; logged out
الرئيسية / الديمقراطية التي تصبو إليها شعوب الخليج

الديمقراطية التي تصبو إليها شعوب الخليج

الإثنين، 01 أيلول/سبتمبر 2008

تعتبر قضية الديمقراطية في الخليج من القضايا الشاملة التي تتعاظم الحاجة إليها على المستويين الرسمي والشعبي. ولئن كانت الديمقراطية متوفرة في حدها الأدنى، فإنها مع ذلك مطلوبة من قبل الأفراد والجماهير والتيارات. إنها مطلوبة لأنها تشكل حاجة ماسة لأولئك المتضررين من غيابها أو نقصانها. فالديمقراطية أضحت مرادفاً لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية.

نقول ذلك ونحن نعرف أن طبيعة الحاجة للديمقراطية متفاوتة، وإن كانت متفاقمة. إنها متفاوتة بين الطبقات والتيارات والأفراد. والتفاوت مرده إلى الغاية المتوخاة منها. فإذا كان المواطن العادي يريدها مصدراً وضمانة لحقوقه المدنية وحرياته الأساسية، فإن الأمر يختلف على مستوى الطبقات والتيارات، حيث تصبح الديمقراطية مرتبطة بالمرحلة التاريخية الراهنة وبالمصالح الوطنية والطبقية ومتطلباتها. وبصورة عامة يمكننا القول إن الديمقراطية المطلوبة تتوقف على طبيعة الطبقة الحاكمة، والفئات الشعبية المتضررة من غيابها أو نقصانها.

ذلك أن لكل طبقة أو فئة مفاهيمها ومؤسساتها وأدواتها التي تساعدها على تحقيق أغراضها. ومع ذلك فإن الديمقراطية باتت مطلباً طاغياً، وهماً مشتركاً لدى معظم الطبقات والتيارات، وتتمحور في حدها الأدنى حول اعتبار الإنسان قيمة في ذاته، وحقه – فرد أو جماعة – في التعبير عن رأيه والمشاركة في صنع القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي من أجل تحقيق تقدمه وسعادته ونهضة وطنه ورقيه.

 إشكالية الجذور والمظاهر

ثمة إشكالية ديمقراطية تاريخية يقتضي الإحاطة بها كشرط لمحاولة رسم ملامح الصيغة الديمقراطية الأفضل للمجتمع الخليجي في المرحلة التاريخية الراهنة، وهي صيغة ستبقى بالضرورة محكومة بالتفاوت السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي بين السلطات من جهة، والقوى والتيارات السياسية من جهة أخرى.

ولعله من المفيد أن نتذكر أن الديمقراطية التي عرفناها هي الديمقراطية الغربية، التي في مضمونها ومظاهرها هي ديمقراطية الطبقة البرجوازية التي تمكنت بفضل امتداد سيطرتها الاستعمارية إلى أقطار عديدة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية من أن توظف الفائض الاقتصادي المتحصل من نهبها للمستعمرات في تحقيق تراكم رأسمالي داخل مجتمعاتها من جهة، وتوسيع قاعدة المنتفعين من هذا الفائض من جهة أخرى. لقد ساعدها هذا الفائض على تطوير تجربتها الديمقراطية بشكل مكنها من إعطاء الطبقات العمالية والشعبية الأخرى مشاركة أوسع في إدارة الدولة وحصة أكبر في خدماتها ومنافعها، الأمر الذي أدى بدوره إلى تدعيم النظام السياسي واستقرار الطبقة البرجوازية في قيادته ونجاحه، بصورة عامة، في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

لقد تأثر دعاة الديمقراطية في شتى أقطار الوطن العربي بالأفكار الليبرالية السائدة آنذاك في أوروبا، أي بديمقراطية الطبقة البرجوازية دونما تنبه كاف إلى اختلاف الخصوصية التاريخية للمجتمعات الأوروبية عن السياقين التاريخي والاجتماعي للأقطار العربية الناهضة للتحرر والاستقلال. ففي حين أخذ الصراع من أجل الديمقراطية في أوروبا شكل صراع بين طبقات اجتماعية مختلفة، وأدى إلى سيطرة الطبقة البرجوازية، نجد أن الصراع من أجل الديمقراطية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ارتبط تاريخياً بالصراع الوطني ضد الاستعمار، أي من أجل إجلاء القوات الأجنبية وانتزاع سلطة إصدار القرار من السلطات الأجنبية.

