; logged out
الرئيسية / دور خادم الحرمين في تعزيز العلاقات العربية-الإسلامية من خلال تقنية الوساطة

العدد 85

دور خادم الحرمين في تعزيز العلاقات العربية-الإسلامية من خلال تقنية الوساطة

السبت، 01 تشرين1/أكتوير 2011

تحتل الوساطة حيزاً كبيراً من مساحة تقنيات العمل الدبلوماسي في فض النزاعات الدولية، وحل شفرات التوترات الإقليمية،إذ تستمد هذه التقنية قوتها القانونية من المادة 33 المدرجة في صلب ميثاق الأمم المتحدة؛ التي نصت على إلزامية التماس أطراف النزاع من المفاوضة والتحقيق والوساطة والتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية مسطرة لحل الخلاف1.

هكذا أعطت هذه المادة نوعاً من المرونة في الأساليب لإنهاء النزاع، والتي يمكن تصنيفها إلى2 الوسائل السياسية حيث تشمل كلاً من المفاوضات والمساعي الحميدة والوساطة والتوفيق والتحقيق وعرض النزاع على المنظمات الدولية. أما فيما يخص النوع الثاني فيتمثل في الوسائل القضائية التي تشمل التحكيم الدولية وعرض النزاع على المحاكم الدولية الدائمة.

ما يهمنا في هذا البحث المقتضب هو الوساطة التي احترفها العاهل السعودي لحل الخلافات العربية وتهدئة التوترات الإسلامية.

 

المطلب الأول : تمظهرات الوساطة الملكية: بين شمولية المبادرات وتمفصل القضايا

يمتاز الملك عبدالله بامتلاكه لخصال ينفرد بها عن غيره، حيث ينتمي لمدرسة سياسية ترفض تعريف السياسة بأنها (فن اللاأخلاق)3. دون غض النظر عن نزاهته وأصالة انتمائه الذي أكسبه المصداقية والقبول لإدارة أي حوار بين أطراف الخلاف. هذا بالإضافة إلى امتيازه بالدقة التي تخوله إمكانية تتبع أدق تفاصيل المواضيع التي يتولى دراستها.

كما يتصف بالرزانة التي لا تخوله إعطاء الأمور أكبر من حجمها؛ بحيث لا يبدأ في أي تصريح بهذا الشأن (الخلاف) بل يعمل بصمت وعدم استباق الأحداث حتى لو اضطر إلى غير ذلك نجده يعطي مهمته صبغة متواضعة. هذه الأخيرة هي من تسهّل التقليل من حجم التراكمات السابقة لهذا الخلاف بين الطرفيين4.

خادم الحرمين الشريفين يمتلك الكثير من الصفات التي تؤهله للعب دور الوسيط في حل الخلافات العربية

ولعل من أبرز تجليات ما سبق؛ وساطته ما بين سوريا والعراق. ففي حديث له نشر سنة 1983م قال بصريح العبارة: (... عندما قررت المملكة أن تدخل وسيطاً بين العراق وسوريا، قلت أعطوني سبب الخلاف ووجدت نفسي أدخل في متاهات خلافات حزبية.. وأستطيع أن أقول إن السعودية نجحت في أن توقف أشياء كثيرة سببها توترات غير ظاهرة على السطح...)5 مما يدل على دقة تتبعه للاختلاف بمختلف أشكاله الداخلية والخارجية.

هذا وقد برزت حنكة الوساطة الملكية في تدبير الخلافات عن طريق إحدى أهم وسائل تسوية النزاعات الدولية بالطرق السلمية. في كل من وساطته الإسلامية والعربية.

احتلت القضية الفلسطينية صدارة الأجندة السياسية للملك عبدالله بن عبدالعزيز

أولاً: الوساطة الملكية في القضايا الإسلامية: حمل ثقيل ومبادرات أقوى

تركت أحداث احتلال العراق من قبل القوات الأمريكية وقوات التحالف عام 2003 فراغاً كبيراً داخل المنطقة، مما أدى إلى تفاقم الوضع الأمني في العراق كله، ومن ثم نشوء جماعات إرهابية وطائفية تسعى إلى حروب وتصفيات. أدت إلى موت العشرات يومياً من المواطنين الأبرياء، هذا وقد استفحل الأمر بتفجير المساجد وقتل المصلين وترويع الآمنين، وعلى ضوء هذه الأحداث عجزت الحكومات المحلية المتعاقبة من إنهاء سلسلة الاغتيالات وسفك الدماء وإطفاء نار الفتنة6.

