; logged out
الرئيسية / التحدي العالمي المعاصر: تنظيم ثلاثية العلاقة بين الدين والدولة والسياسة

العدد 135

التحدي العالمي المعاصر: تنظيم ثلاثية العلاقة بين الدين والدولة والسياسة

الإثنين، 04 آذار/مارس 2019

زيارة البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، إلى العاصمة الإماراتية أبوظبي يوم الأحد (3 فبراير 2019م)، والتي جاءت بناءً على دعوة من ولي عهد أبوظبي، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، للمشاركة في مؤتمر عالمي للحوار بين أتباع الأديان « لقاء الأخوة الإنسانية» الذي ينظمه مجلس حكماء المسلمين، ويشارك فيه شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب وعدد كبير من الشخصيات الدينية التي تمثل 12 ديانة وطائفة من مختلف أنحاء العالم، تعد بحق زيارة تاريخية والأولى من نوعها إلى منطقة الخليج العربي بهدف تفعيل حوار التعايش بين أصحاب الأديان. وهي الزيارة السابعة للبابا فرانسيس، لدولة تقطنها أغلبية مسلمة، بعد تركيا والأردن ومصر وبنغلاديش وأذربيجان والأراضي الفلسطينية والتي تعبر عن عمق الاقتناع السياسي بضرورة رسم مسارات التسامح بين المجتمعات والأديان. وهذا المؤتمر العالمي هو فرصة تاريخية لإيجاد منصة فكرية رائدة للتباحث وطرح المبادرات الرامية إلى تعزيز احترام التنوع المثمر للثقافات والاختلاف، والعمل على بناء شراكات خلاقة تستند إلى قيم التسامح والتعددية، وإقامة جسور التقارب الإنساني والحضاري والثقافي. ودولة الإمارات باحتضانها لهذا المؤتمر العالمي ودعوتها لرموز الشخصيات الدينية في العالم، وبإطلاقها عام 2019م، عامًا للتسامح، ترسل رسالة واضحة للعالم بأنها "عاصمة التسامح" والتعايش السلمي في العالم، عاصمة عالمية تلتقي فيها حضارات الشرق والغرب، لتعزيز السلام والتقارب بين الشعوب كافة. إذ تحتضن على أرضها ما يفوق 200 جنسية بمختلف ثقافاتها ودياناتها، يعيشون في وئام وانسجام. كما أنها تسعى من خلال الأعمال والفعاليات التي تقوم بها إلى تعزيز وترسيخ قيم التسامح، والتعددية، والقبول بالآخر، فكريًا وثقافيًا وطائفيًا ودينيًا، والتي بات العالم كله في أمس الحاجة إليها الآن أكثر من أي وقت مضى، في ظل مرحلة تتسّم بتزايد النزعة القومية والانعزالية وانتشار نزعات التطرف والكراهية والإرهاب في جميع أنحاء العالم.

فبناء على قاعدة البيانات العالمية لرصد الإرهاب (START)، وهي قاعدة قائمة على تجميع ورصد بيانات الإرهاب تحت إشراف الاتحاد الوطني المعني بدراسة تأثير الإرهاب ومردود الإرهاب ويقع مقره في جامعة مريلاند الأمريكية، أنه منذ عام 2015م، تضاعفت العمليات الإرهابية سنويًا إلى أربع مرات إلى أن وصل العدد قرابة 15 ألف عملية سنويًا على مستوى العالم. ومعظم هذه الجماعات الإرهابية تستند إلى نصوص دينية وتفسيرات فقهية أو حرفية لتبرير إرهابهم. وبناء على مؤشرات الإرهاب العالمي لعالم (2012 -2018م) الذي يصدره معهد الاقتصاد والسلام، وهو مركز أبحاث مقره الولايات المتحدة وأستراليا، أن ست دول في منطقة الشرق الأوسط تأخذ نصيب الأسد من عدد الهجمات الإرهابية وهي العراق، سوريا، اليمن، الصومال، ليبيا. وبالتالي نحن نتحدث عن أخطر أشكال التهديدات التي تواجه أمن واستقرار الدول.

