; logged out
الرئيسية / موسكو حاضرة لملء فراغ الشرق الأوسط والصراع الأطلسي-الروسي مرشح للتصاعد

العدد 134

موسكو حاضرة لملء فراغ الشرق الأوسط والصراع الأطلسي-الروسي مرشح للتصاعد

الثلاثاء، 05 شباط/فبراير 2019

على الرغم من أن الصراع الأطلسي-الروسي يمتد منذ انتهاء حقبة الحرب الباردة، إذ أنه في الوقت الذي بدأ حلف الناتو انتهاج سياسات جديدة من أجل التأقلم على واقع ما بعد انتهاء تلك الحقبة والتي شهدت تساؤلات حول جدوى استمرار الحلف ما دام أن الاتحاد السوفيتي قد انتهى، بل وظهور انتقادات لدور الحلف والتي بلغت ذروتها مع وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، والتي كانت اختبارًا حقيقيًا للمنظمة الدفاعية الأقوى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، فإن ذلك الصراع ظل ذي طابع دولي ولم يطل المنطقة العربية بشكل مباشر، إلا أن التدخل الروسي في الأزمة السورية عام 2015م، كان إيذانًا بأقلمة ذلك الصراع، في ظل توتر جبهتي الحلف الجنوبية والغربية وهو ما أكده أحد مسؤولي الحلف بالقول "اعتدنا الحديث عن التهديد الشرقي والتهديد الجنوبي ولكن الجبهتين تشابكتا الآن"، ويعني أن توتر الجبهة الشرقية "أوكرانيا" تعد تهديدًا تقليديًا بينما يعد تدخل روسيا في الأزمة السورية" الجبهة الجنوبية" كان تحديًا جديدًا للحلف.
ويثير ما سبق أربعة تساؤلات:
أولها: ما هي مظاهر الصراع الأطلسي-الروسي في الشرق الأوسط والمنطقة العربية؟
وثانيها: ما هي آليات إدارة ذلك الصراع؟
وثالثها: ما هي مظاهر تأثير الصراع الأطلسي-الروسي على الأمن الإقليمي؟
ورابعها: ما هي خيارات دول الخليج تجاه ذلك الصراع؟