وانطلاقاً من التطور الخطير في الوضع الأمني العراقي، أسرع الملك عبدالله في سعيه ووساطته في إنهاء الخلاف بالحوار، الشيء الذي تمظهر في دعوته في 27 حتى 28 رمضان عام 1427هـ في أطهر بقعة في الأرض (مكة المكرمة) من خلال وساطة تجمع بين كبار القيادات السنية والشيعية في العراق برعاية منظمة المؤتمر الإسلامي ممثلة في مجمع الفقه الإسلامي وبإشراف ووساطة من الملك عبدالله تسعى إلى حقن دماء المسلمين وإيقاف اقتتال الأخوة في العراق.

هذه الوثيقة أكدت حرمة أموال المسلمين ودمائهم، مع ضرورة المحافظة على دور العبادة للمسلمين وغير المسلمين. والحث على إطلاق سراح المختطفين والرهائن، مع تأكيدها وحدة العراقيين بغض النظر عن انتمائهم العرقي أو الطائفي. مما يبرز أهمية الوحدة الطائفية في الفكر الملكي، إذ تصدرت هذه القضية أولويات الأجندة الخارجية للسياسية السعودية.

وفي إطار رأبه للصدع الإسلامي وتجميع كلمة الأمة، أبى العاهل السعودي إلا أن يكون وسيطاً في حل الإشكال السوداني مع نظيره التشادي، وذلك بمقتضى رعايته للمصالحة الثنائية بين الرئيسين السوداني (عمر البشير) والتشادي (إدريس ديبي) يوم الخميس 3-5-2007، إذ وقعا اتفاق المصالحة برعاية الملك عبدالله بن عبدالعزيز وذلك في مزرعته في الجنادرية، سعياً منه للحد من النزاع والتوتر بين البلدين،بحيث بضمن هذا الاتفاق تأكيد طرفي المصالحة علىالتزامهما الكامل بالاتفاقيات الموقعة بينهما، سواء الثنائية منها أو المتعددة الأطراف، خاصةإعلان اتفاقية طرابلس الصادرة في 8 فبراير 2006م، وكذا الالتزامات المنصوص عليها فيمحاضر الاجتماعات الثنائية والمتعددة الأطراف الهادفة إلى تفعيل اتفاق طرابلسومعالجة الوضع بين السودان وتشاد7.

سعى العاهل السعودي في 2007 للوساطة في حل الإشكال السوداني – التشادي

هذا وقد ترجم الطرفان نيتهما الصادقة في تفعيل مقتضيات المصالحة، من خلال تعهدهما بالعملالمخلص والجاد من أجل تطوير وتعزيز العلاقات بين البلدين في كافة الجوانب السياسيةوالاقتصادية والاجتماعية والعمل على تحقيق هذا الهدف عبر كافة القنوات الرسمية والشعبية في البلدين8. وبنفس الروح الأخوية التزم الطرفان بضرورة إنفاذ هذا الاتفاقبمقتضى الخطوات التالية9:

أ- احترام سيادة وسلامة أراضي الطرف الآخر وعدم التدخل في شؤونهالداخلية.

ب- منع استخدام أراضي البلدين لإيواء أو لحشد أو لتدريب أو لمرورأو لتموين الحركات المسلحة المعارضة للطرف الآخر.. أو تقديم أي نوع من أنواع الدعمالمادي والمعنوي لهذه الحركات والعمل على إبعادها فوراً عن أراضي البلدين.

ج- دعم جهود الاتحاد الإفريقي السياسية والأمنية لإعادة الاستقرار لإقليمدارفور والمناطق الحدودية بين البلدين من خلال إنفاذ اتفاق سلام دارفور.

مع الالتزام بضرورة تعزيز وتطوير العلاقات الاقتصادية والاجتماعيةبين البلدين بما يخدم مصالح الشعبين الشقيقين. وفي هذا الصدد التزم الطرفان بالعملعلى فتح قنوات الاتصال المباشر بين المسؤولين في البلدين وتشجيع تبادل الزيارات علىالمستويات الرسمية والشعبية بما في ذلك رجال الأعمال والمستثمرين وإبرام الاتفاقياتوالبروتوكولات اللازمة لهذا الغرض أو لما تتطلبه مجالات التعاون المشترك وفق الحاجةإليه10.

