array(1) { [0]=> object(stdClass)#12958 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 135

ضرورة تبني صيغ أكثر توازنًا لتعاون أوروبا مع المنطقة العربية تقر بالمتغيرات

الإثنين، 04 آذار/مارس 2019

حظيت منطقة الشرق الأوسط على مدى عقود بأهمية بالغة لأوروبا، كما أن الدول العربية تبادل دول الاتحاد الأوروبي الاهتمام نفسه لأسباب كثيرة. لكن وبالرغم من أهمية الاتحاد على الساحة الدولية والإقليمية إلا أنه يواجه عدة مشكلات عديدة، حيث يفتقر إلى القيادة ولا تساعد هياكله على أخذ القرارات بشكل اتفاقي، وكذلك لا توجد أهداف موحدة بين دوله خاصة على الصعيد السياسي، فالقرارات التي تصدر والمواقف التي يتخذها الاتحاد الأوروبي تعتمد على من له السيادة ويمتلك المركز.

وفي السنوات الأخيرة ازدادت الأوضاع تدهورًا على الصعيد الداخلي في القارة الأوروبية حيث شهدت أزمات متلاحقة أدت إلى انكفائها لمعالجة مشاكلها مما أثر على اهتمامها بالقضايا الإقليمية رغم ارتباطها بالإشكاليات الداخلية للقارة التي يجب أن تدرك أوروبا أنه لا مجال للفصل بين الإشكاليات المجاورة أو الحياد في عصر يشهد تأثيرًا متبادلاً وخاصة مع الجوار الجغرافي بين أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط.

أولاً الأزمات الداخلية الأوروبية

يقف الاتحاد الأوروبي عند مفترق طرق لتعرضه للعديد من الأزمات الهيكلية ومنها قضايا الأمن والإرهاب، ما يثير تساؤلات حول ما إذا كانت هذه التحديات قد كشفت عن أزمات بنيوية في الاتحاد الأوروبي، أم أنه سيدرك أهمية تعاونه مع دول الجوار ما يساعد في النهاية على فرض حالة من الاستقرار داخليًا وخارجيًا. وهنا نستعرض بعض أهم هذه الأزمات في الوقت الراهن:

1-  أزمة اللاجئين

نتيجة لعدم استقرار الأوضاع في بعض البلدان العربية، تدفق في العامين 2015 و2016م، مئات الألوف بل الملايين هربًا باتجاه دول الاتحاد الأوروبي طلبًا للجوء والاستقرار ما وضع القارة الأوروبية أمام تحديات أمنية واقتصادية، كما أدت محاولات الوفاق لحل الأزمة إلى خلافات أكبر بين دول الاتحاد وانقسام في المواقف خاصة دول وسط وشرق أوروبا التي أعلنت صراحة رفض خطة توزيع اللاجئين التي أعلنتها المفوضية الأوروبية، ورفضت استقبال أي لاجئين أو المشاركة في وضع شروط لاستقبالهم.

وتسبب فتح الباب أمام اللاجئين في بعض الدول مثل ألمانيا إلى أزمات سياسية كبيرة أدت مع أسباب أخرى إلى تنحي المستشارة الألمانية انجيلا ميركل عن رئاسة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي بنهاية شهر نوفمبر 2018م، وأعلنت عدم ترشحها لرئاسة الحكومة واعتزالها الحياة السياسية نهائيًا عام 2021م.

ولا يعني الانخفاض في أعداد المهاجرين إلى أوروبا أن دول الاتحاد لا تواجه تحدياتٍ حقيقية، فلا تزال تكافح من أجل استيعاب ما يقرب من 1,8 مليون مهاجر وصلوا إليها بحرًا منذ 2014م، وما دفع الاتحاد إلى اتخاذ إجراءات متعددة بعضها كان عرضة للانتقاد حيث توصَّلت عدد من الحكومات الأوروبية إلى اتفاقيات ترحيل مع السودان، وساعد كذلك اتفاق مع النيجر في تنفيذ حملة أمنية ضد عمليات التهريب في غرب الصحراء الكبرى. بالإضافة الى أن الحكومتين الألمانية والهولندية توسطتا في اتفاق بالاتحاد الأوروبي عام 2016م، مع تركيا؛ مما أدى إلى انخفاض حاد في مستويات الهجرة إلى اليونان.

