; logged out
الرئيسية / لم تتحقق توقعات واشنطن بتغيير النظام في موسكو ودون وجود مؤشر على تحديات لبوتين

العدد 197

لم تتحقق توقعات واشنطن بتغيير النظام في موسكو ودون وجود مؤشر على تحديات لبوتين

الإثنين، 29 نيسان/أبريل 2024

بعد مرور أكثر من عامين على بدء الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا، تمكن الأوكرانيون من استعادة 54% من أراضيهم المُحتلة، في حين لا يزال 18% من الأراضي الأوكرانية تحت قبضة الاحتلال الروسي. حيث تعثرت جهود الجانب الأوكراني في شن هجمات مضادة، في حين قامت روسيا، في المقابل، بتحصين خطوطها الدفاعية في شرق البلاد. في الوقت ذاته، تواصل القوات الروسية قصف المدن الأوكرانية وحصار موانئها، بينما تواصل أوكرانيا تكثيف هجماتها بواسطة الطائرات المُسيرة على السفن والبنية التحتية الروسية.

الخلفية التاريخية (2014-2022)

في أوائل عام 2014م، اندلع نزاع مُسلح في شرق أوكرانيا عقب قرار روسيا بضم شبه جزيرة القرم. وفي العام السابق لذلك، كانت العاصمة كييف قد شهدت موجة عارمة من الاحتجاجات ضد قرار الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش بعدم توقيع اتفاق شراكة اقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، وقد قوبلت الاحتجاجات بحملة قمعية عنيفة من قبل قوات الأمن الأوكراني، ليتسع فيما بعد نطاق هذه التظاهرات وتتصاعد وتيرة الصراع الداخلي، مما اضطر الرئيس الأوكراني إلى الفرار في فبراير من عام 2015م، بعد مرور شهر، وبالتحديد في مارس 2014م، أعلنت القوات الروسية سيطرتها على شبه جزيرة القرم، وبرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ذلك بالحاجة إلى حماية حقوق المواطنين الروس والرموز الروسية داخل شبه الجزيرة وجنوب شرق أوكرانيا. أعقب ذلك إعلان رسمي بضم شبه جزيرة بعد أن صوت سكان القرم لصالح الانضمام إلى الاتحاد الروسي في استفتاء محلي كان مثاراً للجدل، حيث أدت الأزمة إلى تفاقم الانقسامات العرقية، وبعد شهرين، أجرى الانفصاليون الموالون لروسيا في منطقتي "دونيتسك" و"لوغانسك" شرق أوكرانيا، استفتاءات خاصة بهم من أجل الاستقلال.

وسرعان ما اندلعت النزاعات المُسلحة في المنطقة بين القوات المدعومة من قبل روسيا وقوات الجيش الأوكراني. وعلى الرغم من نفي الجانب الروسي مشاركته العسكرية، إلا أن الحكومة الأوكرانية وحلف الناتو كانا قد أبلغا عن حشد موسكو قواتها ومعداتها العسكرية بالقرب من "دونيتسك"، وعن وجود قصف روسي عبر الحدود مباشرة بعد ضم شبه جزيرة القرم. تحول الصراع بعد ذلك إلى ما يوصف " بالجمود النشط"، مع استمرار القصف والمناوشات العسكرية بصورة منتظمة على طول الخطوط الأمامية التي تفصل بين المناطق الحدودية الشرقية التي تسيطر عليها روسيا وأوكرانيا.

مع بداية فبراير 2015م، حاولت كل من فرنسا، وألمانيا، وروسيا، وأوكرانيا تدشين مفاوضات تهدف إلى إنهاء دوامة العنف من خلال عقد "اتفاقيات مينسك". وجاء الاتفاق ليتضمن في إطاره أحكاما لوقف إطلاق النار، وسحب الأسلحة الثقيلة، والسيطرة الكاملة للحكومة الأوكرانية على كافة أنحاء مناطق الصراع. إلا أن الجهود التي بذلت من أجل التوصل إلى تسوية دبلوماسية وحل مٌرضٍ للجميع قد باءت بالفشل إلى حد كبير. وفي أبريل 2016م، أعلن حلف الناتو عن نشر أربع كتائب داخل أوروبا الشرقية، وتناوب القوات عبر إستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، وبولندا من أجل ردع أي عدوان روسي محتمل في المستقبل على أماكن أخرى من القارة، وخاصة في منطقة دول البلطيق. وفي سبتمبر 2017م، قامت الولايات المتحدة بنشر لواءين من دبابات الجيش الأمريكي في بولندا لتدعيم وجود الناتو في المنطقة.