وهكذا أسفرت الاتفاقية عن تأكيد ضرورة التعاون الثنائي والعمل المشترك لتطويرودعم العلاقات بين الأقاليم الحدودية في المجال الاقتصادي والصحي بصفة خاصة وتجارةالحدود ومكافحة الأمراض العابرة للحدود والنقل والاتصالات بصفة عامة وذلك عبر إنشاءالآليات ووضع البروتوكولات المناسبة لهذا الغرض11.

ومن خلال ما سبق التزم الطرفان بعدما سعت السعودية عن طريق عاهلها الملك عبدالله بن عبدالعزيز بكسر الهوة التي كانت تفرقهما، بالسعي والتعاون مع الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة لإيجاد الحل الدائمللنزاع الدائر في إقليم دارفور وشرق تشاد بما يحقق السلام والاستقرار للجميع.

 

ثانياً: الوساطة الملكية في القضايا العربية: مبادرات تتعدى المجال الحيوي للمملكة العربية السعودية

احتلت القضية الفلسطينية صدارة الأجندة السياسية للملك عبدالله، وهي قضية جوهرية ومركزية في فكره واهتمامه، إذ يرى أنها الهم الأول في السياسة الدولية، وهو المنادي الأول بحل القضية بالطرق السلمية، والداعم لحق الشعب العربي والفلسطيني والمسلم12.

فنجده حريصاً على وحدة الصف الفلسطيني من خلال السعي إلى وقف نزيف الدم عندما أصبحت هناك مواجهات مسلحة بين الفصائل الفلسطينية التي قد تضر بهذا النضال والكفاح المسلح طوال ستة عقود من التضحيات، والتنازلات في ميدان القتال، وميدان السياسة معاً.

فعندما أدرك العاهل السعودي هذه المخاطر دعا إلى اتفاق مكة بين فتح وحماس كوساطة معهودة من قبله لنزع فتيل الفتنه التي خلفت عدة ضحايا؛ قدر عددهم بحوالي130 فلسطينياً قبل التوقيع على اتفاق مكة بأيام13.

وجاءت هذه الوساطة بعد إخفاق الوساطات من قبل مصر وسوريا لأنهاء هذه الأزمة. إذ صرح المتحدث الرسمي باسم حركة حماس الوزير (فوزي برهوم) بقوله : الفرق الآن هو أن الجانبين (يقصد هنا فتح وحماس) لديهما الرغبة، وجاءا إلى مكة دون شروط مسبقة، ولا مهل زمنية. وقد أكد كذلك السفير الفلسطيني بالرياض (جمال شوبكي) الذي شدد على أن التوصل لاتفاق يعد مسألة حيوية، وأن الزعماء الفلسطينيين لن يغادروا مكة دون التوصل إلى اتفاق، لأن الوضع مأساوي على الأرض، والعالم كله سيدير ظهره للفلسطينيين إذا استمر هذا الحال14.

ومن خلال ما سلف ذكره، كللت الوساطة الملكية بإبرام اتفاق مكة يوم الخميس 8 فبراير 2007م، من خلال تأكيد هذا الاتفاق على حرمة الدم الفلسطيني الذي يتطلب اتخاذ كافة الإجراءت والترتيبات التي تحول دون ذلك. مع تأكيده على أهمية الوحدة الوطنية كأساس للصمود الوطني للتصدي للاحتلال الإسرائيلي الغاشم. تحقيقاً للأهداف المشروعة للشعب الفلسطيني، وذلك ارتكازاً على لغة الحوار كأهم آلية لحل الخلافات الأساسية في الساحة الفلسطينية الداخلية. الشيء الذي استدعى ضرورة الاتفاق وبصورة نهائية على تشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية وفق اتفاق تفصيلي معتمد بين الطرفين، على أساس الشروع العاجل في اتخاذ الإجراءات الدستورية لتكريسها. إلا أن هذا المعطى يبقى بعيد المنال، في حال ما تم التغاضي عن مبدأ الشراكة السياسية على أساس القوانين المعمول بها في السلطة الفلسطينية، والارتكاز على قاعدة التعددية السياسية وفق اتفاق معتمد من قبل الطرفين.

وعلى أثر اتفاق مكة المبرم بين كل من حماس وفتح بوساطة سعودية، زف هذا الاتفاق إلى الجماهير الفلسطينية وشعوب الأمة العربية والإسلامية التزام أطراف الاتفاق بضرورة التفرغ لإنجاز الأهداف الوطنية المعلنة لاستعادة الحقوق الفلسطينية المغتصبة، وفي مقدمتها قضية القدس والمسجد الأقصى وقضية الأسرى والمعتقلين ومواجهة الجدار والاستيطان.

