; logged out
الرئيسية / تحديات تواجه ثقافة المجتمعات الخليجية

العدد 93

تحديات تواجه ثقافة المجتمعات الخليجية

الجمعة، 01 حزيران/يونيو 2012

لم يشهد تاريخ البشرية على مداه الطويل مرحلة تغير ثقافي خطير، كخطورته في المرحلة الحالية، مرحلة تراكمت فيها انجازات الانسان الحديث بشكل لم يعد بإمكان  المستهلكين وضع خريطة تظهر فيها أنواع الانجازات المتحققة او وضع  مقياس زمني يمكن به حساب سرعتها  وتدفقها الى مستهلكيها أينما كانوا في بقاع المعمورة العريضة، وازاء هذه الحقيقية الجارية في عالم اليوم ومدى انعكاسها على  العلاقات الاجتماعية والثقافية على المجتمع الخليجي المعاصر وهو يحقق انجازات باهرة في مجال التطور الحضاري وتمكنه اقتناء منجزات التكنولوجيا الحديثة بكل أنواعها، وفي المقابل تعيش العقلية الخليجية ظروفاً اجتماعية متغيرة وهي تواجه تحدي الانشطار الثقافي بين ماض ثقافي يمثل جزء أساسي من عقلية تنظر الى العالم  من منظورها الثقافي وشطر جديد يتبنى  مفاهيم تحديثية بدات تظهر في عقلية الأجيال الجديدة وهي ترسم ملامح جديدة لمجتمع متغير قد ينصرف مستقبلا عن أولويات التراث الثقافي للمجتمع الخليجي، ربما تكون له انعكاساته الخطيرة على مستقبل منطقة الخليج العربي سياسيا واجتماعيا ، اذا لم تضع الخطط التنموية الواعية من اجل بناء النموذج الثقافي الخليجي المتطور ليأخذ دوره الايجابي بين النماذج الحضارية الصاعدة في كثير من بقاع الكرة الأرضية اليوم.

المجتمع الخليجي بحاجة الى نهضة ثقافية وتحول حضاري يشمل الفرد والمجتمع معا

يشهد المجتمع الخليجي تراكمات ثقافية واجتماعية وفكرية وتكنولوجية قادمة من الغرب

 اولا :تغير شبكة العلاقات القرابية

ابرز التحديات التي تواجة ثقافة المجتمع الخليجي اليوم هي التغيرات السريعة التي تنتاب شبكة العلاقات القرابية وتعمل على تفككها، وتظهر خطورة ذلك كون العلاقات القرابية تمثل في أحدى وظائفها، التضامن والتآزر الاجتماعي في المجتمع ، وعملية تغير بنية تلك العلاقات تمثل تحدي حقيقي يواجه بنية العقلية الخليجية اذا لم تقترن بمرحلة تحول حضاري انجازي نابع من هوية المجتمع العربي الخليجي وإلا أصبح هذا التحول يهدد وحدة المجتمع اذا ما  تعرض  الى أي مخاطر خارجية او شهد تغيرات داخلية مرتبكة، لاسيما مع تنامي استعمال الادوات او الوسائل الاتصالية المتطورة، وكذلك مع تنامي حالة الاستهلاك المعتمد على الاستيراد الخارجي دون ان يكون هناك استعداد حقيقي لعملية انجاز وإنتاج وطني يلبي الحاجات الأساسية للمواطنين وهي مسألة صعبة نتيجة تراجع التعليم المهني والفني فضلا عن التعليم العام على الرغم من توافر كل الامكانيات اللازمة لعملية التعليم، لان المشكلة الأساسية التي تواجة الثقافة الخليجية المعاصرة تكمن في عقلية الشباب الخليجي الذي يعيش حالة من التناقض او التضاد بين ما يشاهده من تطور تكنولوجي وعمراني تبنيه أيدي عاملة أجنبية وبين أحساسة بضرورة  الاعتماد على النفس في بناء حاضره ومستقبله،  فالتغيرات المادية التي تحصل حوله تشكل تحدي لشبكة العلاقات القرابية الحالية التي ينبغي ان تتغير على وفق الوعي الاجتماعي والثقافي الذي تتطلبه مرحلة التحول الحضاري  الذي تطمح له المجتمعات الخليجية في مرحلتها الحالية لتكون قادرة على تحقيق قدر كبير من التطور الاجتماعي والثقافي دون المساس بمورثها الاجتماعي الايجابي، ولعل عدم القدرة على التوفيق بين هذا الأمر وما تعيشه الأجيال الجديدة من أوضاع اجتماعية قلقة وحيرة متواصلة، يمثل ابرز التحديات التي تواجة ثقافة المجتمعات الخليجية في تاريخها المعاصر.

