; logged out
الرئيسية / حراك الغاز أعاد وجهة الغرب للتعاون مع المنطقة وزاد من ثقل تعامل الشرق الأوسط مع الدول الكبرى

العدد 197

حراك الغاز أعاد وجهة الغرب للتعاون مع المنطقة وزاد من ثقل تعامل الشرق الأوسط مع الدول الكبرى

الإثنين، 29 نيسان/أبريل 2024

لا تزال الحرب في أوكرانيا في بداية عامها الثالث دون تبلور أية مظاهر على توقفها أو الدخول في تسوية رغم المشروعات التي طرحت بهذا الخصوص عدة مرات. وقد أفرزت الحرب الروسية الأوكرانية تداعيات كثيرة، ولم تقتصر هذه التداعيات على أوروبا ولكنها تجاوزت الأطراف المنخرطة فيها مباشرة وامتدت أصداؤها إلى أقاليم أخرى ومن بينها منطقة الشرق الأوسط والتي تعد أحد المناطق الأكثر تأثرًا بهذه الحرب؛ وذلك للعديد من الأسباب، لعل من أهمها طبيعة الوضع الأمني والسياسي والاقتصادي للعديد من دول المنطقة والتي تعاني هشاشة واضحة على هذا المستوى، فضلًا عن الروابط القديمة والمعقدة التي تربط هذا الإقليم بفاعلين كثر من خارجه، وهو ما جعلها أكثر عرضة للتأثر بمتغيرات البيئتين الإقليمية والدولية. وفي هذه الورقة سوف نحاول أن نتناول تحليل الآثار المحتملة للحرب الروسية / الأوكرانية في عامها الثالث على طبيعة الأوضاع السياسية والاقتصادية والجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط.

تداعيات متشابكة

لا شك أن دراسة تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على منطقة الشرق الأوسط أمر مهم، وذلك على عدة محاور، أولها المحور الاقتصادي، وثانيها المحور العسكري، وثالثها التوازن الإقليمي، ورابعها التوازن والصراع الدولي داخل منطقة الشرق الأوسط.

أولًا: التداعيات الاقتصادية:

أدت التطورات العالمية والتداعيات المرتبطة بالحرب الروسية الأوكرانية على سوق الطاقة إلى متغيرات كبيرة لم تقتصر تأثيراتها على الدول الكبرى وطبيعة التوازن الدولي ولكنها انتقلت إلى تداعيات داخل الأقاليم المختلفة ومن بينها الشرق الأوسط بصورة أساسية. ويلاحظ أن التداعيات الاقتصادية للحرب الروسية / الأوكرانية قد حررت بعض الدول الإقليمية من أطر التعاون التي كانت قائمة بينها وبين الولايات المتحدة والدول الأوروبية؛ فقد أدى الصراع الذي تصاعد بصورة كبيرة ما بين الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية من جانب وروسيا والصين من جانب آخر إلى تعقيد الأزمة الاقتصادية والتي أفرزت تداعيات واضحة وغير مسبوقة بصورة كبيرة خاصة في منطقة الشرق الأوسط كان من أهمها تزايد أهمية الطاقة والدول المنتجة للبترول والغاز الطبيعي، علاوة على أنه رتب لها تراكمًا واضحًا في فائض الثروة، مما مكنها من مواجهة أي تداعيات لتلك الأزمة وتجاوز سلبياتها.

ذلك فضلًا عن أن ذلك زاد من استثماراتها، وهو ما وفر لها أداة للتأثير في السياسة الاقتصادية العالمية بانعكاساتها السياسية المختلفة، وقد بدت ملامح ذلك واضحة في اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية لتغيير استراتيجيتها التي كانت قد تبلورت مع الإدارة الأمريكية الحالية والتي كانت تقدر أن منطقة الشرق الأوسط ومنطقة الخليج ليست بدرجة الأهمية التي توازي أهمية آسيا بالنسبة لها. إلا أنه بعد عام من الحرب الأوكرانية الروسية / تغيرت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي لتؤكد بوضوح أهمية منطقة الخليج بالتحديد ضمن محاور استراتيجية. كما أن الصراع المتصاعد بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين وإيران قد زاد من أهمية المنطقة بصفة خاصة، لا سيّما في ظل العقوبات المتصاعدة من قبل الولايات المتحدة على روسيا وإيران ومحاولتها حصار الصين. وكل تلك المتغيرات أفرزت مناخًا على مستوى الإقليم سمح لها بامتلاك أدوات تأثير وفرض الهيمنة سواء بشكل منفرد أو بشكل جماعي.

