; logged out
الرئيسية / التحدي لصانع السياسة العربية - تحديد المصالح مع روسيا وإدارتها بكفاءة

العدد 134

التحدي لصانع السياسة العربية - تحديد المصالح مع روسيا وإدارتها بكفاءة

الثلاثاء، 05 شباط/فبراير 2019

     في عام 2018م، أصبحت روسيا الاتحادية فاعلاً أساسيًا– إن لم يكن الفاعل الأساسي-في تطورات الأزمة السورية وتفاعلاتها، وإذا اكتمل تنفيذ قرار الرئيس دونالد ترامب بانسحاب القوات الأمريكية من سوريا فإن الدور الروسي سوف يكون بلا منافس. وفي الوقت نفسه، أصبحت شريكًا مهمًا في شبكة من العلاقات الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية مع أغلب الدول العربية.

     تشغل روسيا هذا الوضع نتيجة السياسة الخارجية التي اتبعها الرئيس فلاديمير بوتين منذ أول مرة تولى فيها رئاسة الجمهورية عام 2000م، وذلك بعد فترة من الغياب والانكفاء على الداخل قامت فيها مؤسسات الدولة الروسية بتجاوز مرحلة الاضطراب والفوضى واستجمعت مقومات قوتها الشاملة.

فحسب إحصاءات البنك الدولي في يونيو 2013م، فإن الاقتصاد الروسي شغل المرتبة الخامسة عالميًا بعد الولايات المتحدة والصين والهند واليابان، وإنه سبق اقتصادات جميع الدول الأوروبية بما فيها ألمانيا، وذلك وفقًا لمؤشر الناتج المحلي الإجمالي. ووفقًا لمؤشر متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي، فقد أدرج البنك الدولي روسيا ضمن مجموعة الدول ذات الدخل المرتفع، وذلك بعد عشر سنوات من بقائها ضمن مجموعة الدول ذات الدخل فوق المتوسط. ورافق تقدم الاقتصاد الروسي زيادة نوعية للقدرات العسكرية، وفي خطابه أمام البرلمان بتاريخ 12 ديسمبر 2013م، أكد بوتين على القدرات العسكرية لبلاده محذرًا الغير من أوهام الاعتقاد بتفوقهم العسكري على روسيا، وإنها– أي روسيا-تتابع بدقة تطور القدرات العسكرية للدول الأخرى ونظمها التسليحية، وتضع استراتيجيتها وفقًا لذلك.

     ويهدف هذا المقال إلى عرض موجز لأهم مظاهر تطور العلاقات بين روسيا والدول العربية، ثم يحدد جوانب تلاقي المصالح وتبادل المنافع بين الجانبين، وينتهي بتحليل بعض التأثيرات والتداعيات لنمو هذه العلاقات.  

  1. مظاهر تطور العلاقات

   تنامت العلاقات العربية الروسية بشكل جامع وشامل في الوقت نفسه. جامع بمعنى أن السياسة الخارجية الروسية سعت لتطوير علاقاتها مع كل الدول العربية الراغبة في ذلك دون استثناء بغض النظر عن شكل نظام الحكم فيها ونمط العلاقة مع الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى. وشامل بمعنى أنها غطت مختلف جوانب التعامل بين الدول في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية. وهكذا، فقد اتسمت السياسة الروسية بالبرجماتية وغلبة الاعتبارات الواقعية وتبادل المصالح قبل أي اعتبار آخر.

    من أهم مظاهر تطور العلاقات بين الطرفين، ازدياد الزيارات الرسمية بينهما، فقام بوتين بزيارة أغلب الدول العربية، وكان أول رئيس روسي تطأ قدماه بعض الدول الخليجية. وفي المقابل، استقبلت موسكو الغالبية العظمى من ملوك ورؤساء الدول العربية، وكان في تبادل الزيارات على هذا المستوى الرفيع، وعلى مستوى رؤساء الوزارات والوزراء دليلاً على اهتمام الطرفين بتطوير علاقات روسيا بالدول العربية على مختلف المستويات.

