; logged out
الرئيسية / الشراكة التركية في قضايا الشرق الاوسط

الشراكة التركية في قضايا الشرق الاوسط

الأربعاء، 01 نيسان/أبريل 2009

طرأ تغير مهم على دور تركيا في السياسة الشرق أوسطية، وتدرج من مجرد مراقب للأحداث إلى شريك فاعل في قضايا المنطقة خاصة بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتشدد مواقف أنقرة حيال إسرائيل، وقد سبق هذا تنامي الدور التركي في المنطقة وخاصة على مسار السلام السوري، وهو ما أسفر عن مفاوضات سورية – إسرائيلية غير مباشرة عبر الوساطة التركية.

ظهر رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في الآونة الأخيرة خاصة بعد حرب غزة وزيارته إلى العديد من الدول العربية وخاصة السعودية والأردن ومصر وسوريا، في مسعى سياسي إلى تمرير مبادراته السلمية، بما فيها انتشار قوات سلام تركية على حدود قطاع غزة. ويتردد الآن في الأوساط السياسية التركية أن أنقرة تأمل في استئناف محادثات السلام السورية – الإسرائيلية بعد تشكيل الحكومة الجديدة في إسرائيل، على الرغم من الأحداث المأساوية التي شهدتها غزة أثناء عملية (الرصاص المصبوب) الإسرائيلية، واتهام الحكومة التركية لتل أبيب باقتراف جرائم حرب في غزة، فيما طالب أردوغان حتى بفصل إسرائيل من عضوية الأمم المتحدة بسبب عدم التزامها بقرار مجلس الأمن الدولي (رقم 1860) ومواصلتها للعملية العسكرية في قطاع غزة.

وقال أردوغان (كيف يسمح لبلد لا يلتزم بقرارات مجلس الأمن الدولي أن يدخل باب الأمم المتحدة؟)، حتى إن بعض الأتراك شبهوا رئيس وزرائهم بـ (الخليفة العثماني الجديد) أو (الفاتح الجديد).

إذاً، ظهور تركيا في الآونة الأخيرة بمظهر المتحمس لتبني دور جديد جعل المراقبين يميلون إلى الاعتقاد بعودة ما يسمى (العثمانية الجديدة)، مما حفز التساؤلات عن ماهية الأهداف التي تسعى أنقرة إلى تحقيقها من جهودها لإحلال السلام في الشرق الأوسط خاصة على المسار السوري؟ وهل ستتمكن أنقرة من إرسال وحدات تركية لحفظ السلام على حدود قطاع غزة بعد المواجهة بين أردوغان والرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز في دافوس؟ وهل ستتواصل الوساطة التركية في المفاوضات السورية – الإسرائيلية، إذا ما تم استئنافها؟ وكيف تنعكس المواجهة التي لا تفتر بين أنصار سبل التطور الإسلامي والعلماني على سياسة تركيا الخارجية؟ وبالإجمال، هل ستمضي أنقرة في سياستها الشرق أوسطية؟

إن الإجابة عن هذه التساؤلات المطروحة، يجب أن تستند إلى الإقرار بأن العلاقات العربية - التركية كانت دائماً ضعيفة في مجملها، نظراً لما اتسم به الدور التركي بوجه عام في السابق بعدم القدرة على فرض إرادته أو المشاركة في صنع القرارات الخاصة بالمنطقة، وهي القرارات التي قد تثير إشكاليات عديدة لتركيا، حيث لم تلق محاولاتها الرامية إلى الخروج من هذا الوضع خلال العقود المنصرمة أي تجاوب مباشر مع الدول المجاورة. ورغم بعض الانفتاح الذي شهدته في السنوات الأخيرة، خاصة مع سوريا والعراق، لا يكاد العرب يستفيدون شيئاً من قوة تركيا المتصاعدة في النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية على مسرح السياسة الدولية الإقليمية.