  ثانيا-تباين طبقي وتداخل ثقافي

ان نظرة متفحصة للواقع الخليجي ، تجعلنا نقف امام انجازات حقيقية متحققة للإنسان الخليجي، من خدمات السكن والصحة وفرص التعليم والخدمات وفرص الاستثمار وغيرها، ولاشك ان تمتع الانسان الخليجي بأوضاع معيشية وإنسانية عالية المستوى وحالة من الاستقرار اجتماعي الفريدة، يكتب  لصالح نجاح سياسات الدول الخليجية، وعلى حسب إمكانية كل دولة، في الاهتمام بالإنسان وجعله يتمتع  بحقوقه الطبيعية والإنسانية، وهو مستوى يفوق او يتواكب مع ما تقدمه المجتمعات المتقدمة لمواطنيها، وهذا الانجاز يواجه أيضا تحدي ثقافي يرتبط بطبيعة السلوك الاجتماعي وطبيعة العقلية التي تنظر الى محيطها الخارجي ، وكيف تتمكن من تقييمه برؤية فاحصة وهي تعيش مرحلة انتقال سريعة من الحالة الريفية او البدوية الى الحالة الحضرية الأمر الذي  يجعل أبناء المجتمع يعيشون بين عقليتين، هما بنية العقلية القبلية القائمة على التآزر الداخلي والاستهلاك الظاهري الذي يرتبط بالفخر والتفاخر والتطاول في البنيان والتبذير الزائد المبني على عقلية ريفية تقدر المظاهر غير العقلانية في حساب الميزانية الأسرية او الفردية مقابل عقلية حضرية سائرة نحو العقلانية وتحديد مظاهر الاستهلاك على وفق متطلبات الحياة الحضرية الأساسية وتأخذ بنظر الاعتبار حالة الادخار للمستقبل فضلا  عما تتمتع به من حالة استثمارية في مجالات مختلفة، وازاء هذا الواقع الثقافي برز في المجتمع الخليجي تنظيم طبقي له أسسه الاجتماعية والثقافية والاقتصادية مستفيدا من حالة التحول الثقافي والحضري خلال أكثر من نصف قرن من الزمن ومستندا الى بعد حضاري قامت علية كثير من المعالم الحضرية الخليجية خلال التأريخ الى جانب بروز شكل طبقي قام على اساس فائض المال دون ان يستند على بناء حضري انما جل اعتماده  مرتبط بالمورث الريفي او القبلي وهو يسكن المدينة  ويتفاعل معها ظاهرياً،  ما فسح المجال واسعا للتداخل الثقافي القبلي الحضري في المدينة الخليجية وهذا بحد ذاته يمثل تحدي للمجتمع الخليجي المعاصر لا سيما اذا سيطر النموذج الطبقي الأخير على قنوات التعليم او الخدمات او الصحة او في إي مجال حيوي آخر.لذا فان المجتمع الخليجي بحاجة الى نهضة ثقافية وتحول حضاري يشمل الفرد والمجتمع معا سواء في البيئات الريفية او البدوية او الحضرية لرسم ملامح التطور الحضاري الخليجي في عالم  تنتشر فيه مظاهر الحداثة، ما يتطلب ذلك بنية عقلية قادرة على النظر الى محيطها الخارجي سواء في المستوى المحلي او الإقليمي او العالمي، وفهم معاني كل واحد منها برؤية عقلانية قادرة على مواجهة  تحديات ثقافية اكبر، قد تفد إلى المنطقة بوسائل او أساليب مختلفة وبصور شتى سواء أكانت سياسية او ثقافية او اقتصادية او تكنولوجية واجتماعية وغيرها.