وفي إطار وساطتها بين السودان والأمم المتحدة في قضية دارفور، سعت المملكة العربية السعودية بقيادة رجل دبلوماسيتها الأول الملك عبدالله بن عبدالعزيز، من خلال مساعيه الحميدة قصد السعي للتوصل لحل ما بين الحكومة السودانية والأمم المتحدة في 15-4-2007م، ليحد من شكل ومهام القوات الإفريقية والدولية في إقليم دارفور. حيث سعى الملك عبدالله في القمة العربية في مارس 2007م في الرياض إلى عقد اجتماع هامشي ضم كلاً من الرئيس السوداني والأمين العام للأمم المتحدة سعياً للتوصل إلى حل وسط يرضي الطرفين - أي المجتمع الدولي والسودان- بشأن إشكالية نشر قوات دولية في دارفور فيما بذلت مساعي دبلوماسية سعودية لتقريب وجهات النظر15.

هذا وفي خضم الأزمة المحتدمة بين كل من قطر والبحرين، والتي اشتد وطيسها منذ رشحت البحرين السيد محمد المطوع؛ باعتباره وزير الإعلام السابق للبحرين لمنصب الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، بالرغم من كونه يعتبر بمثابة شخص غير مرغوب فيه من طرف السلطات القطرية16.

وإن كانت هذه المشكلة من بين أهم المواضيع التي أعادت الخلاف البحريني القطري إلى واجهة النزاع منذ تسوية قضية جزيرة (حوار) من طرف محكمة العدل الدولية. فإن قضية احتجاز حوالي 106 صيادين بحرينيين من طرف قطر بذريعة اختراقهم للحدود الإقليمية لقطر17قد زاد الطين بلة.

وهكذا تطلبت عملية الحلحلة للأزمة القطرية البحرينية، ضرورة تدخل أحد الأشقاء العرب لحصر الخلاف وتقريب وجهات النظر، ولنزع فتيل الخلاف. الأمر الذي حتم على العاهل السعودي باعتباره راعي السلام في منطقة الشرق الأوسط بصفة خاصة، ضرورة التوسط بين المنامة والدوحة في قضية توقيف قطر للصيادين القادمين من البحرين وتسمية الأمين العام الجديد لمجلس التعاون الخليجي. حفاظاً على وحدة دول الخليج العربي وتحصيناً لأمنها القومي الذي لا يتجزأ عن الأمن القومي السعودي.

ساهم العاهل السعودي في رأب الصدع العقدي بين سنة وشيعة العراق

المطلب الثاني: تداعيات الوساطة الملكية بين تراكم المكتسبات وقوة الإكراهات

نتيجة الوساطات المتعاقبة للعاهل الملكي السعودي، بهدف تقليص هوة الخلاف العربي - العربي بل والإسلامي كذلك، تغيرت ملامح العلاقات العربية - الإسلامية، بعدما تمت حلحلة مشاكلها أو على الأقل ساهمت في تقريب وجهات النظر بين أطراف الخلاف كبداية لفك رموز الخلاف المحتدم.

وعلى هذا الأساس قيمت الوساطات الملكية بتصريحات رسمية وأخرى غير ذلك، تتويجاً للنتائج التي حققتها في نزع فتيل الخلافات العربية والإسلامية على حد سواء. إلا أن هناك عقبات حالت دون تحقيق مرتكزات الوساطات الملكية، استوجب ضرورة الكشف عنها.

أولاً : تداعيات الوساطة الملكية في رأب الصدع العربي-الإسلامي

كان العراق ومازال مجمع التعددية القومية والدينية بل والمذهبية أيضاً. حيث تتعايش فيه تارة وتتنافر تارة أخرى، غير أن تقاربها وتنافرها لم يصل إلى حد الإلغاء سواء كان بالضم أو بالهجرة القسرية18. إلا أن إدراك التباينات وتسييسها كان هو العنصر الأساس المولد للنزاعات الطائفية، وذلك من خلال تشويه التكوينات الحديثة للحياة السياسية وتمزيق الهوية الوطنية19.

وحفاظاً على الوحدة العراقية بعيداً عن أي أهداف سياسية في المنطقة، ساهم العاهل السعودي في رأب الصدع العقدي بين كل من سنة وشيعة العراق تخفيفاً له من وطأة الاحتلال. الشيء الذي توج باتفاق مكة سنة 2006م. حقناً للدماء المسلمة بكافة أنواعها الطائفية والعقدية، إذ أصبح العراق في فترة ما بعد الاتفاق المبرم في مكة، أطهر من ذي قبل من الدماء المسفوكة بين السنة والشيعة.

