; logged out
الرئيسية / تقرير اللجنة البحرينية لتقصي الحقائق.. هل يمثل بداية مرحلة جديدة؟

العدد 88

تقرير اللجنة البحرينية لتقصي الحقائق.. هل يمثل بداية مرحلة جديدة؟

الأحد، 01 كانون2/يناير 2012

ليست مبالغة القول إن ما تشهده المنطقة العربية منذ بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة يُعد مرحلة مخاض جديدة تعيد ترتيب أوضاع المنطقة وتحديد قسماتها ورسم خطوط مستقبلها، في ضوء ما تشهده من تحركات مجتمعية ومطالب شعبية تعيد التأكيد على حقوقها وتدافع عن حرياتها في مواجهة غلو النظم الحاكمة التي مارست ضد شعوبها أقصى درجات الامتهان والعنف.

وإذا كان هذا الرأي يصدق بكل معانيه على دول عانى شعبها من بطش حكمها كما هو الحال في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، إلا أنه من ناحية أخرى يظل هذا الرأي محكوماً بتطورات الواقع ومواقف سياسات النظام الحاكم من حقوق مواطنيه. فإذا كان صحيحاً أن ثمة تشابهات ومقاربات بين الدول العربية كلها، فإنه من الصحيح أيضاً أن ثمة تباينات واختلافات في سياسات هذه الدول سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي. فإذا كانت الثروات النفطية في دول مجلس التعاون الخليجي قد ساعدت نظمها الحاكمة على تلبية احتياجات شعوبها ومتطلباتها والعمل على الارتقاء بمستويات معيشتها والتفاعل بإيجابية مع تطلعاتها، فإنه من غير الصحيح أن يُقتصر تفسير ما حققته تلك البلدان من نهضة مجتمعية وتنمية اقتصادية ورفاهية اجتماعية على الفوائض النفطية، خاصة أن ثمة دولاً أخرى تتمتع بثروات نفطية هائلة كما هو الحال في ليبيا والجزائر، ورغم ذلك عانت شعوبها أقصى درجات الفقر والحرمان، وهو ما يجد تفسيره جلياً في طبيعة النظم الحاكمة وممارساتها وعلاقتها مع شعوبها.

وفي حقيقة الأمر، تعكس هذه المقدمة أهمية موضوع التقرير الذي يتناول واحدة من الأزمات المجتمعية التي شهدتها أحد البلدان العربية وتحديداً الخليجية تزامناً مع ما أُطلق عليه (الربيع العربي)، فقد شهدت مملكة البحرين منذ الرابع عشر من فبراير وحتى أواخر مارس 2011 احتجاجات شعبية تصاعدت مطالبها لتصل إلى إسقاط النظام الحاكم، وإعادة ترتيب البيت البحريني بصورة ترضي بعض فئات الشعب وتتفق مع طموحات بعض دول الجوار في إشارة واضحة إلى إيران. ومن دون الدخول في تفصيل الأزمة ومواقف أطرافها وتداعياتها على المجتمع البحريني، وبعيداً عن رصد مواقف الأطراف الدولية والإقليمية المعنية، يأتي صدور تقرير اللجنة البحرينية لتقصي الحقائق التي شُكلت بمقتضى الأمر الملكي رقم 28 لسنة 2011 في أواخر يوليو 2011، بما تضمنه من إحاطة شاملة بأبعاد الأزمة منذ بدايتها ورصد وتسجيل دقيق لكافة جوانبها وتحليل كافة السياسات والممارسات التي صاحبتها، وتقديم رؤى وتوصيات بشأن كافة القضايا التي تناولها، ليفتح بذلك مجالاً واسعاً لإثارة العديد من التساؤلات والاستفهامات، أبرزها: هل يمثل صدور التقرير بداية للتوصل إلى حلول ناجعة للأزمة البحرينية؟ وما موقف القيادة البحرينية مما تضمنه التقرير من إدانات وما كشفه من انتهاكات؟ وما موقف القوى السياسية المعارضة؟ وإلى أي مدى يمكن أن يمثل التقرير نقطة انطلاق لتقارب وجهات نظري طرفي الأزمة (الحكومة والمعارضة)؟

اتسم تقرير اللجنة البحرينية لتقصي الحقائق بأقصى درجات الشفافية والنزاهة والحياد والموضوعية

وفي إطار الإجابة عن هذه التساؤلات، يجدر بنا الإشارة إلى عدد من الملاحظات المهمة:

أولاً: تضمن التقرير الصادر عن اللجنة تنفيذاً دقيقاً للتكليفات الواردة في المادة التاسعة من الأمر الملكي الخاص بتشكيلها، فقد تضمن التقرير اثني عشر فصلاً يبدأ بمقدمة حول اللجنة وأساليب عملها، ويتبعها استعراض لتاريخ البحرين الحديث ونظام الحكم فيها، ووصف للأنظمة القانونية المطبقة خلال الأحداث محل التحقيق، وتعريف بأجهزة إنفاذ القانون في البحرين، قبل أن ينتقل إلى سرد مفصل للأحداث التي وقعت في البحرين بعامة خلال الفترة من مطلع فبراير إلى الحادي والثلاثين من مارس 2011، وللأحداث التي وقعت في مجمع السلمانية الطبي على وجه الخصوص، تمهيداً لتقصي حقيقة وقوع انتهاكات لحقوق الإنسان تكون قد اقترفتها الأجهزة الحكومية ضد الأفراد، وخاصة في ما يتعلق بحالات الوفاة التي وقعت خلال الأحداث محل التحقيق، وحالات استخدام القوة من قبل الأجهزة الحكومية، وأسلوب تنفيذ أوامر القبض، ومعاملة الأشخاص الموقوفين، وحالات الاختفاء القسري. كما يتناول التقرير تقصي حالات هدم المباني الدينية، والفصل من العمل في القطاعين العام والخاص، وفصل الطلاب وتعليق المنح الدراسية. وينتقل التقرير بعد ذلك لمناقشة حالات انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها أفراد ضد أفراد آخرين، وذلك من خلال استعراض الهجمات التي تعرض إليها كل من العمال الأجانب المقيمين في البحرين ومدنيين من المواطنين السنة. وخصص التقرير فصلاً للبحث في الادعاءات بتدخل قوى وأطراف خارجية في الأحداث التي وقعت في البحرين، وفصل آخر لبحث المضايقات من قبل وسائل الإعلام. ثم يستعرض التقرير الخطوات التي اتخذتها الحكومة البحرينية أو تعهدت باتخاذها لمعالجة بعض انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت أو لمعالجة بعض أوجه القصور التي تعاني منها بعض التشريعات المحلية. ومن الجدير بالذكر أن اللجنة في سبيل إعداد هذا التقرير، تلقت ما يقرب من تسعة آلاف شكوى وإفادة وشهادة، وأجرت ما يتجاوز الخمسة آلاف مقابلة فردية، وعقدت عشرات الاجتماعات، وقامت بعشرات المعاينات في مختلف أرجاء البلد.

التقرير يجب أن يمثل الفرصة التاريخية واللحظة المناسبة لإعادة تصحيح المسارات لجميع أطراف الأزمة

ثانياً: اتسم التقرير بأقصى درجات الشفافية والنزاهة والحياد والموضوعية، تُدلل على ذلك الإشادات الدولية والإقليمية والمحلية بشأن منهجيته العلمية واستعراضه للحقائق واستخلاصه للنتائج وطرحه للتوصيات والمقترحات. ففي الوقت الذي حمّل فيه التقرير الحكومة البحرينية المسؤولية الكاملة عن التجاوزات القانونية والانتهاكات الحقوقية والاعتداءات البدنية واللفظية على بعض المواطنين والمشاركين في تلك التظاهرات، بل توسعها في تلك الانتهاكات لتصل إلى ذويهم وأقاربهم، نجده في الوقت ذاته يدين ما حدث في مجمع السلمانية من جانب الطاقم الطبي الذي خلط بين انتماءاته السياسية ودوره ومسؤولياته الطبية. فضلاً عن ذلك كان التقرير واضحاً في حياديته عند تناوله قضية التدخل الإيراني في الأزمة البحرينية، وكذلك في تقييمه لموقف قوات (درع الجزيرة) التي أشاد التقرير بموقفها واحترامها لحقوق الإنسان، فلم يسجل التقرير أية ممارسات أو انتهاكات من جانبها.

