; logged out
الرئيسية / تركيا والعالم العربي: خطوات أولية نحو إعادة الاعتبار للعلاقات الاستراتيجية

تركيا والعالم العربي: خطوات أولية نحو إعادة الاعتبار للعلاقات الاستراتيجية

الأربعاء، 01 نيسان/أبريل 2009

ما يجمع تركيا والعالم العربي قواسم مشتركة عدة، لكن قلة من مصالح وسياسات وهموم إقليمية أشغلت كل طرف عن الآخر فترة من الزمن. وقد اتجهت كافة المؤشرات منذ بداية القرن الحادي والعشرين نحو إعادة النظر في تلك المصالح، فلوحظ حراك سياسي واقتصادي تركي باتجاه هذه المنطقة أسفر عن تعزيز الثقة وفتح أبواب التعاون وتدشين علاقات واسعة لم تشهد مثلها العلاقات العربية–التركية من قبل.

لقد شتت تشعب اهتمامات ومصالح تركيا الإقليمية والدولية جهدها الخارجي خلال القرن العشرين بمجمله. فهي بحكم موقعها القريب من أوروبا فضلت الاهتمام بعلاقاتها الغربية فأعطتها كل اهتمامها، ثم أولت منطقة آسيا الوسطى والقوقاز (التي تنطق بلغتها أو تنحدر من أصول مشتركة معها) في عقد التسعينات أهمية قصوى في اهتماماتها الخارجية. أما المناطق القريبة منها والتي تتشارك معها إرثاً تاريخياً وحضارياً وسياسياً واقتصادياً كالمشرق العربي ومنطقة الخليج العربي فلم تولهما ذلك الاهتمام الكافي إلا بمقدار ارتباط تركيا بالسياسات والأحلاف الغربية أو بقدر احتياجاتها النفطية.

أظهر تمكن إيران من تطوير برنامجها النووي أن تركيا أصبحت أمام تحد كبير

لقد أسفرت عوامل إقليمية وداخلية عدة عن إعادة تعريف أو اكتشاف تركيا لمصالحها القومية الذاتية، مبتعدة قليلاً عن رهن كل تحركاتها في الشرق الأوسط لارتباطاتها الغربية. فعلى الصعيد الإقليمي فرضت حرب العراق على تركيا تحديات جديدة أظهرت اهتمام حليفتها الولايات المتحدة بمصالحها الذاتية أكثر من اهتمامها بمصالح حلفائها في المنطقة ومنها تركيا. وتبع ذلك ظهور دور إيراني محوري في العراق المحاذي لتركيا مع شبه غياب لها فيه. ثم أظهر تمكن إيران من تطوير برنامجها النووي، أن تركيا أصبحت أمام تحد كبير، بسبب وجود دولة إقليمية بحجم إيران تتطلع إلى أدوار كبيرة في المنطقة قد تسفر عن عدم تمكن تركيا من ممارسة أي دور فاعل في المستقبل إلا من خلال إيران؛ مما يجعل سياساتها الشرق أوسطية ثانوية وغير ذات أهمية. أما القوة الإقليمية الكبرى الأخرى وهي إسرائيل، التي تحظى بأفضلية واشنطن وبشراكتها الاستراتيجية، فإن تركيا لم تعد تشاطرها الهواجس ذاتها، وقد أسفرت حرب غزة الأخيرة عن تباعد في الرؤى واختلاف في وجهات النظر، بل تبادل الاتهامات أيضاً، مما يشير إلى أن عهد التوافق التام قد يخضع للمراجعة. وعندها، أين ستكتشف تركيا نفسها ومكانتها في ضوء وجود قوتين إقليميتين كبريين في المنطقة الجغرافية المحاذية لها؟

