; logged out
الرئيسية / الاقتصاد السياسي لمنطقة الشرق الأوسط

الاقتصاد السياسي لمنطقة الشرق الأوسط

الثلاثاء، 01 أيلول/سبتمبر 2009

الطبعة الثالثة

تأليف: ألان رتشاردز و جون ووتربيري

الناشر: مطبعة وستفيو 2006

القراءة للدكتور روبرت لوناي

استاذ بكلية الدراسات العليا بالأكاديمية البحرية الأمريكية 

لم تحظَ التطورات الاقتصادية لمنطقة الشرق الأوسط بالاهتمام الأكاديمي الجاد الذي قد يتوقّعه المرء. وعلى الرغم من كثرة المؤلفات المنشورة حول الموضوع، لا يتوافر حالياً إلا عدد محدود من الكتب التي تقدّم دراسات منهجية راقية حول اقتصاد منطقة الشرق الأوسط ككل. وفي الحقيقة، لا يمكن العثور على مثل هذه الدراسات إلا في كتب مثل (التاريخ الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا)، لتشارلز عيسوي Charles Issawi، وكتابي روجر أوينRoger Owen  (الشرق الأوسط في الاقتصاد العالمي)، و(تاريخ اقتصاديات الشرق الأوسط في القرن العشرين) (بالاشتراك مع سيفكيت باموك Sevket Pamuk ). لكنْ مع إصدار الطبعة الثالثة للعمل الكلاسيكي المعنون (الاقتصاد السياسي لمنطقة الشرق الأوسط)، لريتشاردز وووتربيري، بات في متناول القرّاء والباحثين مجدداً كتاب فريدٌ مُحدّث لا يغطي فقط الاقتصاد السياسي المعاصر للمنطقة بدرجة كافية من الدقة والاستفاضة، بل يقدّم أيضاً إطاراً يُعتدُّ به لفهم التعقيدات المتزايدة للقوى الفاعلة التي تشكّل أحداث المنطقة.

لقد صدرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب قبل ستّة عشر عاماً ثم ظهرت طبعته الثانية في عام 1996، وفي غضون ذلك، حدثت تغييرات كثيرة. فمنذ ظهور الطبعة الثانية سُجّلت تغييرات إقليمية كبيرة وتحوّلات جوهرية في رؤية أمريكا للمنطقة وكيفيّة انخراطها فيها. لذا، حدّد المؤلفان مسار الطبعة الثالثة في مستهلّها حيث أشارا إلى أنّ صدمة الحادي عشر من سبتمبر 2001، أثارت نقاشاً عامّاً واسعاً كان معظمه يفتقر إلى المعرفة الكافية بقضايا المنطقة ودور أمريكا فيها.

ومن الواضح أنّ ردود الفعل على أحداث الحادي عشر من سبتمبر لم تكن دائماً تتسم بالحكمة. لكننا نعتقد أنّ الجمهور العام من الناس ـ الذي لم يقرأ هذا الكتاب ـ بدأ يُدرك العبرة التي تُستسقى منه؛ وهي حقيقة أن مشكلات منطقة الشرق الأوسط عميقة وهيكلية ومزمنة. لذا، فإن حلول هذه المشكلات ليست (بسيطة)، سواءٌ ارتبطت من حيث المنشأ بالأنظمة الإقليمية الحاكمة أو بالتيارات الإسلامية المعارضة. وتهدف هذه الطبعة، كالطبعتيْن السابقتيْن، إلى تمكين القرّاء من فهم تعقيدات وجذور المشكلات التنمويّة البعيدة المدى التي تعاني منها المنطقة. (ص xiii)