أولاً: مظاهر الصراع الأطلسي-الروسي في الشرق الأوسط والمنطقة العربية

مع أن الصراع الأطلسي –الروسي هو أحد نتائج انتهاء حقبة الحرب الباردة، ففي الوقت الذي تسعى فيه روسيا إلى استعادة مجد الاتحاد السوفيتي السابق نجد أن حلف الناتو الذي أثيرت بشأنه العديد من التساؤلات في أعقاب انتهاء حقبة تلك الحرب قد سعى لتأسيس شراكات في مناطق تحتوي على مصالح جوهرية لأعضائه ومنها منطقة الشرق الأوسط والتي يحظى فيها الحلف بمبادرتين وهما مبادرة الحوار المتوسطي التي أعلنها الحلف للحوار عام 1994م، مع سبع دول متوسطية وهي" مصر والأردن والجزائر والمغرب وتونس وموريتانيا وإسرائيل"، ومبادرة استانبول للتعاون مع دول الخليج العربي وشمال إفريقيا التي أطلقها الحلف عام 2004م، وانضمت إليها أربع دول خليجية وهي الإمارات والبحرين والكويت وقطر، بينما بقيت كل من المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان خارج إطار تلك المبادرة، وبالتالي فإنه من منظور الحلف فإن تمدد روسيا في تلك المناطق يعد تحديًا له، ففي اجتماعات الجمعية البرلمانية للحلف التي عقدت برومانيا في أكتوبر 2017م، قال ينس ستولتنبرج الأمين العام لحلف الناتو " نحن نتابع عن كثب الوضع في ليبيا في سياق أكثر عمومية ولقد شاهدنا التواجد الروسي في سوريا حيث ازداد الوضع تعقيدًا ويجب تجنب ذلك في ليبيا" ، وواقع الأمر أن ذلك التصريح لم يأت من فراغ إذ لوحظ تنامي الاهتمام الروسي بدول الشمال الإفريقي ففي ليبيا تشير التقارير إلى الدعم الروسي للقائد العام للجيش الليبي المشير خليفة حفتر ومنها تقديم روسيا حوالي 3 مليارات دينار ليبي إلى مصرف ليبيا المركزي وهو التابع للقائد خليفة حفتر، فضلاً عن إرسال فنيين من أجل تجديد وتطوير القدرات العسكرية للجيش الوطني الليبي، الجدير بالذكر أن الجيش الليبي يعتمد بشكل كامل على الأسلحة السوفيتية، من ناحية أخرى فقد قام خليفة حفتر بزيارة روسيا عدة مرات خلال السنوات الماضية، بالإضافة إلى دعم روسيا لسيف الإسلام القذافي ضمن العملية السياسية مستقبلاً في ليبيا، بالإضافة إلى العلاقات الاستراتيجية بين كل من روسيا ومصر وتتمثل أهم مؤشراتها في توقيع الرئيسين المصري والروسي في أكتوبر 2018م، اتفاقية الشراكة الشاملة والتعاون الاستراتيجي بين الجانبين، وكذلك اتفاقهما على استئناف رحلات الطيران بين الدولتين بشكل كامل، من ناحية ثالثة يلاحظ تطور العلاقات الروسية ـ الجزائرية بشكل ملحوظ من خلال تبادل الزيارات بين الجانبين ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر الزيارة التي قام بها عبد القادر مساهل رئيس الدبلوماسية الجزائرية إلى روسيا في فبراير 2018م، حيث أصدرت وزارة الشؤون الخارجية الروسية بيانًا بمناسبة تلك الزيارة جاء فيه أن" روسيا و الجزائر تربطهما علاقات وطيدة، ويتقاسمان الكثير في مجال السياسة الخارجية" كما تضمن البيان" إننا نعتبر الجزائر كأحد الشركاء الأساسيين في إفريقيا وفي العالم الإسلامي" الجدير بالذكر أن معدل التبادل التجاري بين الجانبين قد تجاوز 3 مليارات دولار حتى عام 2018م، كما تتعدد مجالات التعاون بين روسيا والمغرب، وكذلك مع تونس فعلى سبيل المثال شهد عام 2016م، زيارة حوالي 600 ألف سائح روسي لتونس بما يعادل عشرة أضعاف عدد السائحين الروس لتونس في العام 2015م، وبوجه عام على الرغم من أهمية منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية ضمن سياق الصراع الأطلسي-الروسي فقد لوحظ أن الشمال الإفريقي قد استحوذ على جل اهتمام الجانبين في ذلك الصراع فالشمال الإفريقي يضم مصالح استراتيجية واقتصادية وسياسية لروسيا وهو الأمر الذي اعتبر تحديًا لحلف الناتو في تلك المنطقة يضاف إلى التحدي الآخر على الجبهة الجنوبية للحلف في أعقاب التدخل الروسي في سوريا.

