; logged out
الرئيسية / الصناعات الثقافية : المضامين والتطبيقات

العدد 91

الصناعات الثقافية : المضامين والتطبيقات

الجمعة، 01 حزيران/يونيو 2012

تهتم دول العالم المتقدم وبعض الدول النامية في شرق أسيا بالصناعات الثقافية أو الصناعات الإبداعية التي حققت ثروات كبيرة لاقتصاديات تلك البلدان ، وبدأت منتجات هذه الصناعات تتصدر المشهد في التجارة العالمية في القرن الحادي والعشرين متجاوزة بذلك تجارة السلاح والنفط والغذاء والدواء وكافة السلع الأكثر شيوعاً بين شعوب المعمورة، وسوف تتقدم الصناعات الثقافية صفوف الحياة الاقتصادية ، لتسبق المعلومات والخدمات والتصنيع والنشاط الزراعي خلال العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين .

وقد تزايد الاهتمام بالصناعات الثقافية والاعتراف بها بصورة مطردة من قبل الأمم المتحدة والمنظمات والهيئات الدولية التابعة لها كمنظمة العمل الدولية والمنظمة العالمية للملكية الفكرية، ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية(UNCTAD) ،ومنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (UNIDO )، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (UNESCO).وأخذت تعقد الكثير من الندوات والمتلقيات العالمية والإقليمية التي تعنى بتطوير الصناعات الثقافية ودورها في الاقتصاد العالمي.

وترجع أهمية الصناعات الثقافية إلى دورها المتوقع كموجه للمعرفة الاقتصادية وميسر للصناعات والخدمات الأخرى من خلال تزويدها على سبيل المثال بالمحتوى الرقمي الذي يترجم مباشرة إلى ميزة تنافسية وطاقة إبداع لقطاعات الاقتصاد الأخرى، وكذلك من خلال احتضان رأس المال الإبداعي والعاملين الإبداعيين عموماً.

حققت الصناعات الثقافية ثروات كبيرة للعديد من اقتصادات العالم المختلفة

أنشأت دول مجلس التعاون الكثير من مؤسسات وواحات ومدن المعرفة وحدائق التكنولوجيا

الإنتاج المسرحي والسينمائي لازال في بداياته بدول مجلس التعاون الخليجي

وتعرف اليونسكو الصناعات الثقافية بأنها الصناعات التي تنتج وتوزع النتاج والخدمات الثقافية ، أي التي يتضح عند النظر في صفتها ، أو أوجه استعمالها، أو غايتها المحددة، أنها تجسد أو تنقل أشكالاً للتعبير الثقافي بغض النظر عن قيمتها التجارية.وتشير الصناعات الثقافية إلى المجال الذي يشمل إبداع وإنتاج وتسويق المواد والخدمات ذات الطابع الثقافي المحمية غالباً بقوانين الملكية الفكرية وحقوق المؤلفين، وتتمثل هذه الصناعات في النشر والطبع والوسائط المتعددة والصناعة السينمائية والوسائل السمعية والبصرية، وكذلك الصناعات التقليدية والهندسة والفنون التشكيلية وفنون العرض والرياضة وصناعة الآلات الموسيقية.

وإذا كانت الصناعات الثقافية تعني بالأساس أنشطة ترتبط بتكنولوجيا المعلومات والإنترنت وصناعة النشر والكتب والأعلام المرئي والمسموع والمكتوب، والسينما والموسيقى ، والفيديو والمشغولات الفنية،والنشر، والأزياء وغيرها، فهي تنتشر في العديد من الأنشطة الأخرى، مثل السياحة، النقل، الشحن الجوي، الطاقة، المالية، التأمين، الإعلان، الرعاية الصحية ، الشؤون القانونية، المحاسبة ، الاتصالات الهاتفية، البناء، الهندسة ، العمارة ، الضرائب ، التعليم ، التجارة الإلكترونية، الخدمات البيئية، وغير ذلك.

وتأسيساً على ما سبق فإن مفهوم الصناعات الثقافية ينطبق على الصناعات ذات الطبيعة الثقافية التي تجمع بين ابتكار المضامين وإنتاجها والمتاجرة بها، وهي تكون على صورة سلع أو خدمات. أما الأعمدة التي تستند عليها الصناعات الثقافية فهي تتمثل بالآتي:

  • العمود الأول - المنتجين لعناصر الثقافة: وهم المفكر والأديب والصحفي والرسام والممثل وغيرهم.
  • العمود الثاني- المنتجات: وهي تشمل على سبيل الإبانة الأدب والفن والفنون الشعبية والفكر والغناء والموسيقى والعلوم وغيرها.
  • العمود الثالث- المستهلك للثقافة ومفردتها: وتمثل بالجمهور الذي تتفاوت قدرته على التلقي حسب مستواه التعليمي والاقتصادي وفئته العمرية.

