; logged out
الرئيسية / مراكز الدراسات ودورها في صنع القرار بالمنطقة العربية: التحديات والحلول

العدد 139

مراكز الدراسات ودورها في صنع القرار بالمنطقة العربية: التحديات والحلول

الخميس، 11 تموز/يوليو 2019

مراكز الدراسات الاستراتيجية هي مؤسسات تقوم بإعداد دراسات استراتيجية متنوعة ترتبط بالدرجة الأولى بكيفية حماية مصالح الدولة والتنبيه لما يمكن أن تتعرض له تلك المصالح -على اتساعها من مخاطر – وترتبط كذلك بكيفية المحافظة على مكانة الدولة ودعمها والإنتباه لعناصر القوة فيها وكيفية تطويرها، هكذا ينطلق جوهر عمل مراكز الفكر أساسًا من حماية المصالح القومية والتنبيه لكيفية تعظيمها ومواجهة أية مخاطر تتعرض لها.

والملاحظ أن هذه المراكز تطورت على مر التاريخ من مجرد استشاريين للحكام أو خبراء يقدمون النصح إلى مجموعة من الخبراء والمتخصصين وتطورت إلى هيآت استشارية ومؤسسات ومراكز دراسات وهي تتنوع وتغطي الكثير من المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكذلك العلمية والتقنية والعسكرية والأمنية وغيرها، وتهتم أساسًا بصياغة رؤى وأفكار وكيف يمكن تحويل تلك الرؤى لمسارات حركة وبدائل وخيارات.

تتناول هذه الورقة باختصار ماهية هذه المراكز وطبيعة عملها في محاولة لتقدير أهميتها ودورها في عملية صنع القرار على مستوياته المختلفة.

يعتبر انتشار مراكز الدراسات والأبحاث في الفترة الحالية مؤشرًا على التقدم الحضاري للمجتمعات، وتطور الدول واهتمامها بالبحث العلمي، واستشراف آفاق المستقبل، ولا شك أنها أصبحت – بالفعل – فاعلاً أساسيًا في عملية صياغة التوجهات العامة في الدول على اختلاف مستوياتها وعلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والتربوي.

وتعد مراكز الأبحاث خزائن الفكر وينابيع التخطيط الاستراتيجي في الوقت الراهن، حيث يمكن القول إن تحقيق نهضة حقيقية يقترن بالضرورة بما تتيحه هذه البلاد لتلك المراكز من فرص وما تمنحه لها من التقدير والاحترام، كما لا يمكن تحقيق الاستفادة من مخرجاتها الحقيقية المفيدة بدون توفر الحد المناسب الضروري لها من المتطلبات اللازمة لآداء عملها.

أولاً: تعريف مراكز الفكر والدراسات

لا يوجد تعريف عام وشامل لهذه المؤسسات كون أغلبيتها لا تعلن نفسها في وثائق تعريف الهوية، يُعرف البعض مراكز الفكر بأنها الكيانات القادرة على سد الفجوة بين العمل الأكاديمي وبين العمل السياسي، وأنها منظمات تقوم بدراسة وتحليل القضايا والأزمات على اختلافها وصولاً إلى فهم أبعادها والعناصر المتداخلة فيها وسبر أغوارها والخروج بمقترحات للتعامل معها وتقديم رؤى لصناع القرار حول تلك القضايا والأزمات، ويعرف البعض كذلك مراكز الدراسات والفكر بما تمتلكه من قدرات يمكن تسميتها بالسلطة الناعمة التي تسمح لها بالتأثير والتوجيه لمسارات بعض التفاعلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