ثانيًا: حراك الطاقة

في ظل الاحتياج المتزايد لدول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية للطاقة رغم كون الأخيرة أكبر منتج للبترول في العالم، أدى حراك الغاز وتصاعد أهميته للدول الأوروبية بصورة كبيرة إلى تداعيات على دور بعض القوى الإقليمية خاصة تركيا وإيران؛ فقد نجحت أنقرة في نسج علاقات مع روسيا مستفيدة من حاجة روسيا للتعاون معها وقيامها بدور وساطة، وبالتالي قدمت لها روسيا كثيرًا تنازلات كبيرة فيما يتعلق بالغاز وضرورة أن تكون تركيا طريقًا لعبور الغاز الروسي لأوروبا بعيدًا عن خطوط الأنابيب التي تمر عبر دول تعتبرها روسيا خصومًا لها في هذه الحرب كما هو الحال بالنسبة لخط نورد ستريم، وبالتالي زادت أهمية تركيا في هذا الإطار. ولعل الاتفاق على إقامة مركز للغاز في تركيا دليل واضح على ذلك.

ولا شك أن التحرك الأوروبي والأمريكي المكثف لدعم وتمويل خطوط الغاز المقترحة قد أضاف أهمية كبيرة لدول شمال إفريقيا بالتحديد، سواء بالنظر لمدى احتياطاتها من الغاز مثل الجزائر، وكذلك لدعم وتمويل خطوط الغاز المقترحة ما بين نيجيريا والجزائر ونيجيريا والمغرب لنقل الغاز الطبيعي الإفريقي للقارة الأوروبية، وهو ما زاد من أهمية إقليم الشرق الأوسط وأهمية التعامل مع الجزائر بصفة خاصة.

كما أن السعي لتحقيق نوع من التهدئة داخل ليبيا لا يتعلق في جانب كبير منة بتحقيق الاستقرار أو الانتقال السياسي؛ فالملاحظ أن عملية الانتقال السياسي لا تزال متعسرة وليس هناك نوع من الانخراط الدولي الجاد لحل هذه الأزمة، لكن هناك استثمار خاص في الغاز لتوفير بدائل للدول الغربية، ولذلك أصبح الهدف الرئيسي هو أن يستمر خروج أو تصدير الغاز والبترول الليبي إلى الدول الأوروبية الواقعة جنوب البحر المتوسط بصورة كبيرة.

إذًا نلاحظ أن حراك الغاز كان عاملًا أساسيًا لتوجه تلك الدول بصفة عامة للتعاون من دول المنطقة، وزاد من ثقل دول منطقة الشرق الأوسط بالتعامل مع الدول الكبرى، وأعاد أهمية المنطقة ودولها التي تمتلك التأشيرة في هذا الملف ضمن استراتيجيات الدول الكبرى بصورة كبيرة.

ثالثًا: التداعيات الجيوسياسية:

ينبغي الإشارة في بداية الحديث عن تداعيات الحرب الجيوسياسية إلى أن هذه الحرب لا تزال تفرز تداعيات حتى الآن، وأن أية محاولة للتنبؤ بتأثيرات الحرب الروسية / الأوكرانية على مجريات الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط وخاصة مآلات الصراع والسلام فيها لابد أن تأخذ في اعتبارها مجموعة من الاعتبارات الآخذة في التطور والتغير.

ورغم الحديث عن وساطات للدخول في تسوية للأزمة الأوكرانية الروسية إلا أن الواقع يقول إنه لا يوجد أي تقدم على هذا المستوى، ولا يزال الموقف الروسي متصلبًا فيما يتعلق بالسيطرة على إقليم الدونباس وضمه إلى الأراضي الروسية وهو ما ترفضه أوكرانيا. ويعد جوهر الصراع الجاري حاليًا هو محاولة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية محاصرة روسيا، واستمرار الحرب كهدف في حد ذاته، على أمل أن يجري استنزاف القدرات العسكرية لروسيا، وتقويض مساعيها لتكون دولة عظمى، وأن يتراجع نفوذها ودورها تبعًا لذلك وانخراطها في الأزمات الدولية والإقليمية المختلفة التي تشهد نوعًا من الاشتباك بينها وبين الدول الغربية على اتساعها.