ويشير ظهور الصناعات الثقافية بوصفها مثالاً لمناطق أخرى من الاقتصاد مسألة مهمة تتعلق بطبيعة العمل في هذه القطاعات الصناعية الإبداعية ، فقد لاحظمييغ وهزموندالغ " أن العمل في الصناعات الثقافية يتصف بقدر كبير من الاستقلال الذاتي للفنانين وغيرهم من المبدعين ، وبتقسيم طليق نسبياً للعمل في عملية الإنتاج ، وتواجد جمع عريض من المواهب يمكن الاستعانة به من خلال التعاقد أو المشاركة في المشروع . كما تتسم تلك القطاعات بما يطلق عليه مييج أزمة  دائمة في الإبداع ، حيث يتحتم على المنتجين السعي الدائم وراء أشكال أو موهبة معينة.

وتشير أنجيلا ماكروبي في كتابها صناعة الفنون والأزياء إلى أن ظهور الصناعات الثقافية جاء كنتيجة لما أسمته بهلودة Hollywoodization أسواق العمل سواء بمعنى أن سحر العمل الإبداعي يشجع الناس على تقبل ساعات طويلة من العمل وأجر متواضع على أمل فعلها، أو ما يطلق عليه جيريمي رفكين " نموذج هوليوود التنظيمي– الذي يعلم كجزء من فرق إبداعية في أنشطة مشروعات قصيرة الأمد – يستقر أكثر فأكثر لكونه معياراً  للتوظيف في القطاع الثقافي. 

ويُعد النموذج الفرنسي من أنجح التجارب العالمية في مجال الصناعات الثقافية، حيث يؤكد هذا النموذج على شرعية تدخل القطاع الحكومي في الصناعات الثقافية وذلك استناداً إلى عدم القدرة على الاستجابة لتنمية صناعات ثقافية محلية ذات خصوصية في مواجهة قوانين السوق وقوة العرض، حيث أسست فرنسا أول وزارة للفنون عام 1918م وتطور هذا النموذج في رعاية الدولة للصناعات الثقافية من خلال تدخلها في التأهيل الفني  والحفاظ على التراث ورعاية المبادرات المبدعة تاركة الإنتاج الثقافي للقطاع الخاص.

 إن دور الرعاية المرنة لصناعات الثقافية الذي حافظ لهذه الدولة على دورها في الثقافة والفنون وما يرتبط بهما من صناعات له نتائجه الواضحة في مركزية دور فرنسا في الثقافة الإنسانية، حيث اختار حوالي مليون و750 ألف مفكر وفيلسوف وشاعر وروائي وموسيقي وسينمائي ومسرحي من مختلف دول العالم فرنساً مكاناً للعيش وإنتاج المعرفة والإبداع فيها.

وللتعرف على أوضاع الصناعات الثقافية على الصعيد العالمي نرجع إلى تقرير صدر عـن برنامـج الأمم المتحدة الإنمائي(UNDP)بالتعـاون مع مؤتمـــر الأمـــم المتحــدة للتــجارة والتنــمية( UNCTAD)في عام 2010م ،حيث يشير هذا التقريرإلى أن الاقتصاد الإبداعي للصين تخطى وبشكل كبير كافة اقتصادات الإبداع العالمية الأخرى، حيث هيمن على ما نسبته (21.6%) من السوق الدولية لمنتجات الصناعات الثقافية خلال الفترة (2002-2008)، ثم جاءت الولايات المتحدة بالمرتبة الثانية ، حيث استحوذت على ما نسبته(8.4%) من هذه السوق.

وأشار التقرير إلى أن الاقتصاد  الثقافي أو الإبداعي أصبح هو الاقتصاد الأكثر ثباتاً واستقراراً خصوصاً بعد تداعيات الأزمة المالية العالمية، إذ تضاعفت صادراته في العالم  من عام 2002 إلى عام 2009م لتصل إلى (712) مليار دولار.

وشهدت الفترة (2005-2009م) زيادات كبيرة ومطردة في القيمة المالية الذي ينتجها اقتصادالإبداع ، إذ ارتفعت من (3.1) تريليون دولار في العام 2005 إلى (7.1) تريليون دولار في العام 2009 محققة معدل نمو بمعدل 8% سنوياً.

شكل (1) التوزيع السنوي للناتج الإبداعي العالمي خلال الفترة (2005-2010م)مليار دولار

وهكذا إذن تتداخل تنمية الثقافة ، والتنمية بالثقافة بمفهومها الشمولي ، ومع الاستثمار في مجالاته والحقوق المادية كافة المترتبة عن ذلك.

لقد حققت الصناعات الثقافية ثروات كبيرة للعديد من اقتصادات العالم المختلفة ، غير أن الاهتمام بهذه الصناعات في العالم العربي مازال هامشياً، كما أشار إلى ذلك التقرير الأول للتنمية الثقافية الصادر عن مؤسسة الفكر العربي مما انعكس سلباً على دورها في اقتصادات البلدان العربية، فالعوائد المتأتية من مخرجات هذه الصناعات قليلة جداً ولا توجد أية إحصاءات أو بيانات دقيقة عن مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية . ففي حين تشكل الصناعات الثقافية ما بين 5-10% من قيمة المنتجات في العالم، فأنها لا تمثل  قيمة تذكر في الدخل القومي العربي، فطبقاً لتقارير المنظمة العالمية للملكية الفكرية، فإن الصناعات الثقافية في العالم العربي متخلفة جداً ، وتكاد تكون في مؤخرةالترتيب على الصعيد العالمي.