وفي سياق آخر ومن أجل حل الأزمة الدبلوماسية بين السودان وتشاد، تم توقيع ست اتفاقيات سلام بينهماإلا أنها لم تنفذ. إلى أن كلّلت باتفاقية وسطية ذات توجيه سعودي في مايو عام 2007، إذ وقع رئيسا البلدين في العاصمة السعودية الرياضاتفاقية مصالحة تعلن وقف الأعمال العدائية على الحدود بين البلدين وتطبيع العلاقاتبينهما في جميع المجالات. وأسفرت فيما بعد عن اتفاق آخر في مارس من عام 2007، سميت باتفاقية مصالحة تعهد فيها طرفا الخلاف بحظر جميع أعمال التمرد التي تضر بأمن البلدين. إلا أنه ومع الأسف لمتنفذ هذه الاتفاقيات بصورة حقيقية- لكون أن الخلاف أكبر بكثير من المبادرات الفردية والوساطات الثلاثية20.

أما في ما يخص الوضع الداخلي للفصائل الفلسطينية، فما لبثت مرتكزات دعوة العاهل السعودي تستقيم، حتى توصل قادة فتح وحماس إلى توقيع اتفاق مكة، هذا الأخير الذي كان يرنو إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم كافة الفصائل الفلسطينية برئاسة حماس باعتبارها الفائز الأكبر في الانتخابات. على أساس بناء التحرك المشترك للمستقبل السياسي الفلسطيني وفق المبادئ المتفق عليها في مكة، والقرارات العربية والدولية التي يجب أن تحترم استكمالاً للوحدة الوطنية21.

هكذا عملت مرتكزات اتفاق مكة على نزع فتيل أزمة كادت تعصف بمختلف التراكمات التي أنجزها الفلسطينيون على درب الكفاح المسلح، على طول ستة عقود من التضحيات الميدانية والسياسية على حد سواء.

وعلى أثر الوساطة الملكية المتوجة بصياغة بنود اتفاق مكة، حظيت الوساطة الملكية بترحيب عالمي قطيع النظير. إذ رحب (صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان) رئيس دولة الإمارات خلال اتصال هاتفي مع (محمود عباس) رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية؛ بالاتفاق الذي وقع مؤخراً بين حركتي فتح وحماس في مكة برعاية سعودية، كما انضمت إلى الموقف المؤيد كل من إيران وتونس والأردن والحكومة اللبنانية، ووصل الحد إلى أن الحكومة الأردنية لن تفرض أي حظر على أي وزير من حماس في حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، بل وسوف تتعاون مع الحكومة الجديدة المزمع تشكيلها وإنها ستسعى لرفع الحصار الجائر عن الشعب الفلسطيني عبر المحافل العربية والدولية22.

وفي مستوياته الغربية، وبغض النظر عن التريث الذي التزمت به الولايات المتحدة الأمريكية إلى حين دراسة الاتفاق، فقد رحب الرئيس الفرنسي (جاك شيراك) ووزير خارجية دولته بالوساطة الملكية في اتفاق مكة مشدداً على ضرورة دعم الجهود السعودية من طرف المجموعة الدولية. وفي المضمار نفسه رحبت وزيرة الخارجية البريطانية (مارغريت بيكيت) باتفاق مكة معتبرة ذلك أنه (تطور مهم) على طريق المصالحة بين الفلسطينيين. وقالت بيكيت في بيان لها (نرحب بالجهود الجارية لوقف العنف والتشجيع على مصالحة بين الفلسطينيين). كما تابعت (علينا أن ندرس هذه المقترحات بدقة ونناقشها مع شركائنا الأوروبيين وغيرهم)، وفي السياق نفسه نوه الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين) بالاتفاق ودعا إلى رفع التعليق المفروض على المساعدات المباشرة إلى الحكومة الفلسطينية23.

وفي إطار سعيه لنزع فتيل الحرب التي كادت تشتعل بين الجارتين الحدوديتين، المتمثلتين في كل من قطر والبحرين، وبمقتضى وساطته الطوعية. ثمنت المنامة وساطة خادم الحرمين الشريفين وجهوده الكبيرة لتعزيز العلاقات الأخوية بين دول مجلس التعاون وزيادة سبل التفاهم والتنسيق المتبادل بينها، ولم تتردد في دعم هذه الجهود الخيرة التي تأتي استجابة للعلاقات الأخوية المتينة التي تجمع البلدين الشقيقين.