وينصرف تأثير مراكز الدراسات ارتباطًا بعدد من العوامل التي من بينها أن تلك القدرات تتحدد كل مرة في القضايات التي تتخصص فيها وصولاً لما يجعلها متخصصة بدرجة كبيرة ومحدودة الانتشار على هذا المستوى، ويرتبط كذلك بضرورة امتلاك العناصر المؤثرة وامتلاك الخبراء في تلك المراكز للمؤهلات وتراكم الخبرة والتخصص التي تسمح لهم بالقدرة على فهم التطورات ومساراتها وتقييم الأطراف والمستويات المختلفة داخل كل قضية وأزمة حتى تتمكن في النهاية من صياغة سيناريوهات لمساراتها وطرح بدائل لكيفية التعامل معها، كما أن تلك المراكز تكتسب ثقلها وقدرتها على التأثير أيضًا نم خلال توافر علاقات واتصالات فيما بينها وبين الدوائر المعنية بصنع القرار بمستوياتها المختلفة حتى يصبح لمخرجاتها وما تتوصل إليه من بدائل ومقترحات أهمية، وبصفة دائمة ولا تكون هذه القدرة والتأثير مرتبطة بأزمات محددة، وهكذا نرى أنه أصبحت العلاقة ما بين مراكز الفكر والتأثير ودوائر صنع القرار علاقة ضرورية يتواصل خلالها ما تطرحه تلك المراكز من رؤى وصياغات تلك الدوائر.

ولعله من الضروري أن نشير هنا إلى أن قدرة وتأثير مراكز الفكر والدراسات – وإن كانت ترتبط بالدرجة الأولى بما يتوافر لديها من معلومات ومواقف حقيقية للأطراف ذات الإرتباط، إلا أنها ترتبط كذلك وبصفة أساسية بما يتوافر لديها من خبراء ومتخصصين لديهم القدرة على تحليل تلك المعلومات وتقدير التطورات التي يمكن أن تؤدي تفاعلاتها إليها، حيث تُبنى البدائل التي تطرح على صانع القرار تستند على أرضية قوية وتسمح بصياغة أو طرح خيارات أكثر مصداقية ويعتبر تراكم الخبرة هنا عاملاً حيويًا وضروريًا.

ومن الملاحظ اتساع نطاق تأثير مراكز الدراسات والفكر ليتجاوز حدود الدول التي أنشئت داخلها إلى دول أخرى ذات الإهتمام سواء بتلك الدول التي فيها المراكز أو بالقضايا التي تعالجها، فعلى سبيل المثال فإن مراكز دراسات الإرهاب في دولة وما تتوصل إليه من تقييمات لدور المنظمات الإرهابية أو دراساتها التي تطرح أساليب للتعامل مع الظاهرة تصبح رسالة هامة سواء لكل من مراكز الدراسات الأخرى المناظرة التي تهتم بالقضية أو بالدوائر المعنية بمواجهة الإرهاب ومحاصرته في دوائر صنع القرار في الدول الأخرى، كما أن بعض مراكز الدراسات والفكر أصبحت تهتم بإقامة فروع لها في دول أخرى تسعى للإستفادة من قدرات وخبرات هذه المراكز وما يتوصل إليها من سياسات من خلال خبراء لهم خبراتهم الدولية المتعددة، ويعتبر المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية IISS في لندن نموذجًا لهذا النوع من المراكز، حيث يمتلك فروعًا في مناطق مختلفة كما ينظم سنويًا مؤتمرات تناقش قضايا خاصة ذات أهمية في عدد من المناطق، مثل حوار المنامة الذي يعقد في البحرين كل عام، ويتركز حول قضايا الأمن بمفهومه الواسع في منطقة الخليج ويضم خبراء من دول المنطقة والمركز على اتساع العالم خاصة ممن يمتلكون رؤى يمكن أن تخدم دول المنطقة وتوفر لها إطارًا تتحرك خلاله لدعم أمنها القومي، كما يعقد مؤتمرًا آخر يسمى حوار شانجريلا يتعلق بالقضايا الخاصة بمنطقة آسيا، كما يعقد مؤتمر للحوار الخاص بالدول المطلة على المحيط الهادي يناقش القضايا التي تهم الدول الآسيوية وأمريكا اللاتينية المطلة على المحيط.

