; logged out
الرئيسية / المجتمع المدني : ضمانة التطور وركيزته الأكيدة

العدد 93

المجتمع المدني : ضمانة التطور وركيزته الأكيدة

الجمعة، 01 حزيران/يونيو 2012

التطورات الهامة التي شهدتها منطقة الخليج خلال العقود القليلة الماضية ساهمت بدفع مسار التقدم فيها على أكثر من صعيد وعززت موقعها كمنطقة حساسة وهامة على الصعيد الجيوسياسي. وكما كان متوقعا، فإن حركة التطور والتغيير هذه قد تسببت على الصعيد الداخلي بنقل حالة الوعي الشعبي من مجرد آلة تابعة ومسيّرة بشكل تام، إلى طاقة متفاعلة مع محيطها وبنسب متفاوتة. وبالرغم من أن هذه الحالة لم تتمكن بعد من الوصول إلى ذروتها الخلاّقة، إلا أنها تبدو محلّقة بما يتناسب مع حتمية التطور الإنساني، وليس مستبعدا بالتالي أن يصل التطور في هذه المنطقة إلى آفاق غير مسبوقة خلال العقود التالية، بغض النظر عن كافة العناصر التقليدية التي تحكم وتسيّر مجتمعاتها.

تزخر منطقة الخليج بالإبداعات الثقافية والاجتماعية الكثيرة، لكنها تبقى، بالنسبة للمراقب من بعيد على الأقل، متعطشة لنمط أكثر شجاعة في ما يخص ملامسة القضايا اليومية التي يعاني منها الناس على أكثر من صعيد. وليس المقصود هنا بطبيعة الحال القضايا الحياتية والمعيشية التي تؤمّنها الدول المعنية بكرم وافي قلّ نظيره، بل بالدور المناط للمجتمع المدني في ملامسة القضايا الاجتماعية والثقافية وغيرها. وهنا قد يكون من المفيد طرح سؤال لإثارة النقاش وتبادل الآراء عمّا إذا كان هناك مجتمع مدني حقيقي في منطقة الخليج، وإذا كان موجودا بالفعل فهل يتحرك كما يجب ليصنع التطور التالي المنشود؟

أن المجتمع المدني يشكل تلك الفسحة التي يتحرك ضمنها المواطنون المدركون لمصالحهم المشتركة، وذلك من خلال مؤسسات اجتماعية تعمل بشكل أفقي مثل التجمعات، المؤسسات، المنظمات الاجتماعية، الهيكليات الدينية، النقابات، النوادي وغيرها، وتكون مستقلة بشكل تام عن الدولة وتسعى بالتالي لفرض مصالح المجتمع دون الاعتماد على الدولة بأي شكل من الأشكال. وهي تختلف بشكل جذري عن تلك المؤسسات التي تعمل بشكل عامودي، أي وفق مبدأ الهرمية الوظيفية التي تكون مرتبطة بشكل أو بآخر بمؤسسات الدولة.

ويمكن تبسيط ذلك الوصف بالقول أن المجتمع المدني "هو كل شيء غير الدولة"، وهذا يعني بأن هيكليته يجب أن تكون متحررة تماما من مسألة الاعتماد على السلطة السياسية القائمة. فالدولة لا تتدخل في نشاطاتها إذا لم تكن متناقضة مع القانون طبعا، ولا تتدخل في مسألة تعيين الأشخاص الذين سيقودون هذه المؤسسة المدنية أو تلك، أو في البرنامج الذي ستتبناه.

ولكي تكون تلك المؤسسات متحررة ومستقلة بشكل كامل وموضوعي، فأنها لا تكون معتمدة على الدولة حتى في الشق الاقتصادي، لأنها تحصل على التمويل المطلوب لتنظيم نشاطاتها المختلفة من المصادر الخاصة بالدرجة الأساسية، أي من التبرعات المختلفة، والمؤسسات المالية وغير ذلك.

ومن هذا المنطلق فأن الاعتقاد السائد في المجتمعات الديمقراطية الحقيقية هو أن المجتمع المدني يشكل أداة فعالة وسليمة لتكريس المنطق الديمقراطي في المجتمع ولتعزيز عناصره الثقافية والاجتماعية بكافة مستوياتها. ولأنه كذلك، فهو يحظى بدعم وتأييد كافة القوى السياسية المتفاهمة أصلا على مبدأ تقاسم السلطة والتناوب الديمقراطي عليها، ولذلك نرى في أوروبا وأميركا مثلا بأن تلك القوى تكون سباقة في دعم عمليات إنشاء الهيكليات المدنية في كافة قطاعات وتفاصيل المجتمع، لأنها تدرك بأن المجتمع المدني وبالتعاون مع مؤسسات الحكم المحلية وأجهزة الرقابة الحرة مثل وسائل الإعلام يشكّلون ضمانة أساسية للتطور والتقدم، ووسيلة لتكريس مبدأ تقاسم السلطة وفق ما ينص عليه الدستور المتوافق عليه.

