; logged out
الرئيسية / التقارب الصيني / الروسي يتبلور.. والغرب يفتقر لاستراتيجية الخروج وإنقاذ سمعته

العدد 197

التقارب الصيني / الروسي يتبلور.. والغرب يفتقر لاستراتيجية الخروج وإنقاذ سمعته

الإثنين، 29 نيسان/أبريل 2024

دخلت الحرب الروسية / الأوكرانية عامها الثالث مع مواصلة العقوبات الغربية المكثفة على روسيا دون تأثير كبير على الاقتصاد الروسي، وإعادة انتخاب الرئيس بوتين بنجاح، وتمتع موسكو بالاستقرار السياسي والاجتماعي بالرغم من الهجوم الذي تبناه تنظيم "داعش خراسان" وأودى بحياة 137 شخصًا في قاعة للحفلات الموسيقية في موسكو، والتحول في ميزان القوى في الحرب لصالحها، وقد يعزى ذلك إلى الدعم العسكري والاقتصادي الذي تتلقاه موسكو من بكين، واستراتيجية التحوط أو الحياد الاستراتيجي التي تنتهجها مجموعة من الدول خارج المعسكر الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة، وعدم وجود استراتيجية واضحة للمعسكر الغربي الذي وقع في دائرة "الافتقار إلى استراتيجية الخروج" في ظل التحول في ميزان القوى العسكرية لصالح روسيا.

تناقش هذه الدراسة ميزان القوى الحالي في الحرب، والفرص الاستراتيجية للصين لتتعلم من تجارب روسيا في التعامل مع تحديات العقوبات الغربية والمخاطر الأمنية المحتملة الأخرى، والتي تتعلق بتايوان في ظل سيناريو مواصلة الحرب،  بالإضافة إلى تبني بعض دول المنطقة العربية مثل السعودية والإمارات وغيرها "الحياد الاستراتيجي النسبي"، الذي قد يتغير نحو روسيا في ظل الافتقار إلى "استراتيجية الخروج" من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو، و اتساع رقعة الصراع في منطقة الشرق الأوسط نتاج سياسات واشنطن الفاشلة في المنطقة.

التحول في ميزان القوى

من منظور ميزان القوى، فإن الوضع في ساحة الحرب بأكملها في حالة تغيير مستمر. حيث تواصل روسيا تحقيق اختراقات وتقدم على الأرض في كريمينا وأفديفكا وزاباروجيا ودونيتسك وأماكن أخرى. وأصبح الميزان الدفاعي لصالح روسيا من منظور القوات الجوية والقوى البشرية. حيث يقف حلفاء روسيا، ومن بينهم جارتها بيلاروسيا التي تسمح لها باستخدام أراضيها ومجالها الجوي، كما أثبتت الطائرات الميسرة بدون طيار الإيرانية فعالية في الحرب الأوكرانية – لا سيما وأن طرفَي تلك الحرب لديهما القدرة على مراوغة الدفاعات الجوية، في حين أن حلف شمال الأطلسي يعمل في اتجاهات مختلفة ويلتزم بتعزيز أسلحته التقليدية، وخاصة تعزيز بناء المعلوماتية لقواته ونشر أنظمة الحرب الإلكترونية ومعدات الاستطلاع والمراقبة. والتفوق البشري لصالح روسيا، حيث كشف استطلاع رأي من قبل مجلة الفايننشال تايمز في فبراير، قلة الحماس بين الشباب الأوكرانيين لخوض الحرب. فجاءت النتيجة 48 ٪ لا، 34 ٪ نعم، و18 ٪ ليس لديهم رأي واضح. ناهيك عن أن هناك ما يقرب من 1.3 مليون شاب في سن التجنيد يعيشون في الخارج، و1.2 مليون في الداخل ليسوا جنود مقاتلين على الخطوط الأمامية.

وفي الوقت الحاضر، وبصرف النظر عن الأسلحة النووية، أرسلت روسيا جميع الأسلحة والمعدات الأخرى إلى ساحة المعركة، بما في ذلك القنبلة الفائقة FAB-3000، والقاذفة Tu-22M3 "Backfire" التي تحمل 3 أطنان من الصواريخ الموجهة وغيرها من الأسلحة العسكرية الثقيلة المخيفة.