في مارس 2018م، وافقت واشنطن على بيع أسلحة مضادة للدبابات إلى أوكرانيا، وهي أول عملية بيع لأسلحة فتاكة منذ بدء الصراع. وفي أكتوبر 2018م، انضمت أوكرانيا إلى الولايات المتحدة وسبع دول أخرى في الناتو للمشاركة في سلسلة من التدريبات الجوية واسعة النطاق في غرب أوكرانيا. وقد جاءت التدريبات في أعقاب إجراء روسيا مناوراتها العسكرية السنوية في سبتمبر 2018م، وهي الأكبر منذ انهيار الاتحاد السوفيتي.

وخلال الأيام والأسابيع التي سبقت غزو فبراير 2022م، اتخذت إدارة بايدن قرارا غير تقليدي بشأن تقليص القيود المفروضة على تبادل المعلومات والسماح بنشر المعلومات الاستخبارية على نطاق أوسع، سواء مع الحلفاء -بما في ذلك أوكرانيا -أو علنا. وذلك بهدف تعزيز دفاعات الحلفاء ومنع روسيا من اتخاذ إجراءات عدوانية. وفي نوفمبر من عام 2021م، أظهرت صور تم التقاطها بواسطة الأقمار الصناعية، ومنشورات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى المعلومات الاستخباراتية، أن دروعًا وصواريخ وغيرها من الأسلحة الثقيلة الأخرى تتحرك نحو أوكرانيا دون تفسير رسمي من الكرملين.

وفي منتصف ديسمبر 2021م، دعت وزارة الخارجية الروسية الولايات المتحدة وحلف الناتو إلى وقف نشَاطهما العسكري في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، والالتزام بعدم قيام حلف الناتو بمزيد من التوسع تجاه روسيا ومنع أوكرانيا من الانضمام إلى الحلف في المستقبل. قوبلت هذه المطالب برفض من جانب الولايات المتحدة وغيرها من حلفاء الناتو بل وهددت، في المقابل، بفرض عقوبات اقتصادية صارمة إذا اتخذت روسيا إجراءات عدوانية ضد أوكرانيا. وقبل الغزو الروسي لأوكرانيا، ظل القادة الأمريكيون والأوكرانيون على خلاف بشأن احتمالية وجود تهديد روسي مسلح وماهية هذا التهديد، مع تقليل المسؤولين الأوكرانيين من احتمالية حدوث توغل روسي وتم اتخاذ قرار بتأخير تعبئة القوات الأوكرانية وقوات الاحتياط. في 24 فبراير 2022م، وأثناء محاولة مجلس الأمن الدولي الأخيرة ثني روسيا عن مهاجمة أوكرانيا، أعلن بوتين بداية غزو بري، وبحري، وجوي واسع النطاق لأوكرانيا، يستهدف الأصول العسكرية الأوكرانية والمدن في كافة أنحاء البلاد. وزعم الرئيس الروسي أن الهدف من العملية العسكرية هو تجريد أوكرانيا من السلاح، وتطهيرها من النازية، وإنهاء الإبادة الجماعية المزعومة للروس داخل الأراضي الأوكرانية. من جانبه، اعتبر الرئيس الأمريكي جون بايدن بأن الهجوم “غير مبرر” وأصدر قرارا بفرض عقوبات صارمة استهدفت كبار المسؤولين بالكرملين، بما في ذلك الرئيس بوتين، ووزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، وقطاع البنوك الروسية، وصناعة النفط والغاز، وذلك بالتنسيق مع الحلفاء الأوروبيين. في 2 مارس، صوتت 141 دولة من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة على إدانة الغزو الروسي في جلسة طارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة، وطالبت روسيا بالانسحاب الفوري من أوكرانيا.