تشجيع المجتمع المدني

لقد شهدت بعض المناطق في العالم، لا سيما أوروبا وأميركا، تحركات جدّية ومدروسة بهدف تشجيع المجتمع المدني وتأمين تطوره اللاحق. وأسست لهذه الغاية منظمات متخصصة تؤدي دور المراقب والمنفذ، وتتجسد مهمتها الأساسية بالسعي لنشر الوعي حول المجتمع المدني وتأمين حضوره الواسع بين كافة قطاعات الشعب. وقد خصص الاتحاد الأوروبي ميزانيات هائلة لدعم هذه النشاطات لا سيما بعد إطلاق عملية توسيعه وضم الدول الأوروبية الشرقية السابقة، إيمانا منه بأهمية الدور الذي قد تلعبه مؤسسات المجتمعات المدني في تعزيز الوعي الديمقراطي لدى شعوب الدول التي عاشت فترة طويلة في ظل ممارسات الحكم الشمولي.

من جهة أخرى تبدو تجارب المجتمع المدني في أرجاء المنطقة العربية متواضعة لكنها ليست معدومة، ونراها تقدم أملا واعدا لتحقيق التغيير المنشود في دول لم تتمكن حتى الآن من التوافق على صيغة ملائمة يلتف حولها الجميع ، كما هو الحال في لبنان مثلا.

أما في منطقة الخليج فتبدو تجربة المجتمع المدني في بداياتها الأولى، ويتوقع لها بأن تشهد تطورا متوافقا مع طبيعة النسيج الاجتماعي التقليدي القائم منذ أعوام طويلة، وكذا طبيعة الحكم السياسي الذي يتحكم بتفاصيل التطور على أكثر من صعيد. وكما تكون الأمور في أكثر من قطاع في هذه المنطقة، فأن هذا الوصف قد ينطبق على دول دون غيرها، باعتبار أن نسب التطور فيها هي متفاوتة أيضا وعلى أكثر من صعيد.

المجتمع المدني يشكل الفسحة التي يتحرك ضمنها المواطنون المدركون لمصالحهم المشتركة

المجتمع المدني يجب أن يشكل أداة فعالة وسليمة لتكريس المنطق الديمقراطي في المجتمع

وظائف المجتمع المدني

بجميع الأحوال فأنه قد يكون من المنطقي التوافق على بعض الوظائف الهامة جدا والمفترض على المجتمع المدني أن يحققها، لنرى مدى ملائمتها مع التجربة الخليجية أو العربية الأشمل:

  • أن المجتمع المدني يمنع الدولة من الدخول إلى القطاعات التي لا يحق لها بأن تدخل إليها، لا سيما تلك المرتبطة بالنشاطات الخاصة بالمواطنين.
  • من خلال مؤسسات المجتمع المدني تحصل الطبقة السياسية الحاكمة على ردّات الفعل والإشارات الأكثر موثوقية، لأن المواطنين ومن خلال نشاطاتهم يلفتون النظر إلى المشاكل القائمة في المجتمع والتي تثير امتعاضهم، وبذلك فأنهم يجبرون السياسيين على إيلائها الاهتمام المطلوب.
  • المجتمع المدني هو بمثابة مدرسة حقيقية للديمقراطية. فهو يساعد المواطنين على المشاركة في عملية اتخاذ القرار وإيجاد الحلول للمشاكل المحددة، لا سيما في تلك المناطق التي لا تتوافق فيها الحلول المطروحة مع مصالح المواطنين. وفي هذا المعنى فأن المجتمع المدني يعمل كعنصر تصحيحي لتأثير الدولة.

 

الدولة مطالبة بالدعم

من هنا يمكن القول بأن الطبقة السياسية المؤمنة بتطلعات شعبها وبمبدأ الديمقراطية كأسلوب حكم لا تجد حرجا في تقديم الدعم لمؤسسات المجتمع المدني بل تعتبره في صلب أولوياتها واهتماماتها. وهي تفعل ذلك لسببين كما عبّر عنهما ذات يوم الرئيس التشيكي الراحل فاتسلاف هافل (كلمة ألقاها خلال العام 1999 في جامعة ماكيليستر بولاية مينيابوليس الأميركية) :

* "أولا لأن استقرار وانسجام ونجاح المجتمع ككل يعتمد إلى حد ما على قدرة وامكانية تحقيق النشاطات الشرعية لكن غير التجارية للمواطنين العاديين،

* وثانيا لأن معظم تلك النشاطات غير الربحية لا تخدم من يشارك فيها فقط، بل هي تحقق المصلحة العامة أو النتائج التي يستفيد منها الجميع بشكل أو بآخر".