ويصادف أن الولايات المتحدة غير قادرة على تقديم مساعدات عسكرية واسعة النطاق بعد الحرب على غزة، كما أن المساعدات العسكرية الأوروبية ليست كافية لتلبية الاستهلاك اليومي في ساحة المعركة.

وعلى المستوى الداخلي، تمكن بوتين من إعادة انتخابه مرة أخرى، حيث حصل على 87.28% من الأصوات، وهي نسبة أعلى بكثير من الأصوات التي حصل عليها في عام 2018 م، (76.69%). وعلى الرغم من ادعاءات بعض النقاد الغرب بتزوير الانتخابات، وحصول ممثلي الحزب الشيوعي الروسي على المركز الثاني في الانتخابات الرئاسية، الأمر الذي يعكس مطالب المجتمع الروسي المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والمساواة، إلا أن النتائج تظهر أن بوتين يتمتع بسلطة قوية في الداخل، وبأن الرواية الغربية التي كانت تقول بأن موسكو ستواجه تغييرًا في النظام السياسي منذ إعلان الحرب تظل ضعيفة.

 وفيما يتعلق بالوضع الاقتصادي، كان أداء روسيا أفضل بالفعل مما توقعه العديد من الخبراء الغربيين وحتى الروس، فكان تأثير العقوبات على الاقتصاد الروسي محدودًا للغاية، وحققت نموًا اقتصاديًا بنسبة 3.6% العام الماضي، ولم يكن لها تأثير كبير على الاقتصاد الروسي مثل فيروس كورونا (كوفيد-19).

ويعزى ذلك إلى أن أداء الحكومة الروسية في إدارة الاقتصاد الكلي والحفاظ على الاستقرار المالي الكلي كان جيدًا للغاية. فقد كانت الموارد المالية الوطنية متوازنة، ولم ينمو الدين الوطني بسرعة، وقدمت الحكومة الروسية أيضاً سياسات تهدف إلى تطوير التداول الاقتصادي الداخلي. فبالنظر إلى الوضع الاقتصادي في روسيا خلال العام أو العامين الماضيين، سنرى تعزيز صناعة البناء والتشييد التي تساهم بشكل كبير في الاقتصاد الروسي، والأداء الجيد لقطاع الزراعة، والصناعة العسكرية التي تلعب دورًا مهمًا في تحفيز النمو الاقتصادي.  ولا ينبغي أيضاً أن ننسى أساسيات الاقتصاد الروسي الذي يمتلك سوقًا محليًا ضخمًا يمكنه الاعتماد على الاستهلاك المحلي لتطوير الاقتصاد، وقدمت أيضاً سياسات تهدف إلى تطوير التداول الاقتصادي الداخلي.

ومع ذلك، يظل التحدي الرئيسي الذي يواجه الاقتصاد الروسي منذ عام 2022 م، هو حل مشكلة عدم استقرار الاقتصاد الكلي. فالإنفاق العسكري يجلب النمو ويحافظ على الاستقرار الاقتصادي؛ وفي حالة توقف الإنفاق العسكري، فسيشكل خطرًا على النمو الاقتصادي.

وبالرغم من أن البعض يعتقد بأن العقوبات الغربية مفيدة لروسيا، حيث ساهمت في تحسين المستوى التكنولوجي في روسيا، وعززت تركيز روسيا على الزراعة وغيرها من القطاعات، إلا أن رفع العقوبات مهم للغاية، لأن الاندماج في الاقتصاد العالمي يتماشى مع مصالح روسيا الخاصة. وهذا مهم بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بالتقنية العالية التي يتم استبعاد روسيا منها، وهو ما يشكل تحديًا خطيرًا للغاية للتنمية الاقتصادية في روسيا.

ناهيك أن الاقتصاد الروسي في حاجة ملحة إلى نظرية "تكامل الطاقة" بين الطاقة الأحفورية والطاقة المتجددة والطاقة الجديدة لتقليل الاعتماد على إيرادات الطاقة الأحفورية وتحقيق التنوع الاقتصادي.