وأسوةً بالتحوّلات التي طرأت على أحداث وتطوّرات المنطقة ككل، تغيّر تنظيم الكتاب مع مرور الوقت. لكنّ طريقة التحليل العامّة لا تزال قائمة على أساس النموذج الثالوثي الذي وضعه المؤلفان: (التحول الهيكلي) و(هيكلية الدولة) و(السياسة والأطراف الاجتماعية). ففي الطبعة الثانية، حلت الأطراف الاجتماعية محلّ (طبقات المجتمع) كأحد عناصر هذا الثالوث فظهر فصل جديد تحت عنوان (هل الإسلام هو الحل)، محلّ فصل (مصالح الطبقات والدولة). كما تقدّم الطبعة الثالثة الإسلام الآن كقوة حيوية بالمنطقة ولكنها حركة اجتماعية عريضة ومتنوّعة تشتمل على العديد من المكونات المتنازِعة في ما بينها. وترتقي الطبعة الثالثة أيضاً بمستوى تقييم إصلاحات (إجماع واشنطن) لتقدّم مقاربة أدق لقضية التحوّل في ميزان الدولة والسوق، في سياق التنمية والإصلاح الاقتصادييْن.

ويمتاز هذا الكتاب بشكل واضح عن باقي الأعمال المذكورة أعلاه بمنهجيته الشاملة والدقيقة. وخلافاً للعديد من محلّلي قضايا الشرق الأوسط الذين يرفضون الاعتراف بأوجه تشابه المنطقة مع أجزاء أخرى من العالم، يطبّق المؤلفان على المنطقة أوسع النظريات الواردة في أدبيات التنمية الاقتصادية. ففي الواقع، ينطلق المؤلفان من افتراض أنّ العديد من المشكلات والقضايا الرئيسية التي تواجهها منطقة الشرق الأوسط في المرحلة الراهنة يمكن، بل وينبغي، مقاربتها عملياً كما تُقارب مشكلات أيّ مجموعة من الدول النامية. وهكذا، طوّر المؤلفان نموذجاً شاملاً للاقتصاد السياسي للدول النامية حيث يمكن إدراك المخرجات على أساس ثلاثة متغيّرات مترابطة، هي: (1) النمو الاقتصادي والتحول الهيكلي؛ (2) هيكلية وسياسة الدولة؛ (3) الأطراف الاجتماعية، سواء كانت مجموعات أم أفراداً. (ص 8).

ينطوي النمو الاقتصادي والتحول الهيكلي على نتائج غير مقصودة يتعيّن على الأطراف الرسميّة أن تتعامل معها. على سبيل المثال، إذا كان نمط التصنيع على درجة عالية من الرسملة، فإن الدولة قد تضطر لمعالجة المشكلة المتفاقمة المتمثّلة بتوفير العمالة الكفوءة.

كما تُشكّل الأطراف الاجتماعية سياسة الدولة. ذلك لأن مجموعات الضغط والمجموعات ذات المصالح المشتركة ـ وطبقة أصحاب الأملاك، بصفة أعم ـ تسعى لحماية وتحقيق مصالحها الخاصة من خلال الدولة. وفي بعض الحالات، يتعاظم نفوذ أحد الأطراف الاجتماعية بحيث تصبح الدولة (أداةً) بيده.

بالنتيجة، يزوّدنا المؤلفان بإطارٍ تحليلي مرنٍ وغير ماركسي قادر على توضيح الطريقة التي من خلالها تتبلور وتتجلى العديد من التطوّرات الرئيسية بالمنطقة على مدى العقود القليلة الماضية. وتُشكِّل الدولة، بل وتخلق، أطرافاً اجتماعيّة وحتى طبقات مجتمعيّة. في المقابل، يُشكّل النمو الاقتصادي والتحول الهيكلي الأطراف الاجتماعية. وأخيراً، تؤثّر الأطراف الاجتماعية بصورة مباشرة وغير مباشرة في معدّل وشكل النمو الاقتصادي من خلال تأثيرها في سياسة الدولة. ومن أبرز الأمثلة التي قدّمها ريتشاردز وووتربيري ذلك المثال الذي يُظهر كيف أنّ تركيز ملكية الأراضي قادر على تعزيز نمط الاستثمار المكثّف في التنمية الزراعية، مع تداعيات على تشغيل العمال وتوزيع الدخل. (ص 9)

ومن أبرز سمات هذا الكتاب حقيقةُ أنّ طابعه العملي تعزّزَ في سياق تطوّره مع مرور الوقت. فالسيد ريتشاردز، وهو المسؤول الوحيد عن التغييرات التي اشتملت عليها الطبعة الثالثة، غيّر آراءه المتعلّقة بالإصلاح الاقتصادي على مرّ السنين، وذلك انسجاماً مع المعرفة المتراكمة التي تشير إلى أنّ السوق الحرّة الساذجة وصيغة التجارة الحرّة لإجماع واشنطن، لم يعودا ذلك البلسم الشافي الذي تصوّره هو والعديد من الاقتصاديين في أوائل التسعينات.