وبالإضافة لما ذكره هافل، فإن نشاطات المجتمع المدني تهدف أيضا لتحقيق سلسلة من النتائج الهامة التي تعكس تطور المجتمع على أكثر من صعيد، لا سيما ما يخص منها دعم المجموعات التي لا تتمتع لسبب أو لآخر بكامل شروط المواطنة الحقيقية، والدفاع عن حقوق الإنسان والقيم الديمقراطية، والمساهمة في تعزيز مبادئ العيش المشترك ومفهوم التسامح حيال الأقليات القومية (أو القبلية أو الطائفية أو غيرها) التي قد تكون مقيمة في هذا البلد أو ذاك. كما أن نشاطات المجتمع المدني تركز من خلال برامجها بشكل خاص على فئات الشباب التي تعتبر من المجموعات الأهم في المجتمع، وبالتالي فإنها تستهدف هذه الفئات لرفع نسبة الوعي لديها حيال القضايا التي يعاني منها المجتمع، وتسعى لإشراكها في إيجاد الحلول الناجعة.

وهنا تختلف بالطبع أساليب ممارسة الدعم أو تبادلها، كما تكثر التفسيرات بخصوص طبيعة التعاون الذي قد ينشأ بين المجتمع المدني ومؤسسات الحكم المحلي المتمثلة بالبلديات وما شابه، لا سيما تلك المنتخبة من قبل الشعب نفسه، إلا أن التوافق يكون سائدا حتما في درجة الاستقلالية التي يجب أن تتمتّع بها مؤسسات المجتمع المدني، وحصر اعتمادها على الدولة بالدعم المعنوي (والقانوني والدستوري..) فقط.

إن تعزيز مؤسسات المجتمع المدني في منطقة الخليج، كغيرها من مناطق العالم الأخرى، يعتبر من الأولويات التي يجب على القيادة السياسية أن توليها اهتماما بارزا، وبالتالي خلق البيئة الملائمة التي تضمن تطور تلك المؤسسات في جو من الحرية والمساواة. وفي حال تعذر ذلك لسبب من الأسباب فأإن ذلك يفترض أن يكون من مهام الطبقة الفكرية المثقفة التي يجب أن تضيفه إلى لائحة أهدافها، لأن من شأن ذلك أن يضمن بقائها وقدرتها على إحداث الديناميكية المطلوبة في المجتمع.

وقد يعتقد البعض بأن المفهوم الغربي للديمقراطية قد لا يتوافق مع طبيعة ما هو سائد في المجتمعات الخليجية بشكل عام، باعتبار أن أسلوب التواصل بين الحاكم والمحكوم في هذه المنطقة العربية يختلف بشكل جذري عما هو قائم في المجتمعات الغربية الديمقراطية. لكن، ومع الإقرار بصحة هذه الجدلية، يجب الإشارة أيضا إلى أن هذا الاختلاف قد يشكّل في الواقع عاملا مساعدا في رفد جهود المجتمع المدني في منطقة الخليج، لا سيما أن المجتمعات التي يصغر حجمها نسبيا هنا تعتمد بالدرجة الأساسية على العلاقات العائلية والقبلية وما شابه، وبالتالي فأنها قد تكون متماسكة في نسيجها الاجتماعي بشكل جيد، وقادرة على خلق مجتمع مدني فعال ومؤثر.

وقد يكون من المفيد التذكير في هذا السياق بأن المجتمع المدني القوي ينمو عادة من رحم التجارب الشعبية الممتدة لسنوات طويلة، حيث يكون للمثقفين دور بارز وهام، لأنهم يسعون دائما لخلق العناصر الضرورية لحماية نضالهم المستمر من أجل مجتمع أفضل وممارسة ديمقراطية أقوى. وهذه المُثُل ليست حكرا على مجتمع دون الآخر، فالمثقف الأوروبي يشابه الخليجي في كثير من الأمور ولا يختلف عنه في التطلعات أو الأهداف المنشودة. وإذا تمكن الأول من إيجاد الظروف المناسبة التي تؤمن له قيام مجتمع مدني فعال يحصن ديمقراطيته بالشكل الملائم، فأن الثاني مطلوب أيضا بخلق الظروف نفسها، بما يتوافق بالطبع مع بيئته الشعبية والقيم العديدة التي تنظم مجتمعه.

إنها بالطبع مهمة سامية لا شاقة ويجب أن تكون من المسلمات الرئيسية لكل مثقف خليجي، فالهدف في نهاية المطاف هو بناء مجتمع راقي بكل معنى الكلمة وتحصينه من كافة الشوائب التي قد تعيق تطوره وتقدمه. ولا أعتقد بأن أي مواطن صالح، أكان في مصاف المسئولية السياسية أم المدنية، قد يرغب في إبقاء مجتمعه رتيبا مملا وبعيدا عن حتمية التطور، فكيف بالمثقفين الذين من المفترض أن يكونوا وقود المجتمع وركيزته الأهم ، وضمانة تطوره الدائم.

مقالات لنفس الكاتب