الولايات المتحدة

منذ بداية الحرب في فبراير 2022م، زعمت الولايات المتحدة تقديم دعم ثابت لأوكرانيا بمشاركة الحلفاء الأوروبيين والشركاء حول العالم. فيما أوضح كبار المسؤولون الأمريكيون مرارا أنهم "لم ينسوا العدوان الروسي" السابق على شرق أوكرانيا و "احتلالها غير المشروع " لشبه جزيرة القرم في 2014م. وعلى مستوى كافة البيانات الرسمية، أعادت واشنطن التأكيد على دعمها الراسخ للسيادة الأوكرانية وسلامة أراضيها ضمن حدودها المعترف بها دوليا، التي تمتد إلى حدودها المائية. وتنظر واشنطن إلى كييف باعتبارها شريكا استراتيجيا إقليميا رئيسيا، بَذل جهودا مضنية في سبيل تحديث جيشه وزيادة إمكانية التشغيل البيني مع حلف الناتو. وبناء على ذلك، يظل من أولويات المساعدة الأمنية العاجلة تزويد أوكرانيا بكافة المعدات التي تحتاجها للدفاع عن نفسها.

وبحلول أوائل 2024م، بلغ إجمالي قيمة المساعدات العسكرية التي قدمتها الولايات المتحدة إلى أوكرانيا منذ بداية الحرب في فبراير 2022م، نحو 44.2 مليار دولار أمريكي، وما يزيد عن 47 مليار دولار في شكل مساعدات عسكرية منذ الغزو الروسي الأولى لأوكرانيا في 2014م. علاوة على ذلك، قدمت واشنطن مساعدات بأكثر من 42 مليون دولار في شكل تدريبات وخدمات استشارية، ومعدات عسكرية لمساندة حكومة أوكرانيا في مواصلة تطوير القدرات التكتيكية، والتشغيلية، والمؤسسية لقوات العمليات الخاصة، والحرس الوطني، والقوات التقليدية، وضباط الصف، والرعاية الطبية القتالية منذ عام 2014م، بالإضافة إلى ذلك، تُشارك أوكرانيا ضمن مناورات عسكرية-سواء على المستوى الثنائي أو متعدد الأطراف -مع حلفاء واشنطن، والاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي.

من ناحية أخرى، عادة ما يتذرع أنصار دعم أوكرانيا بالمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة أو التزاماتها الأخلاقية.  وبدأوا خلال الآونة الأخيرة عقد حسابات وصياغة مبررات أكثر دقة: مفادها أن الدعم الأمريكي لأوكرانيا يعود بالنفع على الاقتصاد الأمريكي. فعلى مدار العامين الماضيين منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، شهدت صناعة الدفاع الأمريكية طفرة في معدل الطلبيات على الأسلحة والذخائر.  جاء معظمها من قبل الحلفاء الأوروبيين الذين يحاولون بناء قدراتهم العسكرية وكذلك من جانب البنتاغون، الذي يقوم بشراء معدات جديدة من الشركات المُصنعة لتعزيز القدرات الدفاعية وتجديد المخزون العسكري الذي تم استنزافه خلال عمليات التسليم إلى أوكرانيا. في السياق ذاته، سجل الناتج الصناعي في قطاع الصناعات الدفاعية والفضاء الأمريكي نموًا بنسبة 17.5 % منذ بدء روسيا غزوها الكامل لأوكرانيا قبل أكثر من عامين. ويقول مسؤولو إدارة بايدن إن نحو 64%، من أصل 60.7 مليار دولار مُخصصة لدعم أوكرانيا بموجب مشروع القانون الدفاعي الإضافي البالغ قيمته 95 مليار دولار، سيَتدفق مرة أخرى إلى القاعدة الصناعية الدفاعية الأمريكية.