ونتيجة للمزيد من الضغوط الداخلية وبعد ماراثون من المحادثات أثناء القمة الأوروبية في بروكسل 28 و29 يونيو 2018م، تم التوصل لاتفاق حول الهجرة وتقرر إقامة مراكز للاجئين في دول الاتحاد الأوروبي بشكل "طوعي"، وستقرر هذه المراكز "المهاجرين الذين ستتم إعادتهم إلى بلادهم"، واتخاذ إجراءات في دول الاتحاد تحول دون تنقل المهاجرين بين دول المنطقة، وتعزيز السيطرة على الحدود الخارجية لمنطقة اليورو مع توفير التمويل لتركيا ودول شمال إفريقيا لدعم جهودها في إغاثة اللاجئين. ورغم ذلك تبقت قضايا خلافية حول من سيتحمل اللاجئين الذين ستعيدهم ألمانيا لبلدان دخولهم مع رفض هذه الدول استقبالهم أو كيف سيتم التعامل مع وصول لاجئين جدد.

كما تسبب التصويت بنعم لميثاق الهجرة الآمنة والنظامية والمنتظمة (GCM) المعروف أيضًا باسم ميثاق مراكش في الأمم المتحدة بأزمة سياسية كبرى في بلجيكا حيث أعلن الوزراء القوميون الفلمنكيون استقالتهم من التحالف الحاكم، وحاول رئيس الوزراء شارل ميشال الإبقاء على الحكومة التي لم تعد تملك الغالبية في البرلمان حتى موعد الانتخابات الفيدرالية المقررة في مايو 2019م، ولكنه فشل تحت تهديد مذكرة لحجب الثقة قدمها الاشتراكيون وأنصار البيئة واضطر لتقديم استقالته يوم 18 ديسمبر 2018م، وتبقى بلجيكا بدون حكومة مجددًا حتى هذا الموعد.

ما سبق يؤكد أن قضية الهجرة واللاجئين سببًا رئيسيًا في العديد من الأزمات التي تواجه القارة وعامل مؤثر في التحديات التي سنناقشها تاليًا.

2-  تنامي التيارات القومية والشعبوية

شهدت أوروبا خلال الأعوام الماضية تحولاً في المزاج العام باتجاه تيارات اليمين المتطرف واليسار الراديكالي، وهذا التحول يبدو بطيئًا لكنه مستمر. وتكمن خطورة أفكار التيارات القومية والشعبوية،المتصاعدة سياسيًا ومجتمعيًا، في الدعوة للقطرية،ومعاداة أفكار التكامل، وسعيها لفرض إجراءات حمائية لتقييد حرية التجارة والانتقال، ورفضها التوسع في سياسات الهجرة، التي تشكل في رأيها عبئًا على الاقتصاد وتحرم المواطنين من فرص العمل والحياة الكريمة.

تنمو الشعبوية عبر أوروبا على اليمين واليسار على حد سواء، غير أن زخمها في اليمين أكبر، واستطاعت في عام 2018م، تعزيز مكاسبها السياسية وخاصة في الاستحقاقات الانتخابية من سيطرتها على دول هامة في الاتحاد الأوروبي. ففي إيطاليا بعد مفاجأة الانتخابات البرلمانية في مارس 2018م، وبعد خلافات عديدة تم تشكيل حكومة ائتلافية تضم كلا من حزب "رابطة الشمال" اليمينية المتطرفة وحركة «النجوم الخمس» الشعبوية المتطرفة المعادية لمؤسسات الحكم الإيطالية والتي تسببت في عدة إشكاليات مثل أزمة الموازنة والتي تم حلها في ديسمبر 2018 م، بعد صدامات متواصلة مع المفوضية تسببت في خسائر وتهديدات اقتصادية.

وعلى صعيد دول شرق أوروبا، استمرت سيطرة تيارات اليمين المتطرف في الانتخابات البرلمانية في المجر وبولندا وسلوفينيا عام 2018م، حيث ضمن فيكتور أوربان ولاية ثالثة على رأس حكومة المجر، وحاز رئيس الوزراء السابق يانيز يانشا في سلوفينيا على فرصة تشكيل الحكومة، كما فاز الحزب اليميني المتشدد "القانون والعدالة في بولندا أيضا. وهذه الدول الثلاث تعاني من خلافات مع الاتحاد الأوروبي وظهر ذلك جليًا في رفض هذه الدول اتفاقية حصص اللاجئين وقرار المفوضية الأوروبية عام 2017م، بمقاضاتهم ومعهم جمهورية التشيك أمام محكمة العدل الأوروبية.