التطرف السياسي والديني.. أية مقاربة؟

بعد عملية الطعن التي جرت في مدينة مارسيليا الفرنسية في أكتوبر 2017م، وإعلان تنظيم داعش مسؤوليته عنها، صرح وزير الخارجية الفرنسي في حينها أن "ثلث الأشخاص الذين يوصفون بالتطرف في فرنسا، يواجهون مشاكل نفسية". هناك من يعتقد أن الإرهابي مريض نفسي يأس من الحياة في مجتمعة وليس لديه الجرأة الكافية للانتحار فيبحث عن تبريرات لخلق نوع من الشعور الأخلاقي أو الضمير المفعم بالرضا لما يقوم به من عنف وقتل. لكني أعتقد أن ربط ظاهرة الإرهاب بالاضطرابات النفسية يمكن أن يفسر جزءًا من الظاهرة لكن لا يمكن تعميمها كقاعدة عامة لظاهرة الإرهاب. فالإرهابيون ليسوا كلهم مضطربين نفسيًا. فالإرهابي هو نتاج لثلاثة أمور متداخلة هي:

تسلطية الفكرة الدينية أو الهوس الديني، هناك كثير من الأفكار تستحوذ على تفكير الشخص وهي كفيلة بتدمير حياته، أو على الأقل تحويل الحياة إلى جحيم. هالي بيري الممثلة الأمريكية السوداء. التي فازت بجائزة أوسكار لأفضل ممثلة على سبيل المثال، قالت إنها كانت تعاني بسبب لونها الذي كان يشعرها بالنقص كونها سوداء، وأن هذا الشعور تسلط عليها طوال حياتها لدرجة الهوس، وكانت وهي طفلة تدعو الله كل ليلة أن تصبح بيضاء، ورغم أنها كانت تصحو كل يوم دون استجابة لدعواتها، إلا أنها لم تيأس. استمرت تدعو الله ليغير لونها، واستمر هذا الشعور إلى أن تحررت من أسر تلك الفكرة بالسخرية منها. الشيء نفسه ينطبق مع المتطرف، تستحوذ عليه أفكار متعلقة بمجتمعه، ودينه، برؤيته للعالم والكون مليء تطرف وتعصب، يعتقد أنها الحقيقة المطلقة وتحقق المدينة الفاضلة، وتتسلط عليه بلا هوادة، تتلبسه تمامًا، وقليلون يتمكنون من التحرر والخروج من أسر تلك الأفكار، ولا يمكن التحرر منها إلا بتجاوز الزيف الديني الذي تلبسه وتحقيق المعرفة.

الانتماء إلى جماعة تكون حاضنة لتلك الأفكار وتحاكي سلوكه المتطرف ويشعر معها بالأمان النسبي. كما أن الجماعة بدورها تعمل على ضبط طريقة التعبير الجمعي عبر فصل عناصرها عن الواقع والعيش بروح الماضي ولكن في الحاضر من خلال صياغة الواقع والمستقبل بنفس عبق وشكل الماضي، ويغذي هذا التجمع من خلال تشجيع بعضهم لبعض، ومساندة كل واحد منهم للآخر حتى تحمل نفس الروح والفكر؛ فتتوحد أهدافها ومصالحها النفسية والاجتماعية والسياسية، وبالتالي تقوي الانتماء للجماعة.

اختراق الجماعة وتوظيفها سياسيًا من قبل دول أو جماعات لها مشاريع وأهداف سياسية. فإيران على سبيل المثال لم تتردد يومًا في دعم المتطرفين سياسيًا ودينيًا، في المنطقة والعالم لخدمة مصالحها، ومصالح حلفائها. وفي هذا الصدد تقول كاثرين باور، المستشارة السابقة حول شؤون إيران في مكتب تمويل الإرهاب والجرائم المالية التابعة لوزارة الخزانة الأميركية "علاقة إيران بالقاعدة – رغم الاختلاف المذهبي-نشأت قبل أحداث 11 سبتمبر حيث كانت بمثابة المحطة لنقل عناصر القاعدة والأموال وتقديم التسهيلات من شمال آسيا إلى سوريا وإلى الخليج بهدف تسهيل أنشطة خلايا القاعدة". وأضافت " إيران ما تزال متورطة في تقديم تسهيلات لـ تنظيم القاعدة بانتقال عناصره من إيران إلى مناطق مختلفة، إضافة إلى استضافة عدد من قياداته في طهران". وعندما حدثت تفجيرات الرياض عام 2003م، كان الذي أعطى إشارة التنفيذ أحد زعماء القاعدة في إيران وهو سيف العدل قائد عمليات القاعدة (وفق تسجيلات هاتفية موثقة) كما يؤكد ذلك عادل الجبير وزير الدولة للشؤون الخارجية السعودي.