فالعقوبات حفزت موسكو على تعديل سلسلة توريد النفط التي استغرقت أقل من نصف عام، وأصبحت الهند واحدة من أهم الشركاء التجاريين لها، ولكنها عززت المحفزات المتعلقة بتسريع التحول العالمي في مجال الطاقة الجديدة. فمع تقلبات سوق النفط والغاز، اشتدت اللعبة الجيوسياسية للطاقة نحو اقتصاديات تكنولوجيات الطاقة المتجددة وتنمية الموارد الخضراء المحلية.

حيث اعتمد الغرب على مبدأين لتقويض الاعتماد على النفط والغاز الروسي، أحدهما "العصا لإعادة تشكيل تدفقات الطاقة العالمية" والأخرى "الحافز لتسريع تحول الطاقة العالمية". فعلى سبيل المثال، فيما يتعلق بالغاز يمكن ملاحظة أن الاتحاد الأوروبي استبدل اعتماده المنخفض اقتصاديا وغير الموثوق سياسيا وهو روسيا، بالاعتماد المكلف اقتصاديا و"الموثوق" سياسيًا وهو الولايات المتحدة. بالإضافة إلى إطلاق خطة عمل "استقلال الطاقة الأوروبي والتحول الأخضر" وزيادة الحجم الإجمالي للاستثمار في تحويل الطاقة العالمية.

وبالنظر إلى تكنولوجيا الطاقة النظيفة التي أصبحت مجالًا بارزًا في "الحرب الباردة" و"سباق التسلح الأخضر" بين الصين والولايات المتحدة في مجال التكنولوجيا: الفكرة الأساسية الحالية لإدارة بايدن هي إعادة تشكيل سلاسل التوريد للتخلص من الاعتماد على الموارد والمنتجات الصينية والعمل مع الحلفاء لتطوير تقنيات الطاقة النظيفة لعزل وقمع الصين صناعيًا.

ومع انخفاض القيمة الاستراتيجية للنفط وتعزيز الطاقة النظيفة مثل الخلايا الكهروضوئية وطاقة الرياح، فإن مصادر الطاقة الجديدة والتقليدية حول العالم سوف تكون بين الانحسار والتدفق، وسيتغير المشهد السياسي للطاقة. ومن المرجح أن يتجه نحو "المزيد من المنافسة، ولكن بكثافة أقل".

 

الصين ومواصلة استراتيجية " اغتنام الفرص الاستراتيجية"

 

تعتبر بكين مواصلة الحرب الروسية-الأوكرانية "فرص استراتيجية" لتعزيز مصالحها الحيوية والأساسية، التي تتعلق بتايوان وبحر الصين الجنوبي والتنمية الاقتصادية المرتبطة بأمن النظام. لقد درج جيش التحرير الشعبي الحرب في مناهجه الدراسية بعد حرب الخليج. وبالرغم أن أداء روسيا وأوكرانيا كان سيئاً في هذه المواجهة، إلا أنهما قدمتا دعماً هائلاً للصين. حيث أعطت الحرب لبكين فهماً عميقاً للقوة العسكرية لحلف الناتو، بما في ذلك الدعم اللوجستي والمستوى الصناعي وقدرة الإنتاج العسكري. وعلى الرغم من أن الناتو لم يدخل بعد مرحلة الإنتاج في زمن الحرب ولم يتأثر الهيكل الاجتماعي بالصراع، إلا أن التقارير الصادرة المتكررة عن نقص المواد وأزمات الطاقة لا تزال تستحق اهتمامًا وثيقًا.

قد يعتقد البعض أن هذا مجرد " خداع استراتيجي " يستخدمه الناتو. ولكن في الواقع، باعتبارها مصدرًا رئيسيًا للمعادن النادرة والبارود، فإن بكين تدرك جيدًا كمية المواد الخام التي تصدرها للعالم الخارجي والتي يمكن استخدامها لتصنيع الأسلحة، وبالتالي يمكن لها توقع أيضًا المعدات العسكرية التي قد ينتجونها وليس الاستهلاك والتخزين.