ثانيًا: آليات إدارة الصراع الأطلسي-الروسي

مع وجود العديد من المؤشرات التي أكدت بما لا يدع مجالاً للشك احتدام الصراع الأطلسي-الروسي غير ذي مرة لعل أهمها أزمة إسقاط مقاتلة سوخوي 24 روسية من جانب قوات الدفاع الجوية التركية في 24 نوفمبر 2015م، قرب الحدود السورية التركية، وقد أثيرت توقعات بإمكانية تطور تلك الأزمة إلى صدام مباشر بين تركيا وروسيا إلا أن الأخيرة تدرك أن تركيا هي أحد أعضاء حلف الناتو الذي لديه التزام بالدفاع عن أي دولة عضو تتعرض لاعتداء بموجب المادة الخامسة من الميثاق المنشئ للحلف، من ناحية أخرى حتى أنه عندما قامت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وهي الدول الرئيسية في حلف شمال الأطلسي "الناتو" بهجوم ثلاثي على مواقع سورية في 14 إبريل 2018م، ردًا على تأكيد الإدارة الأمريكية قيام النظام السوري بتجاوز الخطوط الحمراء المتمثلة في استخدام أسلحة كيماوية في الحرب ضمن المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، فقد أشارت بعض التقارير إلى أنه تم إبلاغ روسيا بموعد ذلك الهجوم، بالإضافة إلى التنسيق بين كل من واشنطن وموسكو خلال العمليات الجوية في سوريا لمنع التصادم في الجو، صحيح أنه حدثت بعض التباينات إلا أن ذلك لم يرق إلى حد التصادم بين الجانبين، وعلى الرغم مما سبق وأخذًا في الاعتبار ما أشار إليه الأدميرال آلان ويست القائد السابق في البحرية الملكية البريطانية من أن "تفاقم التوترات مع روسيا يشبه الوضع الذي سبق اندلاع الحرب العالمية الأولى" فإن الصراع بين الجانبين لايزال يدور في إطاره "المنضبط" وهي سمة دائمة لسياسات الدول والمنظمات الدفاعية حتى إبان حقبة الحرب الباردة ،ولعله مما يؤكد ما سبق أن بعض التقديرات الصادرة من المجلس الأطلسي وهو مؤسسة بحثية في الولايات المتحدة الأمريكية تتضمن أن الحرب ليست رادعًا فعالاً في الصراع الغربي-الروسي حيث أن روسيا لديها سبعة جيوش بالقرب من حدود الدول الأوروبية وهي أكثر عتادًا من القوات الموجود لدى حلف الناتو بما يتطلب حتمية تحديث قوات الأخير، إلا أنه في الوقت ذاته على الرغم من أن روسيا لديها القدرة على توجيه ضربات حاسمة وسريعة للدول الأوروبية ربما لن تتجاوز أيام معدودة فإن الحلف لايزال يمتلك القدرة على القيام بعمليات قتالية طويلة الأمد، الجدير بالذكر أن الأمين العام السابق لحلف الناتو أندرس فوج راسموسن قد أكد في مقابلة صحفية في يونيو 2018م، على أن" القوات الروسية قادرة على أن تحتل أوكرانيا في غضون أيام قليلة" ولا يخلو ذلك التصريح من دلالات لجهة حتمية تحديث قوات الحلف .
ومع أهمية ما سبق فإن الصراع الأطلسي-الروسي لن يصل لحد التصادم العسكري المباشر لأسباب ثلاثة الأول: وجود آلية للحوار بين الجانبين تتمثل في مجلس الناتو -روسيا والذي تم تأسيسه عام 2002م، والذي ينعقد بشكل دوري برغم ما تشهده علاقات الجانبين من توتر ملحوظ بل أن كاي بايلي هاتشيسون مندوبة الولايات المتحدة لدى حلف الناتو شمال الأطلسي قالت في السادس عشر من يناير 2019م، "إن الحلف يتمنى عقد لقاء جديد لمجلس روسيا -الناتو في وقت قريب"، حتى أنه مع توتر العلاقات فإن أعمال ذلك المجلس يتم تجميدها ولكنه ظل قائمًا، والثاني: بغض النظر عن سيناريوهات الحرب الافتراضية والتي عادة ما تبرز الميزة النسبية لكل طرف فإن ذلك لا ينفي حقيقة مفادها أن الإنفاق العسكري لدول حلف الناتو جميعها يعادل عشرة أضعاف نظيره الروسي، أما السبب الثالث فهو: أن ما يتردد عن إمكانية حدوث مواجهة نووية بين الجانبين يظل أمرً مستبعدًا، فعلى الرغم مما تضمنته العقيدة العسكرية لروسيا الصادرة عام 2000م، والتي أشارت إلى إمكانية استخدام روسيا لترسانتها النووية حال تعرض الدولة الروسية أو قواتها المسلحة لتهديد بشكل عام فإن خبرة الماضي تشير إلى أن الردع المتبادل في المجال النووي ستكون له الغلبة عن الانزلاق نحو سيناريوهات كارثية، وتقدم أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962م، دليلاً على ذلك ،تلك الأزمة التي وضعت العالم على شفا مواجهة نووية إلا أن توازن القوى والردع النووي آنذاك كان عاملاً مهمًا لجهة ضبط النفس وخروج الطرفين من الأزمة بتوصيف" لا نصر ولا هزيمة "،بالإضافة إلى أزمة البرامج النووية لكوريا الشمالية والتي سادت تصورات بشأنها مجملها أننا أمام سيناريو مواجهة نووية إلا أن التفاوض لايزال هو الخيار المطروح لإدارتها.
ثالثًا: مظاهر تأثير الصراع الأطلسي-الروسي على الأمن الإقليمي