وفي الانتخابات الرئاسية بجمهورية التشيك انتُخب الرئيس ميلوش زيمان لفترة رئاسية جديدة، وهو يرى في تعاون بلاده مع روسيا والصين آفاقًا اقتصادية واعدة، كما أنه يعتبر سيادة روسيا على القرم أمرًا واقعًا ويرفض استقبال التشيك للاجئين من الدول الإسلامية باعتبارهم عنصرًا حضاريًا غريبًا على بلاده، كما كان زيمان الزعيم الأوروبي الوحيد الذي رحب بقرار الرئيس الأمريكي ترامب الاعتراف بمدينة القدس عاصمة لإسرائيل.

في ظل هذه التطورات تعتبر انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو المقبل، مثارًا للقلق حيث تحشد هذه الأحزاب المتطرفة للانتخابات بكامل قوتها للسيطرة على مؤسسات الاتحاد وتحريكها أو التأثير عليها لتحقيق مصالحها إن لم يكن لتقويضها. كما سيتم تعيين مفوضين جدد بالمفوضية الأوروبية من أربعة بلدان على الأقل -التشيك واليونان وإيطاليا وبولندا -من قبل الأحزاب الحاكمة في هذه البلدان وهي أحزاب قومية متطرفة لديها تشكك وانحيازات ضد الاتحاد الأوروبي. وهذا تحد إضافي لمستقبل مؤسسات الاتحاد الأوروبي يجب أن يعمل قادة القارة على التصدي له.

3-  أزمة القيادة والخلافات الداخلية

يقوم الاتحاد الأوروبي على أعمدة أساسية، أولها العمود الألماني، يليه الفرنسي، ثم الإيطالي... مع أن الظهير البريطاني لم يعد موجودًا عمليًا. وإذا اهتزّ أحد هذه الأعمدة يمكن للركائز الأخرى أن تعيد الثبات، لكن حاليًا تعاني جميع هذه الدول من أزمات داخلية عاصفة.

ألمانيا، فقدت قدرًا كبيرًا من نفوذها بعد إعلان ميركل التنحي، فألمانيا تحمّلت العبء الأكبر من الأزمة المالية التي ضربت أوروبا من 2008 إلى 2010م، وخصوصًا مشاكل اليونان وايرلندا وإيطاليا وإسبانيا، كما سببت الهجرة قلقًا عند الألمان وتوترًا خاصة بين شركاء الحكومة. بينما نحن نرى صعودًا سريعًا لليمين القومي المتطرّف، وعلى رأسه حزب البديل من أجل ألمانيا الذي فرض وجوده في البرلمان، حاصدًا شعبية معتبَرة. وثمة تيار واسع في هذا الحزب يدعو إلى الانسحاب من الاتحاد الأوروبي بعدما ضاق من تحمّل ألمانيا أعباء الآخرين.

أما "ماكرون" الذي يعد من أهم القادة الأوروبيين المؤمنين بالوحدة الأوروبية تعرض لتراجع شعبيته إلى أدنى معدل لها؛ حيث وصلت إلى 34% خلال أغسطس 2018م، متراجعًا بنسبة 5 نقاط عن شهر يوليو، و18 نقطة منذ يناير 2018م، وفقًا لاستطلاع المعهد الفرنسي للرأي العام، على خلفية إصدار قانون العمل الجديد الذي اعتبره البعض انقلابًا اجتماعيًا نابع من النهج الاقتصادي والاجتماعي الذي تمثله سياسات ماكرون. وما إن قرر ماكرون رفع الضرائب على المحروقات قامت حركة "السترات الصفر" التي امتدت ووسعت مطالبها، ليضطر الرئيس للتراجع أبعد من مجرد إلغاء رفع ضرائب المحروقات ورفع الحد الأدنى للأجور وبعض الإعفاءات الضريبية التي ستكلف المالية العامة نحو 10 مليارات يورو سنويًا.