غير أن هذه الإشكالية لم تتوقف في الشكل والمضمون عند حدود انتزاع الاستقلال الوطني، بل أخذت أبعاداً إضافية بسبب قصور السلطة الحاكمة، بعد نيل الاستقلال السياسي، عن مواجهة (تحدي التخلف) الذي كان سائداً. أي قصور السلطة عن إعطاء مضمون اجتماعي للديمقراطية. وهكذا تراجعت النضالات الديمقراطية السياسية في الخليج أمام تصاعد النضالات المطلبية والاجتماعية. بعبارة أخرى، لم تعد معظم الطبقات الشعبية والتنظيمات السياسية المعبّرة عنها لتثير مسألة الديمقراطية السياسية بمفهومها الغربي بعد الانغماس في نضال متصاعد في مواجهة مسألة التنمية، بل أصبح يشدد على مشاركة أوسع للجماهير في تقرير أهداف التنمية وصنعها حتى لو تم ذلك خارج الأطر الشكلية أو المؤسسية للديمقراطية الغربية.

الديمقراطية في مبادئها الأساسية

ثمة معان عديدة للديمقراطية، فهي في التعريف الكلاسيكي حكم الشعب بواسطة الشعب. وهي في المفهوم الماركسي نظام سلطة الطبقة السائدة. وهي في التعريف المعاصر تمليك السلطة للشعب ومباشرته إياها من خلال مؤسسات التعبير والتقرير والرقابة والمحاسبة. وأبرز هذه المؤسسات كلها الأحزاب السياسية. غير أننا ومن منطلق الواقع الذي نحياه في الخليج نستطيع أن نصف الديمقراطية بأنها نظام المشاركة الشعبية في صنع القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الآيلة إلى كفالة أمن المواطنين وسعادتهم ورقيهم الحضاري.

ولئن اختلفت الديمقراطية في معناها ومؤسساتها بين طبقة وأخرى أو بين نظام وآخر أو حتى بين أمة وأخرى، فإن لها مبادئ أساسية هي بمثابة حد أدنى لأية ممارسة ديمقراطية جادة:

أول هذه المبادئ: الإيمان والالتزام بأن الإنسان قيمة في ذاته، وأن إنسانيته هي منتهى كل سياسة وحماية وترقية وتنمية. فالمفاهيم والمؤسسات تبارك أو تلعن بقدر ما تسهم في إغناء النفس الإنسانية وإفقارها، في إطلاق طاقاتها أو حبس إمكانياتها، في ترقيتها وإنمائها وحثها على الخلق والإبداع أو في كبتها وقمعها وسوقها إلى التقليد والاجترار. الديمقراطية ليست إطاراً لكم بشري، بل لنوعية إنسانية نامية مشعة. والإنسان الفرد هو أساس الديمقراطية، وسيلتها وغايتها في آن معاً.

ثاني هذه المبادئ: حرية التعبير، فالحرية قيمة أساسية وشرط لاكتمال إنسانية الإنسان، وهي بالتالي وسيلة مشاركة الإنسان – فرداً وجماعة – في هموم الآخرين واهتمامهم، وهي سبيل التفاهم على الغايات والوسائل التي تحقق السعادة.    

ثالث هذه المبادئ: القبول بالتنوع والتعدد. التنوع في إطار الوحدة، أو الوحدة التي تشتمل بالضرورة على التنوع. والتعدد ينبع من ممارسة الحرية، ذلك أن قيام الأفراد بممارسة حرياتهم يفضي إلى ظهور آراء مختلفة باختلاف ظروف هؤلاء الأفراد وحاجاتهم، فإذا كان منتظراً مني بحكم احترامي لإنسانية الآخر أن أحترم حريته، فلا مناص من قبولي بنتائج ممارسته حريته، وبالتالي قبول تعدد الآراء الناجم عن ممارسة الآخرين لحرياتهم.

