أجل البناء على المنطق الأكثر إقناعًا، لا بد؛ أولاً، من مناقشة مبدأ نظرية الردع؛ وثانيًا، الاستناد إلى حجية أن نظرية الردع من غير المرجح أن تعمل في المنطقة، نسبة لجملة من الأسباب المختلفة، التي سيكون أقلها تشجيع الانتشار في هذا المجال. فمن ناحية، ومن خلال تقديم إقرارات نظرية موضوعية، يُعتقد على نطاق واسع أن الأسلحة النووية كرادع أبقت السلام والاستقرار بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، خلال الصراع الطويل إبان حقبة الحرب الباردة، غير أنه من ناحية أخرى، تسود القناعات أن انتشار الأسلحة النووية أمر خطير للغاية، وهو مدعاة للمزيد من عدم الاستقرار.

وهنا، يأخذ الكثير من المراقبين في الحسبان أن توازن القوى، والتسابق بين إيران وإسرائيل، من شأنه أن يخلق إشكالية وجودية لدول مجلس التعاون الخليجي، التي تعتبر قدراتهما النووية تهديد لاستقرارها ومصالحها الجيوسياسية والاستراتيجية طويلة الأمد. علاوة على ذلك، فإن التفكير في السماح بانتشار الأسلحة النووية في المنطقة؛ إذا حصلت إيران على هذه الأسلحة، سيرتبط بمنطق تعدد الأقطاب، الذي بطبيعته محفز للنزاعات، ويحمل في طياته احتمالية أعلى لسوء التقدير؛ منها، احتمالات وقوع ضربة إسرائيلية وقائية على إيران، التي لا يمكن استبعادها بالنظر إلى سلوك إسرائيل التاريخي وموقفها السياسي من التجارب النووية في المنطقة. وبما أن إيران ليست هي العراق، أو سوريا، وأنها لن تقف مكتوفة الأيدي، فهناك من يعتقد أنه هذه الضربة؛ سواء كانت ضربة تقليدية، أو نووية، فستنجم عنها عواقب وخيمة وآثار مدمرة للاستقرار في المنطقة.

ففي الوقت، الذي تصعب فيه قراءة ما يضمر النظام الإيراني من تصورات المواجهة المحتملة مع إسرائيل، ليس هناك من شك في أنه سيقاوم بقوة من أجل البقاء. وقد يُصبح قرار واشنطن بالتدخل إلى جانب شركائها الإقليميين أكثر سهولة إذا ما اندلعت أعمال عسكرية مباشرة بين إيران وإسرائيل. لكن إذا تجنبت طهران المواجهة المفتوحة، سيصبح مثل هذا التدخل أمرًا صعبًا. وبالمقابل، ونظرًا للتفوق العسكري الهائل، الذي تملكه الولايات المتحدة، فإن المرجح استمرار فرضية تجنب طهران للصدام المباشر مع واشنطن، إلا أنها قد لا تتوقف تمامًا عن ملاحقة شركاء أمريكا، أو مصالحها في المنطقة، كما اتضح من خلال إطلاقها عشرين صاروخًا على مواقع إسرائيلية في هضبة الجولان المحتلة، التي ردت عليها تل أبيب بقصف أهداف إيرانية في سوريا. فمن خلال مثل هذه المناورات، تحاول إيران إرسال رسالة إلى كل من تل أبيب وواشنطن مفادها أن طهران لديها خيارات متاحة يمكن أن تؤذي خصومها بشدة.

بين أوباما وترامب:

إن أبرز ما كشفه بن رودس، مساعد الرئيس باراك أوباما ونائب مستشار الأمن القومي لشؤون الاتصالات الاستراتيجية، في كتابه "العالم كما هو"، الذي أصدرته دار النشر الأمريكية راندوم هاوس، يوم الثلاثاء الموافق 5 يونيو 2018م، واشتمل على 480 صفحة، هو أن التناقضات داخل السياسة الخارجية الأمريكية، تُساهم "في الفصام الأمريكي"، وجعلت من البرنامج النووي الإيراني معضلة جديدة في نسق النظام القانوني الدولي. فقد تناول باستفاضة عملية التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، وإجراء مفاوضات شاقة مع الإيرانيين، ومساومات متعددة مع الحلفاء الأوربيين، التي بلغت ذروتها بالتوقيع الفعلي على الاتفاق.