   فعلى المستوى الاقتصادي، نمت العلاقات في أكثر من مجال. ففي مجال الاستثمار، زادت الاستثمارات الخليجية في روسيا، وعلى سبيل المثال تم الاتفاق بين السعودية وروسيا على تأسيس صندوق بقيمة مليار دولار للاستثمار في مجال التكنولوجيا، وصندوق آخر بنفس هذه القيمة للاستثمار في مشروعات الطاقة. وبالمثل، زادت الاستثمارات الروسية في عدد من الدول العربية. ووقعت روسيا عددًا من الاتفاقيات التجارية بقصد تنمية التجارة بين الطرفين العربي والروسي.

     وفي مجال الصناعة، قامت روسيا بتحديث المصانع والمعدات التي أقامها الاتحاد السوفيتي في فترة سابقة، مثل تحديث توربينات توليد الكهرباء من السد العالي في مصر، وتجديد بعض المصانع في مصر والجزائر، وقامت بإنشاء مصانع للبتروكيماويات. وأبرمت الشركات الروسية عددًا من اتفاقيات التنقيب والكشف عن النفط شملت السعودية والإمارات والعراق بما فيه إقليم كردستان ومصر والأردن وسوريا، وفي إنشاء خطوط أنابيب لنقل النفط في الجزائر والسودان وليبيا، ودخلت كمشتري لشركات تعمل في إنتاج الغاز كما حدث في صفقة شراء 33% من الأسهم المملوكة لشركة "ايني" الإيطالية في حقل " ظهر" المصري للغاز في شرق البحر المتوسط.

     وعلى مستوى التعاون التكنولوجي، تقيم روسيا أول محطة نووية لتوليد الكهرباء في منطقة الضبعة بمصر، وأبرمت اتفاقيات لإنشاء محطات نووية للاستخدامات السلمية في السعودية والإمارات والأردن، واتفاقيات أخرى لإنتاج الطاقة المتجددة وتحلية مياه البحر. وأطلقت عدد من الأقمار الصناعية للاستشعار عن بعد ولخدمة الاتصالات والتنمية لصالح السعودية والإمارات والجزائر والمغرب.

     وعلى المستوى العسكري، عقدت صفقات لشراء السلاح الروسي مع عدد من الدول العربية منها مصر السعودية والإمارات والجزائر، وتضمنت بيع أنماط متقدمة من أنظمة الدفاع الجوي وأبرمت الإمارات اتفاقية مع شركة "سوخوي" لتصنيع نماذج متطورة من الطائرات الحربية. وقامت روسيا بإجراء مناورات مشتركة لجنود المظلات مع مصر في 2018م، اُسميت "حماة الصداقة". وفي إطار تدخلها العسكري في سوريا أنشأت روسيا قاعدة بحرية في ميناء طرطوس السوري والذي كان مركزًا للخدمات اللوجستية للأسطول الروسي من 1977م، وقاعدة "حميميم" الجوية بمحافظة اللاذقية، وأبرمت اتفاقية تنظم وضع هذه القاعدة صادق عليها البرلمان الروسي.

     كان أحد العوامل المحفزة لنمو هذه العلاقات هو قدرة روسيا على الوفاء باحتياجات الدول العربية في كثير من هذه المجالات بتكلفة أقل وبشروط أفضل عن تلك التي تطرحها الشركات الأوروبية والأمريكية، فضلاً عن إتاحتها لأنواع من المعدات العسكرية التي تحظر الدول الغربية بيعها وتصديرها للدول العربية.