 ورغم أن معطيات الميدان العسكري تميل إلى صالح روسيا بصورة واضحة فإن كافة التقديرات تشير أن استمرار الحرب الأوكرانية بالوتيرة الحالية سوف يؤدي في نهاية المطاف إلى تطلع روسيا للسيطرة على مزيد من الأراضي الأوكرانية والوصول إلى خط التماس المباشر مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) وهو ما يمكن أن يوفر فرصًا للاحتكاك المباشر بينهما، وهو سيناريو خطر في حالة عدم جاهزية أوروبا له. وبالتالي وفي ظل دعاوى المرشح الرئاسي الأمريكي دونالد ترامب بأنه لن يوفر الأمن للاتحاد الأوروبي إذا لم يدفع الثمن، فإن ذلك يعني تراجعًا في موقف الولايات المتحدة الأمريكية عن توفير الدعم للاتحاد الأوروبي.

ولا يمكن تقييم تداعيات الحرب الروسية / الأوكرانية على منطقة الشرق الأوسط دون الإشارة إلى طبيعة الموقف العسكري الجاري حاليًا بين البلدين، فمن الواضح أن القوات الروسية تقف على بعد خطوتين لإتمام السيطرة الكاملة على إقليم الدونباس سواء في الاتجاه شرق خاركيف للسيطرة على لوغانسك والثانية لتطويق شمال دونيتسك في مقابل تراجع أوكرانيا التي استهلت عامها الثالث في الحرب بالانسحاب من أفدييفكا وفشل الهجوم الأوكراني المضاد رغم توفير كافة العناصر له. ذلك بالإضافة إلى تحدي استمرار الإمدادات العسكرية الغربية؛ فرغم التصريح بالرغبة في الاستمرار إلا أن الواقع كشف عن صعوبة الوفاء بالتدفقات العسكرية بالوتيرة التي كانت تجري عليها خلال العامين الماضيين.

ومن ناحية أخرى، فإن هناك العديد من المستجدات التي  يتعين قراءتها وتقييمها خارج ميدان الحرب والتي تنعكس على طبيعة التوازن الدولي؛ فقد تلاحظ أنه رغم كل العقوبات التي فرضت على روسيا تمكن الاقتصاد الروسي من تجاوز العقوبات الغربية المفروضة عليه وما زال قادرًا على العمل ،كما من الملاحظ أن أوروبا بدأت تتأثر باستمرار الحرب، ومن تأثيراتها تأثر العديد من القطاعات داخلها بهذه الحرب منها قطاع الزراعة الذي أدى لتضرر المنتجين، كما أن هناك ارتباكًا أمريكيًا في ظل قرب الانتخابات الرئاسية والموقف الصعب للإدارة الأمريكية الحالية برئاسة جو بايدن وما طُرح بخصوص الحرب هناك.

وعند المقارنة بين مشهدي بداية الحرب الأوكرانية في فبراير 2022م، والوضع الحالي مع دخولها العام الثالث، نلاحظ منظورًا مختلفًا وتداعيات متطورة لتأثير الحرب على منطقة الشرق الأوسط؛ ففي بداية هذه الحرب تركزت المخاوف في المنطقة بشكل أساسي على ملفين لهما أهمية استراتيجية لمعظم دول المنطقة، الأول هو ملف الأمن الغذائي والملف الآخر هو ملف علاقات التعاون العسكري والإقليمي.

وشهدت فترة ما قبل الحرب حضورًا وانخراطًا لروسيًا في أزمات المنطقة، ولا سيّما في سوريا وليبيا وكان للوجود الروسي في سوريا نوعًا من الاستقلالية في التحركات، إضافة إلى التوسع في البنية التحتية العسكرية في إطار العلاقات مع النظام السوري بما شمل قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية في الساحل السوري. وكان ذلك يحقق فوائد لروسيا بالعودة إلى المياه الدافئة وفي نفس الوقت فائدة لسوريا في التوازنات الداخلية والسيطرة على أراضيها في مواجهة التنظيمات الإرهابية والتدخلات الإقليمية والدولية.

ولا شك أن سوريا تمثل ولا تزال نقطة ارتكاز بالنسبة للاستراتيجية أو للسياسة الروسية، مع الوضع في الاعتبار أن الإدارة الروسية الحالية تقدر أن انسحاب الاتحاد السوفيتي من سوريا ومناطق النفوذ في الشرق الأوسط قد كان سببًا مباشرًا أدى إلى انهياره في النهاية.

وعلاوة على ذلك، كانت روسيا طرفًا أصيلًا فيما يتعلق باهتمامها بالقضية الفلسطينية وما ظهر بوضوح في علاقاتها بالفصائل والسلطة الفلسطينية، وساندت موسكو القضية الفلسطينية في المحافل الدولية ولا سيما في مجلس الأمن. إلا أنه نتيجة الحرب فقد تأثر بالتأكيد الانخراط السوري في القضية الفلسطينية في الفترة الحالية، وأصبحت روسيا بصورة أكبر طرفًا محايدًا لا يملك أدوات للتأثير، وكان ذلك واضحًا في الحرب الجارية في غزة والدور الروسي الذي لا يمثل نوعًا من التأثير.

