; logged out
الرئيسية / تركيا وإيران ومواقع النفوذ الجديدة في الشرق الأوسط

تركيا وإيران ومواقع النفوذ الجديدة في الشرق الأوسط

الأربعاء، 01 نيسان/أبريل 2009

بدأ الاهتمام أكثر بالعلاقات الإيرانية-التركية بُعيد العدوان الصهيوني على قطاع غزة بداية العام الجاري، حينها كانت المنطقة تموج بين أحلاف الإقليم (ممانعة/ اعتدال) والتي أدّت إلى تقريب دول من بعضها وإبعاد أخرى إلى حدّ الشقاق. وفي نقطة النظام الواجبة هنا تُصبح المعادلة كالتالي: في حرب يوليو 2006 والعدوان الصهيوني على غزّة هو في عُمقه اعتداء على أطراف نوعية لإيران. فلبنان وفلسطين إحدى أهم (الإعاشات) السياسية لطهران في المواجهة المفتوحة مع الغرب.

قال ذلك جهاراً رئيس البرلمان الإيراني علي أردشير لاريجاني بأن غزّة مرتبطة بالأمن القومي الإيراني، وأن حزب الله اللبناني مرتبط كذلك، مما يعني امتداداً أمنياً عسكرياً جغرافياً يبدأ من الخليج ويلتوي في الأعلى صوب الشام والهلال الخصيب.

نقول هذا الكلام ونحن مقتنعون بأن سوريا وإيران أدارتا المعركة مع الكيان الصهيوني منذ ثمانينات القرن الماضي وفق معادلة (نقل الصراع مع العدو إلى مجاله الحيوي). وبالتالي استنزافه على أرضه بامتياز لتحقيق أكثر نسبة ممكنة من الإيذاء.

ولأن المشهد الأقرب إلى الحال هو ما جرى في غزة مطلع هذا العام فإن القراءة من (كُوّة) هذا الملف هي الأسلم والأكثر تحديداً للتحالفات المنفرطة وتلك المنعقدة بعد العدوان، وهي قبل كل شيء أفرزت بشكل لافت طبيعة الصراع العربي-العربي من جهة، والعربي-الإيراني من جهة أخرى.

وفي أهمية الملف الفلسطيني بالنسبة لطهران، نستحضر الدبلوماسية الإيرانية إبّان الحرب الصهيونية على غزّة. فخلال أيام العدوان زار رئيس البرلمان الإيراني علي لاريجاني دمشق وأجرى مباحثات مع قادة فصائل المقاومة الفلسطينية حول الأوضاع في غزة. وقبلها قام رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني سعيد جليلي بزيارة مماثلة إلى سوريا التقى خلالها رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل والأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي رمضان عبدالله شلح وعدداً آخر من القيادات الفلسطينية، ثم في لبنان مع أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله .

وطيلة ثلاثة وعشرين يوماً بلغ عدد المبعوثين الإيرانيين إلى دول أوروبية وآسيوية وإفريقية أكثر من اثنين وعشرين مبعوثاً شخصياً من الرئيس محمود أحمدي نجاد لتسويق وجهة النظر الإيرانية وإعطاء الدول مرئيات طهران حول الأزمة .

كما جرت اتصالات مزدوجة في آن واحد، وطار مبعوثون إيرانيون إلى المنطقة،فوزير الخارجية منوشهر متكي بعث برسالة إلى نظيره المصري،وأعرب عن استعداد إيران لإقامة مستشفى ميداني لعلاج المصابين الفلسطينيين بالقرب من الحدود المصرية.

وكانت حينها الدبلوماسية الإيرانية تسعى إلى إيقاف العدوان،ثمّ فك الحصار عن قطاع غزة، لكن المشكلة التي واجهتها طهران في ذلك هي ضيق مساحة التحرك الدبلوماسي، بعكس التحرك الأمني والاستخباراتي التي كانت تنشط فيه عبر وسائل مختلفة لتدعيم خط المواجهة مع تل أبيب والذي تتبناه عدد من الفصائل الفلسطينية وفي طليعتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي.

إن أنقرة يحكمها اليوم نظام علماني ولكن ناصيته باتت إسلامية 

إن إيران تُعاني من ثقة بينية مهلهلة مع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا. وإذا كان هناك ثمّة تعاون فإنه خاضع لحسابات اقتصادية واستثمارية بحتة، والتفاف على العقوبات كما هي الحال مع ألمانيا والنمسا وسويسرا.