أما على الصعيد الداخلي، فلا شك في أن فترات الاضطراب والتقلبات الحزبية والحكومات الائتلافية الضعيفة والانقلابات التي سادت الحياة السياسية التركية في النصف الثاني من القرن الماضي قد وجدت نهاية لها لأول مرة في بداية القرن الحادي والعشرين. فظهور حزب العدالة والتنمية وسيطرته المتدرجة على الجمعية الوطنية فالحكومة ثم الرئاسة، بالإضافة إلى كثير من البلديات ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الاقتصادية والإعلامية، دفع تركيا نحو سياسات لم تكن معهودة من قبل؛ فكل شؤون الحياة الداخلية والخارجية أجرت عليها مراجعات، ولم يكن هناك شيء غير قابل لإعادة الهيكلة وإعادة تشكيل دوره (باستثناء المؤسسة العسكرية التي تراقب عن كثب تلك التحولات). ونتيجة لذلك، استتبت الحياة السياسية وشهدت استقراراً غير معهود، وتنامت الحياة الاقتصادية ونهض الاقتصاد بعد أن كان على شفا الانهيار، فتفرغت الدولة من الهم الداخلي نسبياً، وأصبح لديها متسع للنظر في المصالح الخارجية من المنطلق الذاتي وليس فقط من منطلق ارتباطاتها بالأحلاف المعهودة.

لقد كانت تغيرات العقد الحالي هي ما أدت بتركيا إلى تحديد مسار جديد لسياستها الخارجية تجاه الشرق الأوسط، وارتكزت السياسة الجديدة على محاولة تنشيط الدبلوماسية التركية فيها، وعلى التأسيس لدور مستقبلي قائم على المصلحتين السياسية والاقتصادية.

أما على الصعيد السياسي، فقد اتجهت نحو إعادة النظر في علاقاتها السابقة بالمنطقة، فبدأت بسوريا التي شهدت علاقتها معها في نهاية التسعينات توتراً كاد يوصلهما إلى الحرب، إلا أن الطرفين سارعا إلى إزالة عوامل التوتر. ومع وصول حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا، كانت سوريا من بين الدول الأولى التي تمت إعادة النظر في العلاقة معها، فبدأت الزيارات الرسمية المتبادلة وانتعشت العلاقات التجارية والاقتصادية بينهما، وتوجت بدخول تركيا طرفاً أساسياً في الوساطة بين سوريا وإسرائيل في مفاوضاتهما غير المباشرة بشأن تسوية النزاع بينهما، حتى كادت أن تنجح في تلك المساعي. ولم يكن للطرفين السوري والإسرائيلي التوصل إلى نقطة متقدمة من المفاوضات غير المباشرة حتى اقتربت من المفاوضات المباشرة لولا الثقل الذي تمثله تركيا لدى الطرفين، فهي من أهم الشركاء التجاريين لسوريا وتشترك معها بحدود طويلة، بينما تمثل حليفاً أمنياً وعسكرياً لإسرائيل رغم إلغاء عدد من عقود التعاون العسكري بينهما في السنوات الأخيرة.

برز الدور السياسي التركي الجديد بأوضح صوره خلال الحرب الأخيرة التي شنتها إسرائيل على غزة

وقد برز الدور السياسي التركي الجديد بأوضح صوره خلال الحرب الأخيرة التي شنتها إسرائيل على غزة، فقد أعطى ذلك انطباعاً إيجابياً لدى الرأي العام العربي بشأن تحول تركيا للمرة الأولى من طرف محايد بعيد عن نزاعات المنطقة إلى طرف فاعل سعى بكل ثقله إلى إدانة العدوان، بل توجيه اتهامات لرئيس الحكومة الإسرائيلية بعدم احترام تركيا، ثم مجادلته المشهورة للرئيس الإسرائيلي في دافوس. ولعل المهم في هذه التطورات ليس التحول الظاهر بتغير نبرة الخطاب الرسمي التركي، بل الأهم هو التحول الأبرز الذي تمثل بالتأييد الواسع الذي حظيت به الحكومة من قبل الشعب التركي، وهو ما يعول عليه حزب العدالة والتنمية في الحصول على مزيد من دعمه في أي انتخابات مقبلة تأسيساً على سياسته الجديدة.