تطرف إسلامي أم أسلمة للتطرف؟

خلال مؤتمر ميونيخ الدولي للأمن والسياسات الدفاعية الذي عقد في فبراير 2016م، رد الوزير عادل الجبير خلال كلمته على سؤال أحد الحضور يتهم داعش بأنها تمثل الإسلام، وبأنها خرجت من رحمه وبالتالي فهي وليدة الدين الإسلامي. أجاب الجبير: "أن كل دين به ضالين ومرضى نفسيين يريدون خطفة، وأن هناك جماعات مسيحية ترفع الصليب ويفعلون كل شيء باسم الدين والمسيح ومن أمثالهم كو كلوكس كلان (kkk). والكي كي كي هي تجمع لتنظيمات أمريكية متطرفة، تؤمن بسمو وتفوق العرق الأبيض البروتستانتي المسيحي على جميع الأعراق والمذاهب، وتتخذ من المسيحية شعارًا للتعذيب والقتل، زاعمة أن ذلك يرضي المسيح، وبناءً عليه تقتل وتعذب وتصلب السود والناطقين بالإسبانية واليهود والكاثوليك باسم الدين. وإذا كانت "داعش تنظيمًا إسلاميًا، فالكي كي كي (kkk) تنظيمًا مسيحيًا ".

ولا يقتصر الأمر على منظمة كو كلوكس كلان (kkk)، ففي أمريكا العديد من الحركات الدينية التي استغلت الآيات الدينية لتبرير عنفها ضد الطوائف المسيحية الأخرى وضد أصحاب الديانات المختلفة مثل (كهنة فينس وجيش الرب) وهي منظمات إرهابية مسيحية صُنفت هكذا من مكتب التحقيق الفيدرالي، يستخدمون العنف للترويج لرسالتهم المبنية على الحقد والكراهية. وفي جيش التحرير الإيرلندي الذي تسبب في أحداث عنف رهيبة بين الكاثوليك الراغبين في الانفصال عن بريطانيا والبروتستانت الموالين لها. وكذلك جيش الرب الأوغندي الذي يهدف إلى الإطاحة بالحكومة وقيام حكومة أصولية مسيحية بأسس الكتاب المقدس. ووفقًا للأمم المتحدة فإن مسلحي جيش الرب الأوغندي قتلوا أكثر من 100 ألف شخص خلال الأعوام الـ 25 الأخيرة. والأمر لا يخص المسيحية وحدها. فيوجد إرهابٌ بوذي في بورما ضد المسلمين. وفي الهند يحدث إرهاب سيخي ضد المسلمين والعكس. وإرهاب يهودي نراه يوميًا في فلسطين.

وهذا لا يعني على الإطلاق تبرئة وحشية الإرهابيين الذين يستندون إلى نصوص دينية في القرآن والسنة مثل تنظيم داعش والقاعدة وبوكو حرام وغيرها لتبرير العنف والقتل. لكنه يعني أن هناك العديد من الجماعات الإرهابية في العالم التي تستند إلى نصوص دينية.

جهاد الإرهابيين الجدد

لأثبات أن الإرهاب لا دين له ولا وطن له ولا يصح نسبة أي عمل إرهابي للإسلام، فبعد سلسلة عمليات إرهابية، استهدفت مسيحيين وكنائسهم، سواء في مصر أو غيرها امتدت هجمات داعش لتشمل مساجد المسلمين، أكثر من خمسين مسجدًا تم تدميرها من قبل داعش، بداية بتفجير مسجد الإمام على بن أبي طالب، في بلدة القديح بمحافظة القطيف شرق السعودية في 22 مايو 2015م، وقتل 20 شخصًا من بينهم طفل لا يتعدى عمره 7 سنوات. مرورًا بتفجير جامع الإمام الحسين في الدمام شرق السعودية في 29 مايو 2015م، إلى جانب تفجير مسجد قوات الطوارئ الخاصة بأبها في أغسطس 2015م، أثناء صلاة الظهر ما أدى إلى مقتل 15 شخصًا. وأخيرًا محاولة استهداف المصلين في المسجد النبوي في 4 يوليو 2016م، هذه الجريمة التي استفزت مشاعر المسلمين في العالم أجمع لما تمثله هذه البقعة الطاهرة من رمزية دينية كبيرة لكل المسلمين. فهذا التنظيم الإرهابي لم يراع في المصلين إلاًّ ولا ذمة، ولم يفرق بين سني ولا شيعي. فهذا الإرهابي الذي استهدف مواطني القطيف الشيعة هو نفسه الإرهابي الذي استهدف رجال الأمن والمصلين السنة في محاولة منه للعب على الورقة الطائفية لإثارة الفتنة. كل هذا أثبت أن الإرهاب لا دين له ونسف كل الحجج الدينية لهذا التنظيم الإرهابي التي يستند فيها إلى أدلة وحجج واهية تخدم فكره المتطرف.