كما أن الانشغال الروسي بالحرب في الأراضي الأوكرانية أثر بصورة كبيرة على النفوذ العسكري الروسي في المنطقة، وقلص انتشارها العسكري بصورة كبيرة؛ فقد سحبت روسيا قواتها الرئيسية وعددًا من الأسلحة منها منظومة إس 300 من سوريا، ولا سيما من قاعدة حميميم الجوية لتوجيهها نحو أوكرانيا، بينما أبقت على الوجود البحري في اللاذقية لاعتبارات استراتيجية مع محاولة خلال الفترة الأولى من الحرب لتأكيد عدم تأثر وجودها في سوريا من خلال مظاهر مختلفة منها إقامة مناورات مشتركة.

لكن تقلص الوجود العسكري الروسي في سوريا أدى إلى تمدد نفوذ إيران أكثر مما كان عليه بصورة كبيرة وأدى إلى تعقد الأوضاع وتوقف جهود التسوية أو على الأقل توقف جهود محاصرة التنظيمات الإرهابية خاصة المتمركزة في إدلب، وأدى ذلك في النهاية إلى اتساع مساحات الحركة لكل من تركيا وإيران في داخل الأزمة السورية وتقلص الدور الروسي نسبيًا فيما يتعلق بدفع الأزمة إلى التسوية كما كانت تسعى موسكو.

وأكثر من ذلك، إن احتياج روسيا إلى الطائرات المسيرة الإيرانية منخفضة التكلفة قد أدى إلى تقارب روسي إيراني في إطار مقاربة الحرب الأوكرانية وهو ما أدى إلى ترك روسيا مساحة نفوذ أكبر لإيران في سوريا ونوع من تصاعد التحالف بينها وبين إيران. كما فرضت الحرب الأوكرانية اعترافًا ضمنيًا من الجانب الروسي بالوجود التركي في شمال سوريا والدور التركي الإقليمي المتزايد لها على مستوى المنطقة.

الخلاصة

هكذا نرى أن الحرب الروسية الأوكرانية في عامها الثالث لا تزال تفرز تداعيات سياسية وجيواستراتيجية واقتصادية وعسكرية متعددة على منطقة الشرق الأوسط، على اعتبار أن القضايا التي تشتبك فيها روسيا وأوكرانيا والدول الغربية في المنطقة والصراعات الجارية فيها لا تزال قائمة ويصعب التنبؤ بإمكانية التوصل إلى حلول لها؛ فالصراع في كل من سوريا واليمن وليبيا ولبنان لا يزال قائمًا، والأزمات تستعصي على الحل، وتدخلات القوى الإقليمية متزايدة، كما أن الحرب الإسرائيلية على غزة وما أفرزته من تداعيات مختلفة ومسار تلك الحرب والحديث عن اليوم التالي في غزة والانخراط الإقليمي والدولي فيما يتعلق بهذا الخصوص لعلها تؤكد أن تداعيات الحرب الأوكرانية على المنطقة يمكن أن تكون العامل التالي، أو تتراجع  أهمية هذه التداعيات قياسًا بتداعيات الأزمة المتصاعدة وخاصة التوتر المتصاعد ما بين إيران وإسرائيل والذي ينعكس على صراع أوسع ما بين إيران والولايات المتحدة.

يضاف إلى ذلك أن تداعيات الحرب الروسية / الأوكرانية قد أدت بصورة أساسية إلى تبلور نوع من النفوذ ليس فقط الاقتصادي ولكن النفوذ السياسي لدى دول الإقليم خاصة البترولية وإعادة صياغة علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية. ولعل موقف وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان بن عبد العزيز في أحد المؤتمرات والذي رفض فيه تخفيض إنتاج أوبك على اعتبار أن السوق يفرض ذلك رغم أن ذلك تعارض مع الدعوة الأمريكية للتخفيض يؤكد أن المملكة العربية السعودية تمتلك القدرة على توجيه مصالحها الاقتصادية دون مراعاة لمواقف الدول الأخرى التي لا تتفق مع ذلك، كما أن دول الخليج على رأسها المملكة العربية السعودية اتخذت في السنوات الأخيرة مسارات مختلفة تعكس بصورة كبيرة حجم نفوذها ليس الاقتصادي وإنما الجيوسياسي بصفة عامة على مستوى الإقليم وعلى مستوى العالم.

مقالات لنفس الكاتب