; logged out
الرئيسية / تونس.. بين إرادة الشعب والانزلاق إلى الفوضى

تونس.. بين إرادة الشعب والانزلاق إلى الفوضى

الثلاثاء، 01 شباط/فبراير 2011

تمر تونس بمرحلة جديدة من تاريخها السياسي بعد رحيل الرئيس السابقزين العابدين بن علي وسقوط حكومته إثر اندلاع ثورة شعبية عارمة لا تزال توابعها مستمرة حتى اليوم، ولا أحد يعلم متى ستنتهي هذه التوابع ويعود الاستقرار إلى تونس؟

والمعلوم أن الثورة التونسية اندلعت بعد أن أشعل الشاب التونسي محمد البوعزيزي النار في نفسه في ولاية سيدي بوزيد في السابع عشر من ديسمبر الماضي لأسباب معروفة انتهت برحيل الرئيس التونسي السابق في الرابع عشر من يناير الماضي وهبوط طائرته في جدة بالمملكة العربية السعودية، حيث استقبلته المملكة لأسباب عدة منها رغبة المملكة في حقن دماء التونسيين وإنهاء المظاهرات وأعمال العنف، وإتاحة الفرصة كاملة أمام الشعب التونسي الشقيق لاختيار من يحكمه بكل حرية بعد أن تهدأ العاصفة بمغادرة ابن علي، كما أن الأخلاق العربية والإسلامية الأصيلة المتأصلة في القيادة والشعب السعودي تجيب المستجير دائماً، وتؤمن مَنْ يطلب الأمان، شريطة التزامه بالقوانين والأعراف الداخلية والدولية المعمول بها، وعدم ممارسة العمل السياسي أو النشاط الإعلامي، وما دام غير مطلوب للمحاكمة وفقاً للمعايير والقوانين الدولية التي حددها ميثاق الأمم المتحدة الذي تلتزم به المملكة باعتبارها عضواً في المنظمة الدولية. وطبقاً لهذه القواعد سبق أن استضافت المملكة الرئيس الأوغندي الأسبق عيدي أمين، ورئيس وزراء باكستان الأسبق نواز شريف.

أما الآن، وبعد أن ترك زين العابدين بن علي الحكم وغادر بلاده، وانتصرت إرادة الشعب التي فرضت واقعاً جديداً وطوت صفحة الحكم السابق، لا تزال تونس تمر بمرحلة دقيقة هي الأصعب منذ استقلالها في منتصف خمسينات القرن الميلادي الماضي، ومن الضروري أن يقول الشعب كلمته بالطرق السليمة والديمقراطية، وأن ينظر إلى مستقبله السياسي والاقتصادي والاجتماعي من منظور مصالحه، ويصوغه وفقاً لاحتياجاته، بعيداً عن الانزلاق في الفوضى التي لا تبقي ولا تذر في حال غابت الرؤية، وانتشر اللاوعي، وسادت لغة العقل الجمعي غير محددة الأطر والأهداف.

وعلى ضوء ما حدث، من المفترض أن يجني الشعب التونسي ثمار ثورته لا أن يقدمها للمتاجرين والمستفيدين والمزايدين بأقوات الشعوب ومصيرها، فقيادة الدولة وإدارتها تتطلبان ممارسة سياسية تنطلق من دراية باحتياجات الواقع والمستقبل، وتمرس في شؤون الحكم، خاصة في ظل عالم سقطت فيه الحواجز الجغرافية أمام هجوم العولمة والتدفق الإعلامي وسرعة انتقال المعلومة وبث الخبر أينما كان موقعه وقت حدوثه، ومن ثم على الشعب التونسي أن يتجاوز حالة النشوة والشعور بالانتصار على النظام السابق، وينتقل إلى مرحلة بناء حقيقية للإفلات من براثن البطالة والفقر ومعاناته الاقتصادية والاجتماعية ـ وهذا ما قامت من أجله الثورة - وينطلق إلى تحقيق الأهداف التي ينشدها. ولذلك من الضروري أن تكون في تونس قيادة وحكومة واعية ومتمرسة، وأن يتولى الحكم شخصيات راشدة من رجال السياسة أو التكنوقراط المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة والقدرة على إدارة شؤون الدولة، ونأمل بأن يضع الشعب التونسي في اعتباره أنه ليس كل من امتهن المعارضة وسكن في فنادق باريس أو لندن وتردد على المقاهي الأوروبية وتشدق بمناقشة قضايا بلده في جلسات (الشيشة) المعروفة في ضواحي المدن الأوروبية يصلح للحكم، ويقود بلاده إلى بر الأمان، بل للحاكم شروط وقدرات، وأعتقد أن الشعب التونسي يعلم ذلك جيداً.

