; logged out
الرئيسية / الإعلام الخليجي بين المهنية والرسالة

الإعلام الخليجي بين المهنية والرسالة

الأحد، 01 آذار/مارس 2009

لن نضيف جديداً عندما نؤكد على أهمية الدور الحيوي الذي بات يلعبه اليوم الإعلام الخليجي بمختلف أطيافه وامتداداته وتصنيفاته على صعيد تشكيل الرؤى وتوجيه الرأي العام وصياغة بعض التوجهات العامة للمجتمعات الخليجية خصوصاً والعربية عموماً، في ظل تشابك المواقع وتنوع الساحات الإعلامية العربية والدولية والتنافس الحاد والشديد القائم فيما بينها جميعاً.

لكن السؤال الذي نجد ضرورة طرحه هنا هو ما مدى امتلاك هذا الإعلام الخليجي الخاص والعام ليس فقط لروحية المهنة وعقلية الحرفة التي قد تمكنه من التزام المصداقية والشفافية وسلوك طريق (الحياد الإيجابي) في عرض الأفكار والآراء والطروحات المختلفة والمتناقضة أحياناً، لكن أيضاً مدى امتلاكه للبنية المهنية المفاهيمية الصلبة والتي يمكن أن تنبثق منها مختلف سبل وقنوات التأثير الفاعل القادر على توجيه وصوغ بعض استراتيجيات العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في منطقتنا العربية؟

ومن الطبيعي أن يعاد طرح مثل هذا السؤال باستمرار ليكون دافعاً ومحرضاً على تمثل فضيلة النقد، وتبني خطاب المحاكمة العقلية من قبل الإعلام الخليجي، خصوصاً عندما يمر عالمنا العربي بأحداث ومتغيرات سياسية واقتصادية صعبة ومعقدة كالتي نشهدها حالياً، ونعاين فيها أجواء الانقسام والاستقطاب الحاد بين مشاريع سياسية متناقضة ومتضاربة المصالح والتوجهات والأغراض، حيث يمكن عندها الوقوف جدياً أمام طبيعة تناول ومعالجة هذا الإعلام لتلك الأحداث، والبحث عن الأسس والمعايير المهنية التي اعتمدها لعرض ونقل الصورة الحقيقية لمختلف الوقائع بغض النظر عن رأيه فيها.

وضمن هذا السياق يمكننا التأكيد على النقاط التالية:

1- إن الإعلام الخليجي الخاص -الفضائي منه تحديداً- حقق منذ بداية هذا القرن قفزات نوعية نحو الأمام على مستوى تأمين البنية التحتية المتطورة، وتوفير التجهيزات والتقنيات والمعدات العلمية، والتوسع في الشبكات والهيئات الإعلامية، وإصدار القوانين الإدارية والهيكلية الهرمية الإعلامية الحاضنة له، ومراكمة الخبرات المتقدمة، مما دفع بهذا الإعلام إلى مواقع مهمة على المستويين الإقليمي والدولي بحيث أصبحت بعض القنوات الفضائية العربية ذات الطابع الإخباري تنافس بعض القنوات العالمية المعروفة في نقل الأحداث ومواكبة كثير من المتغيرات والمستجدات الدولية.

2- لقد تمكن الإعلام الخليجي من التقدم أشواطاً عديدة –على مستوى الكم والنوع- على مواقع ومحطات الإعلام الرسمي العربي والإسلامي ككل، على صعيد نقل الخبر وطبيعة التعليق عليه، وأيضاً على صعيد نوعية البرامج الوثائقية السياسية والعلمية التي تعرض على قنوات الإعلام العربي الخاص التي أدى تبني والتزام بعضها بقضايا الحريات والانفتاح الإعلامي -بمختلف مواقعه وامتداداته الفضائية والمقروءة والمسموعة- إلى زيادة نسبة المشاهدين لها، كما تبينه كثير من الإحصائيات، وإحجام عدد كبير من الناس عن متابعة الإعلام الرسمي المكبل بوزارات إعلام جامدة بعيدة عن روح العصر والتطور.

الحريات الإعلامية متوافرة في كثير من مجتمعات الخليج العربي لكن مع وجود بعض الخطوط الحمر 

