; logged out
الرئيسية / أمن الطاقة في أوروبا.. بين الواقع والطموح الاستراتيجي

أمن الطاقة في أوروبا.. بين الواقع والطموح الاستراتيجي

الثلاثاء، 01 شباط/فبراير 2011

ترافقت التغييرات السياسية الثورية التي شهدتها أوروبا بعد انتهاء الحرب الباردة مع مجموعة من الطموحات الاستراتيجية ذات السقف العالي، والتي لم يكن معروفاً مدى قدرة بعض الدول على الالتزام بها في مداها المنظور على الأقل. وبعد مرور عشرين عاماً على تلك التغييرات، لم تعد تلك الطموحات مجرد أضغاث أحلام لا علاقة لها بالواقع، بل باتت في صلب القرار الاستراتيجي لكافة دول الاتحاد الأوروبي، ومكوناً رئيسياً في سياستها القصيرة وبعيدة المدى.

ومن دون أدنى شك، فإن ما اصطُلح على تسميته (أمن الطاقة) قد شكّل، ولا يزال عماد تلك الطموحات الأساسية المقصودة، حيث أن التيارات السياسية التي استلمت الحكم في بلادها المتحررة من آثار الحقبة الباردة، أدركت على الفور أهمية تحقيق بعض الأهداف ذات العناوين الضخمة، لأن من شأن ذلك أن يكرّس مفهوم الانتماء المستقل الجديد والذي باتت تروّج له منذ تلك الفترة.

بكل بساطة، أرادت تلك الدول أن تتحرر كلّيا من النفوذ السوفييتي، وتالياً الروسي لكنها كانت تعي جيداً بأن ذلك لن يتم ببساطة أو بشكل مجاني، بل يجب أن يخضع لمعايير ومفاهييم كثيرة بقيت تتطور في قاموس الدول الناشئة وأدائها السياسي حتى يومنا هذا.

مقابل ذلك، بدت الدول الديمقراطية (القديمة) وكأنها قد بدأت تعد العدة لتبنّي هذا المفهوم الاستقلالي، خصوصاً في الشق المتعلق بالطاقة وأمنها، حيث أدركت بأن العالم مقبل على تطورات في غاية الأهمية، ناهيك عن المنحى التكاملي الذي بدأت تروج له أوروبا على أكثر من صعيد وأصبح واقعاً ملموساً في الوقت الحاضر.

هذا الأمر استلزم إطلاق عملية جدّية لإعادة صياغة سياسة الطاقة الأوروبية على الصعيد الأشمل، لا سيما في ما يتعلق بمسألة تنويع مصادرها وعدم الاكتفاء بالاعتماد على مصدر وحيد هو روسيا. وبرز في هذا السياق مصطلح جديد في القاموس السياسي الأوروبي هو (التنويع Diversification)،والذي بات تعبيراً ملازماً لمعظم خطابات المسؤولين، لكن أيضاً بنداً ثابتاً في البرامج الحكومية العلنية والسرية على حد سواء.

التنويع كجزء من أمن الطاقة هل هو ظاهرة إيديولوجية؟

قد يقول قائل بأن من حق أية دولة في العالم أن تتبنّى سياسة طاقة تتوافق مع مصالحها العليا الاقتصادية، بما يضمن تأمين مواد الخام الضرورية التي تحتاجها لتأمين الخدمات للمواطنين ولتسيير العجلة الاقتصادية. وهذا حق لا خلاف عليه فعلاً، وهو ما نراه أصلاً بشكل يومي في الممارسة السياسية والدبلوماسية للدول على اختلاف انتماءاتها ومشاربها.

لكن هذا الأمر لم يعد شأناً اقتصادياً بحتاً في أوروبا، وخصوصاً بعد انتهاء الحرب الباردة وفرز المناطق بالطريقة التي تتطور فيها حتى يومنا هذا، في الواقع أن التنويع قد أصبح حالة إيديولوجية متكاملة تتناسق مع المفهوم السياسي السائد، والقاضي بدفع منطقة وسط وشرق أوروبا تحديداً إلى موقع جيوسياسي جديد لم تكتمل معالمه النهائية بعد. وقد تحدث عن هذا الأمر مسؤولون ومنظّرون كثيرون في هذه المنطقة من العالم، منطلقين من قناعة ثابتة في نفوسهم بأن تنويع مصادر الطاقة سيساهم برفع نسبة الاستقلال والحد قدر الإمكان من مخاطر نشوء أي تهديد استغلالي قد ينشأ في المستقبل، خصوصاً إذا تطور التباين السياسي والإيديولوجي القائم إلى نزاع ذو طابع أكثر خطورة.