وفي هكذا ظروف تشتغل الدبلوماسية الإيرانية لإنتاج وسيط (يطمع في مصالح متواضعة لكنها مُلحّة). ورأينا ذلك في لبنان عندما دخلت دولة قطر على خط الصراع بين الأطراف اللبنانية، وتمّ اتفاق الدوحة بين المعارضة والموالاة على أراضيها. وهذا ما حدث في غزّة أيضاً. ورأت طهران في الأتراك وسيطاً تحكمه أربعة متغيرات رئيسية، وهي كلها عوامل أو متغيرات تسمح بأن يتحوّل هذا الوسيط إلى قيمة مضافة إلى الدبلوماسية الإيرانية، وليس متقاسماً معها كشريك غالب.

 المتغيّر الأول: إن أنقرة يحكمها اليوم نظام علماني، ولكن ناصيته باتت إسلامية أو أقرب من ذلك، وأعني به حزب العدالة والتنمية. وبالتأكيد هو لن يكون نظاماً دينياً أو حتى آلية متماثلة مع ذلك لمرحلة آنية، لكنه أيضاً لن يكون كحكومة ديميريل أو تشيلر أو يلماظ أو حتى أجاويد.

فحزب العدالة جاء إلى السلطة بأغلبية مريحة، حيث نجح في انتخابات عام 2002 ونال ثلثي مقاعد البرلمان. وفي الانتخابات البلدية في مارس 2004 حقّق فوزاً جيداً بحصوله على 42 في المائة من الأصوات والسيطرة على المدن المهمّة كأنقرة العاصمة واسطنبول.

وضمن هذا الصعود الديني (المعتدل) أراد حزب العدالة والتنمية أن يقيم له مداميك شرقية، تبدأ من أكثر الملفات كسباً وحساسية بالنسبة للعالمين العربي والإسلامي كاستحقاق طبيعي لتوجهاته.

طهران ستستفيد قطعاً من الوساطة التركية بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني

وأراد الحاكم السياسي الجديد أن يكسر الغبن التاريخي الذي أصاب علاقات تركيا مع الشرق (المسلم) بفعل الأتاتوركية المتطرفة، وهو يسعى في ذلك كتكريس طبيعي للبراغماتية التركية في العلاقات الدولية، وهي التحرك في كافة الاتجاهات من دون الركون إلى خيار يتيم، وهكذا كان.

وكل من تابع تصريحات رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بشأن القضية الفلسطينية سيشهد بأنها كانت مواقف حادّة تجاه حكومة العدو، بدءاً من إدانته للهجوم الصهيوني على غزّة، ومروراً بـ (حادثة دافوس)، وانتهاءً باستقالة جميع أعضاء لجنة الصداقة الصهيونية-التركية في البرلمان التركي.

وربما عكس ذلك السلوك التركي الجديد امتزاج مفاعيل جديدة في أنوية السياسة العلمانية (المتأسلمة) تتعلّق بالاتجاهات والميول الدينية الجديدة التي تأسّس عليها الحزب وطبع سياسات بلاده بها. وهي إن جَنحت (أي تركيا) صوب الشرق الأوسط فلأنها تتطلع إلى منطقة الشمال فيه، التي تتواجد في المنطقة الانتقالية للحوض البري القريب (القوقاز – الشرق الأوسط – البلقان) وحوض شرق البحر الأبيض المتوسط وبلاد الرافدين والحدود الجنوبية إلى تركيا.

أراد الحاكم السياسي الجديد أن يكسر الغبن التاريخي الذي أصاب علاقات تركيا مع الشرق (المسلم) بفعل الأتاتوركية المتطرفة

إن حوض الانتقال الجيواقتصادي والجيوسياسي لمنطقتي القوقاز والشرق الأوسط اللتين ازدادت علاقة التبعية بينهما بعد تفكك توازنات البنية ذات القطبين لمرحلة الحرب الباردة، يُخفض الحزام الاستراتيجي الذي يبدأ من شمال القوقاز إلى خليج البصرة عبر بلاد الرافدين، وإلى شرق المتوسط عبر منطقة طوروس وحرّان.

 المتغير الثاني: إن تركيا وقبيل الغزو الأمريكي للعراق بدأت في علاقات غير مستقرة مع الولايات المتحدة. فقد رفضت أنقرة المشاركة في الحرب بقرار سياسي جريء اتخذه حزب العدالة والتنمية غيّر من صدارة الجيش ودوره في صياغة المعادلات الصعبة في الداخل والخارج.

ونتيجة لذلك التحوّل، فقد بدّلت تلك المعادلة من الجفاء الأمريكي مع المملكة العربية السعودية، التي أثّرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر في علاقاتها الاستراتيجية مع واشنطن. فأعادت الولايات المتحدة الثقل مرة أخرى إلى الرياض كبديل عن أنقرة، وغدا الأمر وكأنه فرز جديد للقوى الإقليمية التي تلعب دورها في الملفات الملتهبة، ويُقام معها التنسيق الأمني والسياسي.