بالمثل، فإن انقطاع إمدادات الغاز الروسية أدى إلى طفرة في أسعار الطاقة ونسب التضخم بدول أوروبا، واكب ذلك تنامي معدل الطلب الأوروبي على الغاز الأمريكي المسال. وفي ضوء هذا، أصبحت الولايات المتحدة أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال عالميا خلال عام 2023م، ومن المتوقع أن يتضاعف حجم صادراتها من الغاز بحلول 2030م، بموجب المشروعات التي تمت الموافقة عليها بالفعل. فضلا عن، أن ثلثي قيمة الصادرات سوف تذهب لأوروبا. كذلك جاري العمل حاليا على إنشاء 5 مشروعات جديدة في قطاع الغاز الطبيعي الأمريكي، بإجمالي قيمة استثمارات يبلغ نحو 100 مليار دولار. ولم يتم بدء العمل فعليا على تنفيذ غالبية المشروعات إلا بعد أن بدأت الحرب الأوكرانية، حيث أثبت انقطاع إمدادات الغاز في أوروبا أهمية الغاز الطبيعي المسال للداعمين المحتملين وساعد في دفع المشروعات المخطط لها إلى الأمام.  ويستفيد الاقتصاد الأمريكي بشكل كبير من هذه الاستثمارات الضخمة. فيما يشير مسؤولو إدارة بايدن إلى إن التمويل المُخصص لأوكرانيا يهدف إلى إعادة بناء القاعدة الصناعية الدفاعية الأمريكية، وإطلاق وتوسيع خطوط إنتاج الأسلحة والذخيرة ودعم الوظائف في 40 ولاية.

روسيا

لقد كان للحرب الأوكرانية تأثير ملموس عبر مختلف قطاعات الحياة الروسية، وأبرزها الجيش والاقتصاد، مُحدثة تغيرات جذرية داخل هذين القطاعين. وربما كان للحرب تأثير أقل وضوحا، ولكن ليس أقل أهمية، عبر المجتمع الروسي. فبينما يعتقد غالبية المواطنين الروس أن حياتهم سوف تستمر كما كانت قبل الحرب وأن النزاع القائم لن يكون له تأثير يذكر على نمط حياتهم اليومية، يبدو الواقع على الأرض أكثر تفصيلاً ودقة عن ذلك.

على الصعيد العسكري، جاءت تكلفة الحرب أشد وطأة على الجيش الروسي، حيث تُشير التقديرات إلى أنه بحلول نهاية 2023م، سوف يتراوح عدد الجنود الروس الذين لقوا حتفهم في الحرب ما بين 66 و120 ألفًا. وإذا ما تمت إضافة ذلك إلى عدد الجرحى والمصابين، فسوف يصل إجمالي العدد إلى 350 ألفًا. فضلًا عن، الخسائر الفادحة في المعدات، بما في ذلك التدهور الشديد الذي وصل إليه الأسطول الروسي في البحر الأسود، وخسارة روسيا نحو 8800 مركبة مدرعة منذ بدء القتال قبل عامين. لكن على الرغم من هول هذه البيانات، يعتقد الخبراء أن روسيا لديها ما يكفي من الموارد لمواصلة الحرب بنفس القدر من الزخم والشدة خلال العامين أو الثلاثة أعوام القادمة، إن لم يكن لفترة أطول. وبشكل عام، فقد تلقت روسيا درسًا قاسيًا من هجومها الأولي الذي باء بالفشل وانهيار قواتها اللاحق في مواجهة الهجمات المضادة الأوكرانية. واستطاعت القيادة الروسية فيما بعد الصمود أمام الهجوم الأوكراني المضاد في صيف 2023م، بفضل استعداداتها الدفاعية إلى حد كبير. كما قام الروس ببناء سلسلة من الخطوط الدفاعية الهائلة عبر جنوب أوكرانيا، والتي تضم حقول ألغام عميقة وخنادق واسعة النطاق مُجهزة بمركَبات جوية بدون طيار. وبالحديث عن الهجوم الأوكراني المضاد في خريف عام 2023م، فيبدو أن روسيا قد طورت تكتيكات مُشاة تسمح لها بالسيطرة على الأراضي بشكل تدريجي.