مع التسليم بأن الصراع الأطلسي-الروسي يبدو أكثر حدة على جبهة الحلف الشرقية" الأزمة الأوكرانية" كونها كانت تحديًا هائلاً لأمن دول الحلف بشكل مباشر، فإن التدخل الروسي في سوريا عام 2015م، كان تحديًا آخرًا لحلف الناتو لعدة أسباب أولها: أن التدخل الروسي في سوريا كان جزءًا من استراتيجية روسية مفادها "تصحيح أخطاء الماضي القريب" حيث رأت روسيا أن ابتعادها أو إبعادها عن الأزمات الإقليمية وهي" الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م" والتدخل الأطلسي في ليبيا عام 2011م، بالإضافة إلى انحسارها النسبي عن منطقة الخليج العربي كان خطأً استراتيجيًا يتعين تصحيحه، إلا أن تلك المناطق هي في الوقت ذاته تعد مناطق شراكات مهمة لحلف الناتو والتي تم تأسيسها بعد انتهاء الحرب الباردة كجزء من استراتيجية الحلف للتكيف مع مستجدات ما بعد انتهاء تلك الحرب، وثانيها: أن التدخل الروسي في الأزمة السورية قد أوجد تحالفًا ثلاثيًا وهو التحالف الروسي-التركي-الإيراني الذي يعد المحرك الأساسي لتلك الأزمة بما لدى الدول الثلاث من وجود على الأرض في سوريا وهو ما تعكسه مؤشرات عديدة، وهو الأمر الذي مثل تحديًا للحلف وخاصة بعد توقيع تركيا وروسيا لصفقة الصواريخ إس 400 والتي يراها الحلف تحديًا له وخاصة مع تأكيد وزير الدفاع التركي أنه لن يتم إدماج تلك المنظومة في إطار نظام الدفاع الصاروخي لحلف الناتو، وتأكيد المصادر الرسمية في الكرملين على المضي قدماً في بيع تلك الصفقة حيث يتوقع أن تتسلمها تركيا في العام الحالي 2019م، وذلك على الرغم من الاتفاق التركي-الأمريكي بشأن حصول تركيا على أنظمة باتريوت للدفاع الجوي والصاروخي بقيمة 3,5مليار دولار وذلك تزامنًا مع إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الانسحاب من سوريا، وثالثها: أنه مع التدخل الروسي في الأزمة السورية التي استمرت منذ عام 2011م، وحتى الآن وما رتبته من تداعيات على الأمن الإقليمي سواء من خلال الجماعات المسلحة دون الدول، أو إتاحة الفرصة لإيران للتدخل في تلك الأزمة والملفات الأخرى كاليمن والعراق ولبنان، وتهديد أمن دول الخليج، فقد أثيرت تساؤلات لدى شركاء الحلف حول قدرته على الاستجابة لتلك التحديات الأمنية بما يعزز تلك الشراكات وليس بالضرورة أن تكون الاستجابة بمعناها العسكري التقليدي وإنما لجهة تأكيد التواجد وإمكانية ممارسة الردع، صحيح أن الحلف قد أجرى مناورات عسكرية ضخمة في البحر المتوسط عام 2015م، استمرت لعدة أسابيع شارك فيها 36 ألف جندي و230 وحدة عسكرية و140 طائرة وأكثر من 60 سفينة، والتي استهدف من خلال تأكيد قدرة وجاهزية الحلف على التحرك تجاه منطقتي شمال إفريقيا والبحر المتوسط عمومًا اللتان تشهدان تحركًا حثيثًا لروسيا وخاصة ما بعد عام 2011م،بالإضافة إلى إعلان الحلف المشاركة في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش في مايو 2017م، من خلال طائرات أواكس للاستطلاع، وتكثيف تبادل المعلومات، وعمليات تزويد الطائرات بالوقود جوًا دون التواجد بقوات عسكرية على الأرض، إلا أنه في ظل تشابك الملفات الإقليمية بشكل كبير وما ترتبه من تحديات فإن ذلك يدعو الحلف للمزيد من الانخراط في الجهود الإقليمية والدولية لمواجهتها.
ومع أهمية ما سبق فإن منطقة الشرق الأوسط تشهد أجواء الحرب البادرة مجددًا، ومما قد يزيد من حدة الصراع الروسي-الأطلسي أمران الأول: الخلاف بين الولايات المتحدة وأعضاء الحلف بسبب الالتزامات المالية لهؤلاء الأعضاء داخل الحلف، فضلاً عن وجود حالة من التوافق الأمريكي-الروسي إلى حد كبير خلال السنوات المنقضية من حكم الرئيس ترمب، والثاني: توتر العلاقات الأمريكية- التركية من آن لآخر على خلفية قضايا عديدة ليس أقلها إصرار تركيا على المضي قدمًا في إتمام شراء صفقة الصواريخ إس 400، وإمكانية توظيف روسيا لتلك الصفقة لإضعاف حلف الناتو، وهو ما تضمنه تقرير أوردته مجلة النيويورك تايمز الأمريكية في أغسطس 2015م، حيث أشار إلى الخلاف الأمريكي- التركي يعد فرصة سانحة لروسيا من أجل تقويض حلف الناتو، فعلى الرغم من أن تركيا والتي تعد من أكبر الجيوش العسكرية في الحلف ولطالما قدمت دعمًا لوجستيًا مهمًا للولايات المتحدة الأمريكية في عملياتها العسكرية في منطقة الشرق الأوسط بيد أنها تحظى في الوقت ذاته بعلاقات متميزة مع روسيا والتي لاتزال ترى أن حلف الناتو تحديًا لها.