وفي سياق اليوم الذي يتسم بالشفافية الصناعية وسلاسل التوريد العالمية المترابطة، فبمجرد أن يعجز أحد الأطراف عن التخلص من اعتماده على المواد والمنتجات الأجنبية، فمن غير المرجح اعتبار هذا نوعًا من الخداع الاستراتيجي. وهذا يفسر أيضًا السبب وراء قدرة الصين على التنبؤ بتصرفات حلف الناتو. وعلى العكس لا يعرف حلف الناتو ما هو الإنتاج السنوي للطائرات J-20(التنين الجبار كما يسميها الصينيون)، ولا عدد المدمرات التي يخطط لبنائها، وحتى عدد الألوية التي يقوم جيش التحرير الشعبي بتطور وإحلال معداتها سنويًا.

بالإضافة إلى ذلك، هناك فائدة مهمة أخرى جلبها الصراع الروسي / الأوكراني للصين، وهي أنه الدول الغربية تفتقر إلى الطاقة والموارد الكافية واستراتيجية الأمن الجماعي الموحدة للتعامل مع تهديدات في جبهات مختلفة مثل الموقف من الحوثيين في البحر الأحمر وإيران في الشرق الأوسط، والصين في بحر الصين الجنوبي.

وفي سياق العقوبات، تصدر الصين في الأساس منتجات مصنعة ذات قيمة مضافة عالية، وتعد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الوجهتين الرئيسيتين لصادراتها. وسيكون من الأصعب على الصين أن تجد سوقاً بديلة ذات حجم مماثل. لذا، بدأت الصين في تنفيذ استراتيجية "التداول المزدوج" التي تشكل عنصراً أساسياً لتمكين الاقتصادات التي تمر بمرحلة انتقالية من مقاومة العقوبات بطريقة أكثر ملاءمة.

وبالنسبة للصين، انتصار موسكو هو تعزيز لمصالحها السياسية نحو عالم متعدد الأقطاب والمصالح الأيديولوجية وأيضًا المصالح الاقتصادية التي عززت التوجه شرقًا للسياسة الخارجية لموسكو التي سعت طيلة السنوات الماضية نحو الغرب دون جدوى. حيث أصبحت موسكو تعتمد بشكل كبير على بكين، وهو ما يثير مخاوف بعض الأكاديميين الروس، فلا يزال هناك عدم ثقة سياسية بين موسكو وبكين، بالرغم من تلاقي المصالح السياسية والأمنية والاقتصادية بينهم بعد الحرب.

ومن منظور المدرسة الواقعية، في سياق التصعيد الشامل للحرب التجارية الصينية الأمريكية، فإن العلاقة المتوترة بين الصين والولايات المتحدة مفيدة لروسيا، لأنه بهذه الطريقة، ستزداد أهمية روسيا بالنسبة للصين كشريك. وعندما تواجه بكين وواشنطن مشاكل، ستوجه بكين المزيد من الاهتمام إلى موسكو. وبالتالي، من الممكن أن تعود العلاقات الصينية الروسية إلى حالة التعاون التي كانت موجودة عندما كانت الصداقة بين الصين والاتحاد السوفييتي في الخمسينيات من القرن الماضي.

كما أن منظرو المدرسة الواقعية الهجومية، يعتبرون أن الحرب الأوكرانية خطأ استراتيجي كبير من الغرب، وزيادة اعتماد موسكو على بكين لا يصب في مصالح الولايات المتحدة التي تسعي لتقويض الصين في شرق آسيا، والذي يضمن استمرار التوسعات العسكرية والنفوذ الاقتصادية لبكين في شرق وجنوب شرق أسيا، حيث يقع ترتيب آسيا حالياً في المرتبة الثالثة للولايات المتحدة بعد الشرق الأوسط وأوكرانيا.

لذلك، مواصلة الحرب تعني مزيدًا من الجهود بين موسكو وبكين لتعزير المصالح المشتركة، التي قد تتسع لتشمل تعزيز الاستثمار المباشر الذي لايزال محدودًا حتى الآن، وتطوير سلاسل الإنتاج وسلاسل تكنولوجية مشتركة تدريجيًا، مع إدراج دولًا أخرى في خطط التعاون في إطار منظمة شانغهاي للتعاون. ويمكن أن يرتكز هذا النوع من التعاون على مبادرة "الحزام والطريق" أو غيرها من المبادرات القائمة. فالولايات المتحدة تُعد عاملاً أساسيًا في العلاقات الصينية الروسية.