هذا الأمر ترغب بتبنّيه كافة الدول التي استقلّت عن الفلك السوفييتي السابق ابتداء من البلطيق، مروراً بالبلقان ووسط أوروبا، لكن حتى في معظم دول أوروبا الغربية، ولهذا السبب تحديدا وُضعت الخطط والاستراتيجيات المختلفة الخاصة بمد أنابيب النفط والغاز، دون أن نغفل بالطبع أن يكون لذلك أسباب أخرى لا علاقة لها بما نتحدث عنه بل تدخل في سياق العلاقات الثنائية بين روسيا وبعض الدول التي تمر فيها الأنابيب القديمة.

أم أنه ظاهرة اقتصادية؟

يجب في هذا السياق الإشارة إلى المفهوم الآخر لعملية التنويع والمرتبط أيضاً بالأبعاد الاقتصادية، وهنا تبرز كما هو معروف الطموحات الموجودة لدى كثير من الدول الأوروبية بتحديث مصادر إنتاج الطاقة وتحولها بشكل نهائي ومستمر إلى الطاقة النووية. وقد وردت الإشارة إلى هذا الأمر في أكثر من منتدى ومؤتمر أوروبي حيث طُرحت أسئلة كثيرة حول مستقبل الطاقة في أوروبا وضرورة انتقالها إلى الطاقة النووية، برغم الخلافات الكثيرة القائمة بهذا الخصوص.

وبرزت خلال هذه المنتديات آراء تطالب بتسريع عملية تبنّي سياسة طاقة جديدة يسمح من خلالها بتعزيز بناء محطات الطاقة النووية، لما لذلك من أثر إيجابي في التخفيف من الاعتماد على استيراد المواد الخام من الدول غير المستقرة، وكذلك لأن مسألة بناء المحطات النووية قد أصبحت في الوقت الحاضر على درجة كبيرة من التطور والاحترافية، ما يجعلها آمنة إلى أكثر الحدود الممكنة، وقادرة أيضاً على رفد التطور الاقتصادي المنشود.

الطاقة في الاهتمام الأوروبي

بالرغم من أن مفهوم أمن الطاقة لا يعتبر من الأمور الحديثة في سياسة الاتحاد الأوروبي، إلا أنه بات اليوم يكتسب موقعاً استثنائيا للغاية، وقد يكون أحد الأعمدة الرئيسية لتلك السياسة. وكما تفيد وثائق الاتحاد المذكور، فإن الهدف الأول لسياسة الطاقة التي يتم تبنّيها اليوم، هو العمل من أجل تأمين مصادر مستقرّة تضمن إيصال جميع وسائل إنتاج الطاقة من نفط وغاز وكهرباء وما شابه لجميع المواطنين دون استثناء، مع مراعاة الشروط البيئية بما يتوافق مع الالتزامات الناجمة عن (بروتوكول كيوتو)، وكذلك مع الأخذ بعين الاعتبار كل ما يخص توفير الأمن اللازم للقارة الأوروبية.

وتشير الوثائق المختلفة بأن أولى مؤشرات الاهتمام الأوروبي بمسألة الطاقة قد برزت أثناء إفرازات المرحلة السياسية والتاريخية التي نشأت في الموقع الجغرافي الأوروبي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتحديدا في الاتفاقية الموقّعة من قبل الدول الأعضاء في باريس خلال العام 1951، في حين أن الاهتمام النووي برز في الوثائق الصادرة عن مجموعة الدول الأوروبية للطاقة النووية (يوراتوم EURATOM) المؤسسة في روما خلال العام 1957، والتي انضمت لاحقاً إلى الاتحاد الأوروبي.

وضع التصور

انحصرت أهداف سياسة الطاقة لدول الاتحاد الأوروبي ضمن سلسلة الوثائق التي تم نشرها في ما عرف بالكتاب الأخضر، والتي شكّلت حسب رأي كثيرين نوعاً من الاختراق في الطريقة التي سيتعاطى معها الاتحاد الأوروبي مع مسألة الطاقة بشكل متضامن وموحد.

كما أن البعض رأى في تلك الوثائق محاولة من قبل الاتحاد الأوروبي لأخذ المبادرة عالمياً من أجل السعي لإيجاد حلول ناجعة للمشاكل الآنية التي تعاني منها الطاقة.

أما أبرز الأهداف التي تم تحديدها في هذا السياق فكانت على الشكل التالي:

* مكافحة التغييرات المناخية.

* العمل للحد من اعتماد الاتحاد الأوروبي على شحنات النفط والغاز المستوردة من الخارج.