مع أن مشكلات وتناقضات النمو الذي تقوده الدولة كانت ولاتزال حقيقية، تعذّر ويتعذّر تحديد مجموعة بسيطة، أو حتى شاملة، من التغييرات المؤسساتية القادرة على تجاوز مثل هذه السلبيات. ذلك لأنّ مشكلات النمو الاقتصادي والتغيير الهيكلي مزمنة وقاتمة وعميقة ومركّبة وسياسية بامتياز. ولطالما كانت (مبادرات الإصلاح) الشاملة مشبوهة لأسباب عديدة أقلّها حقيقةُ أنها حماقات سياسية تُهين الجميع في آنٍ معاً، وهذا ما انطوى عليه، في الغالب، المنطق الاقتصادي لإجماع واشنطن. إلى ذلك، ظلّت منافع الإصلاح غير أكيدة ولطالما عزّزت قدرة الأطراف الخاسرة على اتخاذ إجراءات مضادّة. وكما تجلى حتى اللحظة، فإن منافع الإصلاح ظلّت في الغالب غير منتظمة وغير موزّعة بالتساوي ومزعزِعة للاستقرار.

لذا، لم يكن من المفاجئ أنْ تعمد الأنظمة الحاكمة إلى تغيير سياساتها الاقتصادية تدريجياً وبشكل انتقائي. فهذه الأنظمة تخشى محقّةً من تبني إجماع واشنطن بكل حذافيره لأنه يعني تعريض الاستقرار السياسي لخطر كبير... سواء بسبب الصعوبات التي ينطوي عليها تطبيق هذه السياسة الاقتصادية، أو لأنّ الإصلاح غير المنتظم أدى إلى نتائج مخيّبة للآمال نسبياً، على صعيد الإصلاح الاقتصادي. ومع أنّ الأداء الاقتصادي لبعض الدول خلال الفترة الممتدة من منتصف إلى أواخر التسعينات تحسّن بشكل ملحوظ مقارنةً بالسنوات العشر السابقة، إلا أنّ دول شرق آسيا كانت الأقوى نمواً والأقدر على خفض معدّلات البطالة ورفع الأجور الحقيقية ومستويات المعيشة. ولا يتوافر أيّ دليل مقنع على أنّ أداء الدول التي تبنّت معظم البنود الواردة في إجماع واشنطن كان أفضل بكثير من أداء الدول، التي تفادت ذلك الإجماع. (ص 260 ـ 261)

وكانت هناك رسالة واضحة من خلال عدم تكليف إدارة الرئيس بوش مباشرةً بمهمّة إصلاح السياسات الاقتصادية في العراق. فمنذ البداية، قامت السياسات الاقتصادية الأمريكية هناك حصرياً على إجماع واشنطن الفاشل. بالتالي، انهار الاقتصاد العراقي وارتفع معدّل البطالة بسرعة إلى أكثر من أربعين في المائة وغرقت البلاد في الفوضى، كما افتقرت إلى المؤسسات أو شبكات الأمان الحكومية التي تُعين المواطن العراقي. ولعل لسان حال ريتشاردز وووتربيري ردّد هنا أيضاً ما أشرنا إليه أعلاه: (إنّ الحماقة السياسية أهانت جميع العراقيين في آنٍ معاً). ولو أنّ المسؤولين في واشنطن اهتموا باستسقاء العبر من التحليل التاريخي القيّم الذي يقدّمه هذا العمل الفريد لاختلفت الأمور تماماً.