ولا يبدو أن الحوار الذي يشدد رئيس الحكومة الفرنسية إدوارد فيليب دائمًا على استمراره وتقدمه أنتج تراجعًا في زخم التظاهرات فضلاً عن أنه لن يتطرق إلى مسائل أساسية ألهبت نفوسَ فرنسيين، فالمعضلة ليست مرتبطة بالضرائب فقط بقدر ارتباطها بتوسع الفوارق الطبقية انطلاقًا من سياسات تديرها شخصيات تؤمن بأن عجلة الاقتصاد تتحرك عبر إراحة أصحاب رؤوس الأموال من الضرائب بما يساعدهم على تشغيل الطبقات المتوسطة والفقيرة. لذلك سرعان ما تفاقمت التظاهرات إلى حد المطالبة باستقالة ماكرون، وحل البرلمان، وإدراج هذه المطالب وغيرها، للتصويت في استفتاء شعبي.

وحتى الآن يتطور المشهد الفرنسي أسبوعيًا في فترة يحاول ماكرون تفعيل الدور الفرنسي على الساحة الدولية لكنه يقف أمام العديد من الأزمات الداخلية.

على الصعيد الإيطالي، اشتبكت الحكومة القومية المتطرفة منذ تشكيلها مع المفوضية الأوروبية فيما يتعلق بموازنة إيطاليا التي كادت أن تتسبب في أزمة اقتصادية جديدة للاتحاد الأوروبي في حالة لم يتم التوصل لاتفاق كما حدث في ديسمبر 2018م، بعد ضغوطات كبيرة من المفوضية ويرجع ذلك إلى أن الحكومة الإيطالية الشعبوية تقارب الأمور من منظار قومي ضيق، وبالتالي لا يمكن التعويل عليها في تأدية دور أبعد من الحدود المحلية.

وزادت أزمة القيادة اختناقًا بتصاعد الخلاف الفرنسي – الإيطالي مؤخرًا بشكل كبير في سابقة لم تعرفها علاقات دولتين محوريتين في الاتحاد الأوروبي بحجم وثقل إيطاليا وفرنسا. بسبب التصعيد الإعلامي من الجانب الإيطالي تجاه باريس بسبب أزمة الهجرة غير الشرعية والأوضاع في ليبيا، التي أدت لزيادة موجات الهجرة إلى إيطاليا، وتُحمّل روما السياسات الفرنسية في إفريقيا مسؤولية ذلك في العديد من التصريحات الهجومية التي أدت بالسلطات الفرنسية لاستدعاء السفيرة الإيطالية في باريس للاحتجاج على هذه التصريحات التي رأت فيها خروجًا عن الأعراف الدبلوماسية. وتفاقم الوضع عندما أعلن وزير الداخلية، ماتيو سالفيني، عن أمله في أن يتمكن الشعب الفرنسي من التخلص من أسوأ رئيس عرفته فرنسا ويحدد مستقبله ويقرر مصيره وذلك في عقب لقاء نائب رئيس الوزراء، دي مايو، مع كريستوف شيلونكون زعيم حركة السترات الصفراء والمرشحين على قائمة الحركة الشعبية في انتخابات البرلمان الأوروبي المقررة في شهر مايو المقبل.

4-  تداعيات "بريكست"

تقودنا الأزمات السابقة إلى قضية انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي وهي في جزء منها ناتج عن الأزمات السابقة المتعلقة بقضايا الهجرة واللاجئين، قضايا الأمن والإرهاب، وصود التيارات القومية المتطرفة، حيث اعتبر داعمو الخروج إن بلادهم لم تعد تسيطر على حدودها وقراراتها التي "تصاغ في بروكسل، كما أنها ساهمت وبقوة في أزمة القيادة التي شهدها الاتحاد كما تحدثنا سابقًا.