وعلى الرغم من احتمالية عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وتوقعات بتحسن طفيف في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، إلا أننا لا ينبغي أن نعلق توقعات عالية على إدارة ترامب، مع وجود إجماع قوي مناهض لروسيا ومعادٍ للصين قد تشكل في الولايات المتحدة، فمن غير المرجح أن يتحسن هذا الوضع على المدى القصير.

قد تجري الإدارة الأمريكية الجديدة بعض التعديلات، ولكن سواء كان الأمر يتعلق بالعلاقات الروسية الأمريكية أو العلاقات الصينية الأمريكية، فإن الولايات المتحدة هي العامل الذي يجلب التحديات. كما أننا لا نعرف كيف سيبدو ميزان القوى في الكابيتول هيل، ولا نعرف أي حزب سيسيطر على الكونجرس، وهذا أمر مهم للغاية. ومع ذلك، هناك شيء واحد يمكننا التأكد منه، وهو أنه بغض النظر عمن سيفوز في نوفمبر المقبل، فإن الكونجرس سيظل منقسمًا. ولا يمكننا أن نتوقع أي رؤية استراتيجية واضحة من السياسة الخارجية للولايات المتحدة.

دول الشرق الأوسط و"الحياد الاستراتيجي النسبي"

استفادت دول مجلس التعاون الخليجي من الإيرادات القياسية التي تعزى إلى ارتفاع أسعار النفط، وساهمت في تسريع تنفيذ استراتيجية" التنوع" التي تتماشى مع خطط التنمية الوطنية، كما سلطت الحرب الضوء على اقتصاديات تكنولوجيات الطاقة المتجددة وسياسات تنمية الموارد الخضراء المحلية في ظل تقلبات أسعار النفط والغاز.  كما أعادت هذه الحرب أيضًا تقييم دول الشرق الأوسط لسلاسل التوريد المتعلقة بالأمن الغذائي وتقلبات أسعارها.

تتبنى معظم دول الشرق الأوسط سياسة " الحياد الاستراتيجي النسبي"، في سياق التحولات الجيوسياسية العالمية نحو عالم متعدد الأقطاب، للاستفادة من المنافسة التي تقودها الولايات المتحدة ضد روسيا والصين من أجل تعزيز مصالحها المتعلقة بالطاقة والأمن، وإعادة تقييم العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة التي تحتاج هذه الدول لتقويض التعددية القطبية والحفاظ على النظام الحالي الذي تهيمن عليه.

كما ساهم الحياد الاستراتيجي في تعزيز النفوذ السياسي لدول مجلس التعاون كمورد للسلام، حيث ساهمت وساطة دول مجلس التعاون الخليجي، وخاصة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، في إيجاد حل وسط بشأن القضايا الهامشية مثل تبادل الأسرى وإطلاق سراح الرهائن. وعلى الرغم من مساعي واشنطن والناتو لجعل أعضاء مجلس التعاون الخليجي أقرب إلى التحالف مع أوكرانيا ضد روسيا، إلا أن دول الخليج العربي قررت البقاء على الحياد نسبيًا لخدمة المصالح الوطنية على المدى الطويل.

ومع ذلك، فإن إصرار واشنطن والناتو على مواصلة التوسع شرقاً والافتقار إلى استراتيجية الخروج، وفي ظل التحولات في ميزان القوى لصالح روسيا، قد يدفع دول الشرق الأوسط ولا سيما دول الخليج العربي إلى إعادة تقييم علاقاتها الاستراتيجية مع واشنطن، وتعزيز العلاقات بشكل كبير مع روسيا والصين.