ويعتبر مركز كارنيجي للسلام أحد المراكز التي لها فروع مختلفة ويعتبر منصة يلتقي خلالها مفكرين من دول مختلفة، حيث يوجد إلى جانب مقره في واشنطن فروع في كل من بكين وبيروت وبروكسل وموسكو، وكذلك معهد بروكنجز الذي يتخذ من واشنطن مقرًا له، يمتلك فروعًا له في كل من قطر والصين والهند. ورغم أهمية وجود أفرع لمثل هذه المراكز، إلا أن قيام الدول التي توجد بها تلك الأفرع وقيامها بتمويلها أو تقديم الدعم المالي أو الاقتصادي لها يمكن أن يؤثر بصورة واضحة على حرية البحث والدراسة فيها، كما أن بعض الدول تضع سقفًا وخطوطًا حمراء للقضايا التي تناقشها وعناوين الحوارات والمؤتمرات التي تجريها وهو ما يحدث في قطر على سبيل المثال، حيث لا تسمح لفروع مراكز الدراسات والفكر الموجودة في الدوحة بعمل برامج بحثية حول التطورات الداخلية في قطر أو مناقشة سياساتها الخارجية ويلاحظ ذلك تركيزها على الجوانب الإيجابية للسياسة القطرية وتبني وجهات نظر قطر عند معالجة القضايا والتطورات في الدول التي على خلاف مع قطر.

ثانيًا: أنواع متعددة من مراكز الفكر

تصنف بعض الدراسات مراكز الفكر إلى عدة أجيال من حيث تاريخ النشأة، فهناك المراكز التي نشأت خلال النصف الأول من القرن العشرين، وهناك جيل مراكز الثمانينيات من القرن العشرين، وهناك جيل مراكز عقد التسعينيات، ثم هناك جيل مراكز الألفية، ونميز هنا بين ثلاثة أنواع لمراكز الدراسات والفكر وذلك على النحو التالي:

1-  المراكز ذات الطبيعة المزدوجة والتي تجمع بين كونها مركزًا بحثيًا يغلب عليه الطابع الأكاديمي، وبين كونها مركز فكر، وعادة ما يرتبط دورها كمركز فكر كما تكشف عن ذلك خبرة إقليم الشرق الأوسط بمرحلة الأزمة التي تمر بها الدولة، ومثال على ذلك مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية في مصر، ومركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة في أبوظبي بدولة الإمارات، ومركز الخليج للأبحاث في جدة بالسعودية، وتشير متابعة هذه المراكز إلى أن فاعليتها وتأثيرها يرتبط كثيرًا بوجود صلات ما بينها وبين دوائر صنع القرار في دولها وإعدادها دراسات وتحليلات تكون أحيانًا مطلوبة من تلك الدوائر أو تغطي اهتماماتها وقضايا المتابعة التي ترى هذه المراكز تأثيرها على أمنها القومي.

ويلاحظ هنا نجاح تلك المراكز في الحفاظ على استدامة هذه الطبيعة المزدوجة، فإلى جانب ما تصدره هذه المراكز من أبحاث ودراسات وكتب تناقش أفكارًا وقضايا ذات طبيعة أكاديمية أو تهم الدوائر الأكاديمية، فإنها تصدر أيضا تقديرات سياسات ودراسات سياسات، وتطرح توصيات للتعامل مع قضايا محددة، سواء كانت تتعلق بالسياسات العامة أو السياسات الخارجية لهذه الدول وتؤثر على الأمن القومي فيها.

2-  مراكز يتركز عملها في الغالب في مجال التنمية الاجتماعية، والتمكين السياسي لفئات معينة، ومثال على ذلك American Action Forum الذي أنشأه الجمهوريون في عام 2009م، بعد خسارة جون ماكين في انتخابات الرئاسة 2008م، وذلك بهدف تكوين جيل جديد من السياسيين الجمهوريين. وثمة نوع من هذه المراكز تدافع عن قضايا محددة Advocacy Think Tanks، إما لأسباب أيديولوجية أو تاريخية، وبالتالي يرتبط مجال عملها بتلك القضايا فقط ومثال ذلك أيضًا المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في مصر.

3-  مراكز متخصصة في عملية دعم صنع القرار ويرتطب عملها بدرجة كبيرة في كل ما يخدم الأمن القومي في دولها وهي مراكز فكر بالدرجة الأولى تعد أوراق سياسات وتقديرات وتعقد ورش عمل تناقش قضايا مهمة وتشهد تباينات في المواقف وترى الكثير من الدراسات أن مثل هذه المراكز هي أكثر مراكز الدراسات تقدمًا وإدراكًا لمتطلبات التأثير في عملية صنع القرار والسياسات ومثال لها مركز دعم القرار في مصر ومركز الإمارات للدراسات والبحوث ومركز الجزيرة للدراسات في قطر.