أما على صعيد دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، فإن الاهتمام بالصناعات الثقافية لم يكن وليد اللحظة الآنية بل يرجع إلى سبعينات القرن الماضي ، حيث انشئت المؤسسات والأجهزة المعنية بالإنتاج الإذاعي والمرئي، وبإنتاج الكتب والدوريات سواء على الصعيد القطري ، أو على الصعيد الخليجي، حيث تُعد مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك التي باشرت باكورة إنتاجها البرنامج التربوي التعليمي الشهير " افتح ياسمسم" ، كما وقامت طيلة ثلاثة عقود بإنتاج مئات الساعات التي تناولت العديد من المجالات التوعوية والتربوية والثقافية والصحية والبيئية، علاوة على ما انتجته من مسلسلات درامية إذاعية وتلفزيونية عالجت مسائل مهمة في مختلف الجوانب التنموية لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية.

كما وقامتأغلب الحكومات الخليجية، بإنشاء المؤسسات المعنية بصناعة الكتاب ونشره ، وهي تتولى الآن الريادة في مجال نشر النتاج الإبداعي والثقافي للمفكرين العرب والخليجيين، ومن هذه المؤسسات المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث الذي يصدر سلسلة كتب عالم المعرفة التي تعُد منأهم الكتب المؤلفة والمترجمة والتي تشكل زاد فكري لاينضب يمكن الاستفادة منه من قبل كافة المعنيين بالشأن الثقافي، وكذلك مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية الذي يصدر سلسلة كتب مؤلفة ومترجمة تشكلإضافة متميزة في المجالات الاستراتيجية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعلوماتية ، ومؤسسة اليمامة الصحفية بالمملكة العربية السعودية والتي تصدر كتاب الرياض الشهري الذي يعنى بالأدب والثقافة والفكر.ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم تسعى إلى إعادة الاعتبار للفكر والمفكرين في الوطن العربي، وتشجيعهم مادياً ومعنوياً على الإبداع والابتكار، دعم الثقافة، وتوسيع قاعدة المشاركة فيها ، تعزيز المنتج الثقافي كمّاً ونوعاً عبر إعداد جيل من المبدعين والمثقفين المستنيرين الذين يساهمون في بناء مجتمع المعرفة والتنمية، إحياء التراث الثقافي العربي، وتشجيع التفاعل بين مختلف الثقافات؛ لتقديم صورة إيجابية عن ثقافة المنطقة وإرثها الحضاري.

أما فيما يتعلق بصناعة البرمجيات فقد أنشأت دول مجلس التعاون الكثير من مؤسسات وواحات ومدن المعرفة وحدائق التكنولوجيا ، وتم تطوير البنية التحتية لتقنية المعلومات، وزيادة الإنفاق على البحث والتطوير الموجه للصناعات الثقافية، كما يوجد الكثير من البنية التحتية المناسبة وتتوافر الخبرة المحلية في تطوير التطبيقات العربية أو تعريب التطبيقات الأجنبيةكما تتوافر رؤوس أموال قادرة على دعم هذه الصناعة.

أما بالنسبة للإنتاج المسرحي والسينمائي فلازالت هذه الصناعة في بداياتها بدول مجلس التعاون الخليجي بالرغم من الاهتمام المتزايد على صعيد اقامة المهرجانات السينمائية كمهرجان أبو ظبي السينمائي الدولي بالإمارات ومهرجان الجزيرة للأفلام التسجيلية والوثائقية الذي يعقد بقطر، ومهرجان تريبيكا السينمائي - الدوحة. وبالنسبة للإنتاج المسرحي لازال متواضعاً ، حيث تنتج بعض المسرحيات في دولة الكويت وفي الشارقة سنوياً ، مع بعض النتاج البسيط بدول مجلس التعاون الخليجي الأخرى.

وصفوة القول،إننجاحالصناعات الثقافية بمختلف أنواعها في دول مجلس التعاون الخليجي يتطلب بناء بعض المؤسسات المعنية بالصناعات الإبداعية وكذلك وضع التشريعات المنظمة والتي تحمي منتجات تلك الصناعات، علاوة على عدم ترك هذه الصناعات لاقتصاد السوق وذلك نتيجة للمنافسة غير المتكافئة من قبل من يحتكرون السوق عن طريق السبق التكنولوجي .

عليه فإن الاستثمار في مثل هذه الصناعات بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربيةيستدعيتقديم الدعم والحماية والرعاية لها حتى تتمكن من تعزيز وجودها لكي تسهم مساهمة حقيقية في التنمية المجتمعية وفي تكوين الناتج المحلي الإجمالي الخليجي، خصوصاً وأن بعض هذه الصناعات كصناعة البرمجيات والمعلومات باتت تشكل عنصراً مهماً في تعزيز وتقوية تنافسية الاقتصادات علاوة على دورها في بناء الاقتصاد المرتكز على المعرفة، وبناء المجتمع المعرفي.

 

مقالات لنفس الكاتب