; logged out
الرئيسية / الأزمة المالية العالمية وإعادة النظر في دور الدولة من جديد

الأزمة المالية العالمية وإعادة النظر في دور الدولة من جديد

الأربعاء، 01 نيسان/أبريل 2009

تأتي الأزمة الراهنة لتكمل سلسلة من الأزمات العالمية الدورية منذ تمت العودة إلى نظام الاقتصاد الحر في أوائل الثمانينات من القرن الماضي،فالأزمة الحالية تقدم برهاناً دامغاً لفشل النظام الحر الذي بدأته مارغريت تاتشر في 1980 في بريطانيا، وانتقل إلى الولايات المتحدة من خلال رونالد ريغان خلال الثمانينات، وتبنته المؤسسات المالية الدولية منذ أواخر السبعينات وأعطته زخماً أقوى فيما بعد.

يمر الاقتصاد العالمي الآن بأزمة مالية نتجت عن مشكلة الرهن العقاري في الولايات المتحدة الأمريكية وتمثلت في منح قروض لقطاع الإسكان بشكل مفرط، ومن دون أن يستند بالضرورة إلى جدارة ائتمانية سليمة ومطمئنة، لكن هذه الأزمة في تطورها أصبحت أزمة اقتصادية، فالاقتصاد العالمي سوف يعاني كثيراً جراء هذه الأزمة. حيث أكدت العديد من المؤسسات المالية الدولية وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي أن أزمة الاقتصاد الأمريكي لن تنجو منها أية دولة من دول العالم، وأنها ستطول اقتصادات كافة الدول، لكن بنسب متفاوتة.

وتأسيساً على ما سبق بادرت المراكز البحثية المعنية في العالم العربي إلى رصد الأزمة وتداعياتها المختلفة وتقديم المقترحات لمواجهتها، إلا أن الجديد هو ما طرحه مركز دراسات واستشارات الإدارة العامة بجامعة القاهرة في ندوة عقدت مؤخراً حضرها مجموعة من المحللين والخبراء حول تأثير الأزمة في دور الدولة، والتي خلصت إلى أن دور الدولة بدأ يتزايد في إطار هذه الأزمة، وأن آليات التصحيح تكمن في ضرورة إعادة الاعتبار لدور الدولة والتركيز على البعد الاجتماعي والبعد عن الاقتصاد الوهمي واستبداله باقتصاد حقيقي يركز على الأبعاد الجوهرية للتنمية، والبعد عن اقتصادات الفقاعات القائمة على المضاربة والاحتكارات أو ما سمي الاقتصاد الورقي.

 وفي الواقع تمثلت أهم تداعيات هذه الأزمة على الاقتصاد العالمي في الآتي:

* تراجع التوقعات بشأن النمو في الاقتصاد العالمي، وتعرض العديد من البنوك في العالم، خاصة في آسيا وأوروبا لخسائر جراء هذه الأزمة، وعدم الاستقرار في الأسواق المالية العالمية.