رفض البرلمان في 15 يناير 2019م، بأغلبية ساحقة الاتفاق الذي أبرمته ماي للخروج من الاتحاد الأوروبي، في أسوأ هزيمة برلمانية تمنى بها حكومة في تاريخ بريطانيا الحديث ورغم ذلك فشلت محاولة سحب الثقة من تيريزا ماي مما أثار اضطرابًا سياسيًا قد يؤدي إلى خروج البلاد من الاتحاد دون ترتيب وسينعكس هذا الخيار -لو حدث- سلبًا مباشرة على قطاع الأعمال وعلى حرية تنقل الأفراد، إذ أن البقاء في السوق المشتركة هو ضمانة لاستمرار التعاون الاقتصادي بين الطرفين، خاصة أن لندن تعد عاصمة للمال والأعمال، وفي حال لم يتم الوصول لاتفاق فإن هذه الأمور كلها ستكون غامضة ومعقدة، إضافة إلى مستقبل البريطانيين الموجودين في أوروبا والأوروبيين المقيمين في بريطانيا، فبحلول الساعة 11 مساء بتوقيت لندن من يوم الجمعة 29 مارس 2019م، تكون بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي، إذا لم توقف إجراءات الخروج أو إذا لم يتم تمديد بقائها في الاتحاد مؤقتًا بموافقة الأعضاء الـ28.

من جانبه أعلن الاتحاد الأوروبي رفضه إعادة التفاوض بشأن اتفاق الانسحاب، وتشدد الجانب الأوروبي حتى لا يمهد الطريق لدول أخرى قد ترى الانسحاب من الاتحاد أمرًا سهلاً.

وتحاول تريزا ماي التوصل لتعديلات في الاتفاق يمكن أن تقود لموافقة البرلمان عليها في تصويت جديد من المفترض أن يُجرى لاحقًا حيث تستبعد ماي تأجيل خروج بلادها من الاتحاد، وترفض فكرة إجراء استفتاء ثانٍ لـ"بركسيت". وأصدرت ماي، ورئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود، بيانًا، يوم 7 فبراير، عقب اجتماعهما في بروكسيل، أكدتا فيه استئناف محادثات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مجددًا قبل نهاية شهر فبراير من أجل إيجاد سبيل يحظى بأوسع تأييد ممكن في البرلمان البريطاني، ويحترم التوجيهات التي اتفق عليها المجلس الأوروبي".

وإذا كانت التداعيات الاقتصادية لـ "بريكست" على بريطانيا كبيرة ومتشعّبة وسلبية في غالبيتها، فإن التداعيات في الاتجاه المعاكس لا يستهان بها أيضًا. فالاقتصاد البريطاني هو الخامس عالميًا والثاني أوروبيًا، وبناتج محلّي إجمالي مقداره نحو 3 تريليونات دولار وفق أرقام عام 2018م، مما يمثّل 3.5 % من الناتج الإجمالي العالمي. كما أن بريطانيا تساهم في الميزانية الأوروبية بنحو 19 مليار يورو سنويًا، وخروجها يعني خسارة أكثر من 5 % من هذه الميزانية.

المؤشرات السابقة توحي بأن التأثيرات الخاصة بقضية خروج بريطانيا ستبقى مؤثرة في الاتحاد الأوروبي سواء على مستوى تغير موازين القوة داخل الاتحاد أو استقطاع وقت واهتمام كبير من جانب الاتحاد لضمان خروج سلس لبريطانيا في وقت هو أحوج فيه للالتفات إلى قضايا أخرى تهدده.

 

ثانيًا: تأثير المتغيرات الأوروبية الداخلية على قضايا الشرق الأوسط

 

أعلنت فيديريكا موغيريني الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية ونائب رئيس المفوضية الأوروبية عن الاستراتيجية العالمية للاتحاد الأوروبي (EUGS) في يونيو 2016م؛ بهدف القدرة على التعامل بفعالية مع التغيرات والتحديات الجارية على مستوى الاتحاد الأوروبي، بشكل خاص، وعلى الصعيد الدولي بشكل عام. أحد محاور هذه الاستراتيجية وأهدافها الرئيسية هو ما أطلق عليه "بناء المرونة واتخاذ نهج متكامل" حيث أن بناء المرونة في الداخل والخارج يعني خلق اتحاد أكثر استجابة. وبناءً عليه سيعمل الاتحاد الأوروبي على تعزيز مرونة الدول والمجتمعات من خلال دعم الحكم الرشيد والمؤسسات الخاضعة للمحاسبة والعمل بشكل وثيق مع المجتمع المدني. وسيستهدف هذا الدعم على وجه الخصوص المناطق المحيطة بالاتحاد الأوروبي في الشرق والجنوب، والتي تمتد من وسط آسيا إلى وسط إفريقيا. ويدعم الاتحاد الأوروبي أيضًا نهجًا متكاملاً للصراعات والأزمات، وهو ما يعني المشاركة الكاملة في جميع مراحل النزاع، من العمل المبكر والوقاية، حيثما أمكن، للبقاء على الأرض لفترة كافية حتى يتأصل السلام.