لقد كانت إدارة أوباما تتوخى تعزيز العناصر الليبرالية داخل إيران من خلال الاتفاق النووي، لكن انسحاب الرئيس ترامب من الاتفاق في 8 مايو 2018م، الذي يبدو أنه كان هدفًا أكثر عمقًا بكثير، وهو إحداث تغيير للنظام في طهران. فالمتاح الآن في حرز السياسة الخارجية لواشنطن، التي تسعى لمعالجة مشاكله العديدة مع إيران، بالعمل العقابي، الذي سيتخذ عقوبات اقتصادية أكثر تشددًا، تؤكد أن مبدأ المواجهة هو نية إدارة ترامب طوال الوقت، والحقيقة أن الولايات المتحدة قد تبنت، بشكل ضمني، أو متعمد، سياسة تغيير النظام في إيران، الأمر الذي يضعها فعليًا في مسار تصادمي مع طهران، وهذا سيعقد من المشهد أكثر.

 بيد أن هذه النية قد تبدو مقامرة كبيرة، والتاريخ قد لا يكون إلى جانب ترامب. لذا، لماذا يقامر ترامب بافتراض أن الشعب الإيراني مهيأ لتغيير النظام؟ أم فقط لأن هذا ما يقوله بعض الصقور المناهضين لإيران، من مستشاريه الرئيسيين، أصحاب الالتزام الأيديولوجي؛ مثل جون بولتون في مجلس الأمن القومي بولتون، وبدرجة أقل، مايك بومبيو، وزير الخارجية. فالفكرة القائلة بأن النظام الإيراني على حافة الهاوية يروج لها ترامب بزعمه أن الغضب الشعبي على وشك دفع ميزان القوى في طهران، وهو يريد التعجيل به. لكن ترامب لم يقدم خطة بديلة لمعالجة الأنشطة النووية الإيرانية في سيناريو ما بعد الصفقة. في الواقع، إذا تركت طهران الصفقة واستأنفت التخصيب النووي على مستوى عال، فإنها يمكن أن تسرع من سلسلة زيادة الانتشار في المنطقة، ومن المحتمل أن تتسبب في رد عسكري إسرائيلي، أو أمريكي، في المستقبل. 

لقد أراد الرئيس ترامب عزل إيران ووضعها تحت طائلة الاتهام بأنها تهدد السلم والأمن الدوليين، من أجل حرمانها من الفوائد، التي كانت تسعى إليها من خطة العمل المشتركة الشاملة. وبينما يقول معارضوه إنه يلعب أوراقه بأسوأ طريقة ممكنة، إذ إنه بإعادة فرض العقوبات، قام بالفعل بالتخلي عن الكثير من نفوذه ضد إيران، إلا أن هذا لا يعني أن طهران ستستفيد من انهيار خطة العمل المشتركة الشاملة، وبالتأكيد ليس من إعادة فرض العقوبات. لكن ما فعله ترامب هو خلق تحديات للولايات المتحدة على الصعيد الدولي، وبالتالي يمكن أن تكون ذات قيمة دبلوماسية لطهران لثلاثة أسباب:

أولاً، بدلاً من استهداف إيران من خلال دورها القيادي التقليدي في الترتيبات العالمية المتعددة الأطراف، سحب الولايات المتحدة من جانب واحد من الاتفاق وتجاهل نصيحة الحلفاء الأوروبيين. لذلك، بدلاً من تحمل وطأة الضغط العالمي، سيكون على إيران مواجهة إدارة أمريكية "مارقة" وفقًا لبعض المحللين الإيرانيين، مع تعاطف العالم مع طهران. ثانيًا، وضع ترامب نفسه على الجانب الخاسر من خطة العمل الشاملة، حيث أن الولايات المتحدة هي الطرف غير المسؤول الذي يدمر الاتفاقية، وأن إيران هي الطرف الذي يفي بالتزاماته. وثالثًا، سد الفجوة بين الدعاية المعادية لأمريكا والموقف الأمريكي الرسمي للجمهور الإيراني. بالكاد يستطيع المرء سماع صوت ينتقد الحكومة الإيرانية داخل البلاد لأن اللوم يقع مباشرة على الولايات المتحدة بسبب احتمال انهيار الاتفاق.