رابعًا: الخيارات الخليجية تجاه الصراع الأطلسي-الروسي

قبيل تناول خيارات دول الخليج تجاه ذلك الصراع ينبغي التأكيد على ثلاثة أمور الأول: أن هناك أربع دول خليجية أعضاء في مبادرة استانبول التي أعلنها الحلف عام 2004م، بينما لاتزال كل من المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان خارج إطار تلك المبادرة بما يعني أن هناك رؤيتان في منطقة الخليج العربي بشأن التعاون مع حلف الناتو، والثاني: أنه على الرغم من أن دول الخليج لديها حرص على تأسيس شراكات دولية مع الدول الكبرى ومن بينها روسيا فإن آليات تلك الشراكات تعد أكثر وضوحًا بين دول الخليج والدول الغربية مقارنة بروسيا، فعلى سبيل المثال هناك مبادرة حوار أمن الخليج التي أطلقتها الولايات المتحدة عام 2006م، وتعد بمثابة إطار عمل للعلاقات الخليجية-الأمريكية تجاه العديد من تحديات الأمن الإقليمي، صحيح أن هناك حوار استراتيجي مماثل بين روسيا ودول الخليج إلا أن ذلك الحوار لم ينعقد منذ عام 2016م، على الرغم من وجود العديد من مناطق التماس بين الجانبين بشأن تحديات الأمن الإقليمي الراهن، والثالث: أن التعاون بين بعض دول أعضاء مبادرة استنبول وحلف الناتو قد اتخذ طابعًا عمليًا للمرة الأولى من خلال مشاركة بعض من تلك الدول في العمليات عمليات الحلف العسكرية في ليبيا عام 2011م.
وفي ظل احتدام الصراع الروسي-الأطلسي فإن الخيار الرئيسي لدول الخليج ربما يكون محاولة إيجاد قدر من التوازن في علاقاتها مع روسيا وحلف الناتو في الوقت ذاته، مع استمرار تلك الدول في التأكيد على المخاوف والتحديات الأمنية التي تواجهها الدول وفي مقدمتها التهديدات الإيرانية والإرهاب واستمرار الأزمات الإقليمية بما يمثله ذلك من تحد بالغ لأمنها القومي.
فعلى صعيد علاقات دول الخليج بروسيا نجد أن هناك تطور ملحوظ بهذا الشأن ومنها الزيارة التي قام بها العاهل السعودي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز إلى روسيا والتي أسفرت عن التوقيع على صفقة للقذائف الصاروخية من طارز إس 400، فضلاً عن صواريخ مضادة للدبابات، بالإضافة إلى توقيع اتفاقية للتعاون النووي للأغراض السلمية، مع الأخذ في الاعتبار التنسيق السعودي - الروسي بشأن سوق النفط العالمي في ظل استحواذ الجانبين على 20% من إنتاج النفط العالمي، فضلاً عن تطور علاقات روسيا مع دول مجلس التعاون الأخرى ولا يتسع المجال هنا للحديث عنها.