رابع هذه المبادئ: حكم الأغلبية. فلا يعقل أن ينبثق نظام من إرادة أناس أحرار، وأن يكون مع ذلك وقفاً على قلة قليلة أو في مصلحتها. وقد يثور جدل حول مضمون هذا المبدأ: هل هو حق الأغلبية بأن تحكم نتيجة لتصويت أو استفتاء، أو يكتفي بأن يكون الحكم متوجهاً إلى مصالح الأغلبية، مراعياً لها، مستلهماً أفكارها وأهدافها. لكن يبقى ضرورياً أن يحكم أهل السلطة في إطار من التوافق الشعبي العام، الظاهر والمحسوس، سواء تجلى بطريق انتخاب أو استفتاء، أو تكرس بالموافقة والرضا على الممارسة والإنجاز.  

خامس هذه المبادئ : ضمان التصحيح والارتقاء. ذلك أن الكون قائم على التنوع، والحركة والتغيير، أي جدلية التناقض المستمر. فالجمود حالة منافية لطبيعة الكون المؤسس على هذه الجدلية. وإذا كان الأمر كذلك فلا سبيل إلى أن يتجمد المجتمع في حدود شروط معينة حتى لو كان ذلك بقرار من الأغلبية. من هنا تأتي ضرورة التصحيح والارتقاء. إنها فعل مصالحة مع القانون الطبيعي الذي يمشي عليه الكون والمجتمع وهو قانون التناقض والتغيير.

إذا كانت هذه هي المبادئ الخمسة التي يجب أن تنطوي عليها أية ممارسة ديمقراطية جادة، فأين نحن منها في الخليج؟ وأية صيغة ديمقراطية يتطلبها ويستحقها ويحتملها المجتمع الخليجي في ظرفه التاريخي الراهن؟

أية ديمقراطية للمجتمع الخليجي؟

رغم أن المجتمع الخليجي كان مكوناً من شعوب متقاربة تاريخاً ولغة وثقافة وجغرافيا، وتسعى القوى الحية فيه من أجل الوحدة والتوحد، إلا أن تلك القوى والتيارات تنطوي على تفاوت فيما بينها في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحركية. من هنا يصعب في الواقع الحديث عن صيغة ديمقراطية واحدة للمجتمع الخليجي.

ما سنقوم به إذن، هو رسم ملامح مشروع صيغة مبدئية للديمقراطية التي يتطلبها المجتمع الخليجي بكل فئاته وتياراته وأطيافه السياسية والاجتماعية في هذه المرحلة التاريخية. والصيغة هذه إذ تتضمن مبادئ وتصورات عامة فإنها تبقى قابلة للتعديل والتطوير في ضوء الظروف الموضوعية التي تمر بها بلدان الخليج، وخصائص العمل الوطني. ولعله من المفيد أن نبدأ برسم لوحة لهموم بلدان الخليج والتي من ضمنها:

الهموم والمشكلات الوطنية:

تتصدر هموم ومشكلات البلدان الخليجية مشكلتان رئيسيتان هما البطالة المتفاقمة، والعمالة الأجنبية الوافدة غير الكفؤة وغير المدربة، وتحتل مشكلة التخلف الاقتصادي – الاجتماعي المرتبة الثانية في قائمة الهموم الوطنية، كما تحتل مشكلة التفاوت الطبقي والمعاناة الاقتصادية للمواطنين المرتبة الثالثة في قائمة الهموم والمشكلات الوطنية.

أما مشكلة عدم الممارسة الديمقراطية ومشكلات التعبير الفكري والسياسي فهي على حدتها تأتي في المرتبة الرابعة في قائمة الهموم، وهناك هوة واسعة بين الأغنياء والفقراء، ولا تزال الروابط الطائفية والإثنية والقبلية والعائلية أقوى من غيرها في شد أفراد الجماعات إلى بعضها بعضاً.

فماذا عسانا نستنتج من هذه الوقائع والبيانات والمؤشرات؟ بل كيف نفيد منها في وضع مبادئ الصيغة الديمقراطية المناسبة لمجتمع يرزح في كل تلك المشكلات والهموم؟

ولعلنا لا نتجاوز الحقيقة إذا قررنا أن الهموم الرئيسية للمواطن الخليجي لا تزال تدور حول أحد تعبيرات المسألة الوطنية في الأساس، فمصدر الإحباط الأكبر لهذا المواطن حين ينظر إلى محيطه الوطني يتمحور حول تعثر الحلول وبقاء الهموم والمشكلات تراوح في مكانها، وكذلك لعلنا لا نتجاوز الحقيقة أيضاً حين نستنتج أن مشكلتي التخلف الاقتصادي والتفاوت الطبقي (بما في ذلك المعاناة الاقتصادية) تحتلان مباشرة المرتبة الأولى في هموم المواطن الخليجي، الأمر الذي يعني أن هذين الاستنتاجين يقودان إلى التقرير بأن العدل الاجتماعي والتنمية الشاملة يأتيان في مقدم المهمات السياسية في المرحلة التاريخية الراهنة. من هنا فإن أية صيغة عملية للديمقراطية يجب أن تأخذ في الاعتبار أولوية هاتين المهمتين وموقعهما المركزي في العمل السياسي الوطني.