أسطورة العنف الديني

تقول المفكرة المسيحية الألمانية الدكتورة كريستيانا باولوس أستاذ اللاهوت بجامعة فرانكفورت ومدير مركز حوار الحضارات " لقد اكتشفت بنفسي زيف الادعاء بأن الإسلام دين العنف والإرهاب فالإسلام كما عرفته دين ينهى عن العنف وقتل الأبرياء حتى عن طريق الخطأ وتوقفت طويلًا أمام الآية الكريمة: "من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا"، واستوقفتني كثيرًا تلك الآية التي تؤكد عظمة الدين الإسلامي الذي يمنع الانتحار أو القتل، فهل يعد هذا الدين دين عنفٍ وإرهابٍ".

وهنا يأتي كتاب كارين آرمسترونج Karen Armstrong الباحثة البريطانية الشهيرة المختصة في علم مقارنة الأديان، ومن أكثر الشخصيات إثارة للجدل " Fields of blood: Religion and the history of violence «حقول الدم.. الدين وتاريخ العنف»، ليجيب عن هذا التساؤل المهم والجوهري عبر الكشف عن الدوافع التاريخية والسياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تقف خلف حالات العنف التي تم إسباغ الصفة الدينية عليها. فبعد استقراء التاريخ بدءًا بالمجتمعات الإنسانية القديمة، مرورًا بالحروب الدينية في القرون الوسطى، وصولاً إلى تحليل مظاهر وأسباب العنف في الأزمنة الحديثة، تصل آرمسترونج لإجابة مفادها أن فكرة العنف الديني هي محض «أكذوبة». وإن العنف الذي يأخذ صبغة دينية غالبًا ما ينبع من أهداف سياسية، أي أنتجتها الأنظمة الحاكمة عبر التاريخ لتبرير أفعال القمع والاستبداد. فعصر الإقطاع كما تمثل آرمسترونج كان خير شاهد على استغلال الدين من مالكي الأراضي لتبرير استغلالهم للفلاحين، فزعموا أن الله له حكمته في خلق الفلاح ليكون عبدًا لمالك الأرض، ومن ثم يكون أي اعتراض من الفلاحين تمردًا على مشيئة الله، ويستوجب عقابًا قاسيًا، فالاستبداد إذًا هو أساس التطرف والعنف وليس الدين.فرغبة السياسي في السيطرة والاستبداد مستغلاً تفضيل الشعوب إلى الاستناد إلى الدين لإضفاء القيمة والمعنى لحياتها، "كانت هي المحرك الرئيسي وراء ارتكاب مذابح الحملة الفرنسية، والحروب النابوليونية، والحرب الأهلية الأمريكية، والحربين العالميتين الأولى والثانية في الغرب وكذلك وراء الحملات الصليبية على الشرق وأيضًا هو نفس المبرر للنشاط الحالي للجماعات الإرهابية" كما تأكد آرمسترونج . فهذه التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم داعش يستغلون الدين لتبرير عمليات القتل والتعذيب والوحشية التي يرتكبونها من أجل الوصول إلى السلطة. فهم يخوضون حربًا سياسية يباح فيها كل شيء باسم الدين. وبالتالي كما تقول آرمسترونج "السياسة والطموح البشري هم الجناة الحقيقيون وراء كل أشكال العنف العام، وليس الدين".

ومن هنا تأتي خطورة استعمال الدين في مجال السياسة على مدار التاريخ، إذ كان الثابت الوحيد من استمرار أوهام "النطق باسم الله على الأرض"، هو التطرف والتعصب وكم هائل من العنف والدموية، كما حدث بالأمس مع الدول التي استخدمت الدين فكانت وبالاً على الدين وعلى السياسة معًا، ونتج عنها المجازر كالحروب الصليبية ومحاكم التفتيش في إسبانيا، وكما يحدث اليوم من توظيف هذه الجماعات المتطرفة للدين، الذي تسببت في العديد من المذابح والمجازر.