لهذا، قد لا يكون قرار الرئيس ترامب بالانسحاب من خطة العمل المشتركة، والانتهاك الصريح لأحكام الاتفاقية، بمثابة هدية لطهران، ولكنه على الأقل ضار بالولايات المتحدة، كما هو الحال بالنسبة لإيران. إنه يعزل الولايات المتحدة، ويضعها كعقبة للصفقة، ويسيء إليها كشريك تفاوضي جدير بالثقة؛ على الأقل مع إيران، إن لم يكن على نطاق أوسع. إنه يفصل واشنطن من حلفائها الأوروبيين، إذ إن جميعهم يعارضون بشدة هذه الخطوة، بينما يخلق فرصة لإيران للتعاون بشكل أوثق مع أوروبا وروسيا والصين، بترتيبات تستثني الولايات المتحدة. وبالتالي، تتيح لإيران فرصة للهرب من القيود الحاسمة والتدقيق المكثف، الذي وضعته خطة العمل الشاملة المشتركة. وسيتطلب ذلك من الولايات المتحدة السعي لفرض عقوبات إضافية في بيئة لا يوجد فيها تعاطف كبير مع الموقف الأمريكي وبعض الاحترام لامتثال إيران للاتفاق. 

إن الانسحاب يثير احتمال وجود عالم تكون فيه العقوبات الأمريكية غير فعالة بينما يتقدم برنامج إيران النووي بثبات. إنه يشير إلى العودة إلى نهج المواجهة، الذي أخفق خلال أكثر من عشر سنوات في وقف التقدم النووي الإيراني. لذا، يصف المعارضون لقرار الرئيس ترمب بالخطأ الاستراتيجي، ويتوقعون أن تكون له ثلاث عواقب رئيسية:

1)    أنه يقوض المصالح القومية الأمريكية بشكل كبير من خلال تآكل مصداقيتها، من خلال تقسيم الولايات المتحدة من حلفائها الأوروبيين والمجتمع الدولي، من أجل التوصل إلى اتفاق يحجب بفاعلية التطلعات النووية الإيرانية على مستوى الأسلحة، وبإهدار مليارات الدولارات من رأس المال السياسي والمالي والبشري، استثمرتها الولايات المتحدة للوصول إلى خطة العمل المشتركة الشاملة.

 2) يؤدي إلى تآكل ركائز النظام الدولي القائم على القواعد، حيث إنه يشكك في السلطة المستقلة والمصداقية الدبلوماسية للدول الأوروبية، خاصة إذا لم تكن قادرة على حماية الاتفاق من الانتهاكات الأمريكية. وبالمثل، فإن قرار ترامب يقوض قيمة وأهمية تعددية الأطراف والمؤسسات الدولية، خاصة تلك التي تعمل من أجل النظام العالمي لعدم الانتشار النووي مثل الوكالة الدولية للطاقة الذرية. 

3) أنه يمثل نقطة تحول في تاريخ ما بعد الثورة لإيران الحديثة كأول تجربة مريرة كبيرة لشباب البلاد مع الولايات المتحدة، وأول مفاوضات عامة مباشرة مع أمريكا - تأجيج القومية الإيرانية، مما يقوض قيمة إشراك الغرب، وتحويل الخطاب الداخلي إلى موقف متشدد. 

القرار والاستقرار:

يرى العديد من المراقبين أن الاستقرار كمفهوم منظم للعلاقات الإقليمية يُجَابه بالكثير من التحديات المتنامية. ولكن غالبًا ما يتم استخدام هذا المفهوم بشكل غير مناسب عند التقييم الدقيق للسياسات، التي تقود إلى الاستقرار. وعليه، لا ينبغي أن تكون لغة الترميز المبهمة في التصريحات السياسية والبيانات الإعلامية هي المعتمدة وحدها للحفاظ على الوضع الراهن. فالاستقرار يبدو أكثر قابلية للتطبيق على نطاق واسع، أي غياب الحرب الكبرى؛ عند تجنب التركيز المفرط للقوة في أي دولة من دول المنطقة. والتمسك بالاستقلال السياسي والسلامة الإقليمية للجهات الفاعلة الموجودة داخل النظام السياسي لهذه الدول. إذ يفترض الاستقرار موافقة على الترتيبات والقواعد المتفق عليها داخل نظام دولي، أو نظام إقليمي متميز، الذي يفترض ضبط النفس في ممارسة القوة من الجانب الذي يملكها، والذي لا يملكها.