أما سياسة تركيا تجاه دول الخليج العربية، فقد شهدت تطوراً مهماً مع توقيع مذكرة التفاهم التركية-الخليجية في سبتمبر الماضي. فقد كانت إشارة وزير الخارجية التركي علي باباجان إلى أن تركيا (تولي أهمية كبيرة لأمن الخليج واستقراره، وهي ستكون في طليعة الدول التي قد تتأثر بشكل مباشر بأي تدهور أمني هناك كانت إشارة مهمة إلى أن هناك رغبة مشتركة بين الطرفين في تدشين علاقة استراتيجية، ربما تكون موجهة إلى إيران في ضوء سياستها تجاه دول الخليج وتمسكها باستكمال برنامجها النووي، بما يثيره ذلك من مخاوف تعني تركيا مثلما تعني دول الخليج العربية.

ولذلك فالمرجح أن تستمر الجهود التركية في السعي نحو مزيد من الاندماج في شؤون المنطقة السياسية، وهو سعي ينم عن توجس تركيا من هيمنة إيرانية أو إسرائيلية على المنطقة بما قد يلحق ضرراً بمصالحها، ويجعلها دولة هامشية في هذه المنطقة الحيوية التي تجاورها، والتي تمثل أي اضطرابات كبرى قد تقع فيها تهديداً لأمنها القومي.

أما على الصعيد الاقتصادي، فقد شهد العقد الحالي تحولات كبيرة في التوجه التركي نحو منطقة الشرق الأوسط عموماً، ومنطقة الخليج العربي على وجه التحديد، فقد تزايد الطلب التركي على النفط والغاز مع التطور الذي تشهده الصناعة التركية، وهي تعتمد اعتماداً يصل إلى نسبة 90 في المائة على النفط المستورد من الخارج. وقد وجدت تركيا نفسها في حاجة إلى توطيد العلاقة مع دول الخليج العربية بعد أن انخفضت التوقعات بشأن نفط بحر قزوين الذي أظهر أنه لا يسهم إلا بجزء يسير من متطلبات الطاقة بالنسبة لتركيا. كما أبدى الرئيس التركي عبدالله غول رغبة تركيا في استيراد وشراء الغاز المسال من قطر بعد عام 2010، وأشار إلى أن هناك مشاريع طويلة المدى لإيصال الغاز عبر أنابيب إلى تركيا.

كما أغرت تركيا التحولات التي شهدتها دول الخليج العربية على صعيد الاستثمارات الأجنبية، حيث لجأت تلك الدول بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلى إعادة النظر في المناطق التي تستثمر فيها، فرغبت تركيا بأن توفر ملجأ آمناً لتلك الاستثمارات بعد أن تعافى الاقتصاد التركي وشهد نمواً مطرداً واستقراراً لافتاً. ومع الطفرة النفطية الأخيرة وما تولد عنها من فوائض مالية، سعت تركيا إلى تمتين علاقاتها مع دول الخليج العربية بهدف اجتذاب تلك الفوائض للاستثمارات فيها. وقد عقدت مؤتمرات عدة لرجال الأعمال الأتراك والخليجيين في سبيل تعزيز العلاقة الاقتصادية وزيادة المبادلات التجارية وتنمية الاستثمارات. ولعل توقيع الاتفاقية الإطارية لإقامة منطقة تجارة حرة بين الجانبين عام 2005 في المنامة كان مؤشراً واضحاً إلى رغبتهما في تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية ووضعها ضمن أطر محددة تستهدف الوصول إلى علاقات تعاون واعتماد متبادل.

إن معظم المؤشرات الراهنة تذهب إلى أن العلاقات العربية – التركية، ستشهد تطوراً ملحوظاً في المستقبل القريب، على الصعد الاقتصادية والسياسية والأمنية والعسكرية، نظراً لوجود هواجس مشتركة، فضلاً عن المصالح والقواسم المشتركة التي أعيد اكتشافها.

مجلة آراء حول الخليج