العدل الاجتماعي والتنمية الشاملة يأتيان في مقدم المهمات السياسية في المرحلة التاريخية الراهنة

وفي ضوء ما تقدم، يمكن اقتراح المبادئ والتصورات الآتية للصيغة الديمقراطية للمجتمع الخليجي:

أولاً: الإنسان قيمة في ذاته، واحترام إنسانيته وإغناؤها وتمكينها من الإبداع معيار أساسي للحكم على صلاح المؤسسات أو فسادها.

ثانياً: حرية التعبير شرط لاكتمال إنسانية الإنسان ومعيار أساسي في المشاركة الديمقراطية.

ثالثاً: حرية التعبير، والتنوع في نسيج المجتمع، يقودان إلى الإقرار بتعددية الآراء وبالتالي تعددية التنظيمات الحزبية.

رابعاً: الحكم مسؤولية قيادية تمارس في صالح الأغلبية وفي إطار من التوافق الشعبي العام حول أهداف المرحلة التاريخية الراهنة وسبل تحقيقها.

خامساً: تصحيح مسارات الحكم من خلال ضمان حرية التعبير والنقد والمعارضة والاستفتاءات الدورية في القضايا المصيرية والمهمة، وإتاحة الفرصة للمشاركة في القرارات السياسية في إطار التوافق الشعبي العام.

الصراع من أجل الديمقراطية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ارتبط تاريخياً بالصراع الوطني ضد الاستعمار

سادساً: يتمحور البرنامج السياسي للحكومة حول المهمات المرحلية الرئيسية وفي طليعتها التحرر السياسي بانتزاع سلطة إصدار القرار الوطني المستقل، والسيطرة على الموارد الوطنية، وانتهاج سياسة عاملة في اتجاه توحيد سياسي وطني، ووضع وتنفيذ خطة متكاملة للتنمية الشاملة وإعادة توزيع الثروة الوطنية على نحو يحقق هدفي زيادة الدخل الوطني وتحقيق العدل الاجتماعي في آن معاً، ووضع وتنفيذ استراتيجية ثورة ثقافية وطنية هدفها تحرير الإنسان – فرداً وجماعة – وإنماء إنسانيته وإطلاق مواهبه للخلق والإبداع في إطار توازن متطور بين قيم التراث الإسلامي الحية ونماذج الحداثة الداهمة.

سابعاً: صياغة أيديولوجية تعبر عن مطامح المشروع الوطني الحضاري تخدم أهدافه، وترمي بالتالي إلى نسج طريقة في الحياة، تستلهم وتراعي خصوصية المواطن الخليجي الإسلامية والحضارية وتعبر عنها.

ثامناً: ضمان تطبيق البرنامج المرحلي عن طريق إطلاق حرية النقد والمعارضة وعقد المؤتمرات الوطنية الدورية وإجراء الاستفتاءات الشعبية في المسائل المصيرية والمهمة.

تاسعاً: التوجه نحو إقامة انتخابات حرة لبرلمانات تضمن تدرج السلطة من المركز إلى القاعدة، وعلى نحو يضمن مشاركة أوسع للمواطنين في صنع القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية من جهة، ورقابة أفعل من المجالس المنتخبة على الكوادر الإدارية المعينة من جهة أخرى.

عاشراً: اعتبار مواجهة الظلم والاستغلال وكل صنوف التمييز والعنصرية والقهر جزءاً لا يتجزأ من العمل الوطني المسؤول.

هذه الصيغة المقترحة ما هي إلا مبادئ وقواعد عامة للديمقراطية التي يتطلبها ويستحقها مجتمع مثل المجتمع الخليجي، وهي خاضعة بالطبع للتعديل والتطوير في ضوء الظروف الخاصة التي يمر بها الخليج اليوم.

 

 

 

مجلة آراء حول الخليج