وأدى هذا الاتساع في مجالات التعاون بين الدول العربية وروسيا إلى ظهور أطر تنظيمية لتنظيم الحوار بين الطرفين والتعبير عن المواقف المشتركة ومتابعة تطور العلاقات وإزالة ما يعترضها من عقبات. فعلى المستوى العربي، تم إنشاء منتدى التعاون العربي-الروسي الذي يضم وزراء خارجية روسيا والدول العربية، وعلى المستوى الخليجي تم إنشاء منتدى الحوار الاستراتيجي الروسي-الخليجي الذي يشارك فيه وزراء خارجية روسيا ودول مجلس التعاون الخليجي. إضافة إلى عديد من منتديات رجال الأعمال واللجان المشتركة على المستوى الثنائي لدفع عجلة العلاقات الاقتصادية بين روسيا والدول العربية في كل المجالات.

  1. تلاقي المصالح وتبادل المنافع

     في إدارة العلاقات الدولية، تقيم الدول سياساتها الخارجية وعلاقاتها بالدول الأخرى انطلاقًا من هدفين هما: تعظيم المصالح وتقييم المخاطر والتهديدات، أي أن الدول تسعى إلى زيادة المصالح المتبادلة والعمل المشترك لخفض الأخطار والتهديدات.

   فما هي المصالح التي تربط بين العرب وروسيا؟

يجمع بينهما تبادل المصالح الاقتصادية من تجارة واستثمار وتكنولوجيا، فروسيا لديها ما تقدمه للدول العربية كما اتضح في البيانات سالفة الذكر وهما أصحاب مصلحة واحدة في الحفاظ على وحدة منظمة الأوبك واستمرار دورها المؤثر( انضمت روسيا إلى الأوبك كعضو مراقب) واستقرار سوق النفط والحفاظ على أسعار مناسبة للمنتجين، وذلك باعتبار أنهما – وخصوصًا السعودية وروسيا- المنتجان الرئيسيان للنفط في العالم واللذان يتعرضان لضغوط كارتل الدول الغربية المستهلكة له، ولتداعيات الزيادة المضطربة للنفط والغاز الصخري في الولايات المتحدة.

     تنظر موسكو إلى العلاقات الاقتصادية باعتبارها ركنًا أساسيًا من أركان سياستها الخارجية بشكل عام ولدورها في العالم، ويدل على ذلك أن استراتيجية الأمن القومي الروسية الجديدة والتي صادق عليها الرئيس بوتين في 2016م، وأكدت على الدفاع عن المصالح الاقتصادية لروسيا في العالم، وأن الدولة تقدم الدعم للشركات الروسية للدخول في الأسواق الجديدة، وتطوير وجودها في الأسواق التقليدية، وتتصدى لمحاولات التمييز ضد المستثمرين والمصدرين الروس في الأسواق العالمية.

   ويجمع بينهما التوافق بشأن أغلب القضايا السياسية الخاصة بالمنطقة العربية. فهناك توافق روسي عربي حول الالتزام بالقرارات الدولية بخصوص القضية الفلسطينية وحل الدولتين ورفض الاعتراف بالاستيطان الإسرائيلي في الاراضي المحتلة ومبدأ الاعتراف العربي مقابل الانسحاب الاسرائيلي من هذه الأراضي، ورفض الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة، ودعوة إسرائيل للإفراج عن الأسرى الفلسطينيين في سجونها باعتباره عملاً مخالفًا للقانون الدولي، وهى طرف في الرباعي الدولي للوصول إلى تسوية سلمية للصراع وفقًا لمرجعية مؤتمر مدريد الذي عقد في 1991م، ولها اتصالات مع كل من السلطة الوطنية التي قام الرئيس بوتين بزيارتها، وبحركة حماس كونها السلطة الفعلية في قطاع غزة . كذلك تلتزم روسيا بالقرارات الدولية بشأن الأزمة في ليبيا واليمن.