ومع ذلك، فإن هذه المعايير تسلط الضوء على نقطتين هامتين حول أوجه القصور في تعريفات الاستقرار في المنطقة. أولاً، نادرًا ما يكون توزيع القوة في النظام الدولي ثابتًا . ثانيًا، وغالباً ما تطرح الدول تصورات متباينة للغاية حول النظام والاستراتيجية الوطنية، حتى لو لم ينتج عن ذلك بالضرورة نزاع مسلح أو تحديات علنية للوضع الراهن. وفي الوقت نفسه، فإن لدى القوى الراسخة مصلحة متأصلة في السعي للحفاظ على ميزة القوة لديها، كلما أمكن ذلك، على الرغم من أن البعض يدركون، بشكل متزايد، ضرورة تطوير قواعد جديدة من شأنها أن تمكّن، على الأرجح، عمليات انتقال استراتيجية أقل اضطرابًا.

وبالنسبة لمنطقة الخليج، فمن الواضح أن النظام والاستقرار هما عنصران أساسيان في حسابات التفكير والسياسة في جميع الدول تقريبًا. وهكذا، يظل السعي وراء استقرار الأوضاع القائمة، والاهتمام بمقتضيات الأمن الداخلي، يمثلان قضية جوهرية في السياسة الخليجية. لكن كيف يتم تشكيل القواعد وإضفاء الطابع المؤسسي عليها؟ هل يمكن للمشاركين الآخرين في الدائرة الاستراتيجية الجغرافية، إسرائيل وإيران وتركيا، أو الدول العربية، التي تسعى إلى نفوذ أكبر ضمن النظام القائم؛ مثل مصر، أو العراق وسوريا، أو حتى تلك البعيدة، كالولايات المتحدة، وروسيا الاتحادية، وجمهورية الصين الشعبية، والتي عليها أن توضح مصالحها في المنطقة دون تحدي المعايير القانونية، أو اللجوء إلى الإكراه الواضح؟

إن هذه القضايا هي الآن محور الاهتمام السياسي والإستراتيجي في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه، لدى العديد من الدول العربية طموحات أوسع من أجل مزيد من الاستقلالية وتعزيز حرية المشاركة السياسية الإقليمية. ففي الوقت الحاضر، وبالنسبة للمستقبل المنظور، سيستمر تحديد ديناميكيات الأمن الإقليمي، بشكل أساسي، من قبل دول الجوار العربي. إذ تتركز معظم القدرات العسكرية الإقليمية الحقيقية عند هذه الدول؛ وهي تسعى إلى دعم وتوسيع نطاق نفوذها الاقتصادي والسياسي والأمني ​​عبر هذه المنطقة الحيوية. ولكن هل يمكن استمرار قوة هذا النفوذ إلى أجل غير مسمى، وعلى أي أساس؟

إن طرح هذه الأسئلة سيستمر، في ظل غياب دور الدول العربية الفاعل. فهل لا يزال هناك أمل في أن تحصل هذه الدول على الاستقرار الذي تنشده؟ وهل يمكن السيطرة على قوى الاضطراب والفوضى، وهل ستتمكن الدول من العمل في تناغم للتغلب على مثل هذه التهديدات؟ أم هل تضيق الرؤى الخاصة بالمصلحة الذاتية الوطنية على حسابات الجماعية القومية؟ كيف ستنظر العواصم العربية إلى التزاماتها ومسؤولياتها من الدرجة الأولى، خاصة وأن الاتجاهات الماثلة ليست مواتية؟ وهل ستتمكن الدول العربية من التعامل مع المشكلات الجماعية للأمن والاستقرار بالأدوات التقليدية، أو لا بد من تصميم مناهج جديدة، لا سيما عندما يكون هناك خطر نووي؟