 أنقرة تلعب على وتر موقعها الاستراتيجي وعلاقاتها المهمة ببقية اللاعبين في المنطقة 

ففي المجال الاقتصادي على سبيل المثال وليس الحصر، فلا توجد حتى الآن بنوك أو مؤسسات تجارية تركية - عربية مشتركة تعمل في تركيا أو في أي بلد عربي، مع ملاحظة ندرة المشاريع والعقود، مقارنة بما تم توقيعه مثلاً مع إسرائيل، إلى جانب تدني حجم التبادلات التجارية بين تركيا وأغلب البلدان العربية الأخرى، على الرغم من توافر كافة المحفزات التي تدفع إلى تنشيط العلاقات الاقتصادية بين الجانبين. وفي المقابل، تنشط الصفقات الاقتصادية والعسكرية مع إسرائيل، وتشير التقديرات إلى أن حجمها يصل إلى مليارات من الدولارات، منها صفقة تتضمن قيام الصناعات العسكرية الإسرائيلية بتطوير 30 من الطائرات الحربية من طراز (فانتوم)، تابعة لسلاح الجو التركي، كما وقعت وزارة الدفاع التركية مع مؤسسة الصناعات الجوية الإسرائيلية عقداً بقيمة 400 مليون دولار، للقيام بأعمال الصيانة والتصليح والتحسين على الأسطول التركي من طائرات (إف-14) الأمريكية الصنع. وبلغت قيمة الواردات العسكرية التركية من إسرائيل ما قيمته ثلاثة مليارات دولار منذ توقيع الاتفاقية الأولى حتى الآن.

وفي المجال السياسي، كان من الملاحظ تدني مستوى المشاورات العربية - التركية بشأن القضايا الملحة في العالم العربي وعلى رأسها القضية الفلسطينية، اللهم سوى التدخل التركي الأخير في القضية الفلسطينية وما سبقه من بعض الرفض العلني والمكتوم للسياسات الأمريكية المتعلقة بالموقف من احتلال العراق.

 البوابة الأوروبية

إذا كان الواقع يقول إن دوام الحال من المحال، فإن تركيا عمدت إلى تجاوز هذا الواقع الاقتصادي والسياسي، وباشرت في مراجعة مواقفها الدولية والإقليمية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق في مطلع تسعينات القرن الماضي، وأجرت عملية تقييم لدورها في ضوء موازين القوى الجديدة، ثم أخذت تحدد دورها، وترسم سياستها الخارجية، انطلاقاً من قناعتها بأن لها دوراً مهماً في الاستقرار في منطقة القوقاز ووسط آسيا ومنطقة الشرق الأوسط وفي الاستقرار الإقليمي بصفة عامة. ومن هنا، تنامى الدور التركي في المنطقة وفي السياسات الشرق أوسطية تحديداً بشكل لم يكن معهوداً فيما سبق، ولم يكن هذا الدور وليد اللحظة أو مجرد رد فعل لحدث معين، بل كان ضمن توجه استراتيجي تحكمه تحولات المعادلة الإقليمية ولغة المصالح وديناميكية دور أنقرة وانفتاح علاقاتها العربية والإسرائيلية.

ثمة توجه تركي جديد يميل إلى القول إن مستقبل تركيا هو في آسيا وليس في أوروبا

وإذا كانت أحداث وتطورات الحرب الإسرائيلية على غزة دافعاً إلى محاولة تركيا تكثيف دورها المحوري في السياسات الشرق أوسطية للتقدم بمبادرات وتبني مواقف سواء حيادية أو ضد إسرائيل، فقد سبق هذه الأحداث بعض الدوافع التي دفعت بتركيا إلى الاتجاه شرقاً إلى المنطقة العربية، ومن أهمها يأس أنقرة من فتح البوابة الأوروبية لها بعد أن ناضلت وصبرت لسنوات وقدمت التنازلات العديدة لخطب ود الأوروبيين من أجل الانضواء تحت عباءة الاتحاد الأوروبي لكن دون جدوى. وكان صعود حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى الحكم في تركيا العقبة الأكبر التي جعلت القيادات الأوروبية الجديدة تمتنع عن إعطاء أنقرة صك الانضمام إلى الاتحاد تحسباً للسياسات الإسلامية لحكومة العدالة والتنمية وقيادة أردوغان الذي يصوره الأوروبيون على أنه أحد الإسلاميين الجدد الذين يتوقون إلى بعث ما سبق وذكرناه بـ (العثمانية الجديدة).