على الصعيد الاقتصادي، فاجأ الاقتصاد الروسي العديد من المحللين بأدائه القوي حتى الآن منذ بدء الحرب. كما استطاع تحقيق نمو أسرع من الاقتصاد العالمي خلال العام الماضي، متفوقا على بعض الاقتصادات الأوروبية الرائدة. في حين سجل الناتج المحلي الإجمالي نموا في 2023م، بمعدل يتراوح ما بين 3.0 % إلى 3.5%، أي أعلى من تقديرات الخبراء الدوليين. مع ذلك، تعود أسباب هذا النمو إلى بعض الاتجاهات التي قد تُهدد صحة الاقتصاد الروسي على المدى الطويل. أبرزها الطفرة المحققة في الإنفاق العسكري أثناء الحرب. في الواقع، يزعم البعض أن روسيا حولت اقتصادها بالكامل إلى الإنتاج الحربي. ويحذر بعض الخبراء من أن الاقتصاد الروسي يخاطر بفرط النشاط، بينما يعتقد آخرون أن روسيا لن تتمكن من الحفاظ على استدامة هذا النمو وسوف تبدأ في منحنى التباطؤ. تكمن أسباب هذه التقييمات في أن التحول إلى الإنتاج الدفاعي كانت سمته الأبرز تنامي الدور الذي تلعبه الحكومة في منظومة الاقتصاد. وبالتالي فمن شأن ذلك، مقترنًا بالهجرة الجماعية للشباب الروس العاملين في مجالات تكنولوجيا المعلومات، أن يتسبب في خنق الإبداع والتحديث الاقتصادي. وإلى جانب الافتقار إلى القدرة على الوصول إلى واردات التكنولوجيا الفائقة الحديثة، فإن الاقتصاد الروسي قد يتراجع عن التحديث، أو يصبح أكثر تخلفًا ــ وهو تطور يهدد أي آفاق للنمو على المدى البعيد.

كذلك بدأ الأثر الاقتصادي السلبي للحرب يتسلل إلى حياة المواطن الروسي العادي. وبشكل عام، أصبح هناك شعور بالإنهاك والإرهاق جراء هذه الحرب، وبدأت المشاعر المُناهضة لها تتفجر تحت السطح. على جانب آخر، ساهمت الحرب في تسريع جهود بوتين لإحكام قبضته على دوائر السلطة، حيث يعمل الكرملين على بسط سيطرة الدولة على كافة أشكال التعبير. وينعكس ذلك في النفوذ المتزايد الذي بات تتمتع به قوات الأمن داخل الدوائر الحاكمة في روسيا.

الجنوب العالمي

عندما شنت روسيا عدوانها على أوكرانيا في 24 من فبراير 2022م، قامت إدارة بايدن بتنشيط هجوم دبلوماسي ضد روسيا، الذي لم يقل حينها أهمية عن تدَافُعها من أجل شحن الأسلحة إلى الجيش الأوكراني. فمن خلال اعتماد سلاح العقوبات الاقتصادية والدعوة إلى استنفار دولي من أجل الدفاع وحماية النظام العالمي، فقد سعت الولايات المتحدة إلى مُعاقبة روسيا بالأوجاع الاقتصادية والعزل الدبلوماسي. الهدف كان رؤية الشركات والدول تقطع علاقاتها مع موسكو، ولكن بعد مرور عامين، لم يعد نظام بوتين معزولًا بالقدر الذي كان يأمله المسؤولون الأمريكيون. فإن قوة روسيا المتأصلة، والمتجذرة في إمداداتها الهائلة من النفط والغاز الطبيعي، كانت سببًا في تعزيز قدراتها المالية والسياسية على الصمود أمام المعارضة الغربية. كذلك، أصبح نفوذ بوتين داخل أجزاء من آسيا، وإفريقيا، وأمريكا الجنوبية راسخًا كما كان دائمًا أو حتى أكثر قوة. فيما تبدو قبضته الداخلية بنفس القدر من القوة كما كانت دائمًا.