ويبقى تطور علاقات دول الخليج مع أي من الطرفين مرتهنًا إلى حد كبير بعدد من المتغيرات أولها: تطور قضايا الأمن الإقليمي عمومًا وأهمها الأزمة السورية وخاصة في ظل إعلان الولايات المتحدة سحب قواتها من سوريا بما قد يؤدي إلى حدوث فراغ من شأنه تعزيز الوجود الإيراني في سوريا والذي يتخذ مظاهر عديدة وبالتالي في ظل ما يتردد عن إمكانية إقامة تركيا منطقة عازلة في سوريا ومع وجود تنسيق كامل بين روسيا وتركيا في المسألة السورية فإن دول الخليج ربما تكون مدعوة للعمل مع روسيا بشكل أكبر خلال المرحلة القادمة، وثانيها: واقع التهديدات الأمنية وخاصة نشاط الجماعات الإرهابية في المنطقة وما يمكن أن يقدمه حلف الناتو من دعم للشركاء سواء على الصعيد الاستخباراتي أو الاستمرار في التحالف الدولي لمحاربة داعش بعد قرار الرئيس ترمب سحب القوات الأمريكية من سوريا، وثالثها: الترتيبات الجديدة للأمن الإقليمي في منطقة الشرق والتي لم تتضح ملامحها بعد سوى فيما أعلن من مقترحات ومنها تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي والذي وإن قدم بعض الفرص من أجل بلورة أطر جماعية لمواجهة تهديدات الأمن الإقليمي فإنه سيكون تحديًا لروسيا وحلف الناتو على حد سواء، واللذان يحظيان بشراكات مهمة في منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية والخليج وبالتالي فإنه حال تبلور أفكار محددة بشأن ذلك التحالف فإن ذلك سوف يؤدي إلى زيادة حدة التنافس الروسي-الأطلسي في المنطقة العربية والخليج ومن ثم زيادة حدة الاستقطاب في تلك المنطقة بما يفرض خيارات على دول الخليج في هذا الاتجاه أو ذاك، ورابعها: مستقبل الاستراتيجية الأمريكية تجاه الصراعات فعلى الرغم من تأكيد إيرل براون رئيس العمليات الإعلامية في القيادة المركزية الأمريكية ردًا على سؤال حول مستقبل الوجود العسكري الأمريكي في منطقة الخليج العربي بالقول "إن تحركات القوات وأعدادها في منطقة الخليج العربي ليست للنقاش" بما يعنيه ذلك أن حماية أمن الخليج العربي مسألة استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة فإن وجود مؤشرات على انحسار الولايات المتحدة عن عدد من الصراعات وإن كان يمثل فرصة لحلف الناتو فإن روسيا تبقى قوة حاضرة لملء أي فراغ محتمل بما يعنيه ذلك من أن الصراع الأطلسي-الروسي سيكون مرشحًا للتصاعد لا للانحسار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة

مجلة آراء حول الخليج