الحضارة الإسلامية بين العنف والتسامح

عندما تذكر الحضارة الإسلامية يتبادر إلى الذهن العنف الذي ارتبط بها، وأنها حضارة انتشرت وتوسعت بالإكراه وبحد السيف، هذا ما ترسخ في المخيلة الغربية، والتي رزحت طويلاً تحت هيمنة تحيز بعض المستشرقين الذين ساهموا في صياغة معظم المناهج الدراسية في المدارس والجامعات عن الإسلام والمسلمين، في شكل يوحي بأن العنف ملازم للفكر وللحضارة الإسلامية وأن الإسلام دين يحث أتباعه على العنف والإرهاب. إلا أن الحقيقة أن الحضارة الإسلامية كانت أقل الحضارات نزعة للعنف وأكثر تمدنًابالمقارنة بالحضارات الأخرى، وهذا ما اعترف به المنصفون من المستشرقين للحضارة الإسلامية، وأقروا أن لها الفضل في إرساء الحجر الأساس للحضارة الأوروبية الحديثة.

أعد الدكتور نافيد س. الشيخ «Naveed Sheikh»، من جامعة لويسفيل بالولايات المتحدة، دراسة في عام 2008م، تستعرض بشكل كمي العنف السياسي عبر الحضارات العالمية. وتسعى الدراسة لتقدير عدد القتلى من البشر الناجم عن العنف الديني والسياسي (الأحداث العامة الكبرى كالحروب والحروب الأهلية والمذابح السياسية والعرقية) في الفترة منذ بداية التاريخ الميلادي أي طوال الألفيتين الماضيتين إلى عام 2008م، وربطها بالحضارات الدينية الثقافية. وجاءت الدراسة تحت عنوانBody count. A quantitative review of political violence across world civilizations، «عداد القتلى.. دراسة إحصائية للعنف خلال حضارات العالم»، تناولت الدراسة 321 حالة من أصل 3000 صدام عنيف في التاريخ، يرى الشيخ أنها من أعنف الصراعات حيث كل منها حصد من القتلى ما يقدر بحوالي 10 ملايين إنسان، ثم قام الشيخ بترتيب النتيجة وفق خطوط حضارية لبلوغ فهم مقارن للعنف المتكيف اجتماعيًا ودينيًا، ولمعرفة عدد ما قتله التابعون لكل حضارة وديانة على حد وتوفير إحصاءات إجمالية لذلك. وقد شملت الدراسة عددًا من الحضارات الإنسانية والمعتقدات الدينية: (الإسلام والمسيحية والبوذية والهندوسية بالإضافة إلى الصينيين وعدد من الحضارات البدائية) ولم تشمل الدراسة الديانة اليهودية إذ اعتمدت بالأساس على ما وصفته بـ “الحضارات” ولم تشمل كل الديانات. وبحسب الدراسة: فإن الحضارة أو الديانة المسيحية تأتي على رأس القائمة بـ 73,30 % بقتل أزيد من (177.941.750)، ثم يأتي بعده الملحدون بـ 64,21% بـ (125.287.500)، ثم الصينيون بـ % بـ 107.923.750، يليهم البوذيون بـ 15,19% بـ 87.946.750 ثم الحضارات البدائية بـ 7,87،% (45,561,000) ويأتي المسلمون في المرتبة ما قبل الأخيرة بـ5,52 % (31.943,500)، وفي المرتبة الأخيرة يأتي الهندوس بـ 0,41 % ( 2.389.250).