من المهم هنا الإشارة إلى أنه خلافًا للدول الغربية، فإن روسيا تعترف بوجود الجامعة العربية كإطار تنظيمي يجمع بين الدول العربية، يدل على ذلك حرص الرئيس بوتين على زيارة مقر الجامعة ومقابلة أمينها العام وإلقاء كلمة فيها، وذلك خلال زيارته لمصر. أضف إلى ذلك تعيين روسيا سفيرها لدى مصر ممثلاً لها في الجامعة العربية.

    ويجمع بينهما هدف محاربة الأفكار المتطرفة والأعمال الإرهابية، فروسيا عانت من وجود التنظيمات المتطرفة والإرهابية في الشيشان على سبيل المثال، وهي مصلحة مماثلة لما تواجهه الدول العربية في هذا الشأن. وفي رسالته إلى مؤتمر القمة العربي في مارس 2015م، أدان بوتين العمليات الإرهابية التي تحدث في عدد من الدول العربية، وأعلن تضامن بلاده معها في حربها ضد الإرهاب.

     وجدير بالذكر أن روسيا هي عضو مراقب في منظمة التعاون الإسلامي، وإنها تقدمت إلى مجلس الأمن في فبراير 2015م، بمشروع قرار يهدف إلى تجفيف منابع الإرهاب ومصادر تمويلها، واقتراح الاجراءات الواجب اتخاذها في هذا الشأن، ووافق المجلس بالإجماع على هذا المشروع الذي أعطى للدول العربية التي تحارب الإرهاب سندًا قانونيًا دوليًا في جهودها لتعقب مصادر تمويل التنظيمات الإرهابية والكشف عنها.

     ويجمع بينهما هدف شراء أسلحة روسية متقدمة لا تسمح الدول الغربية ببيعها إلى الدول العربية بهدف الحفاظ على تفوق إسرائيل العسكري على أي دولة عربية منفردة أو تجمع عدد منها.

     ويجمع بينهما الرغبة في تطوير النظام الدولي والمنظمات الدولية بحيث تصبح أكثر تعددية وديمقراطية وعدلًا وإنهاء احتكار دولة واحدة أو عدد محدود من الدول الكبرى لعملية صنع القرار الدولي. وتزداد أهمية هذه الرغبة في فترة إدارة ترامب والتي اتسمت قراراتها في مجال السياسة الخارجية بالتذبذب والاضطراب في المواقف وعدم احترام الحلفاء والشركاء بل وابتزازهم علنا في كثير من الأحيان.

     وبالطبع فإن هناك اختلافات وتباينات بين الطرفين العربي والروسي في بعض الموضوعات ومع بعض الدول العربية، فعلى سبيل المثال هناك اختلاف بشأن الموقف تجاه النظام الحاكم في سوريا فبينما ترى روسيا ضرورة استمراره حتى يتم الوصول إلى تسوية مقبولة بين الحكم والقوى المعارضة، يرى عدد من الدول العربية أن تغيير هذا النظام شرط لتسوية الأزمة وأنه لا يمكن الوصول إلى تسوية مقبولة حال وجوده. واختلاف آخر بشأن الموقف تجاه إيران، فبينما تعتبر طهران حليفًا رئيسيًا لموسكو في سوريا فإن عدد من الدول العربية تدين السياسات التوسعية الإيرانية وتعتبرها راعية للإرهاب والمصدر الرئيسي لعدم الاستقرار في المنطقة.

     ومثل هذه الاختلافات هي أمر طبيعي في العلاقات بين الدول، وهي توجد بين الدول العربية التي اختلفت مواقفها تجاه سوريا وإيران. ولكن المهم في هذا الصدد، أن الطرفان العربي والروسي لم يضخما من أمر هذه الخلافات، فلم تعُق مسيرة التعاون في المجالات الأخرى واعتبراها موضوعات يمكن التفاوض بشأنها. وتبقى الإشارة إلى أن روسيا نجحت في السنوات الأخيرة في أن تظهر في صورة الصديق أو الشريك" الموثوق به" الذي يلتزم بالتعهدات التي تم الاتفاق عليها، ويُعتبر ذلك رصيدًا مهمًا للدبلوماسية الروسية.