3- لا تزال البنية الثقافية الشعبوية التقليدية مسيطرة على المجتمعات العربية عموماً، ومنها مجتمعاتنا الخليجية حتى الآن، ولم تحدث أي تطورات فعلية ملموسة على صعيد تطوير الخطاب الثقافي المجتمعي بما يتناسب مع تطور العلوم والنتاجات العلمية والمعرفية، وتداخل الثقافات والمصائر والمصالح، وتسارع وتائر الكشوفات العقلية والعلمية، على الرغم من ولوج تلك المجتمعات إلى عصر الحداثة العلمية والتقنية من أوسع أبوابه من خلال تعاطيها اليومي –لحظة بلحظة- مع مختلف أنماط وأشكال وتعبيرات هذه الحداثة العلمية والفكرية، لكنها تبقى محاولات حداثوية نخبوية لم تظهر لها أي امتدادات أو حاضنات حقيقية عميقة في داخل البنية الثقافية والنسيج الفكري الخاص بتلك المجتمعات، وهذا ما يمكن ملاحظته ومتابعته في دولة الكويت مثلاً، التي كان لها –ولا يزال- دور تنويري كبير في تعميق ثقافة الحياة المدنية العصرية ودعم توجهات الحداثة المعرفية والعلمية من خلال ما تقوم به مختلف وسائل إعلامها (خصوصاً المقروءة منها) من إصدار صحف ومجلات وترجمة كتب ودوريات، ونشر كتب شهرية ككتاب عالم المعرفة. لكن كل تلك المحاولات لم تلق الصدى الحقيقي المنشود في صفوف الكثرة الغالبة من جماهير المجتمعات العربية، بل بقيت مجرد أفكار نوعية ومفردات ومفاهيم حيوية في داخل بطون الكتب والمجلات وعلى رفوف المكتبات الخاصة والعامة. والدليل على ذلك هو أن الكويت سابقاً كانت تصخب وتعج بالحياة السياسية والفكرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، أما الآن وبعد كل تلك الجهود الثقافية الجبّارة تكاد الحركات الإسلامية السلفية الأصولية ذات الامتدادات الشعبوية (التحشيدية) الخطابية هي المسيطرة تقريباً على مجمل المشهد السياسي والثقافي الكويتي والعربي عموماً، فأية حداثة أو تقدم -أو حتى تغيير بسيط- حققته تلك الجهود الفكرية والإعلامية والثقافية التي قامت بها نخب الكويت المدنية المعاصرة؟ وأين نحن من الحداثة والمعاصرة والمدنية؟

4- تظهر إحدى أهم سلبيات الإعلام الخليجي في ما نشاهده من ادعاء بعض مؤسساته وشبكاته الإعلامية أنها تمثل صورة حية عن الرأي العام العربي والوجدان الإسلامي. أي أنها تبدو وتظهر في الواقع كصندوق بريد يمكن للفرد أو المجتمع أن يضع رسالته فيها لتقوم هي بدورها بنقل تلك الرسائل والآراء إلى مختلف الأوساط والمستويات والفضاءات، ومن دون أن يكون لها أي رأي فيها كما تزعم وتدعي. وهذا يشكل –في اعتقادي- حالة من حالات ثقافة التخلف الإعلامية المسيطرة عندنا، حيث إنه إذا لم يكن لوسيلة الإعلام دور ومسؤولية وطنية في تدريب وتوعية الناس على مفاهيم العصر والحداثة والتطور وضرورة الانخراط العقلاني الجدي بالحياة المدنية، والتزام وتبني قيم العقل والاستنارة الفكرية، فإنها تعيد إنتاج مفاهيم ومفردات الماضي بأشكال وتلاوين جديدة تحت ستار الحفاظ على الأصالة والنقاء والطهارة الفكرية لمجتمعاتنا التي نخرها التخلف، ودمرتها مزاعم الحفاظ على المقدسات التاريخية.

تمكن الإعلام الخليجي من التقدم أشواطاً عديدة على مستوى الكم والنوع

5- تشكل ثقافة الإثارة أحد أهم الأسس التي ترتكز عليها كثير من وسائل الإعلام الخليجية في زيادة نسبة استقطاب القراء والمستمعين والمشاهدين، ويشكل هذا النوع من البرامج نوعاً من الاستجابة لوسط اجتماعي تقليدي يرغب في متابعة برامج الإثارة الترفيهية التي يمكن وضعها في خانة الثقافة السطحية المبتذلة، أو بعض برامج (الزعيق) السياسي وصراخ (صراع) الديكة المتقافزين حول ما يسمى طاولة الحوار بعيداً عن أدنى حالات التخلق بالحرية المسؤولة وآداب التحاور.

6- لا شك في أن الحريات الإعلامية متوافرة في كثير من مجتمعات الخليج العربي، لكن مع وجود بعض الخطوط الحمر هنا وهناك. ومن الطبيعي التأكيد هنا على أن الحرية هي المتنفس الحقيقي لأية وسيلة إعلامية تبحث عن دور ورسالة إعلامية ما، لكن ينبغي أن تكون الحرية مقرونة بالوعي والمسؤولية، فلا حرية من دون مسؤولية، كما لا مسؤولية حقيقية من دون حرية حقيقية. ويبدو لي أن المعيار الحقيقي الناظم للحرية -على المستوى الذاتي والموضوعي- هو في كونها محددة بقيد الحرية ذاتها، لكن ليست الحرية المنفلتة من عقال محبة الوطن والمسؤولية في تطويره وتحديثه. وهذا لا يعني أن تغض وسائل الإعلام النظر عن سلبيات مجتمعاتنا التقليدية، ولا تسلط الضوء النقدي على مكامن الخلل ومواقع الاهتراء والتكلس الكثيرة الموجودة فيها، لكنه يعني أن يكون النقد حراً وبناءً ومتحرراً من أي قيد أو غرض ذاتي وغير مرتبط بهذه الجهة أو تلك، وأن يكون أيضاً مقروناً بالموضوعية والصراحة والحقيقة والوضوح من دون لف ولا دوران ضمن هذا الفلك أو ذاك المحور. وهذا أمر لا يسيء –في اعتقادي- للوسيلة الإعلامية، ولا يقيدها إطلاقاً، بل يحملها مزيداً من المسؤولية المهنية لكي تساهم في نهضة وتطور مجتمعاتها وبلدانها.

مجلة آراء حول الخليج