* دعم القدرة التنافسية.

ومن بين الأهداف الثلاثة المحددة أعلاه، أعتُبرت مسألة مكافحة التغييرات المناخية الأبرز في ما يخص البُعد الاستراتيجي الملحّ، وهو ما بيّنته المفاوضات الدولية اللاحقة التي طالب الاتحاد الأوروبي من خلالها للعمل من أجل الحد من نسبة انبعاث الغازات السامة في الدول المتطورة بنسبة تصل إلى 30 في المائة حتى عام 2020 مقارنة بالعام 1990، في حين سيسعى الاتحاد للتعهّد بخفض نسبة انبعاث تلك الغازات ضمن مجاله الجغرافي بما يصل إلى 20 في المائة حتى عام 2020 مقارنة بالعام 1990.

بجميع الأحوال، فإن ما تطمح لتحقيقه سياسة الطاقة المعتمدة من قبل الاتحاد الأوروبي يعتمد على مجموعة من المسبّبات، وأبرزها وجود قناعة شاملة لدى الأعضاء بأن نسبة الاعتماد على استيراد مواد الخام المرتبطة بالطاقة عالية جداً، وأن ذلك يترافق مع وجود عدم توازن بين قطاعي الإنتاج والاستهلاك، ناهيك عن ارتفاع أسعار الطاقة والتأثيرات المختلفة على المناخ العالمي.

وهنا يبرز الحديث عن موضوع (تنويع) موزّعي مصادر الطاقة (جغرافياً وسياسياً على حد سواء) وعدم السماح لأي طرف منهم بالاستئثار بمسألة التوزيع، والسعي في خط متوازن لتأمين ما بات يعرف بمصادر بديلة للطاقة وخصوصاً تلك التي يدور حالياً جدل حاد بشأنها في القارة الأوروبية وغيرها.

وفي هذا المضمار تتداخل عناصر الطاقة مع مسألة حماية البيئة التي تعتبر أيضاً من المواضيع الحساسة جداً في أوروبا، حيث تنقسم الأطراف بين من يسعى لتأمين مصادر بيئية نظيفة وغير خطرة تستبعد بالدرجة الأولى الطاقة النووية، وبين معارضيهم ممّن يفضلون الطاقة النووية على غيرها من المصادر البديلة للطاقة.

الأهداف

لا شك في أن أمن الطاقة يتطلب توفير حزمة من الأهداف التي يبدو الاتحاد الأوروبي في الوقت الحاضر متوافقاً حولها، وهو ما تشير إليه بوضوح وثائقه الرسمية التي تنظّم الأداء التنفيذي لجميع الدول المنضوية تحت لوائه. وعلى الرغم من أن حساسية التعاطي مع هذا الملف قد تتباين بين دولة وأخرى، أو بين منطقة جغرافية وأخرى، إلا أن مجموعة الأهداف التي تم التوافق حولها انطلقت من المسببات التي سبق ذكرها، والتي تتعاطى أصلاً مع المشكلة من إطارها الأشمل.

ولعل أبرز الأهداف هي تلك المحددة ضمن مجموعة الاقتراحات الصادرة في يناير من عام 2008 ومن ضمنها (النظرة الاستراتيجية للطاقة (2.SEER)) والتي تُعتبر جزءاً أساسياً من الخطة التنفيذية للأمن والتضامن لدول الاتحاد الأوروبي.

في هذا الإطار تحدد النظرة الاستراتيجية للطاقة بعض القطاعات الأساسية التي يجب إيلائها أهمية بارزة وهي:

* تأمين خطة فعالة لربط دول البلطيق ببعضها البعض.

* إنجاز الخط الجنوبي من أنابيب الغاز والمعروف باسم (نابوكو).

* تأمين استخدام الغاز الطبيعي السائل.

* إنجاز خطة بناء دائرة الطاقة في منطقة البحر الأبيض المتوسط بحيث يتضمن ذلك بناء وتطوير المراوح الهوائية ومزودات الطاقة الشمسية، وتأمين وصل خط الغاز عبر المنطقة الصحراوية في (إفريقيا الشمالية) مع الشبكة الأوروبية.

* تأمين ربط المناطق الشمالية بالجنوبية عبر منطقة وسط أوروبا والاستفادة من شبكة المراوح الهوائية في منطقة بحر الشمال (أي ربط هذه المحطات الكهربائية الهوائية مع شبكة UCTE).

وبهدف المساهمة بتوفير أمن الطاقة طُلب من الدول الأعضاء ومن خلال قرار برلماني بالعمل من أجل إبقاء احتياطيها من النفط بما يعادل الكمية التي تستوردها خلال 90 يوم أو ما يعادل 70 يوم من استهلاك الدولة.