على الجانب الآخر، يزعم مسؤولو إدارة بايدن أن روسيا تعاني من فشل استراتيجي كبير. في حين جادل وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بأن روسيا أصبحت اليوم أكثر عزلة دوليًا مقارنة بأي وقت مضى، وأن الحرب تسببت في انحسار نفوذ موسكو العالمي. مع ذلك وبعيدًا عن الفلك الأمريكي والأوروبي، فإن الدلائل تُشير إلى ما هو خلاف ذلك. حيث تحرص كل من الصين، والهند، والبرازيل على شراء النفط الروسي بكميات قياسية، مُستفيدة من الخصومات الهائلة على الأسعار التي يعرضها بوتين للدول الراغبة في أن تحل محل عملائه الأوروبيين. وقد اقترن نمو العلاقات الاقتصادية، بانتعاش في الروابط الدبلوماسية بما في ذلك مع بعض من أقرب شركاء الولايات المتحدة. فقد قام الرئيس بوتين بزيارة إلى الصين خلال شهر أكتوبر 2023م، في حين استضاف وزير الخارجية الهندي في موسكو أواخر ديسمبر 2023م. ومن جانبه، حمل الرئيس البرازيلي لولا داء سيلفا أوكرانيا وروسيا معا مسؤولية الحرب الدائرة، في حين ارتفعت مبيعات البرازيل من إمدادات الطاقة والأسمدة الروسية مما ساهم في تدفق مليارات الدولارات إلى الاقتصاد الروسي. بالمثل، يزداد نفوذ روسيا اتساعا داخل إفريقيا. وخلال عام 2023م، قام وزير الخارجية الروسية بزيارة إلى أكثر من 12 دولة إفريقية من بينها جنوب إفريقيا، والسودان، وكينيا. وعلى صعيد الأمم المتحدة، لم تجد القرارات التي تتزعمها الولايات المتحدة لإدانة الحرب الروسية دعما يذكر من جانب الدول التي لا تربطها تحالفات وثيقة سواء مع الجانب الأمريكي أو الروسي، معربة عن رفضها الاضطرار إلى الانحياز إلى أحد طرفي النزاع. على صعيد آخر، فإن دعم بايدن للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة يصب في صالح الموقف الروسي. حيث بدأ العديد من القادة يستشعرون نفاقًا وازدواجية في الإدانات الأمريكية للهجمات الروسية على أهداف مدنية والبنية التحتية في أوكرانيا، بينما تقوم واشنطن في الوقت ذاته بتزويد الجيش الإسرائيلي بالسلاح الذي يستخدم في قتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين، جُلَهُم من الأطفال والنساء.

بعيد عن ذلك، فقد نجحت روسيا في توطيد علاقاتها مع شركائها الأقرب-الصين، وكوريا الشمالية، وإيران حيث قدمت الدول الثلاث مختلف أشكال الدعم والمساندة إلى روسيا. فقد قامت كوريا الشمالية بإرسال صواريخ باليستية ليتم استخدامها في أوكرانيا. ومن جانبها، تواصل إيران شحن الطائرات بدون طيار، فيما تسمح الصين، رغم امتناعها عن تصدير الأسلحة إلى روسيا، بوصول المعدات التي يمكن للمدنيين والعسكريين استخدامها إلى أيدي موسكو. وحافظت الصين على تجارتها مع روسيا وسد الفجوات التي خلفتها الشركات الغربية، مما يضمن توريد كافة السلع بدءا من السلع المنزلية إلى الخدمات المالية. وبالمثل، لم تنضم تركيا، العضو في حلف الناتو، إلى منظومة العقوبات الأمريكية وواصلت توسيع علاقاتها التجارية والاقتصادية مع موسكو.

لقد تحولت الحرب في أوكرانيا إلى حرب استنزاف وسط محاولة الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين إضعاف الجيش والاقتصاد الروسي، على أمل أن يقود الشعور بالإرهاق والاستنزاف من الحرب الداخلية إلى تغيير النظام في موسكو تلقائيًا. حتى الآن، لم يحدث هذا، بل يبدو أن الرئيس بوتين لايزال ممسكًا جيدًا بزمام الأمور دون وجود مؤشر على تحد خطير يواجه الحكومة الروسية. من ناحية أخرى، تسهم حالة الترقب لنتائج الانتخابات الأمريكية المقررة في نوفمبر المقبل في إضفاء مزيد من الضبابية على المشهد. فقد دعا بعض أعضاء الحزب الجمهوري إلى وقف المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا. وبعد أكثر من عامين من الغزو الروسي لأوكرانيا، فإن اليقين الوحيد أصبح عدم وجود فائز بهذه الحرب، وأن كافة الأطراف المعنية (أوكرانيا وروسيا والولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين) لم تتمكن من تحقيق أهدافها. أما عن سائر دول العالم، أي الجنوب العالمي، فقد اختارت بالفعل عدم الانحياز إلى أي من أطراف النزاع. لذلك، وعليه فإن الوقت كفيل بتحديد ما إذا كان ثمة تغيير سيطَرأ فيما بعد.

مقالات لنفس الكاتب