ثالثا- تراكم عولمتي وضعف انجاز

يشهد المجتمع النامي ومنه المجتمع الخليجي تراكمات ثقافية واجتماعية وفكرية وتكنولوجية قادمة من الغرب خلال القرن العشرين، وقد زاد تدفقها بشكل خطير في المرحلة الحالية حتى أصبحت المدارس والجامعات وساحات العمل في كثير من المؤسسات والهيئات المختلفة  تتطلب من العاملين فيها ثقافة غربية الى حد ما، حتى اضحت اللغة الأجنبية من شروط العمل فيها،  ربما تكون أكثر ميلا من الاهتمام بالثقافة العربية ولغتها، وهو عكس ما يجري  في مجتمع الصين والى حد كبير في اليابان وكثير من المجتمعات التي تضع ثقافتها ولغتها في أولويات تعاملاتها الاجتماعية والثقافية والمؤسساتية ، والشيء الأخر الذي بات يمثل تحدي يثير القلق لثقافة المجتمع الخليجي، هو ضعف الإنتاج الوطني على مستوى الجملة، وغياب الهيئات القومية العلمية  الخليجية التي تعمل ضمن برنامج علمي خليجي مشترك يمثل عامل تفاعل ثقافي واجتماعي له القدرة على التناغم مع بنية العقلية الخليجية المعاصرة، وهو بحد ذاته يمثل تحدي خطير ليس على مستوى الحاضر فقط انما على مستوى  المستقبل أيضا، لان عنصر الغربنة في عقلية الأجيال الجديدة الخليجية سيفتح باب صراع ثقافي بين جليين ، الاول يرى في الثقافة العربية الإسلامية عنصر أصيل ممانع للتراكم العولمي الغربي الذي يستهدف الهوية والدين ومسخ الانسان، وينبغي على أبناء المجتمع  التعامل معه بحذر، ويرى بعض أنصار هذا الاتجاه انه طالما النموذج الحضاري الغربي يمثل قوة علمية وتكنولوجية على الأرض، ونحن بأمس الحاجة  الى انجازاته المادية علينا اخذ ما ينفعنا وترك ما دون ذلك. بينما يرى الثاني في النموذج  التحديثي الغربي فرصة ذهبية للانصهار فيه دون ان يكون لنا حاجة للتراث او  ثقافة الأجداد سوى للاستذكار، الأمر الذي يتطلب من صناع القرار والمؤسسات التربوية والتعليمة والسياسية والثقافية والدينية وضع رؤى جديدة لفهم الحاضر وتطلعات أبنائه المتزايدة المدعومة بالتراكم العولمي الغربي سواء على مستوى الإنتاج التكنولوجي في المجالات كافة أوفي مجال العلوم والتطور الحياتي المتدفق الينا باستمرار دون ان يكون لدينا محاولة جادة للقيام بإنجاز حضاري يحفظ ثقافتنا وهويتنا ويدخلنا في صناعة التاريخ الحديث أسوة بمساهمة الانسان في المجتمعات المتقدمة ، لنجعل من عصرنا الخليجي، عصرا للإنتاج وازدهار الاقتصاد واثبات الذات والاعتماد على القدرات المحلية في الدفاع عن ثقافتنا وقيمنا بأسلوب علمي انجازي  بعيدا عن فن المجادلات ولغة الشعر والتغني بالماضي دون توفر القدرة الخلاقة على بعثه من جديد على أسس علمية منتجة. والمسألة الأساسية في هذا الاطار هي مستقبل الأجيال الجديدة المتأثرة بأنماط الحياة الجديدة المتصلة بثقافة الانترنت ووسائل الاتصال المتطورة،التي تعمل على بلورة القيم الفردية بدلا من القيم الجماعية ،وهذا يمثل تحدي حقيقي للمجتمع الخليجي في تاريخه الاجتماعي والسياسي المعاصر ، فكلا الاتجاهين يمثلان تحدي لثقافة المجتمع لاسيما ان مساحة استغلال ذلك باتت ممكنة من أطراف خارجية وداخلية عدة، فضلا عن انعكاسات الربيع العربي في أبعاده المختلفة التي تتيح فرص مواتية لتوظيف التراكم العولمي واستغلال ضعف الإنتاج وعدم وجود تحول حضاري نابع من داخل البنية الثقافية الخليجية، في ظل غياب ذلك يمكن ان تعمل انعكاسات ذلك الربيع بوسائل مختلفة على خلخلة المجتمع الخليجي بظروف مرتبكة قد تحصل هنا او هناك، فلا تزال العمالة الأجنبية تمثل النسبة الكبرى المسيطرة على سوق العمل الخليجي التنفيذي ( الأيدي العاملة الموظفة في شتى المشاريع) فضلا عن تنامي بعض مراكزها في الاستثمار وميدان التجارة الخليجية، وتزداد خطورة هذا التحدي، اذا ما ضعفت او تلاشت الرؤية الخليجية القائلة بقلة خطورة مشكلات العمالة الأجنبية قياسا بخطورة العمالة العربية. 