لم يكن أردوغان وحيداً في الساحة السياسية التركية في الميل نحو التوجه العربي والشرق أوسطي

ولم يكن أردوغان وحيداً في الساحة السياسية التركية في الميل نحو التوجه العربي والشرق أوسطي، فقد دعمه وناصره الكثيرون من صناع القرار السياسي، مشددين على أن تركيا ستواصل دورها الجديد، والسعى بجدية للإسهام في حلول مشكلات منطقة الشرق الأوسط، وستواصل سعيها لتغير واشنطن موقفها من حركة حماس، وإشراكها لا عزلها ومحاصرتها.

وفي هذا الاتجاه أعلنت تركيا طرح فكرة عقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط في اسطنبول، على غرار مؤتمر مدريد الذي انعقد عام 1991 يتم فيه تجنب أخطاء مدريد الذي تم استثناء إيران من المشاركة فيه. وأن تشارك في المؤتمر المقترح إيران وتركيا والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة والولايات المتحدة بالإضافة إلى أطراف الصراع. وتعتقد الحكومة التركية، أن رعايتها للمفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل مهدت الطريق لاقتراح عقد مثل هذا المؤتمر، رغم ظهور العقبات العديدة التي ستؤدي إلى إفشال الاقتراح التركي، وذلك من جهات عدة، خاصة بعد المواجهة الشهيرة بين أردوغان والرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز خلال منتدى دافوس في سويسرا. وكما يقول محللون أتراك، فإن ميلاً من جانب بعض السياسيين الليبراليين الأتراك يؤيدون فكرة انبعاث الميل العثماني التركي، وهذا ما جعل الأتراك يستقبلون أردوغان استقبال الأبطال، إثر عودته من دافوس، وحملت الحشود لافتات تسميه بـ (فاتح دافوس). وقال مواطنون أتراك إن أردوغان أيقظ مارداً دخل في سبات نحو قرن من الزمن، ويبحث في الوقت الراهن عن دور فاعل على الساحة الدولية، وقد وجد ضالته المنشودة في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.

 التوافق الأمريكي

لا يقتصر الدور الذي تريده تركيا لنفسها على المشاركة في إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، وإنما يشمل دورها وانخراطها المتزايد في العراق وسوريا وإيران ولبنان. ففي العراق ترى أن لها دوراً أساسياً في عراق ما بعد الانسحاب الأمريكي، وإصرارها على أن الوجود العسكري الأمريكي على المدى الطويل في العراق، مهما كان حجمه، يجب ألا يشكل تهديداً لها ولجيران العراق، خاصة في الشمال العراقي حيث تراه مصدر قلق كبيراً لها، علاوة على الخلاف بين تركيا والولايات المتحدة بشأن المسألة الكردية، وهي بالمناسبة ليست مصدر القلق الوحيد بين أنقرة وواشنطن، حيث تشهد العلاقة بين الطرفين هبوطاً وصعوداً، وفتوراً وتوتراً في أحيان كثيرة، نظراً لتباين وجهات النظر بين الطرفين، حيال الدور التركي الجديد، ورؤية كل منهما لحل المشكلات. وقد تجلى التباين بينهما منذ وصول رجب طيب أردوغان إلى السلطة في الرابع عشر من مارس عام 2003، قبل أربعة أيام من غزو الولايات المتحدة للعراق. وكان من أول قرارات أردوغان عدم السماح لواشنطن باستخدام تركيا لغزو العراق، مما أثار غضب واستياء واشنطن، التي فضّلت كتمانه، وهي في أمسّ الحاجة إلى حشد كل تأييد تقدر عليه لغزوها العراق.

