; logged out
الرئيسية / الفساد الإداري والسياسي في العراق

الفساد الإداري والسياسي في العراق

الجمعة، 01 أيار 2009

يصعب تحليل ظاهرة الفساد في العراق في ظل أجواء الاحتلال غير المتصلة بتاريخ الظاهرة وأيضاً في ظل أوضاع نظم الحكم المتتابعة على هذه الدولة، فقد عانى المجتمع العراقي من أوضاع الفساد منذ تشكيل دولته بعد رحيل الدولة العثمانية وممارستها في التسلط والتتريك خلال القرون الأربعة من حكمها.

عانى المجتمع العراقي من أوضاع الفساد منذ تشكيل دولته بعد رحيل الدولة العثمانية

انضم العراق إلى الإمبراطورية العثمانية عام 1514م، وقد عانت الدولة العراقية التي تشكلت عام 1920م تحت الانتداب البريطاني وفقاً لاتفاقية (سايكس ـ بيكو) من طغيان الانتداب الأجنبي نتيجة للترابط بينه وبين الفساد، وقاوم المجتمع العراقي هذه الأوضاع، وكان أبرز صور الرفض والمقاومة متمثلةفي تنظيمات ثورة العشرين، التي سرعت أعمالها برحيل الانتداب ليصبح العراق عضواً في (عصبة الأمم) عام 1932م، وواجهت الدولة العراقية الحديثة بعد ذلك بعام أوضاعاً غير مستقرة بسبب وفاة الملك فيصل الأول ، ثم التآمر على الملك غازي الذي انتهت فترة حكمه بوفاة غامضة، وتبعته مرحلة وصاية عبد الإله، وخلالها أعطيت الفرصة من قبل بريطانيا لإدارة العراق إلى رموز تعكس سياستها، وأدخلت السياسة العراقية في لعبة التحالفات في كواليس المسرح السياسي.

وتطلب ذلك سيادة مناخ بعيد عن الأجواء الموفرة لحقوق الإنسان، فقد قيدت حريات القوى الوطنية، وضيقت الخيارات السياسية أمام قوى المجتمع الوطنية، وعمق الاتجاه ذو البعد الواحد لنظام الحكم، وتطلب ذلك أيضاً قدراً من الاستبداد لاستمرار هذه الأوضاع المساعدة على استدامة نظام الحكم. وشهدت فترة ما بعد الحرب العالمية وحتى رحيل النظام الملكي حالة من عدم الاستقرار السياسي تأثرت خلالها قرارات نظام الحكم بالسياسة البريطانية إلى حد بعيد، وكانت أكثر أوضاع الفساد وضوحاً تلك التي تضمنت الاتفاقيات الاقتصادية حول نمط استخدام النفط، وما ترتب عليه من جمود أسعاره إلى حد بعيد، أضاع فرصاً متعددة للتنمية الاقتصادية وسعى نظام الحكم للتحالف مع بريطانيا من خلال تكوينه (حلف بغداد) للهيمنة على مسارات الأوضاع السياسية ونسق البيئة الاجتماعية، وترتب على هذه الأوضاع تباين في توزيع الدخل لتأكيد الولاءات للنظام القائم. وحفزت هذه الأجواء القوى الوطنية لإحداث تغييرات جذرية في نظام الحكم عام 1958م، وأدخلت السياسة العراقية الجديدة في خضم تناقضات تيارات القوى السياسية المتباينة، ولاسيما التيارات التي تتمحور بصورة أو أخرى تحت مظلة الأحزاب القومية أو اليسارية، وساعدت الطبيعة العسكرية للنظام السياسي في مفهومها وتكويناتها المؤسسية التسلطية في صورتها الظاهرية الحركة الوطنية في إطار التحولات من أوضاع الانتداب الأجنبي إلى حالات التكوينات المحلية الوطنية، وأدت هذه التناقضات في نهاية الأمر إلى رحيل نظام الحكم عام 1963، ومهدت السنوات الخمس التي تلت العام المذكور الأجواء السياسية لتحالفات حزب البعث العربي الاشتراكي باتجاه إحداث تغيير في نظام الحكم، والذي جرى فعلاً عام 1968، واستمر نظام حكم الحزب الواحد عبر ما يزيد على ثلاثة عقود من الزمن ساد خلالها قدر من الفساد، وانعكست مصفوفة نتائجه في فشل برامج التنمية الاقتصادية، باعتبار أن أهم متضمنات الفساد هي التشوهات الحاصلة في توزيع الموارد الاقتصادية على الاستخدامات المختلفة وما يترتب عليها من إعادة توزيع الدخل لصالح فئات دون أخرى، وكان من نتيجة ذلك سقوطه في إبريل2003، وهكذا يتضح أنه خلال هذه الحقبة التاريخية التي تمتد منذ تشكيل الدولة العراقية ولغاية سقوط النظام السابق، كانت ظاهرة الفساد في أنظمة الحكم في العراق هي القاعدة.