وتجدر الإشارة، إلى أن هناك جدل مستمر حول كيف يمكن قياس تأثير مراكز الفكر في عملية صنع السياسات، وهل يقتصر التأثير على طرح أفكار جديدة أم بقدرتها على تحويل تلك الأفكار إلى سياسات؟، لاسيما وأن مراكز الفكر تهتم تاريخيًا بزيادة "عدد" منتجاتها بدلا من توسيع نطاق "دوائر" تأثيرها، ويلاحظ من ناحية أخرى، اتجاه بعض مراكز الفكر أثناء سعيها لتعظيم تأثيرها في عملية صنع السياسات لتجنب التخلي عن الخط الفاصل بين كونها مراكز فكر، وبين تحولها إلى لوبيات ضغط، من خلال تبنيها استراتيجيات داخلية من أجل ضمان وصول أفكارها لدوائر صنع القرار، وكذلك اتجاهها لتوسيع نشاط التسويق لإصداراتها.

ثالثًا: مجالات عمل مراكز الأبحاث

هناك مراكز تُعنى بالأبحاث التاريخية، وأخرى بالأبحاث السياسية، والشؤون العالمية من خلال الدراسات الاستراتيجية، والأمنية، والاقتصادية، وهناك مؤسّسات أخرى تتبنّى الأبحاث المعنيّة بالسياسات المحلية؛ بما فيها القضايا الاقتصادية بأنواعها المختلفة، وسياسات البيئة والطاقة والزراعة.

كما تُصنف المراكز وفق معايير أخرى، فهناك مراكز أكاديمية، وهي التي تخضع للجامعات أو تتبعها؛ وهناك المراكز الخاصة، التي لا ترتبط بالقطاع الحكومي إداريًا أو قانونيًا؛ وهناك المراكز البحثية التابعة للدولة، أو التي تخضع لملكية القطاع العام، كما يمكن تصنيفها بحسب التمويل، فهناك مراكز أبحاث تجمع بين أكثر من مصدر تمويل: بعضها حكومي، وبعضها الآخر من مؤسّسات داخلية، أو منظّمات ومانحين دوليّين. وقد يطلق على بعض هذه المراكز اسم “مراكز شبه رسمية.

 ويمكن تصنيف المراكز البحثية أيضًا، بحسب التوجه الأيديولوجي، فـ ”معهد بروكينغز” يصنفها على أنها ذات توجه ليبرالي، و”هيأة التراث” بأنها ذات توجهات أكثر محافظة، وهناك مراكز بحثية تصنف بحسب مجال الاهتمام، إذ تركز بعض المراكز على مناطق جغرافية محددة؛ مثل مراكز الأبحاث المهتمة بقارة أو بنطاق جغرافي ما، مثال ذلك: (مراكز الدراسات الآسيوية، ومركز البحوث والدراسات الإفريقية، ومركز الدراسات الفلسطينية، ومركز دراسات الشرق الأوسط…)، بينما تهتم مراكز أخرى بـالدراسات الاقتصادية والاجتماعية، واستطلاعات الرأي.

 ويُشار في هذا السياق إلى أن العديد من مراكز الأبحاث في الوطن العربيّ؛ قد جاءت امتدادًا أيديولوجيًا وسياسيًا لنظام سياسي معيّن، يسعى إلى توسيع رقعته الجغرافية، أو إلى استيعاب النخبة الثقافية والفكرية في إطار هذا المركز أو المعهد البحثي. وهنا يصبح المركز البحثي، جزءًا من الترسانة الفكرية والأيديولوجية، التي يسعى من خلال نشاطاته وأعماله البحثية والأكاديمية إلى توظيفها بما ينسجم ونزعة الهيمنة ومنطق المركزية الثقافية.

ونلاحظ أن مراكز الأبحاث موجودة بأسماء وتعريفات مختلفة؛ ففي بعض الأحيان، تطلق على نفسها اسم “مؤسسة ” Foundation، وفي بعضها الآخر تسمّى بـ”معهد”Institute . وتصف مراكز أخرى نفسها بـ”الصندوق” Fund، وفي حالات أخرى بـ”الوقف” Endowment. لكن في النهاية، تتبع هذه المنظمات قطاعًا عريضًا هو قطاع مراكز الأبحاث والدراسات.