 وبالتوازي لا بد أن يجتاز الشعب التونسي المرحلة الحالية التي تسود فيها المطالب الشعبية المصحوبة بالمظاهرات والاحتجاجات بتغليب منطق الدولة على لغة الشارع، فمن الخطير أن تطول هذه المرحلة وتغيب الدولة المركزية وسلطتها وهيبتها وقوتها، فالشارع لا يحكم بل يؤثر في صانع السياسة، وإذا استمر الاحتكام إلى الشارع وغابت سلطة الدولة المركزية اقترب عقد الدولة من الانفراط، وتعرضت المكتسبات إلى مخاطر الضياع والتدمير، وتحولت المكاسب السياسية إلى خسائر اقتصادية ومجتمعية، بل تعرض هيكل الدولة إلى التدمير، وحينئذ يصعد المندسون إلى مسرح الأحداث ويغتصبون المكاسب، وهذا ما حذر منه قائد الجيش التونسي الجنرال رشيد عمار الذي قال للمتظاهرين في 24 يناير 2011 م، (ثورتكم ثورة الشباب ستضيع ويركبها أناس آخرون).

وإن كان الأمر في تونس قد حسمه الشعب بنفسه، وانتهت حقبة زمنية من الحكم وجاءت حقبة جديدة، ففي كل الأحوال سوف يقول التاريخ كلمته ويضع الأمور في نصابها، لكن السؤال لماذا ثارت ثائرة الشعب التونسي بهذه الطريقة؟ وهل كانت هذه الثورة متوقعة أم كانت مفاجئة؟ وهل هبّ الشعب التونسي بعفوية، أم أن ما حدث مدبر ويقف خلفه من يقف؟ هذه الأسئلة أجاب عنها مركز الخليج للأبحاث بشكل علمي دقيق عندما ترجم ونشر كتاب (لماذا يتمرد البشر؟) للمؤلف (تيد روبرت غير) مؤسس ومدير مشروع الأقليات المعرضة للأخطار في مركز التنمية الدولية وإدارة الصراعات بجامعة ميرلاند الأمريكية في عام 1969م، وأعاد مركز الخليج للأبحاث نشره مصحوباً بمقدمة جديدة للمؤلف نفسه عام 2004م، في محاولة من جانب المركز لتأصيل ما يحدث بصفة عامة ـ وليس النموذج التونسي فقط الذي لم يكن قد ظهر بعد ـ من مواجهات بين بعض الحكومات والشعوب أو الجماعات المناهضة والوقوف على الأسباب العلمية السليمة لهذه المواجهات وكيف تتفادى الحكومات هذه المواجهات قبل حدوثها واحتدامها لمنع تحول الدولة إلى ساحة للصراع بين الأنظمة والشعوب. وجاء ذلك استشعاراً من جانب المركز للمخاطر المحدقة بالدول العربية خاصة والدول النامية عامة، ورصد الأسباب التي تؤدي إلى تمرد الشعوب على حكوماتها، وما الذي يجب أن تفعله الحكومات من أجل أن تستقيم العلاقة برغبة متبادلة بين الشعوب وأنظمتها، أو بمعنى آخر الوقوف على حقيقة الأسباب التي تؤدي عادة إلى الاستياء الشعبي، والتي تنبع في أغلب الأحيان من الحالة التي يُطلق عليها الاستياء النسبي للمجتمع.

وتقابل ذلك قدرة الحكومات على معالجة أسباب هذا الاستياء أو قدرتها على قمع الشعب عندما يرغب في التنفيس عن حالة الغضب التي تعتريه جراء هذا الحرمان، أو كما يطلق عليه البعض (المظالم أو الشعور بالظلم)، بالإضافة إلى مواجهة بعض المستجدات التي طرأت خلال العقود القليلة الماضية على منطقة الشرق الأوسط بصفة خاصة، ومنها ظهور ما يُطلق عليه الحركات الجهادية، مفهوم العدالة، غياب فرص العمل والبطالة، ارتفاع الأسعار وتدني دخل الأفراد، صلة أصحاب النفوذ بالسلطة، احتكار السلطة، والفساد وغير ذلك من الأسباب التي تؤدي إلى ظاهرة (الاحتشاد السياسي) وتحوّل هذا الاحتشاد إلى ثورة في بعض الأحيان، وهذا ما حدث في تونس، خصوصاً أنه تتصاعد الآن وتيرة ظاهرة منظمي أو مؤيدي حركات الاحتجاج السياسي ممن يسبغون على أنفسهم مسوح المعارضة، ويطلقون شعارات عابرة للقارات لتهييج المشاعر وتحريك الشارع المستهدف سواء كانت هذه الشعارات تتفق أو تختلف مع مصلحة الشارع المحتقن أو حتى قناعة مطلقيها في الخارج، لكنها تحقق لهذه الفئة نفعاً مؤقتاً خاصة بعد أن أصبح العمل السياسي لا يتأثر بالحدود القومية، بالإضافة إلى دور وسائل الإعلام العابرة للحدود أيضاً في نشر أفكار سياسية تخدم أهداف البعض على حساب البعض الآخر. وكل ذلك يجد قبولاً لدى الحشود السياسية خاصة أن العنف السياسي يتولد أصلاً من رحم ردة فعل غير عقلانية إزاء حالة الشعور بالإحباط والكبت كما هو معروف عند المتخصصين في دراسات العنف السياسي، وتضاف إلى ذلك معادلة التكلفة ـ العائد والاستفادة من حالات الغضب الشعبي من أجل تحقيق أهداف استراتيجية كما يرى تيد روبرت غير.