ارتفاع معدل البطالة سيثير الاضطراب العام الذي بدأ يأخذ أشكالاً عنيفة

* ارتفاع معدلات البطالة، ففي تقرير لمنظمة العمل الدولية، جاء فيه أن أسواق العمل العالمية سوف تعاني في عام 2009 من انتقال 51 مليون عامل من صفوف المنتجين إلى صفوف العاطلين المسجلين فعلياً، وذلك في كافة الدول المتقدمة والنامية. وأعلنت إحدى الشركات اليابانية للصناعات الهندسية والإلكترونية (نيسان) في فبراير الماضي أنها تتوقع خسائر ربع سنوية تصل إلى2.9 مليار دولار، كما أعلنت أنها ستلغي 20 ألف وظيفة في عدد من الدول التي تعمل فيها وليس فقط في اليابان (كينيا، لبنان، المكسيك ومصر) وحتى الولايات المتحدة الأمريكية. وفي شهر يناير 2009، اضطر 20 مليون صيني للعودة إلى قراهم، تاركين الحضر الصناعي ومتجهين مرة أخرى إلى الريف الزراعي. لكن مما لا شك فيه أن ارتفاع معدل البطالة سيثير الاضطراب العام الذي بدأ يأخذ أشكالاً عنيفة مثل: تنظيم المظاهرات الضخمة التي تطالب بعدم تشغيل العمال المهاجرين من دول أوروبا الشرقية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي (شمال المملكة المتحدة)، حيث كادت هذه المظاهرات تصل إلى مراحل العنف، لولا تدخل الحكومة البريطانية السريع وكذلك النقابات العمالية. كما حدث في سويسرا أيضاً الاستفتاء بين قبول العمالة المهاجرة أو إغلاق الحدود في وجهها، وكانت نتيجة الاستفتاء لصالح الإبقاء على العمالة المهاجرة، فضلاً عما عبرت عنه أحزاب المعارضة والنقابات العمالية من غضب شعبي، نتيجة لتزايد معدلات البطالة وتراجع فرص العمل في روسيا وفرنسا، وقد أدى ذلك إلى لجوء الحكومة الفرنسية إلى سياسة صارمة لمعالجة الخسائر التي لحقت بكل من شركتي رينو وبيجو للسيارات، حيث وضع الرئيس الفرنسي شروطاً لإقراض الشركتين العملاقتين وهي: عدم فصل العمال، وإدخال إصلاحات إدارية على نظم العمل، وخفض رواتب كبار الإداريين.

أسواق العمل العالمية سوف تعاني في عام 2009 من انتقال 51 مليون عامل من صفوف المنتجين إلى صفوف العاطلين

* سياسات التصحيح والتكيف الهيكلي التي فرضت على الكثير من الدول النامية خلال الثمانينات والتسعينات تمت من دون تطوير قواعد وآليات رقابية على الأسواق وعلى التعاملات الدولية لرؤوس الأموال ومن دون إيلاء اهتمام للآثار الاجتماعية.

* سياسات التحرير الاقتصادي وتطبيق قواعد اتفاقية منظمة التجارة العالمية، تمت من دون الأخذ في الاعتبار أوضاع ومصالح الدول النامية والفقيرة من دون مشاركة حقيقية منها.

* نظام العولمة برمته تم تطبيقه من دون تطوير الآليات المؤسسية التي تتناسب مع طبيعته، وبما يتناسب مع أطراف المصالح في النظام المستهدف.

 ووفقاً لآراء الخبراء والمحللين الاقتصاديين فإن ثمة خمسة أسباب أو اختلالات بنيوية أسهمت في تعميق الأزمة وهي:

1- خلل في توزيع عوائد الإنتاج وفي أنصبة الأطراف المولدة للقيمة والثروة الحقيقية، وبروز ونمو مصادر جديدة للثروة (المالية) في النظام الرأسمالي الحر.

2- خلل في منظومة الأسواق الحرة، حيث تؤدي إلى سيطرة الاحتكارات، وإلى استبعاد وتهميش الفئات الضعيفة(ظاهرة الفقر).

3- خلل في ترك الأسواق تعمل بلا رقابة أو نظام عادل ومتوازن يحكمها، يضبط نزعات الطمع والتربح والجشع.

4- خلل في العلاقة بين الشركات متعددة الجنسيات والدول وجماهيرالمواطنين.

5- خلل في نظام العولمة الاقتصادية بين الحرية الاقتصادية وبين مصالح الدول والمجتمعات النامية والفقيرة.

 ويكمن هذا الخلل في اختلال موازين القوى والعدالة في نظام الرأسمالية الحرة، مما أدى إلى نمو وتضخم المكون الريعي في الاقتصادات الرأسمالية المعاصرة وكذلك في اقتصادات العديد من الدول النامية،والذي أفرزه اختلال موازين القوى والعدالة في نظام الرأسمالية الحرة والعولمة الاقتصادية كنظام اقتصادي نخبوي يعمل لصالح فئات محدودة هي النخب المستفيدة من هذا النظام وهم: ملاك ومديرو الشركات متعددة الجنسيات وأغلبها ينطلق من الدول الصناعية الكبرى، أصحاب ومديرو الشركات الوطنية الكبرى، أصحاب ومديرو الشركات والمؤسسات المالية العالمية، الاحتكارات الكبرى في القطاعات الاقتصادية والمرافق العامة، الملاك والمديرون الجدد للمشروعات التي تمت خصخصتها، المضاربون والمتلاعبون في الأسواق العالمية والوطنية.