رابعًا: التحديات التي تواجه مراكز الفكر والدراسات:

يظل استمرار قدرة مراكز الفكر بأنواعها المختلفة على الحفاظ على دورها في صنع السياسات مرتبط بقدرتها على طرح أفكار أو سياسات تساعد على "إدارة" التحولات شديدة التعقيد التي أصبحت سائدة اليوم، سواء في داخل الدول أو في الأقاليم أو في العالم، وهي تحولات بقدر ما أدت إلى تزايد أهمية مراكز الفكر باعتبارها مصانع للسياسات يمكن الاعتماد عليها من قبل الحكومات، إلا أنها تفرض عليها تحديات من نوع جديد مختلف عن تلك التي درجت العادة على مناقشتها في الدوائر المهتمة بدور مراكز الفكر، والتي تعلقت بصورة رئيسية بمسألة تمويل مراكز الفكر ، ويرتبط هذا التحدي بقدرة هذه المراكز على تطوير شبكة من العلاقات تضمن مضاعفة تأثيرها، بالاعتماد على ما أسماه جيمس ماكجين 4 Ms، وهي الرؤية والسوق والعنصر البشري والمال.

ويلاحظ أن التحديات التي تواجهها مراكز الفكر نتيجة تعقد البيئة التي تعمل فيها، أكثر وضوحًا في حالة مراكز الفكر العاملة في إقليم الشرق الأوسط، نظرًا للتحولات الكبيرة التي يشهدها الإقليم في السنوات الأخيرة، والتي استدعت من مراكز الفكر، سواء حديثة النشأة أو تلك التي تعمل منذ فترة طويلة، إعادة النظر في طريقة عملها، والتكيف بصورة ما مع التحولات التي تشهدها المنطقة، ويمكن تلخيص التحديات الأساسية التي تواجه عمل المراكز في الآتي:

1-  إشكالية التمويل، حيث تقع قضية التمويل على رأس المعوقات التي تواجه عمل مراكز البحوث والدراسات العربية، وهي مشكلة متعددة الأبعاد، حيث يغيب التمويل المحايد، فمراكز الدراسات الحكومية أو ذات التمويل الحكومي، يكون لها سقف معين لا يمكن تجاوزه، وقد تتّسع الفجوة بين صنّاع القرار من جهة، والمفكرين والباحثين في هذه المراكز من جهة أخرى، كما أن مراكز البحث والمؤسسات البحثية الخاصة، تواجه في كثير منها صعوبات تؤثر سلبًا على جودة العمل وديموميته، وأحيانًا تكون بيئة طاردة للكفاءات المهنية، فالباحث يحتاج إلى بيئة مهيأة من الاستقرار المادي والوظيفي والتفرغ الكامل لأنشطته البحثية، وهو ما قد يصعب إيجاده في المؤسسات الخاصة في كثير من البلدان العربية مما قد يضطر الباحث إلى الهجرة أو الاغتراب إذا وجد أمامه فرصة سانحة في أي من البلدان الأوروبية، أو العمل لصالحها في بلده؛ ولذا تبدو بيئة مراكز الأبحاث العربية غير “مولدة للأفكار المتجددة والإبداع”. ويرتبط هذا الأمر – ربَّما – بغياب نظام جاذب يحفز الكفاءات وذوي الخبرة على الالتحاق بمراكز الأبحاث، وضعف الحوافز التي تُسند إلى الباحثين لتشجيعهم على العمل المبدع، وقلّة فرص إشراكهم في دورات علمية. كما تشكو مراكز الأبحاث في الوطن العربيّ من ضعف الإمكانيات التّسويقية للإنتاج المعرفي، عند نشر كتب، أو دوريات، أو مجلات علمية…إلخ.وقد تضطر بعض المراكز الخاصة إلى تمويل نشاطاتها من خلال المطبوعات التي تضطر – أحيانًا – إلى النزول بمستواها العلمي من أجل الهدف التجاري الذي يؤثر في جودتها وسمعتها، ومعضلة التمويل في النهاية، تدفع قطاعًا كبيرًا من المراكز البحثية الخاصّة نحو المؤسسات المانحة، وتقع في حبائل التمويل الأجنبي بكل أشكاله؛ فتصبح حينها “مراكز مشبوهة” في نظر الحكومات، ويعرّضها ذلك إلى المساءلة القانونية، في بعض البلدان. وعلى الرغم من أن معظم المراكز تلجأ إلى الجهات التمويلية الأجنبية؛ فإنها قد لا تحصل على التمويل إلا إذا ما كان ضمن أولويات الجهة التمويلية.