هذا وقد أعقب ذلك إجراء أمير قطر اتصالاً هاتفياً مع ملك البحرين: (عبر فيه عن شكره لجلالة الملك لتجاوبه مع مبادرة خادم الحرمين فيما يخص موضوع تعيين الأمين العام الجديد لمجلس التعاون لدول الخليج العربية)24.

وبنفس الكيفية أسفرت وساطة خادم الحرمين عن تقدّم في حل مشكلة عشرات الصيادين البحرينيينالمحتجزين في قطر، وتم التغلب أيضاً على الاعتراض القطريعلى ترشيح البحرين لمحمد المطوع لشغل منصب الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي25.

ثانياً: معوقات الوساطة الملكية: إكراه واحد متعدد الأوجه

هناك معوقات للتحركات السعودية في الشأن العربي والإسلامي. إذ بالرغم من كون السعودية تعتبر دولة قائدة في إطارها الخليجي والعربي والإسلامي. إلا أنها تواجه الكثير من التحديات التي تعيق مساعيها الحميدة، رغم أن هناك تأكيداً من قبل الملك عبدالله بقولة: (يمين بالله بيني وبينكم أيها الإخوة كل كلمة أقولها أو قلتها أو أجلتها إلى حين تكون مفيدة، ما أخذتها من منصبي الرسمي ولا من قاموس سياسي يتلاعب بالألفاظ، ولكنه الإخلاص والوفاء لديني ولهذه الأمة التي أنا فرد من أفرادها أضع كل إمكاناتي الخاصة والعامة في خدمة الإسلام والمسلمين)26.

ولعل من أبرز هذه التحديات، التغلغل الإيراني في المنطقة. حيث يشاهد بأن إيران توجد بكثافة في العراق. مما أدى إلى زرع الفتنة الطائفية التي لم تكن موجودة بالكيفية الحالية بين المكونات العراقية لولا هذا التدخل الأجنبي. هذا ولم تكتفِ إيران بهذا الحد بل نجدها متغلغلة في لبنان التي لعبت دوراً كبيراً في تعقيد أزمتها، وانتهت بتحالفها مع سوريا27.

خادم الحرمين الشريفين يعتبر راعي السلام في منطقة الشرق الأوسط

ولعل السبب في أن تلعب إيران دوراً كبيراً في هذه المنطقة، هو غياب التنسيق والاختلاف بين سوريا والسعودية حيث هذا الاختلاف كان يتمحور في القضايا المهمة كلبنان وفلسطين والعراق.

أما على الجانبين الفلسطيني واللبناني فقد أبدت الأطراف المتنازعة فيها عدم رغبة في إبداء المرونة الكافية لإيجاد حل بين الأطراف، مما نسف مقتضيات الوساطات الملكية الهادفة إلى تقريب وجهات النظر بين الأطراف المتنازعة، الأمر الذي أوجب على العاهل السعودي سرعة إيجاد حل داخلي في المنطقة كالمصالحة العربية- العربية، لتكون وسيلة فاعلة في وقف التدخلات الأجنبية في المنطقة أو منع أي تدخل لا يخدم مصالحها، كالنفوذ الإيراني في الدائرة الشرق الأوسطية، التي تفاوض بمقتضاه المحتل الأمريكي ببرنامجها النووي من خلال الميليشيات الشيعية في العراق وغيرها من القضايا التي تبنتها المخابرات الإيرانية28.

أما فيما يخص الوساطة الملكية لتقريب وجهات النظر الفلسطينية، فقد بدأ طرفا اتفاق مكة بالإعداد لتطبيق مقتضياته. إذ أعلن (غازي حمد)، المتحدث باسم الحكومة الفلسطينية أنه من المقرر (لإسماعيل هنية) تقديم استقالته يوم 15 شباط (لأبو مازن). من الناحية الفعلية لن تستقل الحكومة في حينه بسبب الخلافات التي نشأت حول توزيع الحقائب. وقد أشارت (مصادر فلسطينية) إلى أن الخلافات تنصب على إشغال الحقائب الوزارية، خاصة تسمية وزير الداخلية.

هذا وقد عاود المتحدثون باسم حماس، التوضيح أن اتفاق مكة لا يتضمن الاعتراف بإسرائيل وأن حماس لا تنوي تغيير مواقفها الأيديولوجية. وبالرغم من تهدئة الأوضاع، وإيقاف موجات العنف بين طرفي اتفاق مكة، إلا أن التوتر بين فتح وحماس ما يزال بادياً في الخفاء29.