  1. التداعيات والآفاق

    تختلف النظريات والتفسيرات بشأن أهداف السياسة الروسية في المنطقة العربية. فهناك التفسير القديم الذي يبررها برغبة روسيا التاريخية من أيام القيصر بطرس الأكبر في الوصول إلى المياه الدافئة، وتفسير آخر يربط بينها وبين الأفكار الوطنية الروسية التي يعتنقها بوتين، ورغبته في استعادة نفوذ بلاده كإحدى القوى الكبرى في العالم.

     وتفسير ثالث يربط هذه السياسة بتبلور وصياغة استراتيجية الأمن القومي الجديدة التي أشرنا لها فيما قبل. أكدت هذه الاستراتيجية على رغبة روسيا في الحفاظ على الاستقرار العالمي، واتباع سياسة تبادل المنافع مع الولايات المتحدة، والرغبة في الحوار معها حول جميع القضايا. قللت الاستراتيجية من احتمال حدوث حروب كبيرة بما فيها الحروب النووية بين الدول الكبرى، ولكنها حذرت من مخاطر المواجهات على المستوى الإقليمي مع ازدياد الأزمات والأعمال الإرهابية مثل ما تشهده منطقة الشرق الأوسط.

   وأكدت الاستراتيجية على رفض روسيا لمحاولة الولايات المتحدة فرض قوانينها على دول العالم لمخالفة هذا التوجه لمبدأ سيادة الدول الذي تؤكده قواعد القانون الدولي، وإنها تهدف إلى الحفاظ على كيان الدول القائمة ضد الجماعات الإرهابية التي تسعى لاختراقها وهدمها.

وتفسير رابع يربطها بتجاوزات واستفزازات الولايات المتحدة وحلف الناتو لروسيا وخصوصًا ابتداء من عام 2011م، والتي كان من علاماتها إقامة قواعد وحشود عسكرية للحلف في الدول المجاورة لروسيا، ودعم المظاهرات في أوكرانيا ضد الرئيس الذي اتبع سياسات صداقة وتعاون معها، والعقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة عليها، والتدخل السافر في الشؤون الداخلية للدول لإسقاط حكوماتها وتغيير نظمها من خلال دعم ميليشيات مسلحة، وتسليحيها وتدريبها. ويؤكد هذا خطاب بوتين أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2015م، الذي أدان فيه استهتار الدول الغربية الكبرى بمبادئ القانون الدولي وانتهاكها لسيادة الدول الأخرى، وأن روسيا لا يمكن أن تقبل ذلك أو تقف مكتوفة الأيدي إيذائه، وإنها ضد الفوضى الدولية وضد انتهاك سيادة الدول والتدخل الخارجي لإسقاط وتغيير نظم الحكم فيها، وبعدها بأيام وتحديدًا في 30 سبتمبر تم الإعلان عن بدء التدخل العسكري الروسي في سوريا بناء على طلب حكومتها. وفي إطار ذلك، يرى بعض المحللين أن هذا التدخل كان لإيجاد ورقة ضغط ومساومة تجاه التجاوزات والاستفزازات الأمريكية.

   من الواضح أن روسيا تتبع سياسة برجماتية كما سلف القول، وأن الدافع الرئيسي لسياساتها هو تحقيق المصالح الوطنية الروسية. فموسكو لا تطرح نفسها في المنطقة العربية كبديل لواشنطن، وهي تدرك عمق الصلات الاستراتيجية والاقتصادية التي تربط عددًا من الدول العربية وخصوصًا الخليجية بالولايات المتحدة، وإنما تطرح نفسها كمنافس يسعى لتسويق صناعاته ومبتكراته التكنولوجية المدنية والعسكرية، وإلى الحيلولة من أن تتحول المنطقة العربية إلى مركز تهديد ومصدر خطر عليها.