2-  الافتقار إلى الاستقلالية، فمما لا شك فيه، أن قيمة الأبحاث والدراسات التي تنتجها المؤسسات البحثية، تكمن في حياديّتها واستقلاليّتها ومهنيتها. ولا تتحقّق هذه المهنيّة، إلّا بهامش كبير من الحرية، يمنح لمراكز الأبحاث حتى تحدّد أولويات عملها واختيار أجندتها البحثية، بعيدًا عن أي مؤثِّرات خارجية. ولن يتحقّق ذلك، إلّا من خلال توفير تمويل غير مشروط؛ من شأنه عدم التأثير في تحديد الأولويات البحثية، ومخرجاتها، ومنهجية التحليل العلمي، والتّوصيات. ويحتاج الباحث إلى استقلالية في عمله، وإلى حرية في نشاطه، من دون خضوع لوصاية على فكره وإنتاجه. وهو أمر يصعب توفّره فعليًا.

3-  القدرة على التكيف مع القضايا الجديدة التي تفرزها التحولات في المنطقة، والتي تتحدى ما ساد عن هذه المنطقة في مراكز الفكر طوال الفترات الماضية من أفكار نمطية، وذلك من قبيل الاهتمام بقوى الشارع، باعتبارها قوى جديدة تؤثر على عملية صنع القرار، وتصاعد دور الفاعل "المهجن" Hybrid actor في السياسات الإقليمية، وتنامي تأثير الفاعلين المسلحين الذين ظل الاهتمام بهم محدود مقارنة بحجم الاهتمام بالدولة، والتي أصبحت بدورها تمر بتحولات لم تعد معها مفاهيم الدولة الفاشلة أو الدولة الديمقراطية تصلح للتعامل معها، ويزداد هذا التحدي تعقيداً في حال ارتباطه بحاجة مراكز الفكر للحفاظ على القدرة التنافسية لها، لاسيما في ظل تزايد المنافسة لها من قبل شركات الاستشارات، والمؤسسات القانونية، وشبكات الأخبار.

4-  القدرة على متابعة الأحداث المتعاقبة وتطوير توصيات للتعامل معها، في ظل إدراك أنه من المستحيل استعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه في الفترة السابقة، أو السيطرة بنسبة 100% عليها، وهو ما يستدعي العمل وفق short termism، والاستعانة بالعمل الميداني، من أجل الحصول على متابعة دقيقة لما يجري، وتكشف الممارسة العملية عن أن هذه الإشكالية جعلت بعض مراكز الفكر غير قادرة على الحفاظ على جودة منتجاتها، حيث انزلقت نحو العمل الصحفي من خلال سيطرة الاهتمام بتحليل الأحداث الجارية current affairs.

5-  التحول إلى منتديات للحديثtalking tanks، حيث أصبحت التحليلات والتقديرات الخاصة بمراكز الفكر، خاصة المتعلقة بالأزمات المشتعلة مادة أو محتوى للقنوات الإخبارية الدولية والإقليمية والمحلية، وهو ما قد يقلل من تواصلها مع دوائر صنع القرار، أو يقلل قدرتها على تقديم تحليلات وتقديرات وتوصيات relevant بالنسبة لدوائر صنع القرار في الدولة بسبب دخول الإعلام طرفاً لعرض منتجات هذه المراكز.