 رابعا-  التباين والازدواج بين التقليد والمعاصرة

من ابرز التحديات التي تواجة المجتمع العربي ومنه المجتمع الخليجي هي التباين بين التقليد والمعاصرة في بيئات المختلفة وكذلك في بنية العقلية العربية بشكل عام، فلازال تأثير الثقافة القبلية مسيطرا على غالبية سكان الأرياف والبيئة الصحراوية والجبلية كما أنها تسيطر على كثير من سكان المدن حتى بات كثير من المدن الكبرى العربية تعيش حالة تريف واضحة، وهذا التباين يظهر واضحا بين سكان المدن الحضريين وسكان الأرياف والزاحفين الى المدن والذي شكل تحديا خطيرا للتنظيم الطبقي بأبعاده الثقافية والاجتماعية والسياسية، وفي جانب ذلك باتت المجتمعات العربية بشكل عام والمجتمع الخليجي بشكل خاص تعيش حالة اخرى ربما  هي اشد خطورة على المجتمع  من التباين  الثقافي أعلاه، وهي الازدواجية او التداخل الواضح بين التقليد والمعاصرة حتى ارتفعت دعوات كثيرة تدعو الى ضرورة التعامل مع الثقافة الوافدة على اساس اخذ ما ينفعنا وترك دون ذلك وكأن عنصر الاختيار بأيدينا، ولعل هذا يمثل اشكالية معقدة لم تدركها العقيلة العربية التقليدية ومنها الخليجية بعد ، فيأتي الكلام سهلا وكان لدينا سلع معروضة إمامنا نختار الصالح وندع الطالح، وقد فات أصحاب هذا الرأي حقيقة واضحة ان الحضارة ، تأتي دفعة واحدة وبقوة متدفقة لأنها تمثل العنصر الإنتاجي الأقوى الذي يفرض شروطه ، وإذا كان البعض يرى عكس ذلك  ويمتلك ثقافة المانعة، ولاسيما عند جيل الإباء او الأجداد فان ذلك لا يكون ممكناً في عقود قادمة، وهو بحد ذاته يشكل تحدي أساسي لثقافة المجتمع الخليجي ، وهذا الأمر لا يجعلنا نكر ان بنية العقلية القبلية لا تزال تفرض إرادتها على المجتمع وربما تبقى كذلك في المستقبل على الرغم ما يجري من تحديث وتحضر، فلا تزال أساليب التنشئة الاجتماعية في مجتمعاتنا تقوم على اساس وجود فروق بين الذكور والإناث منذ الطفولة والمراحل العمرية الأخرى كما لا تزال في ظل المجتمعات الحضرية الحديثة تعزل النساء عن الرجال في مواقف مختلفة ربما تفوق في بعض ظروفها  ما هو متبع في بعض المناطق الريفية، الا ان التغير قادم لاريب فيه، ولن يستطيع احد ان يقف بوجهه، لذا ينبغي إعطاء هذا الأمر أهميته العملية القصوى للحد من مخاطره وتوجيهه بطريقة تخدم المجتمع بدل من مقارعته دون فائدة مرجوة، لاسيما مع استخدام الوسائل التقليدية دون وجود آليات عملية تنقل المجتمع نحو التصنيع والتحضر،  وهي مسألة تحتاج الى جهود علمية حثيثة مقترنة بإرادة سياسية صارمة، لا سيما اذا علمنا ان  بناء علاقات تعاقدية في المجتمع الخليجي الحديث لازال في كثير من جوانبه لا يرتقي الى مستوى الطموح بسبب تأثير العلاقات القرابية في شتى ميادين العمل في المجتمع، فلا تزال التفصيلات بين الإفراد في المواقع الإدارية او الرسمية والأهلية يقوم الكثير منها على اساس الواسطة وتحت تأثير العلاقات القرابية وهو ما يتناقض مع  طبيعة الحياة الحضرية المعاصرة القائمة على الكفاءة ، وقد تلاحظ بعض أشكال تلك السلوكيات بين الاوساط المتعلمين او بين الذين يتبنون الأساليب الحضرية في  حياتهم الاجتماعية والرسمية، وهو صورة اخرى من صور الازدواج السلوكي الناتج عن تأثير ثقافتين كل منهما لها سلطان على السلوك الاجتماعي في المواقف المختلفة.وبناء على هذا فان التباين بين التقليد والمعاصرة يظهر بشكل واضح في مجتمعاتنا، مما يجعل عملية التحول الحضاري ينقصها الكثير من الآليات العملية، لاسيما في التعارض والتباين الذي يظهر في عقليتين لكل منهما نظرته الى عالمه الخارجي، وهو تحدي حقيقي لتنمية وتطور المجتمع، ويمثل الازدواج السلوكي تحدي حقيقي يواجه المجتمع الخليجي في ظروفه المعاصرة.  

مجلة آراء حول الخليج