فلو كانت الحضارة الإسلامية حضارة عنف وانغلاق فكيف يمكن تفسير انفتاحها على الحضارات الأخرى مثل حضارة الهند والفرس في الشرق واليونان في الغرب. فتجد كثيرًا غير العرب من الفرس والهنود والسريان والمصريون والبربر وقوط غربيون ساهموا جميعاً في رسم معالم تلك الحضارة. تقول المستشرقة الإيطالية الدكتورة ريتا دى ميليو أستاذة الدراسات الإسلامية بجامعة روما وصاحبة كتاب "الإسلام ذلك المجهول في الغرب" في حديث لـ (جريدة لـ «الشرق الأوسط» على هامش مشاركتها في المؤتمر الذي نظمه المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة،3 نوفمبر 2009م، أن الحضارة الإسلامية "حضارة إنسانية قامت على أسس صحيحة تقبل بالتعددية الثقافية والدينية وأن هذه الحضارة قدمت للبشرية تراثًا زاخرًا بكل أسباب التقدم". ولم تقتصر على الانفتاح على الحضارات الأخرى بل أثرت فيها تأثيرًا كبيرًا مما دعا كثير من المستشرقين ذوي المكانة العلمية يكتبون عن فضل الحضارة الإسلامية على حضارتهم، حيث أسهمت بكنوزها في الطب والكيمياء والرياضيات والفيزياء في قدوم عصر النهضة. فلا يكاد علم نظري أو تجريبي نهض بالمجتمعات الأوروبية إلا ويجد مرجعه وكتبه ومدوناته في الحضارة الإسلامية. ففي كتاب "شمس العرب تسطع على الغرب: أثر الحضارة العربية في أوروبا " للمستشرقة الألمانية زيغريد هونكه،ألقت الضوء على مدى تأثر الغرب واستفادته من العرب وتراثهم وما نجده في عصرنا هذا مرتبط بالحضارة الإسلامية. تستهل زيغريد هونكه كتابها بهذا المدخل:

"لم يعد العالم مقتصرًا على أوروبا وحدها، كما وأن التاريخ الأوروبي لم يعد في الوقت الحاضر التاريخ العالمي وحده، إن شعوب أخرى اعتلت المسرح العالمي. ففي الوقت الذي كانت تسعى فيه أطراف الأرض جميعها إلى رسم خطوط مسرحية التاريخ العالمي، دون أي وشيجة سابقة تربط بينها، تعود بنا الذكرى دائمًا إلى "خارطتنا للعالم" في القرون الوسطى التي تصور أوروبا دائرة يلفها البحر العالمي، وتتوسطها بلاد الإغريق من جهة، وروما من جهة ثانية، فردوها لها ومركز إشعاع".

"أما أن تكون ثمة شعوب أخرى، وأطراف من الأرض لها شأن عظيم في التاريخ، بل وتاريخنا الغربي خاصة، فذلك أمر لم يعد بالإمكان تجاهله في حاضر قد طاول النجوم عظمة. لأجل ذلك يخيٌل إلي أن الوقت قد حان للتحدث عن شعب قد أثر بقوة على مجرى الأحداث العالمية، ويدين له الغرب، كما تدين له الإنسانية كافة بالشيء الكثير. وعلى الرغم من ذلك فإن من يتصفح مئة كتاب تاريخي، لا يجد أسما من هذا الشعب في ثمانية وتسعين منها".

ويطرح مارك جراهام الكاتب الأمريكي عبر كتابه "كيف صنع الإسلام العالم الحديث؟" فكرة وجود علاقة واضحة بين الحضارة الإسلامية والنهضة الأوروبية، وتفرع في تحديد التأثير الإسلامي في النواحي العلمية والشعر والفلسفة والميكانيكا والرياضيات والطب بالتفصيل. يحكي الكتاب كيف أنه وعندما كانت أوروبا في ظلمات القرون الوسطى نعم العالم الإسلامي بالمستشفيات والأدوية والموسيقى وعمل في بيت الحكمة جيش من المترجمين والعلماء الذين نقلوا حكمة الإغريق ومعارف الهند وعلوم الفرس إلى العرب. ويضيف "أن الأوروبيين كانوا يرتدون الأقمشة العربية ويستمعون إلى موسيقاهم ويتعلمون من فلاسفة الأندلس والأهم أن المسلمين علموا الغرب الأسلوب العلمي في التفكير والمنهج موضحًا كيف انتشل الإسلام الغرب من ظلمات القرون الوسطى ووضع أقدامه على عتبات عصر النهضة". تقول الدكتورة إيناس حسنى في كتابها "شواهد إسلامية على الحضارة الأوروبية" كان فضل العلماء العرب كبيرًا على الحضارة الإنسانية، حيث كانوا لبنة أساسية من لبناتها، فقد نقلوا العلم اليوناني وهضموه وأضافوا إليه إبداعاتهم التي مازالت مؤثرة في العالم حتى اليوم، لو لم يصل ما بقي من مؤلفات اليونان على يد العرب إلى أوروبا لتأخرت النهضة الأوروبية، ولولا ظهور "ابن الهيثم" و"جابر بن حيان" وأمثالهم من العلماء المسلمين لتأخر ظهور "جاليليو" و"نيوتن" وغيرهما. وبمعنى آخر فإنه إن لم يظهر "ابن الهيثم" لاضطر "نيوتن" أن يبدأ من حيث بدأ "ابن الهيثم" ولو لم يظهر "جابر بن حيان" لبدأ "جاليليو" من حيث بدأ "جابر"، وهكذا".وبالتالي لا يستطيع أحد إنكار دور الحضارة الإسلامية بصفتها حلقة وصل بين الثقافات والحضارات، ومساهم أساسي في بناء الحضارة الأوروبية الحديثة من خلال انتقال العلوم والثقافة الإسلامية إلى أوروبا عبر الأندلس وصقلية وغيرها، وهو الانتقال الذي مهد لما عُرف بـ"عصر النهضة".