الدور التركي لا يهدف إلى التقاطع مع مسار العلاقات الاستراتيجية بين سوريا وإيران

 يضاف إلى مسلسل الغضب الأمريكي من مواقف أنقرة، الوساطة التركية بين سوريا وإسرائيل. وبعكس ما يرى عدد من المعلقين أن تركيا منذ حرب يوليو 2006 في لبنان تسعى بدأب ومثابرة – لتحقيق رغبة أمريكية محضة - إلى إخراج سوريا من التحالف السياسي والعسكري الوثيق مع إيران بهدف حرمان طهران من حليفتها الإقليمية المفصلية ومن الحلقة الرئيسية التي تربط القيادة الإيرانية بـ (حماس) و(حزب الله)، فإن آراء أخرى ترى أن الدور التركي لا يهدف إلى التقاطع مع مسار العلاقات الاستراتيجية بين سوريا وإيران، لأن أنقرة تعي تماماً أنه ليس بالتحريض بين دمشق وطهران تستقيم الأمور بين أنقرة ودمشق، وهذا ما دفع الأتراك إلى الوساطة بين سوريا وإسرائيل لحل مشكلة الجولان المحتل، وذلك من دون تخلي السوريين عن الإيرانيين. والمعروف أن أردوغان قد أجرى مع الرئيس السوري بشار الأسد  ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت أكثر من جولة محادثات على حدة حول مستقبل المفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل، حيث اتفق الطرفان السوري والإسرائيلي على ضرورة إجراء المزيد من المفاوضات، رغم أن سوريا لم تلتزم بمطلب إسرائيل التي اشترطت على دمشق قطع العلاقات مع إيران وحماس وحزب الله.

 الموقع الاستراتيجي

لم يتوقف الموقف الأمريكي حيال تعاظم الدور التركي على خط ثابت، فقد تناوب ما بين التحفظ والاعتراض وربما العرقلة، خاصة أن واشنطن لا تريد لغيرها لعب أي أدوار في عملية السلام المتعثرة. لكن أنقرة تلعب على وتر موقعها الاستراتيجي وعلاقاتها المهمة ببقية اللاعبين في المنطقة، وهو ما يدفعها إلى لعب دور مهم في الاستقرار الإقليمي والعالمي، وأن تجاهل هذه الحقيقة، سيلحق الضرر بعلاقة الشراكة الاستراتيجية بين أنقرة وواشنطن. بيد أن هذا الدور لم تكن تقوم به تركيا مهما كانت حيويته وأهميته، لولا حصول أنقرة مسبقاً على ضوء أخضر أمريكي، وحتى يكون ذلك الدور إيجابياً ومثمراً، لذا فثمة تفاهمات بين الدولتين على مبادئ أساسية لذلك الدور. ويؤكد هذه الحقيقة بعض الإرهاصات منها على سبيل المثال:

* أن واشنطن رفضت في السابق دور الوساطة الذي عرضته أنقرة للتوسط بينها وبين طهران، بعيداً عن محاولات عزل إيران ومعاقبتها اقتصادياً، وإنما من خلال إشراكها والحوار معها بشأن الاستقرار في المنطقة. وأكثر من ذلك تفاقم الخلاف بين واشنطن وأنقرة، بشأن إيران، عندما رفضت تركيا العمل بنظام العقوبات الذي فرضته الولايات المتحدة والأمم المتحدة على إيران، بل ذهبت تركيا أبعد من ذلك، بتعزيزها العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية مع إيران خصوصاً في مجال الطاقة.

 * عدم رضا واشنطن عن العلاقة التي بدأت تتوطد وتترسخ بين أنقرة ودمشق، بعد الزيارة الأولى التي قام بها أردوغان إلى دمشق عام 2004، والتزام تركيا الصمت وعدم التأييد للضغوط الدولية والإقليمية بقيادة واشنطن ضد سوريا في ربيع 2003 لكي تسحب قواتها من لبنان، مما أثار استياء واشنطن. وازدادت العلاقة توتراً بعد توطد التحالف بين سوريا وتركيا، ثم كانت رعاية تركيا للمفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل والتي بدأت في ربيع العام الماضي، والتزمت واشنطن الصمت حيالها، لكنها في الحقيقة تحفظت عليها، بل لم تشجعها، بل يمكن القول إنها عارضتها، ولذلك لم تحرز تقدماً، ليفضي بها إلى الدخول في مرحلة المفاوضات المباشرة.