 إعادة الاعتبار لدور الدولة من جديد

 لقد كشفت الأزمة أهمية التدخل الحكومي للمساهمة في علاجها والحيلولة دون انهيار النظام الاقتصادي العالمي، حيث أكد وزير الخزانة الأمريكية هنري بولسون أن التدخل غير المسبوق والشامل للحكومة يعتبر الوسيلة الوحيدة، للحيلولة دون انهيار الاقتصاد الأمريكي بشكل أكبر. ومن أهم الآراء الداعمة لتدخل الحكومة هو ما جاء على لسان الرئيس ساركوزي قائلاً (إن سياسة عدم التدخل الحكومية، أو سياسة إطلاق حرية السوق قد انتهت. فنحن بحاجة إلى إعادة بناء النظام النقدي والمالي والعالمي بالكامل). ومن هنا جاءت فكرة ساركوزي لإقامة منتدى عالمي لإعادة النظر في جوهر الرأسمالية، من خلال العودة إلى ترسيخ معالم الاقتصاد الحقيقي بدلاً من اقتصاد المضاربات. وإلى جانب ما سبق، كان أكبر دليل على ضرورة تدخل الدولة:

* قيام الحكومة الأمريكية بوضع مؤسستي (فاني ماي وفريدي ماك) تحت التأمين والوصاية الحكومية وقيام الخزينة بشراء أسهم منها ومنحها القروض.

* قيام الحكومة الأمريكية بالتداعي لإنقاذ شركة (AIC) بالموافقة على إقراضها 185 مليار دولار مقابل استحواذ 80 في المائة من أسهمها لفترة زمنية محددة.

* تدخل وزارة الخزانة الأمريكية بالإسراع في شراء الأسهم والديون المعدومة.

* ركز اجتماع الدول السبع الصناعية في خطته لمعالجة الإعصار المالي على تدخل حكومي مباشر ومراقبة لحركة الأسواق المالية وتوجيه لشراء الأسهم والديون المشكوك في تحصيلها وتقوية الجهاز المالي ومراقبة حوافز الإدارات والمشرفين وشروط الرهن العقاري.. إلخ.

* إقدام بريطانيا وغيرها على إجراء بعض عمليات التأميم، وضرورة تدخل الدولة في تنظيم عملية الإقراض.

 إن أفضل من عبّر عن النتائج السيئة لتجاهل دور الدولة هو الكاتب الأمريكي من أصل ياباني فرانسيس فوكاياما الذي بشّر سابقاً بالنتائج الإيجابية للسياسة الريغانية في ثمانينات القرن الماضي وخاصة اعتمادها على أن الأسواق هي سيدة نفسها بنفسها، وضرورة إبعاد الدولة عن التدخل في الحياة الاقتصادية. لكن بعد انفجار الأزمة المالية، تراجع عما طرحه سابقاً قائلاً (إن الذنب الوحيد هو النموذج الأمريكي، فلقد أهملت واشنطن تنظيم الطريق المالي المناسب وتركته يرتكب أخطاء كبيرة بحق بقية فئات المجتمع). وأضاف (إن سقوط (وول ستريت) يشكل نهاية حقيقية للفترة الريغانية، أي لا بد من عودة دور الدولة).