على أرض الواقع يبدو الوضع مختلفًا بشكل كبير فبالرغم من أن الاتحاد الأوروبي بالنسبة لكثير من الدول في المنطقة يعتبر شريكًا تجاريًا مهما، ولكنه لا يملك سياسة خارجية فاعلة وموحدة وخاصة فيما يتعلق بالشرق الأوسط، رغم أن أزمة اللاجئين والصراعات المنتشرة على نطاق واسع وتحديات الأمن والإرهاب أدت إلى جعل المشاكل التي يعاني منها الشرق الأوسط أقرب إلى أوروبا. واليوم، تشكل التحديات المختلفة التي تواجه المنطقة، سواء كانت الصراعات أو التفاوت الاقتصادي أو النمو السكاني أو الشرعية السياسية، مصدر قلق بالنسبة إلى العديد من القادة الأوروبيين.

كما أرغمت الأزمات الداخلية التي تواجهها دول الاتحاد فرادى أو الاتحاد ككل على الانسحاب من الساحة الإقليمية بدرجة أكبر والانكفاء على مشاكلها الداخلية التي أصبحت مثار تهديد أكبر لها، رغم أنه ينبغي لها أن تدرك أن ذلك سبب أكبر ينبغي أن يدفعها للعمل مع شركائها الإقليميين لحل القضايا العالقة في المنطقة والتي أدت إما بشكل مباشر أو غير مباشر إلى تأزيم التحديات في القارة الأوروبية.

من أهم القضايا التي يمكن أن يلعب فيها الاتحاد دورًا هي القضية الفلسطينية، حيث لأوروبا مواقف قوية رافضة لبعض التعديات الإسرائيلية وكذلك تبنيها موقفًا قويًا رافضًا لخطة جاريد كوشنر، للسلام وأعلن الاتحاد التزامه بالمعايير المتفق عليها دوليًا وفقًا لحل الدولتين. ما يؤهله للعب دور كطرف وسيط موثوق فيه خاصة من السلطة الفلسطيني، لكنه يظل غير قادر على تحدي أمريكا في فرض الأمر الواقع ، ورفض إسرائيل لراع آخر لعملية السلام غير أمريكا وهو الموقف الذي يمكن أن يتغير إذا استخدمت أوروبا علاقاتها الاقتصادية الوثيقة التي وصلت إلى أن يصبح الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لإسرائيل.

وفيما يتعلق بالملف النووي الإيراني يتخذ الاتحاد الأوروبي موقفًا واضحًا وصارمًا في رفض الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي الذي تم توقيعه بجهود أوروبية عام 2015 ورفضه توقيع عقوبات اقتصادية جديدة على إيران، وهنا يجب أن ندرك أن هذا الموقف نابع من المصالح المباشرة لهذه الدول حيث ترى ضرورة الالتزام به حتى لا ينزع ذلك المصداقية عن أي مفاوضات مستقبلية مع قوى أخرى، كما أن للشركات الأوروبية مصالح تجارية مع إيران وتعمل للحفاظ عليها حتى وإن تحدت واشنطن ، وهو ما قامت به بالفعل حيث صدرت تعليمات للشركات الأوروبية بأن عليها ألا تمتثل لمطالب البيت الأبيض بإيقاف كل الأعمال التجارية مع إيران، فأولئك الذين يقررون الانسحاب بسبب العقوبات الأمريكية سوف يحتاجون إلى الحصول على إذن من المفوضية الأوروبية، الذي بدونه قد يواجهون خطر مقاضاتهم من قبل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وفي محاولة لحماية الشركات الأوروبية، تم فتح آلية للسماح لشركات الاتحاد الأوروبي المتضررة من العقوبات بمقاضاة الإدارة الأمريكية في المحاكم الوطنية للدول الأعضاء.