لكن بعكس ما سبق وإذا تجاوزنا هذه التقاطعات في العلاقة التركية – الأمريكية، فإن للدور التركي أهمية خاصة وفقاً للرؤية الأمريكية تتعلق برغبة واشنطن في تحقيق أهدافها في المنطقة، وذلك عبر مقومات خاصة تتمتع بها تركيا عن غيرها مثل:

 * هدف واشنطن من تصدير النموذج السياسي التركي المعتدل إلى دول المنطقة، من دون أن يبدو ذلك وكأنه مفروض من قبل قوى خارجية أو دول تعادي الإسلام. ولن يتأتى ذلك من دون دور تركي متوازن مع دول منطقة الشرق الأوسط، مع الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع إيران.

* تركيا دولة إقليمية مجاورة لبعض الدول العربية، وتتمتع بموقع جغرافي استراتيجي في السياسة الدولية. وهي نقطة الوصل بين أوروبا (الغربية) والمشرق (الإسلامي). وقد أضفى ذلك عليها حضوراً وقدرة على التأثير في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً أن تركيا تتمتع بقوة عسكرية ضخمة، وعضوية الحلف الأطلسي، مع اقتصاد قوي واستقرار سياسي مقبول.

 وعلينا ألا نغفل نقطة مهمة هنا وتتعلق بما تراه أمريكا بأن تركيا هي مفتاحها في المنطقة لما تتميز به أنقرة من مقومات منها:

* تمثل تركيا الإسلام السني، في الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة الأمريكية بكل ما أوتيت من قوة وضغط أن تحاصر صعود (الإسلام الشيعي) الذي تخشى الولايات المتحدة أن يسيطر على منطقة الشرق الأوسط حالياً ولاحقاً، بدءاً من إيران وشيعة العراق من الأحزاب الإسلامية، الذين أصبحوا يحكمون العراق ويسيطرون على مكونات الدولة العراقية.

* تعتبر تركيا في نظر الولايات المتحدة حامية للمذهب السني في المنطقة، ويضيف إليها هذا ميزة أخرى كما ذكرنا، إذ تعد أحد المقومات الرئيسية لدورها المنتظر في منطقة الشرق الأوسط على المدى القريب، وهي أنها أصبحت تمثل بالنسبة للولايات المتحدة والغرب عموماً التطبيق المعتدل للإسلام الذي يجمع ويوفق بين الإسلام والحداثة والتعددية السياسية، والديمقراطية، والنموذج الذي (يمزج بين الإسلام وبعض التقاليد الراسخة في الثقافة الغربية مثل التسامح والعلمانية وغيرها).

 حتمية النظام العلماني

استغلت تركيا هذه المقومات من أجل تجاوز فترة غيابها عن المنطقة الذي استمر طويلاً، اكتفت خلالها أنقرة بمد ظهرها للأمة العربية من أجل الهدف الأكبر، وهو الالتحاق بالاتحاد الأوروبي، التزاماً منها بمبادئ كمال أتاتورك. وتتجسد هذه المبادئ في ضرورة استمرار النظام العلماني وتثبيته مع حمايته، وتمتين العلاقة مع الولايات المتحدة، وتوطيد العلاقة مع إسرائيل بما يخدم مصالحها، والتوجه نحو الغرب عموماً في كل صغيرة وكبيرة كضمان لعقيدة الأتاتوركية، والحد من نفوذ التيار الإسلامي وإلزامه قانونياً وعملياً بمبادئ كمال أتاتورك المعادية للإسلام.

 ويتعين هنا الإشارة إلى أن التيار الإسلامي التركي لم يتوقف على المذهب السني فقط، لأنه يكتب لتركيا المشاركة بقوة في حصار (الإسلام الشيعي)، وإن اتخذ هذا الدور بعداً قومياً بحتاً، حيث حالت  حينما كانت تمثل بالإمبراطورية العثمانية  دون تمدد الإمبراطورية الصفوية الشيعية في إيران، واتساع نفوذها الإقليمي. وقد منعت تركيا بالذات هذه الإمبراطورية – الفارسية أو الصفوية - من السيطرة على العراق، وظل النزاع بينهما حول هذا البلد العربي الذي يقع على الحدود بين الإمبراطوريتين الكبيرتين، في ذلك الوقت وهو نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