ومن هنا لابد أن تدرك الحكومات خطورة الغضب الشعبي العفوي ومواقف المستفيدين من حشد الشارع ضد الأنظمة، وأن تسعى الحكومات إلى إيجاد الحلول المناسبة، وتستخدم في ذلك برامج إدارية وإصلاحات اقتصادية ومجتمعية لتقليل حدة الفقر، والبطالة، والفساد، وتحقيق العدالة الاجتماعية قدر المستطاع، وتحترم حقوق الإنسان، والابتعاد عن سياسات القمع لاحتواء حالات الغضب الشعبي قبل احتشاد الشارع، وضرورة حل المشكلات التي تتعلق بمعاناة الطبقات الفقيرة في المجتمع، والوقوف على أسباب شعور بعض أفراد المجتمع بالظلم والتهميش لوصد الأبواب التي تتيح لهم اعتناق أيديولوجيات تشجع أو تبرر اللجوء إلى العنف، وكشف الأسباب الحقيقية التي تدفع الأفراد الذين يشجعون على احتقان الشارع السياسي وتأزيمه، وتحصين المجتمع من مخاطر العنف المستورد عبر جلب أفكار خاطئة أو غير صحيحة.

يبقى أن قدرة الحكومات على حل مشكلات مجتمعها أفضل الوسائل لتفويت الفرصة على المتربصين والمندسين، وهذا في حد ذاته مسؤولية الحكومات تجاه الشعوب، وسبب مشروعية هذه الحكومة أو تلك. فالمواطن أينما كان هو مسؤولية حكومته، وكلما اقتربت المسافة بين الحاكم والمحكوم تقلصت الفجوة التي يمكن أن ينفذ منها المتربص الذي يسعى إلى حشد الشارع السياسي، خاصة أن الظروف الاقتصادية التي ضربت العالم اعتباراً من عام 2008م، وما سببته من ارتفاع للأسعار وزيادة حجم البطالة في العديد من الدول النامية وأيضاً زيادة عدد السكان الذي صاحبه تراجع كبير في معدلات النمو جعلت الشعوب في كثير من الدول النامية تشعر بتأثير الفقر، وعدم القدرة على توفير متطلباتها الأساسية، ومن ثم تستجيب بسهولة أكثر لدعاوى التمرد والاحتشاد لتحقيق المزيد من المكاسب الاقتصادية والاجتماعية.

لكن في المقابل على الشارع السياسي أن يكون حكيماً في تحقيق مطالبه، ولا ينجر وراء العقل الجمعي والأفكار المستوردة، والشعارات التي يطلقها مؤججو الاحتشاد السياسي، فالاحتشاد العاطفي وغير العقلاني إذا تجاوز حدوده أتى على مكتسبات الشعوب ومقدراتها، وينبغي على الشارع أن يكون فطناً أمام دعاوى التحريك التي تبثها الفئة المستفيدة، خاصة التي لا تعيش داخل المجتمع نفسه، وتكتفي ببث الأفكار عن بُعد. فقد أثبتت التجارب على أرض الواقع أن الفوضى هي الفوضى مهما ارتدت أقنعة ومسوحاً واكتست بعبارات هلامية مثل شعار (الفوضى الخلاقة) الذي ردده البعض في العقد الأول من القرن الميلادي الذي نعيش فيه، حيث ثبت بالدليل أنها فوضى مدمرة، وأن الشعب نفسه هو وقود هذه الفوضى غير الخلاقة.

أخيراً.. قد يكون من السابق لأوانه الحكم على التجربة التونسية، فلا تزال نيران الغضب الشعبي تتحكم في الشارع التونسي. لكننا نستبشر خيراً بأن تكون التجربة التونسية علامةً مضيئةً في طريق العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وأن تكون لها أبعاد إيجابية حقيقية بعيدة المدى وقابلة للديمومة. 

مقالات لنفس الكاتب