على الرغم من المخاوف المتزايدة بشأن القلق من عدم الاستقرار في دول الخليج خاصة، إلا أن هذه الدول، في الغالب، مزدهرة وتتميز بتزايد التواصل الاجتماعي والتكنولوجي والاقتصادي عبر الحدود الوطنية، وتبدو أقل اضطرابًا بكثير من المواقع الأخرى ذات الأهمية الاستراتيجية في الشرق الأوسط، الذي هو بعيد كل البعد عن أن يكون هادئًا. وهناك علامات متزايدة على عدم الثقة الاستراتيجية الطويلة الأجل، والمنافسة السياسية والعسكرية المتزايدة، وهناك غياب مستمر للآليات الفعالة للتصدي للمخاطر المحتملة على السلام والأمن. كما أنه من غير المؤكد أن دول الخليج تتفق جميعها على المعنى الدقيق للاستقرار الإقليمي. لهذا، هناك مثل هذا القلق على نطاق واسع حول المستقبل، حتى عندما تبدو الظروف الموضوعية مواتية للاستقرار. فهل يمكننا تحديد المخاطر الأساسية على النظام الإقليمي والعواقب المحتملة إذا أثبتت الدول عدم قدرتها على إدارة هذه المخاطر؟

 الانتشار النووي وآثاره المحتملة:

ومن هنا، فإن أمر الاهتمام بأسباب الانتشار يُصبح أكثر إلحاحًا، وفقًا لما لا يُرجح أن يعمل الردع على تحقيقه في الوقت الراهن في المنطقة، لأن الاقتراح القائل إن الأسلحة النووية تعزز السلام والاستقرار لا يُنظر إليه على الوجه الصحيح كحقيقة أصولية، بل كتفسير يستند إلى حد كبير إلى دليل حالة واحدة نتجت عنها الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي. وبينما جادل الكثيرون بأن الأسلحة النووية حافظت على السلام خلال الحرب الباردة، هناك مجموعة متنامية من الأدبيات، التي تظهر أن ظهور العديد من المشاكل الأمنية النووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، والتي كان من الممكن أن تسبب حوادث مدمرة. والسبب الإضافي هو أن العديد من الأسباب التقنية والسياسية والظرفية للردع النووي المستقر قد تكون مفقودة في الشرق الأوسط حيث يوجد احتمال كبير لاستخدام الأسلحة النووية. ويؤكد ذلك أن الرهان المتراكم والقدرة الأقل للمناورة في المناطق المعرضة للصراع، والقيادة المتقلبة، وعدم الاستقرار الإقليمي، كلها تقوض مصداقية نظرية الردع.

إن فكرة التصعيد غير المقصود، التي تقول إن ظاهرة الحرب، وسلوك المنظمات العسكرية، والمعضلة الأمنية، التي توجد حتى في حالة التكافؤ النووي، هي سبب للإحباط العميق. ففي المجال النووي، تبدو حالة باكستان والهند وثيقة الصلة بدعم حالة التصعيد غير المقصود، إذ خاضت باكستان حرب كارجيل مع الهند تحت مظلة الأسلحة النووية، التي كان يمكن أن تتحول؛ عن قصد، أو غير قصد، إلى حرب نووية. وبالمثل، فإن تسلح باكستان المسلحة بالأسلحة النووية، زادت من ثقتها في أنها يمكن أن ترفع درجات الصراع مع الهند. لذا، فإن مفارقة عدم الاستقرار، تؤكد أن حربًا تقليدية محدودة، يمكن أن يتحول الصراع فيها إلى نووي، أمر وارد في ظل وجود الأسلحة النووية.

من هذا المنظور، وبما أن الحالة في الشرق الأوسط ما تزال بعيدة عن الاستقرار، فيمكن لأي حروب صغيرة وصراع تقليدي بين إيران وإسرائيل أن يؤدي؛ عن قصد، أو غير قصد، إلى تصعيد نووي خطير. ومن المرجح دائمًا أن تقع الحوادث النووية، والاستخدام غير المرخص به للأسلحة النووية، في بيئة إقليمية أكثر توترًا وغير مستقرة. وبالتالي، فإن كل هذه التعقيدات في النظام الاستراتيجي لدول المنطقة تجعل احتمال وجود ردع عملي قابلاً للتساؤل بدرجة كبيرة، ويصبح الفشل أكثر احتمالاً. علاوة على ذلك، من المرجح أن يؤدي سعي العديد من دول المنطقة إلى التسابق في الحصول على القدرات النووية إلى مزيد من المعضلات الأمنية، لها ولغيرها، بدلاً من من الجهد الذي ينبغي أن يتجه إلى إحداث توازن حقيقي وموضوعي للقوى في المنطقة يحقق لها الاستقرار المنشود.