 تعزيز التوجه الأوروبي وتحييد الدعم العربي للأكراد

لم يعد خافياً أن تركيا تتحين الفرص للانغماس في المشكلات والأزمات والقضايا العربية، بغية تحقيق مساعيها بالحصول على دور إقليمي مهم لها في الشرق الأوسط، لتعزيز مواقعها أمريكياً وأوروبياً. ولعل هناك عوامل عديدة، منها ما وفره المناخ السياسي للمسعى التركي، مثل:

1- كثرة المشكلات العربية - العربية، والعربية الداخلية، والعربية - الإسرائيلية، مما أثار شهية أنقرة لطرح نفسها على أنها (حلالة) عقد العرب ومشكلاتهم وأزماتهم الداخلية، كأزمة الخلاف بين القوى السياسية اللبنانية، والخلاف الحالي بين الفصائل الفلسطينية وخاصة بين (حماس) و( فتح).

2- الفشل العربي في لجم وتقويض النفوذ الإيراني المتعاظم في العالم العربي سياسياً وطائفياً، مما خلق رغبة في إيجاد معادل سياسي، يمكنه مزاحمة النفوذ الإيراني، لجهة خلق حالة من توازن مع النفوذ الإيراني في المنطقة.

3- من جانبها تستغل تركيا هذه المشكلات لتعزيز موقفها أوروبياً، بمعنى أن تنامي دورها الاستراتيجي في المنطقة سيعجل بأوروبا التوجه لضمها إلى الاتحاد الأوروبي، وتحقق بذلك هدفاً غالياً طالما سعى إليه الأتراك منذ كمال أتاتورك، لتكون تركيا البوابة الخلفية للأوروبيين في العالمين العربي والإسلامي.

وفي هذه الحالة، فإن تركيا اتجهت لاستثمار المشكلات والأزمات العربية، من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الذي تتهافت عليه منذ ما يقرب من قرن، وذلك عبر توظيف خلفيتها الإسلامية والشرق أوسطية، وليس من أجل خدمة القضايا العربية وتفريعاتها مثل النزاع العربي – الإسرائيلي، بدليل حجم تبادلاتها الاقتصادية والعسكرية مع الدولة العبرية الذي تجاوز الثلاثة مليارات دولار كما سبق وأشرنا. بيد أن هذا التوجه لم يمنع تركيا من إبرام تحالفات مع آسيا والدول العربية والإسلامية، لأن ثمة توجهاً تركياً جديداً يميل إلى القول إن مستقبل تركيا هو في آسيا وليس في أوروبا، مما يؤشر إلى قرب بروز نفوذ تركيا في الساحة العالمية.

وبالتالي، نخرج مما سبق بأن تركيا في ظل توجه حزب العدالة والتنمية ترى ضرورة لتجنب المشكلات مع دول الجوار والاحتفاظ بعلاقات متميزة مع الجميع. ولهذا تسعى إلى المشاركة في استقرار الأوضاع في لبنان حتى لا تتصاعد مثلاً نذر المواجهة العسكرية على نحو ما حدث في الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو 2006، الأمر الذي يضر بمصالح تركيا وبدورها الذي تسعى إلى ترسيخه في المنطقة. ومن أجل تحقيق هذه المكاسب، تتمثل ملامح السياسة التركية تجاه المشرق العربي بما يلي:

 * موازنة النفوذ الإيراني عبر تثبيت النفوذ التركي أولاً في ساحات التحرك الإيراني، ثم استخدام ذلك النفوذ في مرحلة لاحقة، كما يسعى في جانب آخر إلى دعم انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.

* تسعى تركيا إلى لعب دور فعال في عملية السلام بين العرب وإسرائيل على نحو يدعم علاقتها مع أمريكا.

* تحييد التأييد العربي لقضية الأكراد باستخدام كافة الوسائل.

 وأخيراً يبقى أن هذا المسعى الذي تقوم به تركيا حالياً وما سبقتها إليه إيران، لم يكن لتقوم به أنقرة وطهران لولا غياب التأثير العربي عن الأحداث الراهنة، وكذلك الرؤية العربية الموحدة للتعاطي مع تلك الأحداث سواء المتوقع أو المفاجئ. فالعرب هم الذين تركوا الساحة خالية أمام التدخلات التركية والإيرانية في شؤونهم.

 

 

مقالات لنفس الكاتب