 

المتغيّر الثالث: إن التقارب الإيراني-التركي بشأن قضايا المنطقة جاء لحسم الكثير من الملفات في القوقاز وعموم آسيا الوسطى وقضايا التعاون التجاري. فالمعادلة تقضي أن تمنح إيران الأتراك فرصة الوصول إلى أكثر الملفات حساسية في المنطقة (فلسطين) في مقابل حصول الإيرانيين على مجال أوسع في التحرك شمالاً عبر البوابة التركية، وأيضاً التعاون في مجال مكافحة الانفصاليين الأكراد، وخاصة حزبي (بيجاك) والعمال الكردستاني.

وفي مجال الطاقة فإن الغاز الإيراني المُباع لسويسرا يمر عبر الأراضي التركية، فأنقرة لديها اتفاقيات جمركية متقدمة مع الاتحاد الأوروبي، مما يعني مجالاً حيوياً لطهران للوصول إلى شمال أوروبا. كما أن البلدين يتطلعان إلى توسيع علاقاتهما التجارية ضمن منظمة التعاون الاقتصادي (أكو). فهذا التجمّع يُمثّل خاصرة آسيوية ناهضة لأنه يضم عشر دول هي بالنسبة لتركيا جوار وأمن قومي، وهي إيران وأذربيجان وقيرغيزستان وأوزبكستان وطاجيكستان وكازاخستان وباكستان وأفغانستان وتركمانستان، بالإضافة إلى تركيا.

ولأن تركيا عانت كثيراً من القيود التي فرضتها بعض الدول الأوروبية ومنها فرنسا على أجزاء متعددة من صناعاتها كالنسيج، فقد اتجهت شرقاً منذ عام 1993 وبالتحديد صوب إيران التي تمثّل بالنسبة لها جانباً مهماً في جنوب غرب القارة الآسيوية.

والنقطة الأهم في ما يتعلق بجوار تركيا هي أن طهران لديها علاقات متميزة مع أرمينيا التي تعيش علاقاتها مع تركيا أزمة منذ بدايات القرن العشرين بسبب إبادة الأرمن، مما يعني نافذة جديدة وقريبة للأتراك لحلحلة القضية ومتعلقاتها كقضايا التعويضات والأراضي المقتطعة.

 المتغيّر الرابع: أراد الإيرانيون الاستناد إلى دول ذات ثقل إقليمي ودولي لتكريس خياراتهم في المنطقة. فموقف حكومة العدالة والتنمية الإيجابي من حكومة (حماس) يصبّ في المصلحة الإيرانية المباشرة.

فإيران أتعبها كثيراً موضوع المقاطعة الدولية لحكومة إسماعيل هنيّة واشتراطات الرباعية الدولية، وكلفها ذلك أكثر من مليار دولار في السنة الأولى من حكم حماس. وإذا ما دخل طرف قادر على الوصول إلى الجميع فإنه يعني سنداً لازماً في هذه المرحلة على الأقل.

وعندما تحصل الحكومة المقالة على دعم من صوب تركيا التي تعتبر بوابة استراتيجية مع الغرب فإن ذلك يُؤهل طهران (ومعها حلفاؤها الفلسطينيون) لأن تناور عبر الحديقة التركية، وربما تنسج علاقات أوسع مع أطراف أوروبية أيضاً.

وكذلك فإن طهران ستستفيد قطعاً من الوساطة التركية بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني، كما هي الحال مع سوريا. إذ إن ذلك قد يُعدد من الأطراف الإقليمية القادرة على إجراء وساطات بين الخصوم، وبالتالي تُصبح المفاضلة قائمة مع أطراف أخرى كمصر والأردن.

فتركيا طرف مقبول عربياً وإسلامياً وأوروبياً وأمريكياً، وقد مكّنها ثقلها من أن تحضر القمم التي عقدتها دول ما يُسمى الممانعة، وقمم ما يُسمى محور الاعتدال، فحضرت قمة الدوحة وحضرت قمتي الكويت وشرم الشيخ.

وضمن هذا الخيار ستكون المكاسب الإيرانية جيدة، فهي مقتنعة بقدرات حلفائها العسكرية على الأرض نتيجة للدعم اللوجستي الكبير الذي تقدمه لتلك الأطراف، ولا يبقى عليها سوى الانتظار إلى ما بعد المعركة المباشرة، أي فترة التسويات السياسية لتلعب دورها في ممارسة الضغوط على الطرفين والخروج بصيغ مقبولة من الجميع.

والآن يصبح الحضور التركي في المنطقة عاملاً جديداً لن تظهر آثاره اليوم، وإنما بعد أمد حين يظهر نظام المصالح المُشيّد على الصّد والتحالف والتنافر بين دول المنطقة. وحينها يستلزم من الجميع أخذ مواقع متقدمة في المعادلة لكي لا يتحولوا إلى (فرق عملة).

 

مقالات لنفس الكاتب