عمدت قوات الاحتلال على إتاحة الفرصة للسارقين بالعبث بالرموز الحضارية والثقافية للدولة في الأيام الأولى للاحتلال 

وتنحصر الفترة الزمنية للتحليل التي ساد فيها الاحتلال المباشر للعراق من قبل قوى التحالف الأمريكية-البريطانية ما بين شهر إبريل2003 وحتى وقتنا الحاضر، فقد نجحت القوات العسكرية المذكورة في احتلال العراق في 9/4/2003 خارج إطار الشرعية الدولية مستندة في صناعة القرار الأمريكي إلى سيل متدفق من أفكار مؤسسات ومراكز الدراسات الاستراتيجية، وكانت الافتراضات التي اعتمد عليها القرار الأمريكي ترتبط بصورة أو أخرى بـ (الاستراتيجية الإمبريالية الجديدة)، التي تبنتها مجموعة الخبراء الذين يطلق عليهم المحافظين الجدد والتي يتحدد في إطار هذه الاستراتيجية مستقبل القرن الأمريكي المقبل، من هنا لم يأت القرار الأمريكي لاحتلال العراق من فراغ، ولم يكن في إطار تحليل المؤامرة، إنما كان في إطار افتراضات تعتمد في صياغتها وتنفيذها إعادة هيكلة منطقة الشرق الأوسط، وأن احتلال العراق يعد مدخلاً لهذه الهيكلة الجديدة في إطار المشروع الرأسمالي الجديد، وهكذا كان قرار الاحتلال ليست بحاجة إلى الحصول على شرعية دولية لتنفيذه إنما أملته ضرورات التطور الرأسمالي، وفيما بعد ولإضفاء الشرعية الدولية في إطارها الشكلي، ولاسيما أن تفردها واجهته ضغوط داخلية وخارجية واسعة، استصدرت بعده الولايات المتحدة القرار 1483 من مجلس الأمن في 22/5/2003، وكانت هذه بداية حالة (الفساد) في العلاقات الدولية الحديثة، إذ في إطار الاتفاق العام حول تعريف (الفساد) بأنه إساءة في استعمال السلطة العامة، فإن عدم استحصال الشرعية الدولية قبل استعمال واستخدام القوة من قبل القطب المتفرد باتجاه إحدى الدول النامية وعضو في منظمة الأمم المتحدة هو (الفساد) في مفهومه الواسع على الصعيد الدولي.

ويمكن تحديد المؤشرات الرئيسية للفساد في العراق تحت الاحتلال المباشر بالآتي:

* تتوافق دوافع الفساد مع وجود سلطة الاحتلال الأجنبي، إذ بعد سيطرتها على مراكز اتخاذ القرار في العراق في إبريل2003، أصبحت كافة الموارد الرأسمالية والنقدية تحت تصرف إدارتها المدنية وحمايتها العسكرية والأمنية، واعتمدت جزءاً من هذه الثروة في تأمين الحماية لقواتها العسكرية والمدنية، وبذلك فقد تحملت الدولة العراقية أعباء كبيرة في صورة تكاليف على الموازنة العامة لا تعد مبررة اقتصادياً، ولم تكن لتلك الحماية منافع محسوسة لقوات الاحتلال، ولاسيما أن المقاومة والمعارضة أخذت تتعمق نوعياً وتتسع جغرافياً على صعيد العراق.

* ظهر الفساد جلياً بإساءة استعمال سلطة الاحتلال للبنى المؤسسية، وسرقة المحتويات النقدية للبنوك والمصارف، ونهب محتويات المخزون الغذائي والإنشائي والدوائي، وتدمير كافة المباني الحكومية، وقد عمدت قوات الاحتلال على إتاحة الفرصة للسارقين بالعبث بالرموز الحضارية والثقافية للدولة في الأيام الأولى للاحتلال مستهدفة إضعاف الدولة وبنيتها الأساسية، وليس هناك ما يشير إلى أي نوع من الحماية للسارقين والعابثين والناهبين في بنود (اتفاقية جنيف) إنما ورد في الاتفاقية المذكورة أن تعمل قوات الاحتلال على حماية البنى الارتكازية المادية والمؤسسات النقدية للدولة التي يتم احتلالها، وهذه الحقيقة لم يعد أحد يجادل حولها حيث إن الشعب العراقي برمته كان شاهداً عليها وقد وسعت تلك الأحداث دائرة الفساد في أجلى وأقسى معانيها ودلالاتها في العراق، ولاسيما أنه لم يشهد في تاريخه المعاصر مشاهد للفساد مثلما قدمه له الاحتلال.