الانسحاب والقانون الدولي:

لقد شهد النظام الدولي ثلاث تحوّلات كبرى، على الأقل منذ نهاية ثمانينيات القرن العشرين، دون إثارة اضطراب حاد في النظام، أو اللجوء إلى القوة: انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية المنطق العدائي العالمي للحرب الباردة؛ والتوسع في التجارة والاستثمار الدوليين، على أساس العولمة وثورة الاتصالات؛ والظهور المتزامن لاقتصادات آسيا، وعلى رأسها الصين. لذا، فإن عودة إيران كقوة رئيسية شاملة في المنطقة تشكل رابع تغيير منهجي من هذا القبيل. وبالإضافة إلى ذلك، فإن استمرار إسرائيل، باعتبارها دولة احتلال؛ لا تتماشى سياساتها مع القواعد الحالية للنظام الدولي، يمثل تهديدًا متزايدًا للاستقرار والأمن الإقليميين، ولأنظمة عدم الانتشار، التي توفر ذريعة لإيران، باعتبارها دولة ممانعة؛ أن تنشط في بناء قدراتها العسكرية، بما في ذلك تعزيز طموحاتها النووية.

والآن، بعد أن قام الرئيس ترامب بسحب التزام الولايات المتحدة من الصفقة بشكل كامل، ثارت نقاشات جدية حول جدوى الالتزامات الثنائية والجماعية في ظل قانون دولي تتهدده حالات "الفصام" الإدارات المختلفة في البلد الواحد. فبينما ساد في دول الخليج العربية ارتياح، يشوبه غير قليل من الحذر، تبخرت الآمال الدبلوماسية في أوروبا الغربية للتعاطي الإيجابي بين الخصمين اللدودين؛ واشنطن وطهران. لماذا؟ لأن قادة إيران، وغيرها من دول العالم، سيجدون، من الآن فصاعدًا، صعوبة في الثقة في قدرة واشنطن على الحفاظ على كلمتها. وقول الأوربيون، وتشاطرهم في ذلك الأمم المتحدة، إن الاتفاق النووي لعام 2015م، أثبت وفاء إيران بوعدها الأساس، وفقًا لرأي معظم المراقبين الموضوعيين. إذ أوقف اندفاع طهران للحصول على سلاح نووي، لأنها لو فعلت فسيتم اكتشافها، وذلك بفضل القيود المفروضة عليها بموجب الاتفاق.

لقد أثار قرار ترامب نزاعًا دبلوماسيًا واقتصاديًا مع أوروبا، وكذلك مع الصين وروسيا، إذ أوضح جميع الموقعين الآخرين على الصفقة أنهم سيقفون إلى جانب الاتفاق على الرغم من الانسحاب الأمريكي. ويبقى أن نرى ما إذا كانوا سيتخذون أي إجراءات لمواجهة العقوبات الأمريكية، التي من شأنها منع شركاتهم ومصارفهم من التعامل مع إيران، وتحفيز طهران على الاستمرار في الالتزام. ففي حين أن الانسحاب الأميركي لا يعني نهاية الاتفاق النووي في هذا الوقت، إلا أنه يمكن أن يؤدي إلى سلسلة من الأحداث، التي ستؤدي في النهاية إلى تفكيك الجهود متعددة الأطراف. وستسعى حكومة روحاني في الوقت الحالي، إلى البقاء في الصفقة، والعمل مع خمسة موقّعين آخرين على الاتفاقية؛ فرنسا، وألمانيا، وبريطانيا، وروسيا، والصين، لتقليل تأثير العقوبات الأمريكية و"عزل" واشنطن دبلوماسيًا.