ولاسيما مع الوضع الراهن في المنطقة والموقف الأمريكي الغربي من الحرب على غزة، الذي يفرض تحديات كبيرة ومقلقة للعلاقات بين واشنطن ودول الخليج العربي، حيث تؤثر الحرب على غزة على النظام السياسي والرأي العام العربي لارتباطها بالأمن العربي وقرب المساحة الجغرافية إلى الخليج بالمقارنة بأوكرانيا. فبالنسبة لجميع دول مجلس التعاون الخليجي، تتعلق المخاطر مرتفعة للغاية بامتداد حرب غزة إلى اليمن والبحر الأحمر وخليج عدن، وتصعيد الوضع مع إيران. فالموقف الأمريكي الداعم للحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة قد يساهم في تعزيز التقارب مع روسيا والصين. ويعزى ذلك إلى أن موقف موسكو وبكين يدعم القضية الفلسطينية، مثل استخدام حق النقض ضد قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لتجنيب إسرائيل أي شكل من أشكال المساءلة عن جرائمها. كما أن الحرب على غزة أدت إلى تسريع الدفع نحو التعددية القطبية، حيث تلقت مصداقية الولايات المتحدة وموثوقيتها ضربة قوية في المنطقة. وبالتالي، ستظل كون الولايات المتحدة الشريك الأمني الرئيسي معضلة لدول مجلس التعاون الخليجي في ظل المعايير المزدوجة والداعم الكامل وغير المشروط لإسرائيل، الأمر الذي قد يخلق فرصة لروسيا والصين لتعزيز مكانتهما وجاذبيتهما الخطابية في الشرق الأوسط والجنوب العالمي.

 

الولايات المتحدة والناتو "الافتقار إلى استراتيجية الخروج"

اعتمدت واشنطن والناتو في هذه الحرب على الإعلام للحصول على دعم الرأي العام في تقديم الدعم العسكري والمالي لأوكرانيا، ورفضت الاستجابة لتحذيرات بوتين قبل هجومه على أوكرانيا، وواصلت إشعال الفتنة بين كييف التي كانت تتبنى موقف محايد وتلتزم بالاتفاقيات التاريخية مع موسكو التي تضمن عدم انضمامها للناتو.  ولذلك، يحاول إعلام القادة السياسيون في الغرب وأمريكا اثبات عدم التحول في ميزان القوى لصالح روسيا، لتكريس صورة مختلفة لتعزيز الجهود لإطالة أمد الحرب ومواصلة تقديم الدعم لأوكرانيا. لذا، أصبحوا الآن بين الافتقار إلى استراتيجية الخروج وإنقاذ سمعتهم والحفاظ على مقاعدهم السياسية.

وهذا ما أكده الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ الذي اعترف بأن روسيا ذهبت إلى الحرب لأن بوتين طلب من الغرب توقف التوسع شرقًا، وأرسل مسودة إلى الناتو في خريف 2021 م، للتوقيع على عدم توسع الناتو شرقًا كشرط مسبق لعدم غزو أوكرانيا، ولكن الناتو رفض التوقيع.

وخلال الوساطة التركية في فبراير ومارس من العام الماضي، بذل بوتين كل الجهود لتوقيع اتفاقية السلام، إلا أن إنجلترا والولايات ضغطت على زيلينسكي لمغادرة تركيا مع التهديد بوقف الدعم المادي والعسكري لأوكرانيا.

وهذا يعكس عزم الولايات المتحدة على مواصلة الحرب، وإغلاق الباب أمام محادثات السلام بين روسيا وأوكرانيا، وضمان مواصلة أوروبا حرب تحول ميزان القوى فيها لصالح روسيا، مما يعني مزيدًا من عدم الاستقرار السياسي ومواصلة ضعف الأداء الاقتصادي في أوروبا، مع المزيد من فقدان الدماء والأراضي في أوكرانيا. وهذا يذكرنا بمقولة كيسنجر: "أن تكون عدواً لأمريكا أمر خطير، ولكن كونك حليفاً لأمريكا أمر مميت".

ومع مواصلة التحول في ميزان القوى لصالح روسيا، وفشل الناتو في تغيير النظام السياسي لموسكو والعقوبات الغربية التي لم تردعها عن مواصلة عمليتها في أوكرانيا، بل وتسببت بالضرر لاقتصادات أوروبا، ومخاوف انتخاب ترامب التي باتت مؤكدة بشكل كبير، واستمرار الحرب على غزة المرتبط بضمان بقاء نتنياهو في السلطة، وحل الدولتين الذي لن يكون على طاولة المفاوضات الإسرائيلية، التي لا تنوي حتى الانسحاب من غزة، والتصعيد ضد إيران وخاصة بعد ضرب قنصليتها في دمشق. ناهيك عن الوضع بعد وقف الحرب وإطلاق النار، حيث لن يكون إعمار غزة سهل وستظل المجاعة لسنوات، مع مواصلة اهتزاز صورة أمريكا والغرب المتعلقة بالأيديولوجيات الليبرالية المزيفة في المنطقة وعدم الثقة في سياستها في المنطقة. فالولايات المتحدة كما تقول المدرسة الواقعية انتهكت سيادتها من قبل نفوذ اللوبي الإسرائيلي في أمريكا الذي جعل من الصعب على القيادة السياسية في أمريكا وقف الفصل العنصري والانتقال لحل الدولتين في ظل مواصلة تقديم الدعم الكامل وغير المشروط لإسرائيل.