فلا بد أن ندرك أن هذه الدول ستتحرك وبقوة لحماية مصالحها وهو ما يجب علينا استغلاله بشكل واضح لتدرك هذه الدول أهمية التعاون الإقليمي مع دولنا لتحقيق الاستقرار في المنطقة بما يحقق مصالح الطرفين.

على أوروبا أن تتعلم من أخطاء الماضي فيما يتعلق بطريقة معالجتها قضايا المنطقة وهو ما اتضح على سبيل المثال في اعتراف الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بخطأ سياساتهم في ليبيا حيث قال "اعتقدنا في الماضي أن تدخل قوى خارجية لإنهاء حكم ديكتاتور أمر كافٍ لتسوية مصير بلد.. والشعب الليبي يعاني (اليوم) من قرارات اتخذناها بالنيابة عنه"، وبالتالي فإن تصورهم الخاص بكيفية بناء الاستقرار في ليبيا ربما لا يكون هو الاتجاه السليم حيث ترى كل دولة الأمور من منظور مصالحها الخاصة وهنا يجب الأخذ في الاعتبار أهمية العامل الإقليمي في استقرار ليبيا.

وفي قضايا الأمن والإرهاب، كانت الضربة الموجعة لأوروبا بإعلان الرئيس الأمريكي في ديسمبر الماضي قراره بالانسحاب من سوريا وذلك رغم إعلانه لاحقًا أن الانسحاب سيكون بطيئًا ووفق خطة موضوعة، وهو ما قد يعرض أوروبا لمزيد من المخاطر الأمنية، إذ يرى المسؤولون الأوروبيون أن الانسحاب الأمريكي قد يسمح لداعش بإعادة بناء قواته واستعادة ما خسره من أراض وهو ما يصعد من مخاطر وقوع هجمات إرهابية في أوروبا، خاصة في ظل وجود الآلاف من أنصار داعش الذين يتغلغلون بين الأوروبيين.

وجاء الرد الأوروبي في هذه الحالة سريعًا إذ أعلنت كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا رفضهم لهذا القرار، وأكدت الوزيرة الفرنسية للشؤون الأوروبية، ناتالي لوازو، في 20 ديسمبر، أن فرنسا ملتزمة عسكريًا في سوريا وأن الحرب ضد الإرهاب حققت تقدمًا كبيرًا، صحيح أنه كان هناك تقدمًا كبيرًا في سوريا من خلال التحالف، لكن هذه المعركة مستمرة، وسنواصل خوضها". وفي لندن، اعتبرت وزارة الخارجية البريطانية أن تنظيم الدولة لم يُهزم بعد في سوريا، وأضافت أن المملكة المتحدة ستبقى مشاركة في التحالف الدولي وحملته لحرمان داعش من السيطرة على أراضٍ، وضمان هزيمته القاطعة. وفي ألمانيا قال وزير الخارجية هيكو ماس في بيان «لقد تراجع تنظيم الدولة الإسلامية لكن التهديد لم ينته بعد». وظهر خطر جديد في إطار هذه الأزمة عندما طالبت أمريكا في شهر فبراير 2019م، دولاً أوروبية بتسلم المئات من مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية، وإجراء محاكمات لهم، معلنة أن البديل سيكون إطلاق سراحهم وحينها قد يحاولون التسلل إلى أوروبا. وهنا على أوروبا اتخاذ خطوات جدية لاحتواء الأزمة قبل تأثيرها على أمن الإقليم ككل.

خاتمة

في النهاية يجب أن يستند نهج الاتحاد الأوروبي تجاه المنطقة على تقييم صادق لقدرات الاتحاد الأوروبي وتحديد مسبق للأولويات في سياساته تجاه المنطقة لاسيما في ظل تضاؤل القدرات المالية للاتحاد، وكذلك العمل على تعزيز الروابط التي تربط النمو الاقتصادي بالنقاش السياسي والحريات المدنية في إطار القيم والمبادئ التي لطالما تبناها الاتحاد. ولابد من تبني صيغًا جديدة أكثر توازنًا بالتعاون بين أوروبا ودول المنطقة تقر بالواقع الجديد الذي يفرض نفسه في المنطقة وتعمل من هذا المنطلق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*باحثة في العلاقات الدولية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ـ القاهرة

مجلة آراء حول الخليج