وفي سياق آخر فقد طغت عقدة الزعامة على قائد الثورة الليبية العقيد معمر القدافي، إذ لم يكظم غيضه حينها من جراء الوساطة السعودية في رأب الصدع السوداني - التشادي. واستجابة للرغبات الليبية اعتذر السيد (عبدالسلام التريكي) عن زيارة الخرطوم لإطلاعها على نتائج مؤتمر دارفور، وعنها عبر القذافي بوضوح حينما وصف اتفاق الرياض بالأمر المضحك.. واتساقاً مع هذه العادة وقبل تداعيات هذا الاتفاق صوتت الجماهيرية ضد تولي السودان رئاسة الاتحاد الإفريقي جزاءً على عدم حضور البشير لقمة مصغرة استضافتها طرابلس30.

وفي تقييمه لهذا الموقف عبر (السيد علي كرتي) وزير الدولة بالخارجية السودانية، وصف اتفاق الرياض بأنه أشمل من أي اتفاق آخر، وفي السياق نفسه ذهب (د. ياسين الحاج عابدين) مدير مركز دراسات المستقبل الذي قال: إن ما حدث في طرابلس لم يكن اتفاقاً وإنما كان إعلاناً أشبه بملخص الاجتماعات، وأضاف: المضحك ليس اتفاق الرياض كما قال القذافي، بل المضحك هو إعلان طرابلس لأنه لم يحل مشكلة وليس فيه التزام وإنما دعوة من المجتمعين للدولتين، ولذلك فبعد إعلان طرابلس حدث الاعتداء التشادي على السودان، وبالتالي فإعلان طرابلس معيب لأنه ليس به إلزام31.

فشل بعض الوساطات السعودية لا يكمن في المبادرات الملكية وإنما في الخلافات البينية العربية

وعلى هذا الأساس يدرك العقيد أن الأمر ليس مجرد (كعكة تصالحية) ربما أرادها خالصة له، لاعتقاده أن ليبيا بحكم مجاورتها للبلدين المتخاصمين أولى من غيرها بمباشرة وساطات بهذا الخصوص، لاسيما في وجود شعور من القذافي بأنه الزعيم الإفريقي الأول، وإنما المسألة تجاوز الإجراءات إلى تفاصيل أكثر قسوة في تاريخ المنطقة، إذ لا ينظر البعض على جانبي الحدود للعقيد على أنه وسيط، بل طرف شارك في دعم حكومة الرئيس التشادي إدريس دبي كما تورط من قبل في حرب خاسرة ضد سلفه حسين حبري أراد من خلالها القذافي أن يستولي على إقليم أوزو التشادي الشمالي الغني باليورانيوم. فالقضية إذاً تتجاوز مسألة من يقوم بالوساطة، وإنما من بيده الحل في المنطقة ومن يملك أوراقاً للعب هناك32.

ومن خلال ما سبق يمكن الجزم بأن فشل بعض الوساطات السعودية لا يكمن في المبادرات الملكية وإنما في الخلافات البينية العربية - العربية، والتدخلات الخارجية، وعقدة الزعامة التي تسيطر على أفكار بعض القادة. مما ينبئ بصعوبة إصلاح البيت العربي والإسلامي في الأفق القريب ما لم تتغير العقليات السياسية لتتوافق مع التطلعات الشعبية.

الهوامش:

1- المادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة.

2- د. عبدالواحد الناصر، المشكلات السياسية الدولية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، منشورات الزمن، الرباط، 2008م، ص 451.

3- راجع في هذا الصدد: نيكولا ميكيافيلي، الأمير، ترجمة أكرم مومن، مكتبة ابن سينا للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، طبعة 2004.

4- الملك عبدالله بن عبدالعزيز مسيرة رجل وخطوات قائد، ميسر الشمري، مجلة الدبلوماسي، العدد 25، رمضان 1426هـ، ص8.

5- الملك عبدالله بن عبدالعزيز. مسيرة رجل وخطوات قائد نفس المرجع، ص 47.

6- ملك نحبة، الناشر مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر، الطبعة الأولى 2007م، ص 603_605.

7- المادة الأولى والثانية من اتفاق المصالحة بين السودان وتشاد، لسنة 2007 بوساطة سعودية.

8- المادة الثالثة من اتفاق المصالحة بين السودان وتشاد، لسنة 2007 بوساطة سعودية.

9- المادة الرابعة من اتفاق المصالحة بين السودان وتشاد، لسنة 2007 بوساطة سعودية.