فالولايات المتحدة في ورطة كبيرة في الشرق الأوسط أمام سياسات إسرائيل في المنطقة، مع عدم وجود استراتيجية واضحة في أوكرانيا أمام التحول في ميزان القوى لصالح روسيا، والتصعيد في بحر الصين الجنوبي ضد الصين. كما أنها لا تمتلك القاعدة الصناعية الكافية مثل روسيا والصين، حيت تقلصت القاعدة الصناعية لها خلال فترة القطب الواحد، وليس لديها القدرة على إنتاج الكثير من الأسلحة مع الدعم الكامل لإسرائيل وبعض الدعم لأوكرانيا.

وبالنظر إلى الانفصال الحقيقي بين النخب السياسية الغربية والرأي العام. فوفقًا لاستطلاع المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية فإن هناك فقط 10٪ من الأوروبيين يعتقدون بأن أوكرانيا يمكنها الفوز في الحرب. بالإضافة إلى أن بوتين ليس لديه مصلحة في توسيع الحرب مع حجم الخسائر البشرية بين صفوف جيشه، فالدلائل تؤكد على عدم رغبة روسيا في احتلال الجزء الغربي من أوكرانيا الذي يقنطه العرقيين الأوكرانيين الذين يكرهون الروس وفتح جبهة من المتمردين ضده، فكل ما يريده هو الجزء الشرقي من البلاد، كما يمكنه السيطرة على جزء من كييف وهو الضفة الشرقية لنهر دنييرو دون الاستيلاء على العاصمة كلها.

ومع ذلك، تبدو أن تصريحات دول الناتو والولايات المتحدة الأخيرة تؤكد على عزمهم على مواصلة الحرب، حيث تعتزم فرنسا إرسال 1400 جندي من قوات النخبة للمشاركة في الحرب بين روسيا وأوكرانيا. ويحث الاتحاد الأوروبي الكونجرس الأمريكي على الإسراع بتمرير مشروع قانون مساعدات بقيمة 60 مليار دولار لأوكرانيا. كما أعربت أوكرانيا عن ولائها للغرب وأوروبا. وقد شنت مؤخراً هجوماً كبيراً على منطقة شبه جزيرة القرم، من أجل حث الغرب على زيادة الدعم المالي والعسكري. وهذا يُظهِر أيضاً أن أوكرانيا لا تستطيع إنهاء الحرب بسهولة. ولكن أوكرانيا عبارة عن حفرة لا نهاية لها، فهل ستكون هذه الدول على استعداد للاستمرار لعدة سنوات في استثمار كل هذا القدر من الأموال في الحرب بين روسيا وأوكرانيا؟

إن سيناريو إطالة هذه الحرب يعني تكبد روسيا المزيد من الخسائر واستهلاك قوتها، لكن في عملية استهلاك روسيا قد يأتي استهلاك أكبر من أوروبا، ومع المعطيات التي ذكرت سابقًا المتعلقة بميزان القوى العسكرية، والوضع في منطقة الشرق الأوسط والانفصال الحقيقي بين القيادة السياسة والراي العام في الغرب وأمريكا حول سياستهم في أوكرانيا والحرب على غزة.  فإن روسيا سوف تسحق أوكرانيا كمنتصر، وهذه حقيقة ثابتة. إنها مجرد مسألة وقت، فلو لم تكن الولايات المتحدة والدول الغربية تثير المشاكل وتعكر المياه، لكانت أوكرانيا قد هُزمت منذ بداية الحرب.

مقالات لنفس الكاتب