ماذا يُخبّئ المستقبل؟ هنا، تحلّى المؤلفان بالحصافة عندما أحجما عن إطلاق التكهنات واكتفيا بالتحذير فقط من أنّ القوى الفاعلة تعمل على دفع المنطقة نحو المزيد من عدم الاستقرار:

إن الوضع الاقليمي الراهن أصعب بكثير مما كان عليه قبل أربعين عاماً، ليس فقط بسبب الضغوط المفروضة على الموارد وسط معدّلات النمو السكاني المرتفعة (رغم الزيادات الأخيرة في أسعار النفط)، بل أيضاً لأن العديد من التجارب السياسية التي خيضت بحماسة وثقة باءت بالفشل؛ فخلّفت جيلاً كاملاً من السياسيين المرهقين وغير الواثقين بأنفسهم. هنا، تكمن المأساة في حقيقة أن أطرافاً سياسية مهمّة من داخل وخارج المنطقة عزفت بصورة متزايدة على وتر الإرهاب والعنف المسلّح كحلّ لهذه المشكلات ذات الجذور العميقة. لكنّ التاريخ يعلّمنا أنّ تغيير هذا التوجّه هو وحده الكفيل بقيادة السفينة نحو برّ الأمان. غير أنّ غياب البدائل الواضحة والموثوقة يمثّل جزءاً من المشكلة. فقد تم اختبار النمو الذي تقوده الدولة وإجماع واشنطن والإسلام السياسي (في إيران والسودان والمملكة العربية السعودية)، لكنّ النتائج كانت غير منتظمة. (ص 412 ـ 413)

... إذاً، من دون نماذج مجرّبة وموثوقة ومن دون استراتيجيات بعيدة المدى وفي ظل العنف السياسي المتصاعد، دخل الشرق الأوسط في مرحلة يكتنفها الغموض. (ص 413)

كما أن النجاحات الجزئية التي أُحرزت خلال العقود الأخيرة، لا سيما نشوء طبقة متوسطة متنوّعة وأفضل تعليماً وذات طموحات متزايدة، ستجعل المستقبل القريب حافلاً بالتحديات الصعبة. (ص 413)

على مرّ السنين، وجد العديد من أكاديميي الشرق الأوسط في كتاب (الاقتصاد السياسي لمنطقة الشرق الأوسط) مرجعاً قيّماً لا يمكن الاستغناء عنه. وفي الجامعات، تم اعتماد الكتاب على نحو واسع وبنجاح كبير في السنوات الأخيرة للبكالوريوس والسنة الأولى للدراسات العليا في مجالات اقتصاد الشرق الأوسط أو سياساته أو اقتصاده السياسي. وكالنبيذ الفاخر، تعاظمت قيمة هذا الكتاب مع مرور الوقت، وهذه مهمّة شبه مستحيلة في ظلّ التعقيدات المتزايدة والتطورات المتسارعة للمنطقة.

هذا الكتاب ليس الخيار المناسب للذين يبحثون عن إجابات سهلة وسريعة للعديد من القضايا الرئيسية الراهنة. لكنّ أولئك الذين يريدون تكوين فهم عميق لتعقيدات المنطقة سيجدون فيه ضالّتهم المنشودة لأنه يُمكّنهم من إدراك أسباب إخفاقات السياسات الأمريكية (والغربية) على مرّ السنين. وتتمثل إحدى مآسي عصرنا بحقيقة أنّ أبرز صنّاع السياسة في الغرب تنكروا، ويتنكرون، لما يختزنه هذا العمل الفذّ من حكمة بالغة ورؤية ثاقبة؛ وهذا مؤسف حقاً.

* ملاحظة المترجم: كان جون وليامسون أول من استخدم تعبير (إجماع واشنطن) في عام 1989 والذي يتحدث عن عشر توصيات لا بد من الالتزام بها كأساس للإصلاح الاقتصادي وكحل للأزمات التي تعاني منها بعض الدول النامية بمساعدة ثلاثة مؤسسات تتخذ من واشنطن مقراً لها وهي (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ووزارة المالية الأمريكية).

مقالات لنفس الكاتب