بالإضافة لذلك تم تبني ثلاثة اتجاهات فيما يخص سياسة أمن الطاقة، بحيث يتم من خلالها: تحديد الأولويات المفترض تنفيذها في البنية التحتية، ودعم تطويرها ونموها، وتشكيل وتطوير علاقات تجارية مع أطراف جديدة بهدف الحفاظ على التأمين المستمر للطاقة، وبالتالي (تنويع) المصادر كما سبق ذكره.

وبالفعل فقد تكثفت الاتصالات الأوروبية في الآونة الأخيرة وتم تعيين سفراء متخصصين في مجال أمن الطاقة وتأمين البدائل الضرورية عند الحاجة، وقد شملت هذه الاتصالات دولاً عربية مختلفة، منها في شمال إفريقيا والبعض الآخر في منطقة الخليج، قد يتم التعاون معها بشكل أفضل في المستقبل، لكن في حال أظهر ذلك امكانية وجود منفعة اقتصادية تفاضلية لكلا الطرفين.

روسيا، طرف مهم في المعادلة

إن جميع هذه المحاولات التي تقوم بها أوروبا في الوقت الحاضر لا تنفي حقيقة واقعة بل تؤكد بأن روسيا تبقى بالنسبة للاتحاد الأوروبي شريكا مهما جدا في قطاع الطاقة. فجميع الدول الأعضاء في هذا الاتحاد تعتمد بشكل كبير على مواد الخام الروسية المهمة وستبقى مستفيدة منها لأعوام طويلة قادمة. لكن الأسئلة التي تطرح بقوة في الوقت الحاضر تتمحور حول الطريقة التي ستتبعها بعض دول الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً تلك التي كانت في السابق جزءاً من الفلك السوفييتي وما زالت اليوم خاضعة للتأثير الاقتصادي الروسي، لـ (تحرير) نفسها من الاعتماد الكلي على روسيا (وخصوصاً دول البلطيق وبولندا وفنلندا التي تعتمد بنسبة 100 في المائة على الغاز الروسي)، أو فيما إذا كانت الخطط الأوروبية التي تحدّثنا عنها ستساهم بتحقيق هذا الهدف.

وأمام هذا الواقع يحرص المتفائلون على الإشارة إلى العلاقة الجدلية القائمة بين الطرفين وعدم استعداد أي منهما للتخلي عن الطرف الآخر. وإذا تحدثنا بلغة الأرقام نجد بأن الاتحاد الأوروبي يعتمد بشكل أساسي على نسبة 25 في المائة من الغاز الروسي (يملك 25 في المائة من مصادره الخاصة، و16 في المائة من النروج، و15 في المائة من الجزائر) في حين أن الميزانية الروسية تعتمد بنسبة 40 في المائة على عائدات بيع مواد الخام، وأن أكثر من 60 في المائة من عائدات التصدير الروسية هي ناجمة عن بيع مصادر الطاقة بأشكالها المختلفة، حيث تصدّر غالبيتها إلى دول الاتحاد الأوروبي.

هذا الأمر سيستمر لفترة طويلة جداً، ليس على صعيد الغاز فحسب، لكن أيضاً على صعيد النفط ومصادر الطاقة الأخرى، حيث تتوقع البعثة الأوروبية ارتفاع الاعتماد الأوروبي على الاستيراد حتى عام 2030 بنسبة 65 في المائة (أي ما يوازي 84 في المائة بالنسبة للغاز الطبيعي وحتى 93 في المائة بالنسبة للنفط).

بجميع الأحوال، إن الموقع الذي تتميز به روسيا في فسيفساء العلاقة المرتبطة بالطاقة الأوروبية هو موقع حساس ومؤثر جداً، وليس مفترضاً أن يتأثر كثيراً بما يجري على صعيد تنويع المصادر أو توفير أمن الطاقة بشكل عام. ومما يثير التأكيد في هذا الأمر هو سلسلة من المعطيات التي سبق الحديث عنها، لكن أيضاً وجود علاقات ثنائية متينة على صعيد الطاقة مع بعض الدول الأوروبية المؤثرة مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، والتي وبرغم مساهمتها في تشكيل السياسة الأوروبية بكافة تفرعاتها، إلا أنها تبدو، على الأقل في ما يخص الطاقة، مهتمة بالحفاظ على أوثق العلاقات مع روسيا وشركته النفطية الضخمة غازبروم، وهو ما تبيّنه بوضوح جميع العقود الموقعة معها.

 

مجلة آراء حول الخليج