وأخيرًا يمكن إجمال التحدي الحقيقي الذي تعيشه المنطقة والعالم هو كيفية تنظيم العلاقة بين ثلاثية الدين والدولة والسياسة وحل معضلة تسييس الدين وتديين السياسة، وتحييد هذه الجماعات أو الدول التي تحاول إشعال الفتن الطائفية أو الدينية مستندة إلى نصوص دينية أو تفسيرات فقهية أو حرفية لتبرير إرهابهم وقتلهم، بحيث نصل في نهاية المطاف إلى التوافق بين مكونات المجتمع وتحقيق السلم الاجتماعي، ليسهل الانتقال إلى مرحلة المواطنة وتكوين وعي مواطني حقيقي وتحقق الاستقرار اللازم للتنمية والتقدم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*مدير إدارة الدراسات الاستراتيجية والأمنية بالأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية ــ كاتب سياسي وباحث في العلاقات الدولية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

هوامش

  1. كارين آرمسترونج، حقول الدم.. الدين وتاريخ العنف، الشبكة العربية للأبحاث والنشر ، 2016م
  2. سيغريد هونكه ، شمس العرب تسطع على الغرب : أثر الحضارة العربية في أوروبة، ‎ دار صادر‎، ‎2012‎‎
  3. مارك غراهام، كيف صنع الإسلام العالم الحديث ، دائرة الثقافة والسياحة، 2010
  4. إيناس حسنى، شواهد إسلامية على الحضارة الأوروبية، دائره الثقافه والاعلام بحكومه الشارقه، 2014
  5. نافيد شيخ، تعداد الضحايا إستعراض كمي للعنف السياسي عبر الحضارات العالمية، المركز الملكي للبحوث والدراسات الإسلامية، 2009.
  6. فهد سليمان الشقيران، زيارة البابا من «دستور المدينة» إلى «وثيقة الأخوة»، الشرق الاوسط ، 7/2/ 2019
  7. ابراهيم العثيمين الارهاب الخبز اليومي للعالم، صحيفة اليوم، 30/12/2016
  8. ابراهيم العثيمين، تفجيرات الكويت: قنديل المعبد وعينه الثالثة، صحيفة اليوم، 3/ 7/2015
  9. ابراهيم العثيمين،عيد مخضب بالدماء، صحيفة اليوم ، 8/ 7/2016
  10. ابراهيم العثيمين، من هو الارهابي، مقاربة لتحليل الظاهرة ، صحيفة اليوم
  11. كلمة عادل الجبير، مؤتمر ميونيخ الدولى للأمن والسياسات الدفاعية الذي عقد في فبراير 2016
  12. ثقافة التسامح والاعتدال، البوابة الرسمية لحكومة الامارات العربية المتحدة
  13. سكاي نيوز، 31 /1/ 2019
  14. قناة فرانس 24 ، 23/8/2017
  15. موقع العربية نت ، 21/5/2017
  16. وكالة انباء اونا، 5/3/ 2016
  17. صحيفة الشرق الاوسط، 10 / 8/ 2015
  18. قناة سكاي نيوز عربية ، l 5 /7/ 2016
  19. صحيفة المدينة ، 21 / 07 / 2013
  20. صحيفة الشرق الاوسط 3 /11/ 2009

 

 

 

 

مجلة آراء حول الخليج