* إن الدمار الشامل في المحتوى المؤسسي والمالي والثقافي في العراق والذي أحدثه الفساد القادم مع الاحتلال والمرافق له، أدى إلى أن تبنت سلطة الاحتلال فيما بعد إصلاح الأضرار الرئيسية التي أصابت المرافق المذكورة، وأوكلت مهمة الإصلاح ولاسيما دوائر الدولة والجامعات وشبكة المصارف والمواصلات والاتصالات إلى الجانب المدني من قوى الاحتلال والذي يطلق عليها اختصاراً (CAP)، وقد ترتب على هذا النمط من الآلية تحت مناخ الاحتلال تزايد حالة الفساد من خلال لجان مشتريات مستلزمات الإعمار ولاسيما في ذلك الجانب المتعامل مع القطاع الخاص، إذ غالباً ما يتم التعاقد على وسائل الإعمار خارج النسق القانوني بسبب غياب المؤسسات المساعدة والمراقبة على إجراءات من هذا النوع، وقد ترتب على هذه الظاهرة انتشار الفساد في مرافق متعددة.

* غالباً ما يبدأ تركز الفساد، في حالات الاحتلال في البنى الفوقية، وفي حالة العراق فإن بنيته الفوقية هي سلطة الاحتلال سواء العسكرية أو المدنية أو المالية، وقد ظهرت أوضاع الفساد في نمط توزيع وإبرام العقود بين الشركات الساعية إلى إعمار العراق وسلطة الاحتلال، إذ على الرغم من أن منافع الإعمار من الامتيازات الممنوحة إلى الشركات محددة ومعروفة في الأوساط الاقتصادية الرأسمالية، وفي نمط علاقاتها وولاءاتها مع متخذي القرار في الأوساط الرأسمالية، فإنها قد نمت أيضاً خارج الإجراءات القانونية المتعارف عليها في هكذا نسق من العلاقات الاقتصادية، وفي مقدمة هذه الشركات الشركة الأمريكية (Bechtel Group INC) التي وزعت التزاماتها من الداخل إلى شركات ومقاولين أدنى منها في المقدرة الرأسمالية وذلك بما نسبته 90  في المائة من الأعمال، وأدى هذا النمط من التوزيع ومنح الالتزامات غير العادلة إلى أضرار انعكست في ارتفاع التكاليف الاقتصادية والاجتماعية، ولاسيما أن تضخيم التكاليف يزيد من حالة الفساد في الأوساط المتعاملة مع الشركة، ولم تعط سلطة الاحتلال وزناً للأضرار الاجتماعية في محاولة منها لتقليل الأعباء التي تواجهها في العراق، ومما يؤكد ذلك أنها لم تحاول وقف الأذى والتدهور الذي أصاب وسائل ومسارات النمو والتنمية الاقتصادية.

* تشير طبيعة منح الامتيازات إلى شركات يعود منشؤها إلى دول التحالف إلى أن سلوكياتها اتجهت نحو النشاطات قصيرة الأمد، سواء كان ذلك بسبب المقاومة والمعارضة من قبل أفراد المجتمع العراقي، أو الخوف الذي ينتاب إدارة الشركات من جراء تعرض نظام الحكم للتغير ورحيل سلطات الاحتلال وتزايد احتمالات عدم التزام نظام الحكم الجديد بالاتفاقيات المبرمة سابقاً. ومن هنا فقد تفرض قوانين تحد من مظاهر الفساد، ولذلك فقد سعت إلى تحويل هذه العقود والالتزامات إلى شركات ومنشآت محلية للتخلص من حالات المخاطرة التي تواجهها في الأوساط العراقية تحت أجواء الاحتلال، وقد وسعت هذه الحالات دائرة الفساد من خلال أنماط التعاقد والاتزام بين الشركات الأجنبية ونظيرتها المحلية للفوز بالعقود الجائرة، وهكذا فإن الفساد الذي بدأ نشأته بالالتزام بين سلطة الاحتلال والشركات الأجنبية امتد إلى الأوساط والنشاطات العراقية.

* إن اتساع دائرة الفساد في العراق رافق نشأة المؤسسات بعد سقوط النظام السابق، إذ لم توافق سلطة الاحتلال على استقلالية قرارات المؤسسات الحكومية فأوجدوا انطباعاً للتدخل في الشأن العراقي مما تنعدم معه الشفافية التي يفترض أن تعمل في ظلها تلك المؤسسات، ولذلك قيدت استراتيجيتها وفقاً لنمط القيود والمحددات التي أوجدها الاحتلال، على الرغم من محاولات بعض القوى السياسية التي تعمل ضمن هذه المؤسسات في الخروج على دائرة القيود المفروضة عليها، وبذلك لم تعمل قوى الاحتلال على إيجاد تنظيمات مؤسسية وإنشائها تتمتع بطابع قانوني تمنحها الشرعية الكافية لإدارة نظام الحكم. 

مجلة آراء حول الخليج