 لقد استدعت الأزمات الاقتصادية العالمية في العقود الماضية إعادة النظر في دور الدولة. ففي ظل أزمة الكساد العالمي العظيم (1929-1933)، رأى كينز أن أحوال الكساد والتضخم تحتاج إلى تدخل مباشر من قبل الدولة لإصلاحها، فأقدمت الدول الغربية على تأميم بعض الصناعات والأنشطة المهمة بالنسبة للاقتصاد ككل مثل الحديد والصلب، والكهرباء، والسكك الحديدية. كما أصبحت المشروعات الخاصة خاضعة لتوجيه الدولة بشكل عام. وفي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، خاصة مع انهيار الشيوعية وبزوغ القطب الواحد، حدث ارتداد فكري بالنسبة لدور الدولة، حيث اتجهت نحو خصخصة المشروعات العامة، وإعطاء المزيد من الحرية في التصرفات مرة أخرى للمشروعات الخاصة وتقليص وسائل الرقابة عليها. ومع الأزمة الاقتصادية الحالية، عادت الأصوات لتطالب بضرورة إعادة الدولة للمدرسة الكينزية، من خلال تعزيز دورها عن طريق شراء مؤسسات خاصة، منعاً لانهيارها واستخدام السياسة النقدية والمالية للحيلولة دون انهيار النظام الاقتصادي العالمي.

 لقد كشفت الأزمة الحالية بجلاء عن زيف وهشاشة الادعاء بكفاءة آليات السوق والقطاع الخاص المصاحب لنظام الرأسمالية الحرة، وعن خطورة تقليص أدوار الدولة، فالنظام الرأسمالي يتطلب آلية كابحة للجشع والمضاربات والسعي للريع وانفلات الأسواق، ووضع معايير لضبط موازين العدالة وتعدد المصالح.ومن هنا تأتي أهمية عودة دور الدولة من خلال التخطيط الاستراتيجي وقيادة وضبط فعاليات تحقيق التنمية، وتحقيق التشغيل الكامل، وإدماج الفئات الضعيفة في تيار التنمية وحمايتها، والاستثمار في البنية الأساسية والخدمات الأساسية والبحث العلمي، والرقابة على الأسواق وكبح جماح المضاربات والاحتكارات، والرقابة على المؤسسات المالية والشركات متعددة الجنسيات، فضلاً عن ضرورة حماية المنافسة وتنمية مقومات التنافسية، وتوفير بيئة ميسرة وحافزة على الإنتاج والمبادرة، وحماية موارد البيئة، وتوسيع قاعدة المشاركة وتحقيق العدالة.

بيد أن مواصفات الدولة القادرة على القيام بهذه الأدوار يفترض أن تتسم بكونها دولة ديمقراطية تمثل مصالح الجميع، ودولة قوية (غير رخوة)، نزيهة وكفؤة وفعالة تخضع للمساءلة وتتعلم من أدائها وتعرف مسؤولياتها الدولية.

أما على المستوى العالمي، فهناك حاجة لآلية مؤسسية عالمية تمثل مصالح شعوب العالم جميعاً، تقوم بدور الضبط والرقابة والتنسيق بين سياسات الدول، وتخضع الشركات المتعددة الجنسيات وحركة رؤوس الأموال للرقابة والضبط، ولها سلطات وروادع لإنفاذ قواعدها، وتملك القدرات الفنية والمؤسسية، مما يقدم حلولاً لكيفية المواءمة بين حرية المبادرة ونظام للقواعد والمساءلة، ويوازن بين الحرية الفردية وبين حق ومصلحة المجتمع.

وفي النهاية يبقى التساؤل الأكبر في ضوء هذه الأزمة يدور حول مدى ملاءمة النظام الاقتصادي العالمي، وهل لا يزال بالفعل الاقتصاد الحر أفضل الأنظمة الاقتصادية، أم أن الأمر أصبح يحتاج إلى إعادة نظر على أساس اضطرار الدول للتدخل وإدارة الاقتصاد، بدلاً من الاعتماد على الأسواق؟ وهل إن مثل هذا التدخل هو مجرد إجراءات مؤقتة، أم أن الأمر يمثل اختلالات هيكلية تحتاج إلى تصويب ومراجعة جادة؟

 

مقالات لنفس الكاتب