6-  تزايد تأثير الرقابة الذاتية على عمل هذه المراكز، وهو ما يعتبر بعدًا جديدًا لتأثير الجهات المانحة على عملها، فهذه الجهات لم تعد متمثلة في المنظمات الدولية مثل هيأة المعونة الأمريكية أو الاتحاد الأوروبي، كما كان الوضع من قبل، وإنما أصبحت الحكومات جهات مانحة رئيسية للعمل على قضايا محددة، ويعبر عن هذا التحدي تزايد المطالبات في العديد من الدوائر في الولايات المتحدة خلال العامين 2013 و 2014م، بالكشف عن الجهات الممولة لمراكز الفكر العاملة فيها، واستجابةً لذلك أعلن مركز التقدم الأمريكي Center for American Progress قائمة الممولين الخاصة به، وكذلك أعلن كل من معهد بروكنجز، ومركز الدراسات الإستراتيجية والدولية CSIS، والمجلس الأطلنطي عن قائمة الممولين الخاصة بهم.

7-  عدم قدرة مراكز الفكر على طرح أفكار أو تقديرات تختلف عن السائد في الدوائر السياسية والأكاديمية، وهو موجود بصورة واضحة في مراكز الفكر التي تعمل في الشرق الأوسط، فرغم الميزة التي تتمتع بها هذه المراكز من حيث كونها تقع في قلب التحولات، وبالتالي تقدم تحليلات وتقديرات وربما نماذج كمية من داخل الإقليم؛ فإن جماعات المصالح من الخبراء أو شبكة المراكز الأوروبية أو الأمريكية التي تهتم بإقليم الشرق الأوسط غير قادرة على التفاعل مع ما يصدر عن هذه المراكز، إما لأنها تغرد خارج السرب نتيجة أن لديها توجه محافظ على خلاف التوجه الديمقراطي أو الليبرالي المميز للمراكز العربية، وهو ما يجعل القدرة على التأثير لهذه المراكز محدودة، حتى فيما يتعلق بالقضايا الشرق أوسطية التي يهتم بها الاتحاد الأوروبي مثلاً.

خاتمة:

رغم التحديات التي تواجه عمل مراكز الفكر والدراسات، إلا أنه يكمن تفعيل دورها وذلك من خلال بعض الحلول ومن أهمها الشراكة والتكامل مع المؤسسات الإعلامية والحكومية، فمن المهم بناء شراكة حقيقية بين المراكز البحثية ووسائل الإعلام المختلفة؛ للتعريف بها وبأهميتها، وعرض نتاجها، وما تقوم به من نشاطات.

وفي هذا السياق، تُسند أهمية كبرى لتنظيم العلاقة بين مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام بمختلف أشكالها، وعلى نحو متوازن؛ تقوم فيه وسائل الإعلام بإحاطة الرأي العامّ بنتائج الأبحاث ووجهات النظر المختلفة، مع ضرورة فتح نافذة تواصل بين المؤسسات البحثية، والمؤسسات الحكومية، ومتخذي القرارات فيها؛ وذلك للوقوف على احتياجات صانع القرار في الجهاز الحكومي. والتشديد على انخراط طالب الدكتوراه والماجستير في العلوم السياسية، أو في حقل العلوم الاجتماعية والإنسانية في هذه المراكز؛ حتى يتسنّى له إنجاز رسالته في مختبرات البحث، والاستعانة بما فيها من مراجع وأبحاث. وينبغي له أن يقضي ساعات معيّنة في أحد مراكز البحوث، كأحد متطلبات الحصول على الشهادة، وأن يشارك في مناقشة أطروحته أساتذة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*مفكر ومحلل سياسي ـ عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية

المراجع:

  1. مراكز الأبحاث العربية.. التحديات وآفاق المستقبل، مركز سمت للدراسات، 18 فبراير 2018، متاح على: https://bit.ly/2F0pXeh
  2. عبدالإله بن سعود السعدون، أهمية مراكز الدراسات الإستراتيجية في القرار السياسي، الجزيرة، 4 فبراير 2018، متاح على: https://bit.ly/2XHydY1
  3. إيمان رجب، مراكز الفكر: فاعل صاعد مؤثر في عملية صنع السياسات في الشرق الأوسط، مجلة اتجاهات الأحداث، العدد 8 - مارس 2015.
  4. دينا شيرين محمدشفيق إبراهيم، دور وأهمية المراكز البحثية في صنع السياسة الخارجية، المركز الديمقراطي العربي، 4 نوفمبر 2016، متاح على: https://bit.ly/2I2DCTL

 

مجلة آراء حول الخليج