ثالثاً: ليست مصادفة أن يلقى التقرير ذلك القبول الواسع سواء من جانب القيادة السياسية، حيث أشاد ملك البحرين في كلمته بحيادية التقرير بقوله (وجدتم تقصيراً حقيقياً من جانب بعض الأجهزة الحكومية، وبالأخص في عدم منع حالات من التعامل الأمني المفرط وسوء معاملة الأشخاص قيد الاحتجاز من قبل البعض)، أو من جانب الحكومة البحرينية الذي عبّر بيانها عن أن: (هذا التقرير يعتبر فرصة لنا جميعاً حكومة ومؤسسات مجتمع مدني للوقوف على الدروس التي يمكن استخلاصها من هذه الحوادث، وتحديد رؤيتنا الاستشرافية لما نرجو أن يكون عليه مستقبل وطننا). ويُفسر هذا القبول في ضوء حقيقتين: الأولى: إنها المرة الأولى التي تبادر الدولة من تلقاء نفسها ومن دون ضغوط إقليمية أو دولية إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية، تم اختيار أعضاءئها بموضوعية وكفاءة عالية، ليس فقط كما أشار رئيس اللجنة البروفيسور شريف بسيوني للاستفادة من علمهم وخبرتهم وتاريخهم وحسب. ولكن، بهدف ضمان الحيادية والموضوعية، وهو ما عبر عنه العاهل البحريني بقوله (إن أية حكومة لديها الرغبة الصادقة في الإصلاح والتقدم، يجب أن تعي الفائدة من النقد الموضوعي الهادف والبناء). الحقيقة الثانية، إنها المرة الأولى أيضاً التي تقبل فيها حكومة لا تزال تمارس سلطتها، بأن تفتح كافة ملفاتها، وأن تستقبل كل أنواع الاتهام الموجه ضدها، وأن تسهل مهمة عمل من يسعى إلى تقييم أدائها، وربما إقامة الحجة عليها رغم إدراكها لحساسية الموقف وتقديرها لخطورة ما قد يترتب على ذلك من نتائج.

تقرير اللجنة البحرينية حظي بإشادات دولية وإقليمية ومحلية بشأن منهجيته العلمية

رابعاً: إذا كانت الحكومة البحرينية قد أقرت بمسؤوليتها عما ارتكب من انتهاكات وما وقع من تجاوزات، وهو ما عبّر عنه صراحة العاهل البحريني في خطابه بقوله (إن مملكة البحرين تتحمل مسؤولياتها الدولية بكل أمانة)، فإنه من المهم لضمان الوصول إلى توافق مجتمعي يُخرج البلاد من حالة الاستقطاب التي عاشتها خلال فترة الأزمة، وكادت تعصف بمقدرات شعبها وطموحاته، أن تحمل المعارضة البحرينية أيضاً وبجميع فئاتها وطوائفها وانتماءاتها الجانب الآخر من المسؤولية في القبول بما جاء في التقرير من حقائق وما تضمنه من رؤى ومطالبات وما طرحه من توصيات يمكن اعتبارها بمثابة حزمة من إجراءات بناء الثقة بين الطرفين للجلوس سوياً إلى مائدة الحوار بشأن كيفية وضع محتويات التقرير وتوصياته موضع التطبيق، سعياً إلى تضميد جراح الماضي وآلامه من ناحية، واستكمال خطوات الإصلاح وبرامجه من ناحية أخرى. فالأوطان لا تُبنى بالشعارات والخطابات الجوفاء ولا المزايدات الحمقاء، وإنما تُبنى بالأفعال المصدقّة للأقوال، والخطوات المنفذّة للسياسات، والإنجازات المطبقّة للاستراتيجيات.

خامساً: من المهم لدى طرفي الأزمة أن يدركا أن تطبيق ما تضمنه التقرير من توصيات يظل مرهوناً بقدرتهما على الحفاظ على صحة المكتوب وحكمة المعقول، بمعنى أكثر وضوحاً أن يراعي الطرفان أنهما يستكملان بناء دولتهما على أسس راسخة تحددت بمقتضى الميثاق الوطني الذي حظي بموافقة 98 في المائة من أبناء الشعب البحريني. وهو ما يعني صراحة أن التقرير يجب أن يمثل الفرصة التاريخية واللحظة المناسبة لإعادة تصحيح المسارات التي انتهجها الطرفان حماية لأمن الوطن وأمان المواطن.

صفوة القول أنه إذا كانت خبرة الماضي قد شهدت آلاماً وتضحيات، فإن رسم خطى المستقبل انطلاقاً من حقائق الحاضر يستوجب مزيداً من تبادل الآراء وصولاً الى توافقات مجتمعية تمثل أسس البناء المستهدف لدولة عصرية تُراعي الحقوق وتحمي الحريات وتنهض بمسؤولياتها الوطنية.

مقالات لنفس الكاتب