     روسيا لا تهدف إلى تعقب النفوذ الأمريكي أو العودة إلى فترة الحرب الباردة أو "الثنائية القطبية"، فهو هدف فات أوانه وتغيرت خريطة توزيع القوة في العالم بحيث أصبح هدفًا مستحيل التطبيق. وبنفس المنطق، فإن الولايات المتحدة لا تعتبر التعامل التجاري وإقامة العلاقات الاقتصادية مع روسيا عملاً عدائيًا ضدها، فقد أصبح تبادل المصالح هو القانون الأساسي للعلاقات الدولية اليوم. وهي-أي الولايات المتحدة-تربطها علاقات اقتصادية وثيقة بأكبر منافس لها وهو الصين. هدف روسيا هو تطوير النظام الدولي وإنهاء مرحلة سيطرة دولة واحدة هي الولايات المتحدة على مقدراته، وتفصح خطابات الرئيس بوتين عن هذا المعنى صراحة، وتكشف سياسة روسيا تجاه الصين ومجموعة البريكس عن نفس الهدف.

     يؤكد هذا الطابع البرجماتي للسياسة الروسية طبيعة التحالفات والتفاهمات الإقليمية التي أدارتها مع الأطراف غير العربية في المنطقة وهي إيران وتركيا وإسرائيل، ورغم ما يوجد بين هذه الدول من تناقضات عميقة واختلافات في الرؤى والمصالح، فقد نجحت في إدارة العلاقات معها في الحرب السورية، وأن تسمح لكل من هذه الدول بتحقيق بعضًا من مصالحها دون أن يهدد ذلك علاقتها مع موسكو. وعلى سبيل المثال، فإن إسرائيل قامت في عام 2018م، بعدد من الغارات الجوية وإطلاق الصواريخ على ما اعتبرته مواقع عسكرية إيرانية ولحزب الله بموافقة ضمنية روسية، ووافقت على اقتحام القوات التركية لمدينة "عفرين" السورية في يناير من نفس العام فيما أسمته تركيا وقتها باسم عملية "غصن الزيتون" وذلك لمنع قوات سوريا الديمقراطية وقوامها الأكراد من السيطرة على المدينة.

   وفي السياق نفسه، لا تتطابق مصالح روسيا في سوريا مع المصالح التركية والإيرانية، وتدير روسيا علاقاتها بالبلدين وفقًا لدائرة المصالح المشتركة، ففي مباحثات سوتشي مثلا شاركت الدول الثلاث، ولكن في الاتفاق بشأن إدلب اقتصرت المباحثات على روسيا وتركيا، وتشير التقارير الميدانية عن تفاصيل تحركات القوات على الأرض إلى تكرر نشوب توترات في أكثر من مناسبة بين القوات الروسية وتلك الإيرانية.

والخلاصة، أن روسيا هي قوة عسكرية وتكنولوجية عالمية لم يعد ممكنًا تجاهلها، وأن دورها في المنطقة يعطي للدول العربية فرصًا في مجال البنية التحتية وأنظمة التسليح والتكنولوجيات المتقدمة لا توفرها لهم الدول الغربية، وأن روسيا تسعى بالطبع إلى تعظيم مصالحها الوطنية وتتحالف مع القوى الإقليمية التي تتفق مع هذه المصالح أو قدر منها مثلما الحال مع إيران وتركيا وإسرائيل. إن التحدي الذي يواجه صانعي السياسات الخارجية العربية هو تحديد مساحة المصالح المشتركة التي تجمع العرب ككل مع روسيا أو تجمع كل مجموعة من الدول العربية معها، وأن يتم إدارة المصالح المشتركة والمتبادلة بين الطرفين برشادة وكفاءة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*استاذ العلوم السياسية – كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ـ جامعة القاهرة

 

 

مجلة آراء حول الخليج