ربما كانت للعواصم العربية الخليجية قراءتها الخاصة، وتقديراتها المنتظرة لفوائد ما بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، ولكن ردود الفعل الغربية عبرت عن مواقف مغايرة زاعمة بأن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق الدولي النووي مع إيران ألحق ضررًا كبيرًا بالمجتمع الدولي. فقد تحدثت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بعبارات واضحة، في خطاب لها أمام مؤتمر الكاثوليك، يوم الجمعة 11 مايو 2018م، في مدينة مونستر بشمال غرب ألمانيا، عن انسحاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حيث وصفت الخطوة بأنها "تلحق ضررًا كبيرًا بالمجتمع الدولي".وقالت إن القرار يخرق الثقة بالنظام العالمي، مضيفة "لم يكن صحيحًا أن يتم إلغاء اتفاق تمت المصادقة عليه من قبل مجلس الأمن الدولي". وفي ذات السياق، قالت الخارجية الروسية، يوم الثلاثاء 8 مايو 2018م، إن الخطوة الأمريكية "هي انتهاك صارخ للقانون الدولي وتقوّض وزن الوكالة الدولية للطاقة الذرية"، وإن "الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي مع إيران يشكّل تهديدًا للأمن الدولي."

الخاتمة:

من خلال النظر الفاحص لهذه القضية، التي أشَّرَ إليها عنوان هذا المقال، من جميع الجوانب، يتضح أن برنامج إيران النووي سيظل يُشَكِّل هاجسًا أمنيًا لدول المنطقة، ستكون له تأثيرات مزعزعة للغاية على مواضعات القانون الدولي. على الرغم من أن نظرية الردع قد تكون هي الحافز لبرنامج إيران النووي، إلا أن مبررات الانتشار، التي تفترض أن المنطقة ستصبح أكثر عرضة للنزاعات إذا حصلت إيران على أسلحة نووية، تبدو أكثر إقناعًا. إن مخاوف الجوار الإقليمي من طموحات الهيمنة الإيرانية وظهور معضلات أمنية جديدة تتمثل في سباق التسلح النووي، الذي يمكن أن يؤدي إلى سيناريو إقليمي متعدد الأقطاب، وغير مستقر إلى حد كبير.

علاوة على ذلك، فإن وجود نظام إقليمي معقد وغير مستقر، وعدم وجود بنية تحتية للاتصالات بين إيران وإسرائيل، فإن ضربة استباقية محتملة قد تجعل المعادلة أكثر تدميرًا، وربما، كما يقول بعض المحللين، قد تُشعل حربًا نووية لا تُبقي ولا تزر. رغم أن منطق التدخل المشروع يستند على الافتراض بأنه يمكن تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة من خلال تعزيز قدرة البرامج والأنظمة والمؤسسات القائمة واستخدامها بشكل أكثر فعالية. وذلك بتحسين أنظمة الإنذار المبكر والاستجابة المبكرة، بحيث يمكن للحكومات أن تتصرف بسرعة بشأن المعلومات المقدمة بطريقة تساعد على منع النزاعات أو حلها. وبهذا، سيكون لدى الحكومات الوطنية وعي وفهم أكبر للقضايا الأمنية، بحيث تكون جاهزة بشكل أفضل للتعامل مع التهديدات العابرة للحدود، وبقدرة أكثر فعالية.

إن انسحاب ترامب قد يبدو خبرًا مروعًا بالنسبة لطهران، كما هو مزعج لحلفاء واشنطن في أوربا الغربية، التي تخشى أن يُسَرِّع من انتشار الأسلحة النووية، إلا أنه أوجد قدرًا من الرضا السياسي في عواصم الخليج العربية، واعتبرته تل أبيب انجازًا خاصًا بها. ولكن، هل سيضمن الاستقرار في المنطقة؟ وهل يمكن للجهود الأمريكية المتجددة لمعاقبة الاقتصاد الإيراني أن تخلق غضبًا عارمًا داخل فئات الشعب الإيراني؛ لدرجة أنها ستسقط النظام من الداخل؟ إذ يبدو أن هذا هو الاحتمال، الذي تبني عليه الإدارة الأمريكية سياساتها، وكذا آمالها، لكنه يمثل مراهنة كبيرة وغير محسومة العواقب. إذ إن الاحتمال الآخر هو أن النظام في طهران سينشط أكثر في إلقاء اللوم على الولايات المتحدة على أنها سبب معاناة الشعب الإيراني، كما فعل في الماضي.

مجلة آراء حول الخليج