10- المادة الخامسة من اتفاق المصالحة بين السودان وتشاد، لسنة 2007 بوساطة سعودية.

11- المادة السادسة من اتفاق المصالحة بين السودان وتشاد، لسنة 2007 بوساطة سعودية.

12- إبراهيم بن محمد المالك، إستراتيجية الملك عبدالله وفلسفته في مكافحة الإرهاب، الطبعة الأولى 2006م، ص35.

13- روبرت ساتلوف، (متعهدة واشنطن.. اتفاق مكة معضلة جديدة لأمريكا)، ترجمة : مروى صبري، الموقع الإلكتروني إسلام أون لاين، الأحد 18 فبراير 2007م. http://www.islamonline.net

14- فتح وحماس تلتحمان اليوم في مكة، رويترز - إسلام أون لاين، الأربعاء 7 فبراير2007م.

15- أحمد عطا، بدبلوماسية (الوساطة).. السعودية تقود العالم العربي، إسلام أون لاين نت، أحمد عطا، الإثنين 16 إبريل 2007م.

16- (السعودية تتوسط في الخلاف بين البحرين وقطر).

http://www.france24.com/ar/20100528-qatar-bahrein-ksa-territory-problem-polemic

17- (السعوديةتتوسط في الخلاف بين البحرين وقطر).

http://www.sahafi.jo/n_print.php?id=d4a4f8f32d70c602c49f76417a885c5cdc5e1c97

18- رشيد عمارة ياس الزيدي، (أزمة الهوية العراقية في ظل الاحتلال)، المجلة العربية للعلوم السياسية، العدد 14، ربيع 2007، ص. 16.

19- أنطوان مسرة، (في مستقبل الوحدة العربية: الاعتراف بالولاءات التحتية وشرعنتها عامل توحيد أم انقسام؟)، المستقبل العربي، السنة9، العدد 90، أغسطس 1986، ص. 18.

20- مالك طه، (ديبي عالجها بنفسه،... البحث عن وساطة لاحتواء أزمة الوساطة السعودية)، الرأي العام،

http://www.libya-al-mostakbal.org/LibyaInThePress/May2007/array_alaam_assodania140507.htm

21- (اتفاق مكة وسياسة الغموض الإيجابي).

http://www.swissinfo.ch/ara/detail/index.html?cid=5718290

22- يوسف كامل إبراهيم، (اتفاق مكة بين مواقف المؤيدين والمعارضين والحذرين والمواقف المشروطة)،

http://www.al-arabeya.net/index.asp?serial=&f=3380642426

23- يوسف كامل إبراهيم، (اتفاق مكة بين مواقف المؤيدين والمعارضين والحذرين والمواقف المشروطة)،

http://www.al-arabeya.net/index.asp?serial=&f=3380642426

24- العاهل السعودي يحل أزمة مجلس التعاون بين قطر والبحرين، العربية/ الشرق الأوسط،

http://arabic.cnn.com/2010/middle_east/5/28/saudi.qatarbahrain/index.html

25- (وساطة سعودية بقيادة الملك لإنهاء (التوتر) بين قطر والبحرين)

http://www.alarabiya.net/articles/2010/05/27/109795.html

26- خطاب خادم الحرمين الشريفين، بمناسبة عيد الفطر المبارك في شوال 1414ه، عندما كان ولياً للعهد.

27- أحمد الإمام،(الدور السعودي.. محاولة لاستعادة التوازن المفقود)، إسلام أون لاين.نت، الخميس 1 فبراير2007م.

http://www.islamonline.net

28- توفيق بوعشرين، (دبلوماسية خادم الحرمين الشريفين)، جريدة المساء المغربية، 24/2/2007م، ص3.

29- (اتفاق مكة الهادف إلى وقف المواجهات العنيفة وإقامة حكومة وحدة)

http://www.terrorism-information.com/?act=articles&id=618&sid=24&ssid=0

30- مالك طه، (ديبي عالجها بنفسه،... البحث عن وساطة لاحتواء أزمة الوساطة السعودية)، الرأي العام،

http://www.libya-al-mostakbal.org/LibyaInThePress/May2007/array_alaam_assodania140507.htm

31- مالك طه، (ديبي عالجها بنفسه،... البحث عن وساطة لاحتواء أزمة الوساطة السعودية)، الرأي العام،

http://www.libya-al-mostakbal.org/LibyaInThePress/May2007/array_alaam_assodania140507.htm

32- (السعودية وليبيا.. والأزمة التشادية/السودان)

http://almoslim.net/node/83918

مقالات لنفس الكاتب